اللعب والكلام ـ Francis Wy brands ـ ترجمة : الحسين سحبان

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse02046"أما كل شيء إذن إلا لعب ومبادلة أو تحويل لشيء لا يتبدل le même، فلا يلفى في أي جهة اسم، ولا مكان حتى لربح أو مكسب حميم." ريلكه، مرثية (إلى مارينا تسفيتايفا) ترجمة: Ph. Jaccottet
"أدعوكم للعب، للنظر بانتباه… أدعوكم للتفكير"
أ.تابيز، ممارسة الفن ("أفكار"، غاليمار، ص 144).
 
"ليس في اللعب "لأن"، ولا "لماذا". إن اللعب هو لعب حين يجري. فاللعب هو وحده الذي يبقى: إنه أسمى وأعمق ما يوجد.
غير أن "وحده" [ لا يعني أن اللعب جزء من كل، بل يعني أنه ] هو الكل، وأنه الواحد الأوحد".
م.هيدجر، مبدأ السبب (ترجمة A.Breau، ص 243)
يكشف اللعب عن نفسه في أوجه تتعدد بحيث يبدو من المستحيل بلوغ أي إدراك لمعناه في مستوى المفهوم. إذ ما هو المشترك، بالفعل، بين لعب [حركة ارتفاع وانخفاض] الأمواج le jeu des vagues، ولعب(1) (التلاعب) الكلمات le jeu des mots ، بين اللعب الذي يخص به الأطفال وبين اللعب [مجموع الحركات الآلية] الذي يتيح لقطع آلة أن تشتغل؟ تجاه هذا التبعثر الذي يحول دون التفكير في اللعب، بسبب حصره، في كل مرة، لمعنى اللعب في دائرة منفصلة (جمالية، لسانية، سوسيولوجية، سيكولوجية…)، يمكن، مع ذلك، إبراز تصورين كبيرين للعب:واحد لهوي ludique، وآخر كوسمولوجي Cosmologique. يقول أحد هذين التصورين إن كل شيء لعب: كل شيء يلعب من الإنسان إلى الإله. ويقول التصور الآخر إن الكائن، في مجموعه، هو، في عمقه، لعب. إن كان لا فرق بين هذين التصورين، اللذين يقولان الشيء نفسه le même، سوى في التشديد والتوكيد، فذلك لأنهما قائمان على أساس واحد غير مفكر فيه. [هذا الأساس هو الذي يكشف عنه] هيدجر في اعتراضه على الطابع الأنثروبولوجي لكل تصور لهوي للعب، وعلى الصبغة "الميتافيزيقية" لكل تصور كوسمولوجي للعب.

على هذا الاعتراض المزدوج سنركز، في المقام الأول، بكيفية تمكننا من أن نبرز، بالسلب، الفضاء الخاص باللعب عند هيدجر.
جاء في خاتمة كتاب هيدجر مبدأ السبب le principe de raison: "ربما تكون الترجمة الأكثر صوابا لقول ليبنتز: "وجد العالم بينما كان الإله يحسب" هي: "وجد العالم بينما كان الإله يلعب"(2). تؤسس هذه "الترجمة" علاقة بين الحساب le calculer، وبين اللعب le jouer، داخل فكر يحركه البحث عن السبب النهائي للأشياء.
ينظر إلى اللعب المنسوب، على هذا النحو، إلى الإله المهندس عند ليبنتز، من منطلق ما يمنع جوهر الإنسان: co-agitatio(3). لا شيء بدون سبب. والله الذي هو السبب الأول لكل ما يوجد، يفعل طبقا لنمط الأنا أفكر ego cogito. وإذا كان للحساب أن يأخذ مكان اللعب بالضبط، فذلك لأن اللعب هو صيغة أخرى من صيغ الحساب computatio الكوني. إن الله المتعالي يتخذ لنفسه الصفات المميزة للكائن البشري (كما كان قد كشف عنها ديكارت) أي بنية الذات: "بوصفها أنا أفكر، أنا أتمثل"(4). فهو يلعب (أو يحسب) كما يفعل الإنسان. لعبه حساب، وحسابه هو الكيفية عينها التي صنع عليها العالم، والكيفية عينها التي يتجلى بها العالم للإنسان.
