في ظل الغرب : حوار مع إدوارد سعيد(1)– ترجمة مصطفى ناجي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse16045تقديم
خلال الخمسينات والستينات ، كتب الجيل الأول من مفكري ما بعد الاستعمار le postcolonialisme ( فرانز فانون، إيمي سيزير ...) أعمالهم في ظل الاستعمار الأوروبي المباشر والحركة الوطنية من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي. لذلك اتسمت العلاقة لديهم بين الستعمر والمستعمر بالصدامية والعنف المتبادل...
وخلال السبعينات والثمانينات ظهر الجيل الثاني (إدوارد سعيد، هومي بابا، أنور عبد المالك...) الذي فتح أفقا جديدا للصراع بين الطرفين ، وبحث عن إمكانيات أخرى لمواجهة الغرب وهيمنته على  صعيد التمثلات والأفكار.
ويعد إدوارد سعيد (1935-2003) من أشهر أعلام هذا الجيل من مفكري ما بعد الاستعمار.  وهو مثقف فلسطيني حامل للجنسية الأمريكية. اشتغل أستاذا للأدب الإنجليزي والأدب المقارن بجامعة كولومبيا. وله عدة مؤلفات منها : الاستشراق (1978)، القضية الفلسطينية (1979)، تغطية الإسلام (1981)، الثقافة والإمبريالية (1993)...
هذا الحوار الذي نقدم ترجمته للقارئ العربي أجري في الأصل باللغة الأنجليزية سنة 1985. وقد نقلته إلى الفرنسية  الفيلسوفة الجزائرية الأصل الحاملة للجنسية الفرنسية، و المهتمة بموضوع الاستشراق وفكر ما بعد الاستعمار سلوى لوست بولبينة Seloua Luste Boulbina  . وقد نقلنا هذا الحوار عن هذه الترجمة الفرنسية.
في هذا الحوار، نجد حضورا للقضايا التي شغلت إدوارد سعيد، ابتداء من تأثره بفرانز فانون؛ ثم اهتمامه بالقضية الفسطينية؛ نقده لتمثلات الغرب حول الشرق ؛ سعيه لبناء ثقافة بديلة تصحح هذه التمثلات وتبرز زيفها...

وفي ارتباط مع هذه القضايا تتجلى المرجعيات التي انطلق منها سعيد في صياغة أطروحاته، ومنها مفهوم الإبستيمي الذي استمده من ميشيل فوكو. وعلى أساس هذا المفهوم، آمن سعيد بأن من يملك المعرفة يملك السلطة. وهو حكم ينطبق على حالة الغرب الاستعماري الذي يستغل تفوقه المعرفي ليصوغ تصورات زائفة حول بلدان الجنوب من أجل تبرير سيطرته عليها.
وتحت تأثير  مدرسة فرانكفورت ونظريتها النقدية ، دعا إدوارد سعيد إلى ممارسة نشاط نقدي يفكك أنساق التمثل المشوهة في الثقافة والإعلام الغربيين عن الشرق، ويمكن  من بناء أنساق بديلة تعيد الاعتبار للشعوب المغلوبة، وتنبه إلى ما تختزنه ثقافتها من موروث إنساني وحضاري. والغاية من ذلك هي إقامة علاقة جديدة بين الشرق والغرب تتجاوز علاقة الصدام والإقصاء والعنف المادي والمعنوي، وتؤسس بدلا منها علاقة قائمة على الحوار والتواصل والاعتراف المتبادل. وهنا تتجلى المرجعية الثالثة الأساسية في فكر سعيد، وهي المرجعية الإنسانية.    (المترجم).


نص الحوار
لكي نبرز عددا من القضايا، نريد بداية أن نعود إلى بدايات الستينات. فقد تم نشر كتابين من طرف كاتبين  لعملهما بعض الصلات بعملك: معذبو الأرض لفرانز فانون و تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لميشيل فوكو. لدينا هنا إنتاج لنصين، أحدهما كتب انطلاقا من فرنسا، والثاني انطلاقا من إحدى مستعمراتها، ويصفان بشكل شديد الاختلاف الميكانيزمات المتشابكة للإقصاء التي كانت محايثة ، منذ عصر النهضة، للمؤسسات الأوروبية. ما هي العوامل التي أتاحت الظهور المتزامن لهذين النصين؟
-    لا أعرف بالضبط ما هي العوامل التي أتاحت ظهور كتاب فوكو. ويمكنني أن أتحدث نظريا حول هذا الموضوع. ولكن من الواضح أن نص فانون – وهو أهم الكتابين في نظري – ناتج عن الصراعات السياسية القائمة  ( آنذاك )، وعن الثورة الجزائرية. ومن المهم أن نؤكد على أن نص فانون حصيلة صراع جماعي ، بخلاف عمل فوكو الذي ألف في سياق تقليد مخالف هو تقليد الباحث الجامعي، المنعزل ، الذي حقق شهرته من خلال معرفته الواسعة ، ومن خلال موهبته،  الخ. وإذا تجاوزنا هذه الأصول المختلفة ، نلاحظ أنهما ( معا ) لا يتناولان منظومات للإقصاء فقط، ولكنهما يتناولان ( أيضا ) منظومات للتجاور. إن الصورة الأكثر قوة التي يحملها كتاب فانون هي صورة المدينة الكولونيالية : القصبة المحلية المحاطة بالمدينة الكولونيالية بأزقتها المصممة بدقة ، والمضاءة بصورة جيدة. إنها المدينة الأوروبية المزروعة بعنف داخل مجتمع السكان الأصليين. ولكن الدافع المشترك بين النصين هو (الحديث عن ) تبرير العنف الممارس  على  الموضوع ( المستعمر- بفتح الميم ) باسم العقل أو العقلانية، باسم الحضارة. ولكني أعتقد أن كتاب فانون أقوى لأنه متجذر داخل ما يمكن أن نسميه جدليات الصراع...
