المقدس والأنواع الحكائية : مصطلحات ومفاهيم ـ يونس لوليدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse14089تهدف هذه الدراسة إلى اقتراح ترجمتين لمصطلحين غربيين هما: Le sacré وLa légende، كما تهدف أيضا إلى اقتراح مفهوم جديد لمصطلح عربي هو الأسطورة وذلك من أجل المساهمة المتواضعة في حل أزمة المصطلح في العلوم الإنسانية.

I – Le sacré
إن الملاحظات الآتية توضح لنا الفرق الشاسع بين مصطلح Le sacré ومصطلح المقدس الذي اعتدنا أن نترجمه به:
1 ـ إذا كان مصطلح المقدس واضح المعنى، صريح الدلالة في الثقافة والتراث العربيين والإسلاميين، أي في المعاجم العربية قديمها وحديثها، وفي كتب التفاسير، فإننا لا نكاد نعثر لمصطلح Le sacré على معنى واضح ولا على دلالة صريحة، بل حتى على تعريف موحد ومتفق عليه في الثقافة والتراث الغربيين، إلى درجة أن الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع الغربيين رأوا أنه من الأسلم لهم أن يصفوا التجليات الخارجية لمصطلح Le sacré، والمواقف التي يولدها لدى المؤمن عوض أن يعرفوه.
2 ـ المقدس معناه في الثقافة والتراث العربيين والإسلاميين: المبارك والمطهر.
فقد جاء في لسان العرب: " والمقدس: المبارك، والأرض المقدسة: المطهرة، وقال الفراء "الأرض المقدسة: الطاهرة"… ويقال: أرض مقدسة أي مباركة"([i]).
وجاء في تاج العروس: "البيت المقدس: لأنه يتطهر فيه من الذنوب أو للبركة التي فيه"[ii]، وكل ما اشتق من قدس بضمتين أو من قدس بإسكان الثاني وهو اسم ومصدر، له علاقة بالبركة والطهارة، فقد جاء في معجم الألفاظ والأعلام القرآنية: "قدس الله تقديسا: طهر نفسه له، وقدس الله: عظمه وكبره، وقدس الإنسان الله: نزهه عما لا يليق بألوهيته، وقدس الله فلانا: طهره وبارك عليه، وتقدس لله: تنزه عما لا يليق بجلاله، والقدوس من أسماء الله الحسنى بمعنى الطاهر المنزه عن النقائض"[iii].


وفسر النسابوري قوله تعالى: "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" (المائدة، 21): "وتلك الأرض طهرت من الشرك وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء"[iv]. وفسر السمرقندي قوله تعالى: "إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى" (طه، 12). قال: لكي تمس راحة قدميه الأرض الطيبة[v]، وبذلك فإن معنى المقدس في المفهوم العربي والإسلامي لا يخرج عن الطاهر والمبارك، أي أنه يمثل ما هو إيجابي فقط. أما مصطلح Le sacré، فإنه لا يحمل دلالته في حد ذاته، وإنما من خلال تعارضه مع مفهوم الدنيوي Le Profane. فكما يرى إميل دوركهايم  Emile Durkheim ، فإن كل العقائد الدينية تفترض ترتيبا للأشياء الواقعية أو المثالية وفق نوعين متعارضين هما Le profane وLe sacré، فالخط المميز للفكر الديني هو تقسيم العالم إلى مجالين يضم أحدهما كل ما هو مقدس ويضم الآخر كل ما هو دنيوي[vi].

ويرى رونيه جيرار René Girard أن مصطلح Le sacré يضم النظام بقدر ما يضم الفوضى ويضم السلام بقدر ما يضم الحرب، ويضم الخلق بقدر ما يضم الدمار، كما أنه يضم الطاهر بقدر ما يضم المدنس[vii].

ويؤكد جوزيف شلهود Joseph Chelhod أن Le sacré هو تلك القوة الغريبة واللاشخصية الخيرة أو المخيفة التي يمكنها أن تكون أساس كل سلطة وكل فرح، كما يمكنها أن تكون أساس كل حزن أو مصيبة[viii].

ومعنى هذا أن مفهوم Le sacré يحتمل الإيجابي والسلبي في الوقت نفسه، ولا شك أن ترجمة مصطلح يحتمل الإيجابي والسلبي في آن واحد بمصطلح لا يحتمل إلا بالإيجابي قول فيه نظر.