هذا التصور للعب "تشبيهي" Anthropomorphique، وليس تصورا لاهوتيا، لما فيه من تعميم لخاصية نوعية للكائن الإنساني بحيث تشمل كل كائن - بما في ذلك الكائن الأعلى-، وهي خاصية التمثل، والإدراك، والتفكير وفقا لنمط الحساب المؤكد… ولا حاجة إلى التوكيد بأن هذه القاعدة هي التي استمد منها ليبنتز أصول مشروعه المتعلق بـ "لغة كونية" caractéristique universelle، تلك اللغة التي لا تكون ممكنة، من حيث هي لغة غير اعتباطية اصطلاحية إلا إذا كانت متناغمة ومنسجمة مع العقل الإلهي، الذي تعد الأفكار الفطرية علامة على حضوره فينا. فهي لغة عقلية خالصة، قادرة على أن تزودنا بالقواعد الحقيقية للعب (الحساب) الإلهي الذي يشكل عالمنا هذا أحسن أطواره.
هذا التوسيع الذي قام به ليبز للمشروع الديكارتي، هو الذي ينبغي أن يتخذ أساسا لفهم النظرية الكوسمولوجية في اللعب، تلك النظرية التي بلغت أوجها في الفترة الممتدة من الرومانسيين الألمان إلى نيتشه.
"إن كل ألعاب الفن المقدسة إن هي إلا محاكاة باهتة للعب اللامتناهي الجاري في العالم، هذا العالم الذي هو عمل فني يهب لنفسه، على نحو أبدي، صورته أو شكله الخاص"(5). لعب الفن ولعب العالم أحدهما صدى للآخر. ولعب الفنان، والشاعر، يعيد في إبداعه لعب الكون، هذا الكون الذي تم تصوره هو نفسه عملا فنيا مطلقا. لقد صار الفنان، لأول مرة، مبدعا. وذلك ما عبر عنه P.Grappin تعبيرا جيدا بقوله: "لقد صار الفن فوزا بشريا بعد أن كان هبة أو فضلا من الله(6)". ولعلنا نجد أصول هذا الانقلاب لدى منظري "العبقرية" الذين ازدهروا في ألمانيا فيما بين 1730 و 1780، وذلك قبل أن يجد ذلك الانقلاب إنجازه الفلسفي في كتاب كانط: نقد ملكة الحكم.
إن العبقري، بالفعل، هو ذلك الذي يلفي في أعماقه الخاصة القدرة الخلاقة التي كانت وراء انتظام الطبيعة في صورة "كون" "Cosmos"، فهو [العبقري] يجسد بلعبه الخلاق، في صورة موضوع محسوس، وبتوسط الخيال و"اللعب (الاشتغال) الحرلـمكاته"، فكرة جمالية لا تقبل أن تختزل إلى مفهوم (وبذلك) تتصالح الطبيعة والحرية داخل وحدة متناغمة لا يمكن أن تتحقق إلا في لعب متحرر من كل غاية.
التصور الكوسمولوجي للعب، وتنصيب الإنسان مقياسا (حسابيا أو إنتاجيا) وحيدا لكل ما يوجد، هما أمران متلازمان. "يقوم وجود الكائن، في كل مكان، في وضع ذاته أمام ذاته، ومن ثم في فرض ذاته. لقد انتفض الإنسان فارتقى، داخل ذاتية الكائن، بنفسه ليجعل منها ذاتية لماهيته هو(7)" عبارة "وضع الكائن لذاته أمام ذاته [أي تمثل ذاته] هي التي استعادها هيدجر في كتابه حول نيتشه، من أجل تمييز "المفهوم الميتافيزيقي للعب العالم" عند نيتشه(8). "إن نيتشه يفكر في "لعب العالم" بوصفه لعبا "أعظم"، انطلاقا من إرادة القوة. وهذه الأخيرة تفكر في "الكينونة" بوصفها الشرط الذي يضمن لها الثبات والتماسك"(9) وبعبارة أخرى، إن"لعب العالم" عند نيتشه، يضمن ويؤمن لكل ما يخضع للصيرورة الحضور على نمط العود الأبدي. وإذا كان أوجين فينك E.Fink يرى أن "الفلسفة الكوسمولوجية عند نيتشه لها أصل غير ميتافيزيقي في فكرته عن "اللعب"(10). فإن هيدجر يرى، خلافا لذلك، أن هذه الفكرة هي، بالأحرى، صورة متطرفة للميتافيزيقا في الأزمنة الحديثة.