... أكثر من كونه صادرا عن ممارسة بحث تاريخي؟
-    نعم، بالضبط. ولكن يبدو بوضوح أكثر أن معنى الانخراط العملي حاضر في عمل فانون وغائب في الأعمال الأولى لفوكو. في سنة 1972، أي بعد عشر سنوات من صدور كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، شارك فوكو في ندوة تلفزية مع نعام تشومسكي(2). وبينما كان تشومسكي يتحدث عن مثله التحررية الخاصة، وعن تصوره للعدالة، وغير ذلك، عاد فوكو إلى الوراء  ووافق بصورة أساسية على أنه لا يؤمن بحقائق أو أفكار أو مثل إيجابية. ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة لفانون الذي كانت انخراطاته في التغيير الثوري ، والتضامن والتحرر قوية ومثيرة لأشخاص مثلي. إن عمل فوكو قضية مهارة ونظر نافذ وعمق فلسفي فريد حقا. وأقول أيضا إن القوة السياسية لعمل فوكو لم تظهر بوضوح تام إلا بشكل متأخر بعدما كتب مزيدا من المؤلفات مثل الكلمات والأشياء، وبعد نشر أعمال أشخاص آخرين غيره ) جاك دونزلوJacques Donzelot(3) مثلا). إن نص فانون يمثل حقا آخر نص ضمن سلسلة كتابات أنتجت طيلة الخمسينات، بينما يدشن نص فوكو بداية سلسلة أخرى.
لنعد الآن إلى العنف، إلى الموضوع وإلى الحضارة. في كتاب الاستشراق(4))،  تشير إلى صلة عميقة بين التعليم الأكاديمي الغربي والمشروع الكولونيالي، وبذلك تدرج  التمثل ضمن نقد المعرفة المحولة إلى أداة. كيف تحدد  بصورة خاصة التمثل واقتصاده السياسي ؟  
-    لست متأكدا من قدرتي على تحديد التمثل تحديدا دقيقا بعبارات اقتصادية ، ولكن المؤكد أن التمثل، وخاصة عملية تمثيل الآخر (وبالتالي اختزاله) تكاد تعني دائما عنفا تجاه موضوع التمثل؛ هناك تعارض حقيقي بين العنف كخاصية لفعل التمثل والهدوء الداخلي في عملية التمثل ذاتها، في الصورة (اللفظية ، البصرية أو غيرها) التي تمنح للموضوع. وسواء اعتبرتم ذلك صورة فرجوية، أو صورة غرائبية، أو تمثلا عالما، فإن هناك دائما تعارضا مفارقا بين سطح يبدو خاضعا للسيطرة، وبين المسلسل الذي ينتج هذا التمثل، وهو مسلسل يحتوي بالضرورة على درجات ما من العنف، من إخراج الموضوع عن سياقه، ومن تقزيمه، الخ. إن فعل أو مسلسل التمثل يتضمن شيئا من التحكم ( في الموضوع)  والتراكم ( تراكم الصور حوله)  وسجنه ( ضمن تصور معين)؛ ويتضمن نوعا من التغريب والتضليل من طرف من يقوم بالتمثل. ويمكن أن نتخذ كمثال على الخيانة اللغوية عمل إرنست رينان حول اللغات السامية: إن ما يحدث في ذهن رينان وهو يستعرض مادته يشبه عمليات العرض داخل متحف؛ ولكن حينما نعرض شيئا، فإننا نجرده من سياق حياته، ونضعه أمام جمهور ( وهو بالمناسبة جمهور أوروبي). وأكثر من ذلك ، فإن التمثل يعني نوعا من الاستهلاك: إن التمثلات توضع كي تستعمل ضمن نسق يومي لمجتمع استعماري . في كتاب الاستشراق أتحدث عن بنية  يمكن من خلالها ضمان التحكم في المستعمرات والسيطرة عليها. هناك بالطبع أنواع أخرى كثيرة من التمثلات، ولكنني أهتم بتلك التي أنتجت من طرف ومن أجل ثقافة إمبريالية مهيمنة، لأنني خضعت في حياتي الخاصة لسلطتها. لقد أرسلت إلى المدارس الكولونيالية – كان ذلك برغبة من أبوي ، ولا أحد فرض عليهما ذلك. حين كنت مراهقا ، تعلمت أشياء كثيرة عن تاريخ إنجلترا، ولم أتعلم شيئا عن التاريخ العربي. كانوا يعلموننا أن التمثلات الوحيدة الصالحة هي تمثلات التاريخ والثقافة الإنجليزيين، تلك التي كنت ألج إليها عبر تربية معينة. وقد علموني أيضا أنني شخص أقل قيمة من الإنسان الإنجليزي الذي يحدد القوانين. في هذا السياق بدأت أفهم أن أي نسق خطابي يتضمن اختيارات سياسية ، يتضمن قوة  وسلطة سياسيتين بصورة أو بأخرى.
هكذا، وكما تبينون ذلك في كتاباتكم، هناك علاقة مباشرة وفعلية بين الهيمنة– السياسية، السوسيواقتصادية، الثقافية – وبين أنساق التمثل: كل واحد منهما ينتج الآخر ويدعمه. إذا رغبنا في تغيير بنيات الهيمنة، هل الهدف النهائي هو تغيير التمثلات أم إزالة هذه المنظومات في كليتها؟ وفي الحالتين معا، ما الذي سيمنع من إقامة ممارسة خطابية (أخرى) إقصائية بنفس الدرجة؟
-    التمثلات شكل من أشكال التنظيم البشري. وبمعنى ما فإنها ضرورية للعيش ضمن المجتمع وللتعايش بين المجتمعات. أعتقد إذن أنه لايمكن العيش بدونها، إنها على نفس الدرجة من الأهمية التي للغة. إن ما يجب محاربته هو أنساق التمثل التي تحمل في ذاتها هذا النوع من السلطة القمعية، لأنها لا تسمح بخلق فضاء لتدخل من يشكلون موضوع التمثل. وهذا أحد المشاكل المستعصية على الحل في الأنتروبولوجيا التي تم بناؤها أساسا كخطاب لتمثل الآخر الذي يتم تعريفه إبستمولوجيا كطرف أدنى إلى أبعد حد ( أو وضعت عليه إشارة البدائي، المتخلف أو الآخر بكل بساطة). إن مجموع العلم ، ومجموع الأنتروبولوجيا يرتكز على صمت هذا الآخر. البديل يمكن أن يكون منظومة تمثل تشاركية، تعاونية ، غير إكراهية، منظومة تمثل غير مفروض. ولكن ذلك ليس أمرا سهلا كما نعرف.إننا لا نتوفر على إمكانية الولوج المباشر إلى وسائل إنتاج المنظومات البديلة. ربما كان ذلك ممكنا من خلال حقول معرفية أخرى أقل ارتباطا بالاستغلال. ولكن يجب علينا أولا أن نحدد التشكيلات الاجتماعية ، الثقافية والسياسية التي ستسمح بإضعاف السلطة (سلطة الغرب) وتقوية المشاركة في إنتاج التمثلات. وبعد ذلك يجب أن ننطلق من هذه التشكيلات.