وتبعا لكلام أ.فينك نفسه، نتساءل عما إذا لم يكن إدراك الاختلاف الأونطولوجي "على نحو كوسمولوجي"، كما فعل نيتشه، ضربا من عدم التفكير في الاختلاف من حيث كذلك. إن الاختلاف الذي يستمر نسيانه أو حجبه من قبل الميتافيزيقا، هو الذي ينبغي أن يكون منطلقا للتوجه نحو مسألة اللعب.
لعب(ة) الاختلاف:
بعد أن أرجعنا النظرة الكوسمولوجية واللهوية إلى اللعب، إلى أفقها الأنثروبولوجي غير المفكر فيه، يتعين علينا أن نحدد الفضاء الخاص الذي يتم فيه طرح مسألة ماهية الكينونة منظورا إليها بوصفها لعبا.
"لا شيء يكون بغير سبب. فالكينونة والسبب هما نفس الشيء le même. وبقدر ما تؤسس الكينونة، تكون هي غير ذات أساس. وبوصفها (الكينونة) ما لا أساس له، فإنها تلعب (تمارس) هذا اللعب الذي يعطينا، إذ يجرى كلعب، الكينونة والسبب(11)".
يستدعي اللعب، من حيث هو لعب، أن نبحث عنه في سر الهو هو le même الذي يضم الكينونة إلى السبب دون خلطهما. وهذا يعني أن اللعب ليس هو كينونة الكائن، ولا قمته، مثلما أنه ليس، أيضا، سببا إذا أخذ السبب بمعنى القاعدة أو الأساس الذي يعطي مبررا لوجود كل ما هو كائن. إن الهو هو لا يكون قابلا لأن يفكر فيه بوصفه لعبا إلا إذا أبعدناه عن (معنى أو مفهوم) القاعدة والقمة. إن الكينونة باعتبارها سببا، لا يمكن أن تكون مقتضى لفكر يبحث عن الـ"لماذا" وعن "السبب الكافي". فليس الانتماء المتبادل للكينونة والسبب، من قبيل الحضور الدائم ولا من قبيل السبب الإسنادي أو الحملي، وإنما هو انتماء متبادل من نوع آخر لا يقبل التفسير ولا التعليل. إنه انتكاء من قبيل اللعب المجاني الذي يكسر، وهو يجرى كلعب، قيود الكينونة والسبب ويحررهما. فإن تكن المبادئ المفسرة صالحة لكل ضروب اللعب داخل العالم، فإنها ليست صالحة بالنسبة إلى "لعب العالم" ذاته. وإذا كان اللعب يتجنب سؤال اللم la question du pourquoi (وربما يتجنب كل تفكير متسائل)، فذلك لأن اللعب ليس شيئا مما هو موجود، ولأن اللعب يفلت، من حيث هو منفلت، من كل حضور يقبل أن يكون موضوع نظرة أو رؤية.
عبارة "لعب العالم"، هي، في الواقع، ترجمة لعبارات ثلاث مختلفة في نص هيدجر، هي:(12)"Spiel der Welt" و (13)"Weltspiel" و "das Welten der Welt". ولكن هذه العبارات الثلاث لا ينبغي أن تقودنا إلى التفكير في العالم وكأنه صفة أو مسند إلى لعب أعلى، ولا إلى التفكير في اللعب باعتباره موضوعا أو مسندا إليه يغدو العالم وكأنه صفة أو كيفية له. فالعالم المقصود ليس هو الكائن في كليته بمعناه الكوسمولوجي. إنه الطبيعة (الفيزيس) physis تلك التي سما بها هيراقليط ورفعها إلى مستوى لغة الفكر: "العالم نار مستديمة، انبثاق دائم بالمعنى التام لكلمة فيزيس(14)". هذه النار هي:"das welten der welt"(15) أي ما يجمع ويلم و"يضع أمام داخل الحضور، ويعرض"(16). بهذا المعنى فإن "النار لوغوس" ومن ثم يكون لعب العالم، من حيث هو كذلك، لعبا للوغوس الذي يحجب ويكشف في آن واحد، ويري من غير أن يرى. وإذن لا يعود من الممكن، بعد إرجاع العالم واللعب إلى أفق اللوغوس، التفكير فيهما معزولين عن بعضهما. إن العالم يلعب مثلما يحجب اللوغوس ويكشف، مثلما يعطي ويأخذ وينسحب في (داخل) عطائه نفسه.