لقد تناولتم مشكل بناء أنساق بديلة، وربطتموه بميكانيزمات الإقصاء التي تتجلى في وسائل الإعلام الغربية حينما تتحدث عن الإسلام. هل تعتقدون أن الاستخدام الفوري لشبكة من نوع جديد، إلكترونية شاملة تنتج وتنشر المعلومات من شأنه أن يغير الصورة التي يستهلك بها الناس في الغرب التمثلات المتعلقة بمن يعتبر غير غربي؟ أم تعتقدون أن ذلك سيعزز  سلطة هذه الصورة ؟  
-    إن الأزمة تزداد استفحالا لأسباب متعددة. هناك بداية التقدم الكبير في البث الإلكتروني للصور ، والتمركز الكبير لوسائل الإنتاج داخل تكتلات كبرى، والذي أصبح رهانا هاما في المجتمعات المسماة مركزية ( ميتروبولية). السبب الثاني أن المجتمعات التابعة ( مجتمعات المحيط في بلدان العالم الثالث، وتلك التي توجد على تخوم المناطق المتروبولية المركزية) رهينة بدرجة هائلة ومتزايدة بمنظومة المعلومات هاته وتنظر إلى نفسها من خلالها. إننا نتحدث هنا عن معرفة الذات وليس عن معرفة المجتمعات الأخرى.
هذا يعني إذن أن المقولات الوحيدة التي تتعرف بواسطتها المجتعات "التابعة" على نفسها هي مقولات محايثة لهذه المنظومة؟ 
-    بالضبط، إنها محايثة لها. وهي مخادعة لأنها تقدم كمقولات طبيعية وواقعية بمعنى غير قابل للمناقشة . إننا عاجزون في الوقت الراهن عن فهم الكيفية التي تصنع بها صورة تلفزية ، فيلم او حتى مخطوط ، وعاجزون عن نقد الإطار الذي تقدم داخله هذه الصورة ، لأنها تنقل إلينا بقوة ، ويتم قبولها بشكل يكاد يكون غير واع. وأخيرا، وربما كان هذا هو الأهم ، فإن الإجابة عن الهيمنة الإعلامية المتزايدة والحلول التي تقدمها بلدان العالم الثالث والبلدان الاشتراكية لمواجهة هذا الوضع حلول على درجة من البدائية والبساطة بحيث لا تمنح لهذه البلدان أي فرصة  لمواجهة هذا التحدي . إن الحكومات التي تمارس المنع والتدخل عن طريق تقنين الولوج إلى وسائل إنتاج الصورة من أجل مقاومة هذه الهيمنة، إنما تساهم عمليا في تكريسها بدل أن تساهم في الحد منها. إن ما يقوله دعاة نظام إعلامي جديد هو أحد أمرين: إما أن يسمح الغرب لهذه البلدان ( التابعة) بأن تتحكم بنفسها في إنتاج المعلومة الخاصة بها وأن تدخل معطياتها إلى جانب معطياته، وإما أن تسحب هذه المعطيات من المنظومة ( الإعلامية الغربية ) وأن تنعزل عن الغرب . ماذا ستقدم حينئذ لمواطنيها؟ ستقدم نوعا من العزلة داخل دائرة الأمية والحياة القروية، وهو ما يجعل المواطنين في النهاية فريسة سهلة للخداع وللإيديولوجيا الاستهلاكية التي تدعو إليها التكنولوجيا المهيمنة ، وفريسة سهلة لأصولها الأوروبية .
نحن نشهد إذن تنضيدا جيوسياسيا متزايدا متعلقا بالولوج إلى شبكة المعطيات وإلى المعلومة العلمية والتكنولوجية ؟
-    تماما. وإن الخضوع التام لهذه المعطيات يغذي حالة ذهنية ستنتقل إلى الأجيال اللاحقة.
قلتم قبلا إنكم فهمتم أن إنتاج التمثلات يعني دائما اختيارات سياسية تنجز لمصلحة السلطة الفعلية القائمة. في هذه الحالة، لا يوجد مثلا حياد في الكيفية التي تبرمج بها المعلومة السوسيولوجية ضمن قاعدة المعطيات.
-    طبعا ، ليس هناك حياد بالتأكيد: إن المسلسل في مجموعه يمثل اختيارات، انتقاءات، حالات إقصاء وحالات إدماج، وعناصر أخرى مماثلة على درجة عالية من الإتقان. وما يزعج أكثر في هذا الاحتكار ليس هو مشكل الولوج إلى المعلومة نفسها بقدر ما هو الولوج إلى إمكانية  نقد المعلومة. وبعبارة أخرى، ماذا نستطيع أن نفعل من خارج هذه المنظومة كي ندرك أننا إزاء نسق مصطنع وغير طبيعي؟ وبواسطة أي إجراء؟ إن مجموع هذا المسلسل مصحوب بأسطورة التماسك والحتمية التي تتجاوز كل اعتبار يسمح بالوصول إلى المصدر ، إن صح التعبير. يبدو أن ليس هناك آفاق أو بدائل، وبالتالي فإن المقاومة تزداد صعوبة ، وتزداد معها مسؤولية مثقفي بلدان المركز.
مقاومة تتخذ شكل نشاط نقدي؟
-    أعتقد ذلك. يجب أن تكون كذلك . من الممكن أن ننجز مثل هذا العمل في فضاء مثل نيويورك  حيث يتم إنتاج صور التمثلات هاته، وحيث يتم تخزينها وجعلها في المتناول. ولا أرى طريقة آخرى غير هاته. ولا أعتقد أنه يمكننا الاعتماد على عمل معارض جاد يصدر عن الحكومات ، سواء أكانت حكومات غربية ، عالم- ثالثية ، اشتراكية أو غيرها.
لقد شاركت في مؤتمر للجنة مكافحة التمييز الأمريكية العربية بواشنطن(5)، وتبين هذه التجربة بشكل ما أن المسألة معقدة لأنها تبين بوضوح كاف الطريقة التي يعالج بها المشتغلون في المنظومة الإعلامية هذا المشكل. نظمت هذه الندوة خصوصا لمحاربة الطريقة التي ينمط بها العرب داخل وسائل الإعلام، وهم آخر جماعة إثنية أو وطنية قد يتخذها البعض موضوعا للسخرية دون أن يتعرض للعقاب. كان تيد كوبيل Ted Koppe(6) مدعوا ليحاورني في موضوع التمثل الإعلامي. إن كوبل إنسان ذكي يشرف على برنامج نايت لاين Nightline . وقد حاول أن يكون نزيها، الخ. ولكن الواقع أن كوبل صنيعة وسائل الإعلام. إنه شخص مشهور، وهو ما يعني بالنسبة إليه أن التمثل كموضوع فلسفي لا يمكن ، أو لا يجب أن يكون موضوع نقاش. الأكثر من ذلك أن ما يتم الاهتمام به كقضية مركزية وكحل هو إن يمنح الموضوع أطول مدة زمنية ممكنة  ليعرض عبر وسائل الإعلام. وبعبارة أخرى ، كان هذا الإعلامي ينظر إلينا كمدعوين مفترضين، كتاريخ، كقضايا ستشكل جزء من الفرجة التي يقدمها ؛ ومن جهتنا، كنا نبدو داخل هذا السياق وكأننا نطلب أن يسمح لنا بولوج المنظومة الإعلامية، وأن يمنحنا وقتا للبث، وفضاء للعرض، الخ. وكان جواب كوبل أننا هنا لأنه يعرفنا، وأن الروبرتاج متوازن، وهكذا. لقد تم تعويض السؤال الحاسم إذن – والمتعلق بكيفية تمثلنا (من طرف الغرب)- بسؤال تقني وتجاري بالدرجة الأولى يتعلق بمن يدخل خشبة العرض ولكم من الوقت. من جهة أولى ، يريد كوبل أن يبدو مستقلا، ومن جهة أخرى، فهو جزء من منظومة إعلامية هي إيبيسي ABC، وهي جزء من منظومة أكبر، من شبكة منظمة. ومن جهة ثالثة، وهذا يبدو غريبا، فإنه يمثل مصالح الحكومة. إن كل هؤلاء الصحفيين، وخاصة العاملين على الصعيد الوطني – بروكاو، جينينغس، كوبل، ريثر – لا يقدمون لنا أخبارا فقط ، ولكنهم يعرضون أيضا ما يحدث من وجهة نظر المصالح الأمريكية ( وغالبا ما يكون ذلك بطريقة لاواعية ). إن الصحفيين يستضمرون المعايير الحكومية بطريقة مرعبة. ولو أن المشكل كان متعلقا بالرقابة ، أو بالرقابة الذاتية لسهل التعامل مع ذلك وسهل رصده؛ ولكن يتعلق الأمر هنا باستضمار وتقمص لاإرادي إلى حد يصبح معه كل شيء أداتيا ، مؤطرا ومكيفا بموضوعية. هكذا يصبح بمقدور وسائل الإعلام أن تستحوذ على كل شيء وأن تتقمص أية وجهة نظر كيفما كانت. وكمثال على ذلك مناقشة إذاعية مع أشخاص من إذاعة الإنبيسي NBC. طلب مني أن أدلي برأيي حول التغطية الإعلامية للأزمة اللبنانية خلال الخمسة شهور الأخيرة. وقد أكدت بالطبع أن هذه التغطيات لم تتناول البتة المظاهر السياسية للوضع (اللبناني)، وأنها ركزت على حضور المارينز قرب مطار بيروت، وهو ما يشكل مجرد مظهر صغير من الأزمة اللبنانية. وقد أجابوني بأنهم أنجزوا حلقة خاصة يوم الرابع من يناير عرفوا خلالها بالدروز، الشيعة وبكل الأحزاب السياسية المتورطة في الأزمة. وبعبارة أخرى، استطاعوا أن يقولوا، عن طريق تبرير لفظي، إنهم قاموا بتغطية جميع مظاهر الأزمة. وما يتجلى في واقع الأمر، كما قال رايموند ويليامس، هو مسلسل يضع حدودا ويمارس ضغوطا حتى تكون التغطية في النهاية على ما يقوم به أبناؤنا بلبنان. وكل ما عدا ذلك يختفي في اللامعنى، وتصبح الحكاية غامضة متمحورة حول مئتين وخمسين من المارينز يوجدون بالمطار، وهكذا.
يبدو أن  الصحفيين، وهم يسلطون الضوء على النقط الأكثر إثارة، يبذلون جهدا جماعيا من أجل ترك مظاهر أخرى (من المشكل) في مناطق الظل.
-    ولكن الوقائع التاريخية ليست دائما مثيرة. إنها تصبح كذلك بفعل إلحاح الصحفيين عليها. إنها ليست مؤثرة من تلقاء نفسها، ويمكن معالجتها بشكل محايد كأي موضوع آخر. فإذا شاهدتم قوات مارينز بالمطار على شاشة فرنسية أو إنجليزية، فإنها ستكون في النهاية مجرد قوات مارينز بالمطار.
ولكن مقدمي هذه التغطيات يعرفون أن الأمريكيين سيتماهون مع أبنائهم. وهكذا يبدو أن تركيزهم على مظاهر الحدث هاته يمثل جهدا على مستوى البرمجة من أجل تفادي الوقائع.
-    لا أعتقد أن الأمر يتعلق بالبرمجة، وإنما يتعلق كما قلت بطريقة لاستضمار المعايير. إن الصحفيين يعتقدون أن مصالح الأمريكيين سيتم ربطها طبعا بمصير الأمريكيين. هناك نقطتان يجب التأكيد عليهما في هذا الصدد. أولا ، لم يعش أحد هؤلاء الصحفيين الأمريكيين كمواطن تجربة هجوم حربي، بخلاف الأسيويين أو الأوروبيين مثلا. بالنسبة للأمريكيين، الحرب هي شيء يقومون بزيارته؛ وفي هذا السياق، فإنهم يشاهدون فرجة. كل شيء ينظر إليه من منظور واشنطن ونيويورك. وثانيا، تتعرض تجربة الحرب هاته للتجزيء: لا شيء يقدم ضمن امتداد زمني، ولا وجود لذاكرة جماعية يعترف بها. لا توجد خلفية معينة، هناك فقط واجهة متحركة. لا وجود لتراكم تاريخي في البرامج المسائية، إلا في حالة الحديث عن الشؤون المنزلية. أما حين يتعلق الأمر ببقية بلدان العالم، فإنهم يكتفون بالقول: لقد كنا هناك البارحة، وسنعود غدا، لا تقلقوا إذن بشأن ما يحدث الآن، لأننا سنخبركم في ظرف ثلاثين ثانية إذا استمرت الأزمة. تتسم العملية في مجموعها بالتناقض بصورة غريبة: فهي بدائية جدا في منطلقاتها، وفائقة التطور في تقنيتها. وبالفعل ، فإن نقل الأخبار يستلزم بثا عبر الأقمار الاصطناعية، وكلفة مكتب خارجي، وهكذا. إنها ليست عملية بسيطة. ولكن التصور بسيط بصورة بدائية، ويعيد إنتاج نفسه. وكما قلت، فإن إحدى السمات الأكثر إثارة للاستغراب في العملية برمتها، في نظري هي أن كل من ينجز الروبورتاج من الإعلاميين يعتبر نفسه، أو تعتبر نفسها وزيرة للخارجية الأمريكية. إنهم يسألون على الفور: ما هي المصالح الأمريكية المهددة؟ من وجهة نظر مهنية، فإن هؤلاء يوجدون في البلد الأجنبي ليس لإظهار المصالح الأمريكية، ولكن للإخبار عن حدث راهن في مجتمع آخر، في بلد آخر، لا لإبراز المصالح الأمريكية في هذا البلد أو في هذا المجتمع. إنها الإيديولوجيا العلنية. وفي المقابل ، فإن مصالح المعنيين بهذه الحروب لا يتم التصريح بها أبدا، ويتم إخفاؤها ، كما تقولون، أو ينظر إليها كجزء من التاريخ. وهكذا يقولون - وأنتم تعرفون ذلك- : لقد فقدنا إيران، لقد فقدنا النيكاراغوا، لقد فقدنا لبنان، وهكذا.