لو أننا أردنا استخدام الاستعارة في إدراك معنى اللعب لما اخترناها استعارة لهوية ولا كوسمولوجية ولا أنثروبولوجية، بل كنا اخترناها استعارة "ميكانيكية". وسيكون علينا إذ ذاك أن نفهم اللعب انطلاقا من لعب [حركة أو اشتغال] قطع داخل آلة، ومن علب [حركة دورنان] مفتاح في قفل، أو أفضل من ذلك، انطلاقا من لعب [تفكك] ألواح دولاب خلخل الزمن تطابقها وتضامها. فلقد ظلت الألواح هي هي، ولكن اجتماعها وتضامها "لعب" (تخلخل) "a joué"،وتراخى a travaillé، دون أن تنقص، مع ذلك إحدى الألواح من المجموعة. وإن كان اللعب (الحركة، الاشتغال، التخلخل، التضام، التراخي…) لا يعرف الاستثناء، فليس لأنه قانون مهيمن على العالم بلا نزاع، بل لأنه، على العكس، يشاكل ويجانس ويناسب بين كل كائن وبين كينونته. غير أن هذه الصورة [الاستعارة] خطيرة، وخطرها في أنها قد تحرضنا على تمثل العالم في صورة مجموعة عناصر، معطاة سلفا، تلعب [تعمل] أجزاؤها في لحظة تالية. ينبغي بعكس ذلك، أن نفكر في اللعب باعتباره ما قد لعب (جرى أو حصل) في صورة عالمنا هذا نفسه ce qui a joué en tant que ce monde. ليس هناك تمثل قادر على بلوغ إدراك اللعب بالذات. (ذلك لأن) التمثل يعزل ويباعد بين العناصر التي يسويها مع نظرته أو توحدها نظرته. لذلك فإن الوحدة التي يكتسبها اللعب داخل التمثل تظل وحدة خارجية. هاهنا ينبغي التفكير في اللعب بما هو موحد (للمتفرق) وواصل (للمنفصل).
لقد أتاحت فكرة الطي "le pli" -وهي فكرة يمكن اعتبارها أيضا استعارة أو مجازا- لهيدجر التفكير في البساطة بما فيها من تضعيف بفعل الاختلاف. لا يمكن لبساطة الطي أن تخضع للتفكيك دون تعريض الطي ذاته للاختفاء، فما من تفسير بقادر على التوصل إلى إدراك ما يلعب [يراهن] به ce qui en jeu في الطي: الكينونة-الكائن. ذلك ما أجاد التعبير عنه M.Haldiney بقوله: "حيثما تكف الكينونة عن كونها بعدا للكائن من حيث هو كائن، حيثما ينقطع الاختلاف الأونطولوجي بسبب انعدام التفاوت بين الكينونة والكائن، حيثما يحصل ذلك تتلاشى الكينونة والكائن ويتبددان في الضوء الساطع دون مقاومة من قبل الفراغ الذي ليس فيه ما يرى. بإلغاء الأونطولوجيا للوجود الفعلي الخاص بكل كائن l 'ontique، فإنها لا تعود، حينئذ، سوى لوغوس (كلام) بديهي واضح بذاته (بغير حاجة إلى كلام qui va sans dire)، واللوغوس الذي لا كلام فيه، لا جمع ولا لم فيه est sans legein. فحينما ينمحي الأنطولوجي (العام) في الوجودي (الخاص)، فإن هذا الأخير يخلو من اللوغوس(17)".
في مفصلة الطي، بل في الطي ذاته، يكون اللوغوس هو المفصل، دون أن يختزل اللوغوس إلى ما يتمفصل بواسطة اللوغوس.
قول اللعب، ولعب القول:
الكلام هو ما يلعب [يراهن] به في اللعب. ومن ثم لا يمكن للعب الكلام أن يكون مجرد مثال للعب. ولا ينبغي التفكير في اللعب وفقا للنموذج الكوني الهيجلي المقابل [المضاد] للجزئيات المفردة، هذه الأخيرة، مع ذلك، معبرة، على نحو تام، عن ذلك النموذج الكوني. اللعب مفرد، فريد، غريب، شاذ. إنه "معركة الوجود الفريدة". هكذا ينبغي أن تترجم كلمة هيراقليط: polémos المعركة. (إذا أخذت عبارة "مثلا" في اللغة الألمانية بمعناها الاشتقاقي وهو "بالقرب من اللعب" beispiel: bei=àcôté, spiel=jeu) فإن أي مثال، يضرب للعب، لا يمكن أن يظهر من اللعب سوى حالة خاصة، تحول دون التفكير في اللعب في وحدته الفريدة الغريبة. كتب هيدجر، هامشا حول الدازاين Dasein الذي كان يمكن أن يبدو، على الأقل في كتابه الكينونة والزمان Etre et temps، مثلا مفضلا لحقيقة الوجود: "الدازاين مثال نموذجي، لكونه منخرطا في لعبة (حركة) التوافق، ولأنه، إذ ينشر ماهيته بوصفه وجودا-هنا Da-sein (حاميا لحقيقة الوجود وراعيا لها)، يلعب لعب الكينونة بما هي كذلك، ويقع في شباك اللعب".