هناك مقال حديث العهد حول إسرائيل نشر بمجلة  النيويورك تايمز ماكازين New York Times Magazine (بتاريخ 25 مارس 1984)، يبين أن عرف إنتاج الروبورتاج من منظور مصالحنا (الأمريكية) الخاصة ينطبق أيضا على المعالجة الإعلامية المخصصة لإسرائيل. والعنوان واضح الدلالة على ذلك :  «إسرائيل بعد لبنان»- وهو قريب الشبه بعنوان «الولايات المتحدة بعد الفيتنام». في الحالتين، يقع التشديد على الصدمة النفسية لإسرائيل أو لنا، وعلى الإمكانية المتاحة لنا أو لإسرئيل من أجل  إعادة البناء، وذلك مع إخفاء تام لكون إسرائيل أو الولايات المتحدة معتديين ومحتلين، ومع نكران لوجود ضحية ما. هذا النوع من التغطية الإعلامية يعني توافقا بين البلدين يتجاوز حدود المعالجة المؤدبة المسموح بها للبلدان الأخرى، كالسالفادور مثلا.
-    في النهاية، هناك تماه كلي نسبيا. ويشكل موشي آرينز Moshe Arens ، وهو مهندس أمريكي، مثالا نموذجيا. ففي نفس هذا المقال، ينقل الصحفي أن الكونغرس قد منح مئتي مليون دولار إضافية لآرينز لشراء أسلحة. ومن خلال مكالمة هاتفية خاصة معه على الساعة الثالثة صباحا، عبر جورج شولتزShultz  George عن تفهمه لمشاعر موشي بخصوص سلامة الأراضي (الإسرائيلية ). إن التماهي مع إسرائيل يشتغل على عدة مستويات، ويزداد وضوحا أنهما مجتمعان يطمسان تماما ، بمعنى ما ، تاريخهما الخاص. ففي خطاب المجتمع الأمريكي المعاصر، هناك حيز ضئيل للهنود المولودين بأمريكا، وبالمثل هناك حيز ضئيل للفلسطينيين بإسرائيل – إنهم بدون انتماء.
يمكن أن نسجل الصلات العسكرية والسياسية بين إسرائيل وبلدان مثل جنوب إفريقيا والأرجنتين، وهما بلدان مثل الولايات، كانت لهما خلال القرن التاسع عشر تجارب مؤسسة في انتزاع الأراضي وإبادة السكان الأصليين، وذلك بالاعتماد جزئيا على فكرة خلق تجانس مجتمعي.
-    خلق تجانس ، نعم . ولكن مع محو مستمر للساكن الأصلي الذي يصبح دون معنى داخل المشهد. انظروا إلى الصور التي تقدمها السينما الصهيونية خلال سنوات الثلاثينات: تقدم الأرض دائما كأرض خلاء. وإذا حضر فيها بعض العرب، فإنهم يحضرون كأصحاب إبل أو كرعاة قطعان، يعبرون الشاشة بين الحين والآخر، لإضفاء نوع من الغرابة على المكان: إنه ليس حقلا بأوكرانيا، إنه الشرق الغريب. يعبر جمل أو بدوي. ذلك ما يسميه بارث Barthes «إيهاما بالواقع». إنهم يعبرون وهذا يكفي. أما بقية المشهد ففارغة. نفس الفكرة تحضر بالولايات المتحدة. قدرات الرواد وهم يهيمون على وجوههم في أراض موحشة، إخفاء مجتمع آخر، وحس المبادرة المستمر... المبادرة شيء إيجابي لأن كتابا ما قال ذلك. ولا يهم أن تعني تلك المبادرة قتل أناس، أو رمي سكان بالقنابل، إخلاء قرى. ولكنها مبادرة من نوع خاص، مرتبطة بمجتمع كولونيالي جديد. وهو أمر مرتبط بعداء عميق تجاه المجتمعات التقليدية التي تعتبر متخلفة، بدائية، رجعية، إلى آخره (الإسلام مثلا). 
وهكذا يصبح مسلسل الإبادة عمليا سلسلة من المشاكل التقنية.
-    يتعلق الأمر إلى حد ما فعلا بسلسلة من المشاكل التقنية، وذلك هو ما تضعه وسائل الإعلام في الواجهة. أعتقد أنها حالة فريدة في التاريخ أن نرى دولة كإسرائيل تقدم على الساحة السياسية والفكرية الأمريكية من خلال سلسلة من الإجراءات المكثفة التي تخفي الحقيقة. إن الناس سيشعرون بالرعب لو عرفوا ما يحدث داخل إسرائيل والأراضي المحتلة. لقد تحدث تشومسكي عن هذا في كتابه الأخير إسرائيل، فلسطين والولايات المتحدة : الثالوت المشؤوم(7). ولكن يتم تهميش هذا بشكل ممنهج ، وحين ينتبه له الأمريكيون، كما حدث خلال صيف 1982، لما تم غزو بيروت وحدثت مذبحة صبرا وشاتيلا(8)، وحين لا يعرف ما يصنع بهذه الأخبار فإنها تنسى ببساطة. ونسمع (في المقابل) هذه الجوقات التي تمتدح التفوق الأخلاقي لإسرائيل، نبلها، ديمقراطيتها وتحضرها، الخ.