ليست وحدة الفريد هذه (وحدة اللعب من حيث هو لعب) وحدة التطابق l 'identité. بل وحدة الاختلاف. ذلك الاختلاف الذي هو وحدة اللعب الموحدة، من حيث هي وحدة يلعب (يعمل) فيها الاختلاف. ولما كانت الكينونة في انسحاب أو انحسار en retrait دائم من الكلية، بحيث لا تنكشف أبدا على وجه التمام، فإنها (الكلية) تظل معلقة (époche) داخل العصور التي ترسم الهيأة الخارجية لمصيرها. (أكيد طبعا أن الكينونة ليست مجموع عصورها). لن نستطيع إذن أن نفهم اللعب إلاَّ على نحو جزئي، وذلك ليس لأن فينا نقصا أو عيبا خاصا يحجب عنا الكلية، بل لأن الكينونة لا تقدم لنا نفسها في اللعب إلاَّ على نمط الانسحاب أو الانحسار.
مراعاة هذه الكيفية التي تعطي بها الكينونة نفسها -الإقبال في تراجع وانسحاب- تترتب عنها بعض النتائج فيما يتعلق باللغة. لا يستطيع الكلام، حتى كلام المفكر، أن يدعي قول الكلية منكشفة بأكملها. إن الكلام يواري في ذاته قسطا من الظل والكتمان، ليس مرده إلى مسحة شعرية تأتي لتنضاف إلى قول المفكر. على العكس من ذلك، فإن لعب [اشتغال] الكلام على نمط الانسحاب والتراجع، هو الذي يصنع كل ما يحمله الكلام من سر أو غموض. وإذا كان ينبغي السكوت عما لا يمكن الكلام عنه، وكان الكلام لا يفصح إلا بقدر ما يدخل في الإطار الذي يحدده لعب الكينونة (المينا أو الإطار الرباعي (المؤلف من الأركان الأربعة: الأرض والسماء، الله والإنسان)، فإن المسكوت عنه، لن يكون حينئذ هو مجرد ما لا ينبغي الكلام عنه، بل هو ما يرسل، من عمق الكينونة، صدى سكوته أو صمته في [عبر] الكلام.
"إن القول المبين (كلام الأصل أو أصل الكلام) le dit، بتركه إطار العالم (يأتي إلى ذاته ويحقق ويتملك ذاته بما هو كذلك) فإن (القول المبين) يجمع ويلم شمل جميع الأشياء في حظيرة يسودها قرب استقبال le vis-à-vis (انفتاح) بعضها لبعض، وذلك من غير أي دوي أو ضجيج، بل في صمت وهدوء وسكون بقدر صمت وهدوء وسكون عملية الإنضاج التي يسير بها الزمن إلى منتهاها، وبقدر صمت وهدوء وسكون المدى الذي يمده المكان، في صمت وهدوء وسكون بقدر صمت وهدوء وسكون اللعب [الذي يلعبه المكان والزمان على نحو متبادل أحدهما في الآخر، بحيث يمكن إضافة هذه العناصر الثلاثة بعضها إلى بعض]: مكان - لعب - الزمان l 'espace (de) jeu (du) temps"(19).
هذا الجمع أو اللم الصامت الذي يمارسه الكلام هو اللعب الخاص بالكلام. إنه صمت انسحاب وتوار يجري في كلام "الفانين" الذين لا يستطيعون الكلام إلا تحت طاعته. إن ترجيع صدى الصمت الذي يلعب (يعتمل) في قلب العالم والأشياء، لهو الدخول، بالمعنى الحقيقي، في "لعب العالم". فما من مبرر لكلام الفانين سوى الاستجابة أو التوافق والإيعاز الذي يومئ به العالم في صمت. فليس الإنسان بالسيد المتحكم في الكلام، بل الكلام هو الذي "يتحكم" في الإنسان ويشرطه، مثلما "يتحكم" في الأشياء، ويشرطها. وبعبارة أدق، إن الكلام، بتحكمه في الأشياء، يجعل الإنسان يلج اللغة، ويجعل منا نحن الفانين "متحدثين قائلين". يتحكم الكلام في الإنسان بقدر تحكمه في الأشياء(20). إن الإنسان لا يكون إنسانا إلا بقدر ما يستطيع أن يفهم الكلام الذي ينقل إليه الرسالة التي هي الأشياء.
يسود بين الكلمة والشيء اختلاف يبقيهما في ساحة واحدة للعب، معزولين عن بعضهما، مع ارتباط أحدهما بالآخر بعلاقة انتساب أو إحالة متبادلة. "حيث تعوز الكلمة لقول الأشياء، تنعدم الأشياء(21)". كما يقول بيت شعري من قصيدة لستيفان جورج كانت موضع شرح وتأويل من طرف هيدجر n
 
هوامش
1 - لا يتسع المدى الدلالي المحدود لكلمة "لعب" في اللغة العربية للغنى والتنوع الدلالي لكلمة "jeu" الفرنسية. لذلك لجأنا في ترجمة كثير من دلالات "jeu" التي لا تحتملها كلمة "لعب" العربية إلى مرادفات أو جمل شارحة بين قوسين معقوفتين. نرجو أن تشفع لهذا التعسف على لعب اللغة (والفكر؟) العربية، طموح متواضع إلى فتح النقاش حول الإقصاء الذي مورس في اللغة والفكر العربيين على اللعب بما هو حرية ومجانية وإبداع وتجريب للمكنات.
2 - م.هيدجر، Le principe de raison، الترجمة الفرنسية، ص 241.
3 - تعني هذه الكلمة اللاتينية حرفيا: التحريك المتآني لعناصر مجتمعة وتقليبها عن طريق رجها. ومن الممكن اعتبار هذا المعنى جنسا يدخل تحته التفكير بما هو تقليب وتأليف للأفكار. يؤيد ذلك اشتراك cogitation (فعل التفكير) مع co-agitation من حيث الاشتقاق.
ويستخدم هيدجر هذه الكلمة الأخيرة بمعنى التمثل représentation بوصفه "موضعة فاحصة متحكمة"، و"تجميعا لكل ما يمكن أن يكون موضوعا، داخل التآني المكون للامتثال" انظر مزيدا من التفصيل حول ذلك في كتاب هيدجر Chemins qui ne mènent nulle part، الترجمة الفرنسية W.Brakareir، غاليمار، 1980، ص 141، ص 143 (المترجم).
4 - هيدجر، شيلينج، الترجمة الفرنسية، ص 161.
5 - شليجل، ورد ضمن:
L'absolu littéraire. Ph.Lacou - Labarth et J.L.Nancy. Seuil, p.318.
كما ورد في كتاب: vérité et méthode لـ Gadamer، الترجمة الفرنسية، Seuil، ص 31. وانظر في نفس السياق موسوعة نوفالييس (Minuit، ص 280): "أفلا يمكن القول إن الله والطبيعة يلعبان؟"
6 - P.Grappin, La théorie du génie dans le classisme, PUF, p.13.
7 - هيدجر، Chemins qui ne mènent nulle part، ص 210.
8 - هيدجر، نيتشه، II،الترجمة الفرنسية، ص 306.
9 - نفس المرجع، ص 305.
10 - E.Fink، فلسفة نيتشه، الترجمة الفرنسية، Minuit، ص 239.
11 - هيدجر، Neske, Questions III، ص 31.
12 - هيدجر، Acheminement vers la parole،الترجمة الفرنسية، ص 200.
13 - هيدجر، Essais et conférences، الترجمة الفرنسية، ص 399.
14 - نفس المرجع، ص 332
15 - نفس المرجع، ص 332
16 - نفس المرجع، ص 276.
17 - H.Maldiney, Le legs des choses dans l'oeuvre de Francis Pouge, l'Age d'Homme, p.103-104.
18 - هامش كتبه هيدجر بخط يده على صفحة من نسخته الخاصة من كتابه الكينونة والزمان، أورده وترجمه J.F. Courtine في: les fins de l'homme, Galilée، ص 599-600 و ص 596.
19 - هيدجر، Acheminement، مرجع سابق، ص 202.
20 - نفس المرجع، ص 232 وص 218.
21 - نفس المرجع، ص 221 و ص209 وتوابعها.