إن أحد الأشياء التي أثارت دهشتي في الانتقادات الموجهة لكتاب الاستشراق هي أن الانتقادات المنشورة بالصحف اليهودية والصهيونية لم تنتبه لما كنت أهدف إليه، وهو أن جذور معاداة السامية وجذور الاستشراق واحدة. إرنست رينان مثلا كان معاديا شرسا للسامية وللمسلمين، ويتخذ منهما نفس الموقف بشكل واضح: إن الساميين، سواء أكانوا مسلمين أم يهودا ليسوا لا أوروبيين ولا مسيحيين، يجب إذن إدانتهم وسجنهم. ما حدث بعد ذلك هو أن الصهاينة تبنوا تجاه الفلسطينيين نفس موقف المستشرقين؛ بعبارة أخرى، لقد أصبح الفلسطينيون موضوعا للاستشراق الإسرائيلي، تماما مثلما كان المسلمون وغيرهم موضوعا للمستشرقين الكولونياليين والامبرياليين. وقد انتبه  لذلك داني روبنشتاين Dani Rubenstein، وهو صحفي إسرائيلي، في مقال حديث له حيث يشير إلى تأثير الاستشراق على إدارة الضفة الغربية: هناك كان كل الإداريين الكولونياليين مستشرقين، والمتخصصون في الدراسات الإسلامية تلقوا تكوينهم جميعا بشعبة الدراسات الإسلامية بالجامعة العبرية. وقد كتب مناحيم ميلسون Menachem Milson  والي الضفة الغربية مثلا كتابا حول الأدب العربي.
لقد أشرتم إلى العلاقة بين المركز والمحيط . هل ترون أن هذا التعارض  قد عرف تحولا، من خلال كون المدن الغربية الرئيسية مثلا تدمج عددا متزايدا من السكان غير الغربيين، أولئك الذين يسميهم بول فيريليو Paul Virilio «ما تحت الحضريين»، بحيث أصبح ما كان مركزا إمبرياليا مصدر جذب لعناصر من المحيط؟ هل يمكن أن يؤدي هذا التدفق السكاني الذي أفرزه لاتمركز عملية الإنتاج الكلي، إلى تعديل في الشعور بالانسجام والاختلاف بين الشعوب الأوروبية؟
-    لم يكن الأمر كذلك تاريخيا. في الواقع ، أعتقد أن هناك تزايدا واسع النطاق للشعور العنصري، كما في إنجلترا، وهناك أيضا حركات انتقام – تذكروا الحركات الاحتجاجية ببريكستون(9). إن النجاح الباهر الذي حققه روائي مثل ف. س. نايبول V.S. Naipaul مرتبط بشكل وثيق بمشكل المستعمرات الذي يقتحم المركز ويهدد بالتشويش عليه بمطالبه "غير المدروسة" وبصخب طبوله. والأكثر من ذلك أن العداء الحقيقي عند أشخاص مثل نايبول – وهنا نعود إلى قضية التمثلات – يتعلق بهؤلاء «الملونين» كما يسمونهم، الذين يعرفون كيف يستخدمون وسائل الإعلام لإثارة الانتباه لمصيرهم. إنه موضوع يتردد باستمرار، وكل حركات الاحتجاج، سواء أكانت حركات احتجاج المولدين السود بأمريكا أو إنجلترا، أو كانت حركات احتجاج ببلدان العالم الثالث، فإن سببها الرئيسي ليس الإحساس بالظلم والإهانة الذي يشعرون به، وإنما هو رغبتهم في استخدام وسائل الإعلام الغربية الساذجة التي تسقط في فخهم. تذكروا آخذي الرهائن بإيران الذين تم وصفهم بالرغبة في استخدام وسائل الإعلام الأمريكية. وقد فعل الفييتكونغ le Viet-Kong نفس الشيء. هناك دائما هذا التخوف من الطريقة التي سيستغل بها الآخر منظومة التمثيل، وأعتقد أن هذا تخوف دائم. وفي الوقت نفسه نسمع تصريحات دائمة حول الانفتاح وحرية الصحافة.
كتب شيفا Shiva أخ نايبول كتابا حول جونستون يدعي فيه أن كل زعيم وطني من زعماء العالم الثالث يعاني بالضرورة من الهوس والاضطراب النفسي. ويقول، معتمدا على مرجعية الليبراليين واليساريين الغربيين: «إن الذين يعرفون كيف يغذون بطريقة أفضل أحلامنا المجنونة بالبعث والخلاص، الذين يوجدون في أمان خلف حدود حمقنا، يشجعون جنوننا». كيف يمكن أن نفسر هذا التماهي مع قوى الهيمنة الخارجية؟
-    في ما أعرف من مناطق العالم الثالث، يمثل منظور نايبول عرضا من أعراض تطور طبقة جديدة من التقنوقراط الذين يوجد مركز العالم بالنسبة إليهم في وادي السيليكون la Silicon Valley. هناك إذن تماه تقنوقراطي. أضف إلى ذلك أن الجيل الأول من مفكري ما بعد الاستعمار قد انتهى. وأنا أتحدث هنا عن الجيل الذي يمتد من الحرب العالمية الثانية حتى سنوات 1970 : سيكو توري، عبد الناصر وسوكارنو(10).
تتحدثون عن جيل ارتبطت هويته بقاموس التحرر الوطني.
-    نعم. ويمثله بمعنى ما نوع من البورجوازية الوطنية. الآن انتهت هذه المرحلة، وأصبحت هذه المجتمعات تواجه إشكالية التقنوقراط التي تؤدي إلى (طرح) إكراهات من قبيل: يجب أن نطعم شعبنا، يجب أن نهتم لأمر بترولنا، وبمشكل توزيعه، الخ، ولكن يجب أن نواجه أيضا مشكل ما يمكن أن نسميه الأمن القومي. تلك هي الحلول. وبعبارة أخرى، هي الخدمات التقنية من جهة، والأمن القومي – الذي يعني عمليا وسائل البقاء في السلطة- من جهة أخرى. إن الزخم الوطني لم يعد له وجود؛ ويجب أن نجد شيئا آخر لتعويضه: وهنا يتم خلق أعداء خارجيين. وهكذا فإن كل بلد من البلدان العربية، وكثيرا من البلدان الإفريقية وبلدان الشرق الأقصى مرتهنة بحاكم طاغية. هناك مفهوم العدو الخارجي الذي تجب مواجهته، هناك الإمبريالية. وهكذا تتم المحافظة على الشعارات القديمة المتعلقة بالحركة الوطنية. وفي نفس الوقت هناك هذه القفزة التقنوقراطية الكبيرة المستهدفة أو المرغوب فيها، المبنية على نموذج مستبطن للتحديث غير خاضع لأي روح نقدية. في مثل هذا السياق، تنزع الأشياء إلى التدهور، وتبقى مرحلة التمرد قائمة باستمرار – تلاحظون ذلك بتونس، بمصر، وبأمريكا اللاتينية حيث يحدث الأمر بانتظام في هذا البلد أو ذاك. بالسالفادور مثلا يحاولون تنظيم انتخابات، ولكن تتم سرقة صناديق الاقتراع. وإلى جانب هذا الخليط المضطرب من التقنوقراطية والأمن القومي، يعود  نوع من الحنين للكولونيالية أو الدين – هذا في نظري من الأعراض الوراثية، ولكن بعض الأشخاص يتمنون عودة الكولونيالية أو الدين. ويمثل السادات(11) مثالا جيدا في هذا الصدد. لقد أقصى الروس، كما أقصى كل ما يمثل عبد الناصر، أقصى الوطنية المتزايدة، الخ، وقال «لنفسح المجال للأمريكيين». وهنا حدث ما يسمى بالانفتاح، أي فتح البلد أمام إمبريالية جديدة: التدبير التقنوقراطي، ليس تدبير الإنتاج، وإنما تدبير الخدمات – السياحة، الفنادق، الأبناك، الخ. هذا ما وصلنا إليه الآن. هذه الظاهرة أفرزت نماذج مثل نايبول.
هناك اليوم  شخصية هامة من حيث الطريقة التي صنعت بها هويتها من طرف الصحافة الغربية، هي شخصية القذافي. ويبدو أن السبب الرئيسي وراء هذه الصورة المشوهة بشكل راديكالي هي أن القذافي قائد مستقل، لا يمكن شراؤه أو إدخاله ضمن حرب باردة أو ضمن توافق ثلاثي من أجل التدبير العالمي.
-    هناك حظوظ قليلة لشرائه (وهو من جهته شخص غني طبعا). إن أغلب الخطابات حول الإرهاب ( فرق الكوموندو الليبية، الخ)، ضعيفة الصلة بالقذافي، وإنما تحيل بدل ذلك على دوستويفسكي وعلى كونراد Conrad اللذين تخيلا إرهابا مقصودا لذاته، إرهابا كنشاط جمالي، وليس كشأن سياسي. لكن ما لا يتم إدراكه بخصوص القذافي مع كل جنونه الظاهر، هو أنه يمثل بداية مرحلة ثالثة. وبالفعل هناك أولا مرحلة الحركة الوطنية ومعاداة الأجنبي، وهناك ثانيا التقنوقراطية؛ وعند هذه النقطة تتفرع المنظومة إلى حنين للكولونيالية من جهة - «تعالوا وساعدونا»- ومن جهة أخرى هناك عودة للاهتمام بالدين – عند الخميني والقذافي. وبعبارة أخرى إن الناس الذين يقولون: «ضعوا ثقتكم في الأمريكان أو الروس، الخ» يضطرون اليوم إلى الاعتراف بأن الارتهان للقوى الخارجية يعد فشلا معيبا: إن شعوبنا لا تزال فقيرة كما كانت من قبل، ولا زلنا مدينين إزاء صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة. الجواب الوحيد حينئذ هو الإسلام. وذلك ما فعله القذافي، وهو بهذا رائع فعلا. ففي العالم العربي أو العالم الإسلامي عامة، تجد إيمانا شعبيا صادقا ب"الإسلام"، وهو الإسلام الذي يخيف دولة الأمن القومي. إن الوضع الساخر في دولة الأمن القومي، في العالم العربي على الأقل، هو أن كل دولة تمثل فشلا ذريعا: لا دولة استطاعت حماية حدودها، ولا حتى الحفاظ على الأمن الداخلي للبلد. كانت إيران، تحت حكم الشاه دولة الأمن القومي، لكن النظام كان دون شك عميلا لأمريكا. وتعرضت العديد من الأنظمة العربية للهجوم والاختراق واحتلال الأراضي من طرف إسرائيل. حينئذ بدا أن الإسلام هو الحل، وضاع الحل العلماني حتى يومنا هذا.
دولة الأمن القومي في مقابل التقنوقراطية، هذا هو الصراع في أغلب دول العالم الثالث اليوم . ما هي البدائل والنماذج التي يمكن بناؤها؟
-    لنعد إلى فانون. منذ أن حالت أخلاقيات العنف دون إنجاز تفكير نقدي أصيل، أصبحنا نجد التمرد، وغياب ما يمكن أن نسميه البعد الطوباوي. الحالة المثالية التي نسعى إليها هي المزاوجة بين فانون وأدورنو Adorno، وهذا هو ما ينقصنا تماما. يجب أن نجمع بين المواقف المتطرفة، الحركة الوطنية، الثورة والتمرد من جهة، والتفكير النظري التأملي النشيط من جهة أخرى، وذلك كي نجمع بين تلك المواقف الأولى وبين تقليد مدرسة فرانكفورت التي انتهت إلى الاستسلام كما تعرفون. وبالنسبة للعالم الثالث، فإن تلك المواقف ( الحركة الوطنية، الخ)، قد أدت إلى خلق دولة الأمن القومي. بشكل أو بآخر، نحن في حاجة إلى بعد آخر يسمح بالتفكير في المستقبل بأدوات ليست فقط أدوات التمرد ورد الفعل.
هل يتعلق الأمر ببروز سيرورة نقدية تتضمن رسم صور لمستقبل بديل؟ 
-    بالضبط. في الواقع، أنا لا أتحدث عن اختراع حالات طوباوية أو عن نزعة طوباوية. لقد تناول شومسكي هذا الموضوع بالإحالة على مفهوم استخدمه بورس Charles Sanders Peirce (12) ، هو مفهوم الاختزال abduction، أي صياغة الفرضيات بناء على الوقائع المعروفة (فقط). ( في هذه الحالة) نطرح كمبدأ شيئا مأخوذا من الحاضر قدر المستطاع؛ وإلى جانب هذا الحاضر، ووفاء له، نقوم باختزال فرضية مستقبلية ممكنة – رغم ما يمكن أن يعتري فهمنا للوقائع المعروفة من نقص. هذه العملية ، وهذا البعد غائبان في الوضع الراهن. أعتقد أن هذا بدأ يتحقق في بعض الأعمال النقدية المنجزة بالنسبة لموضوع التمثل والإمبريالية بشكل خاص.
كتاب الاستشراق هو في هذا الصدد كتاب سلبي، ولكنني في النهاية أحاول أن أبلور نظرة حول مجتمع غير متسلط، غير متحكم. كذلك نجد هذا البحث البديل في الأعمال المناصرة لقضية المرأة حيث تطرح المشاكل بطريقة جدية حقا. هكذا نتساءل:  ما هي السبل لوضع فرضية مرتكزة على بعض المدارك، حيث نقوم بتفكيك (الواقع) ونزع  الطابع الأسطوري (عنه)، وفي نفس الوقت نقترح رؤية مستقبلية بديلة وأصيلة تتجاوز الرؤية التوفيقية؟ عموما، ليس هذا هو نوع العمل النقدي الذي يقوم به الناس. وفي العالم الثالث، ليس من السهل تطوير مثل هذا العمل لأنه غير قابل للإنجاز من طرف شخص واحد، وإنما يحتاج إلى جهد جماعي.
هل  يمكن في نظركم أن توجد ظروف تتيح تقاربا ملموسا بين بعض الحركات بالولايات المتحدة وما تصفونه أنتم وآخرون بأنه حركات معادية للنظام؟ وما هي الأرضية المشتركة الممكنة لهذا التقارب؟...
-    لا أشك في أن أساس هذا (التقارب) هو نقد الهيمنة أو نقد الإمبريالية كهيمنة.  
لكن هذا النقد سيتخذ طبعا شكلا شديد الاختلاف عن الصورة التي اتخذها خلال الستينات.
-    تماما. فمرحلة الستينات كانت مرحلة الحماس والطوباوية، وتمثل محاولة إحياء أو استعادة بعض التجارب التي يمكن القول إنها تجارب بدائية  أو فورية. ما أتحدث عنه أمر يدعو إلى تأمل أعمق، ويمكن أن يتضمن نقدا للإمبريالية في أشكالها الثقافية ، وليس فقط كاقتصاد رأسمالي.
(Edward Said, Dans l’ombre de l’occident, Edition Payot, 2014).
الهوامش

(1)    حوار مع جوناتان كرايري Jonathan Crary  و فيل مارين Phil Mariant  مجلة  ويدج Wedge، نيويورك، 1985 .
(2)    يشير إدوارد سعيد هنا إلى اللقاء الذي جمع بين ميشيل فوكو ونعام تشومسكي، والذي أعده الفيلسوف  الهولندي فونس إلدرس Fons Elders، وهو لقاء سجل بالمدرسة العليا للتكنولوجيا بإيدهوفن خلال شهر نونبر 1971، وتم بثه بالتلفزة الهولندية.
(3)    جاك دونزلو عالم اجتماع من مواليد 1943. وهو أحد تلامذة ميشيل فوكو. نشر كتابين يحملان أثرا واضحا للطريقة الجنينيالوجية عند فوكو، وهما : شرطة الأسر Police des familles (Paris, Minuit, 1977، وقدم له جيل دولوز)؛ وابتكار الإجتماعي l’Invention du social (Paris, Gallimard, 1984). وهو اليوم متخصص في سياسات المدينة.
(4)    الاســتـــشــــراق Orientalism ، نـــشـــر ســــنــــة 1978 ، وظـــــهــــر بــــالـــفرنسية تحت عنوان L’Orientalisme. L’Orient créé par l’Occident ( الاستشراق، الشرق كما خلقه الغرب) ترجمته كاترين مالامود Catherine Malamoud وقدم له زفيتان تودروف (Paris, Seuil, 1980).
(5)    لجنة مكافحة التمييز الأمريكية العربية  The American-Arab Anti-Discrimination Committee (ADC)، أسست سنة 1980 من طرف السيناتور الأمريكي جيمس أبورزق. وتعمل هذه اللجنة، التي يوجد مقرها بواشنطن، على الدفاع عن حقوق الأشخاص المنحدرين من أصول عربية، وكذا الدفاع عن غنى موروثهم الثقافي (www.adc.org).
(6)    اشتغل تيد كوبل Ted Koppel منشطا إعلاميا لبرنامج Naightline على شبكة ABC من 1980 إلى 2005.
(7)    نـــشــــر كـــتــاب نــعـــام تشومسكي الثلاثي المشؤوم The Fateful Triabgle سنة 1983 من طرف دار النشر  South End Press بــــالـــــولايـــــات الــــمـــــتحــدة، وظـــهــــر باللـــغــــة الــــفرنسية سنة 2006 تحت عنوان Israël, Palestine, les Etats-Unis : le triangle fatidique (منشورات écosociété).
(8)    صبرا وشاتيلا مخيمان للاجئين الفلسطينيين ببيروت الغربية. وقد حدثت المجزرة من بين 16 و 17 شتنبر 1982 ، وارتكبت في قطاع كان تحت "حماية " الجيش الإسرائيلي من طرف الكتائب اللبنانية التي يتزعمها إيلي حبيقة. ووفق مصادر الخبر، فإن عدد الضحايا يتراوح سبع مئة وثلاثة آلاف وخمس مئة شخص.
(9)     خلال سنتي 1981 و1985 كانت بركستون مسرحا لحركات احتجاج عنيفة قام بها شباب سود في أغلبهم. وقد احتجوا على الإجراءات العنصرية التي تقوم بها الشرطة، وخلفت عدة مئات من الجرحى في حالة خطرة. وفي سنة 1979 قدمت مجموعة كلاش  Clash أغنية "بنادق بريكستون"  من أجل إدانة عنف الشرطة.
(10)    سيكو توري (1922-1984) كان أول رئيس لجمهورية غينيا. وظل في منصبه منذ 1958، سنة استقلال بلاده عن فرنسا، حتى سنة 1984. وجمال عبد الناصر (1918-1970) كان ثاني رئيس لمصر من 1956 حتى 1970. تزعم الحركة القومية في الوطن العربي وشجع على نهج سياسة عربية مشتركة تفضل المواجهة بين البلدان العربية والبلدان الغربية. سوكارنو (1901-1970) كان أول رئيس لجمهورية اندونيسيا. وقد ظل في منصبه من 1945 إلى 1967).
(11)    أنور السادات (1918-1981) شغل منصب رئيس مصر من 1970 حتى 1981. حصل سنة 1978 على جائزة نوبل للسلام رفقة رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن الذي وقع معه اتفاقيات كامب ديفيد. وقد تم اغتياله سنة 1981.
(12)    شلرل ساندرس بورس Charles Sanders Peirce  ( 1839-1914) سيميائي وفيلسوف أمريكي، يعتبر من مؤسسي التيار البراغماتي صحبة ويليام جيمس وفيرديناند دو سوسير. وتتسم أعماله بالتجديد بشكل متميز في مجال ميتودولوجيا البحث وفي فلسفة العلوم.

كل الهوامش من وضع مترجمة النص من الإنجليزية إلى الفرنسية (سلوى لوست بولبينة).