3 ـ إلى جانب ترجمتنا لمصطلح Le sacré بمصطلح مقدس فإننا نترجمه أحيانا بالقدسي، وهذا أيضا قول فيه نظر، لأن القدسي ما هو منسوب إلى الله، أي ما هو إلهي ورباني، ومن ذلك الحديث القدسي. وقد جاء في تفسير الأحاديث القدسية: "وإنما نسب الأحاديث إلى القدس لإضافة معناها إلى الله وحده"[ix]، وبذلك فإن كل شيء قدسي هو مضاف إلى الله تعالى، أما مفهوم Le sacré فلا يرتبط دائما بالله، بل إن ناتان سوديربلوم Nathan Söderblom يذهب أبعد من هذا ليؤكد أن Le sacré هو الكلمة المهمة في الديانة، بل إنها أهم من مفهوم الإله، فيمكن لديانة ما أن توجد بالفعل دون مفهوم محدد للألوهية، لكن لا توجد ديانة حقيقية دون تمييز بين Le sacré وle profane الدنيوي(10).

4 ـ عندما ننعت بعض الأشياء في اللغة العربية بالمقدسة ونبحث لها عن ترجمة في اللغة الفرنسية مثلا، فإننا لا نجد مصطلح Le sacré ضمن هذه الترجمة. وهكذا فعندما نقول مثلا المدينة المقدسة فإننا نتحدث عن La ville sainte، وعندما نقول مثلا الماء المقدس فإننا نتحدث عن L’eau bénite وبذلك فإن ما يقابل مصطلح مقدس في اللغة الفرنسية هما مصطلحا Saint وbénit.

ويتضح من خلال هذه الملاحظات أن ترجمة مصطلح Le sacré بمصطلح مقدس أمر يحتاج إلى إعادة نظر وإلى اجتهاد للعثور على الترجمة الملائمة. ويبدو لي أن الجذر "ح.ر.م" هو الأقدر على حمل كل معاني Le sacré. فهناك الحرم: وهو نقيض الحلال، وهناك الحرمة: بمعنى المهابة، وهناك البيت الحرام والأشهر الحرم وكلها معظمة ويحرم فيها أو عندها القتال والصيد…الخ. وهناك الحرمة: وهي ما لا يحل انتهاكه11. وكلها معاني يحتويها مصطلح Le sacré خصوصا مفهومي الطاهر والمدنس، فالطاهر يظهر في جلال وعظمة هذه الأماكن والأشهر، والمدنس يظهر في ما حرم من قتال في الأشهر الحرام ومن صيد، ومن نكاح ولباس مخيط عند الإحرام، ومن زنا المحارم… الخ.

وبهذا المعنى فإن أهم ما يميز العالم الدنيوي عن Le sacré الحرمة هو أن الأول عالم حرية، بينما يكون الإنسان مقيدا في الثاني بقانون المنع، حيث يجد أمامه وباستمرار حواجز من الضروري الوقوف عندها، لأن تخطيها يخل بنظام الكون ويهدد بقاءه. ويؤكد روجيه كايوا Roger Caillois أن العالم محكوم –في الوعي الديني- بحرمتين اثنتين هما:

* الحرمة الأولى: وهي حرمة الضبط Sacré de régulation، وهي مرتبطة بقانون المنع حيث تعمل على منع الإنسان من تدنيس نفسه وعالمه.

* الحرمة الثانية: وهي حرمة المخالفة Sacré de l'infraction، وتتمثل على الخصوص في الاحتفال الذي يعمل على استحضار زمن الخلق، وبالتالي فتح المجال أمام الحياة لتتجدد وتتطهر مما يهددها بالفناء لتضمن بذلك الكمال والخلود12.

II – الأسطورة:

إن حديثي عن الأسطورة راجع إلى عاملين أساسيين هما:
1 ـ ما يشوب مصطلح أسطورة في العالم العربي من لبس وسوء فهم نظرا لعدم تبلور مفهوم هذا المصطلح في اللغة العربية بالمعنى الأنثروبولوجي الحديث، أضف إلى ذلك الخلط الذي يقع بين الأسطورة والأنواع الحكائية الأخرى عند بعض المبدعين والنقاد العرب على حد سواء.
2 ـ عدم صلاحية مصطلح أسطورة بمفهومه العربي الموجود في أغلب المعاجم العربية كمقابل لمصطلح Mythe.
وهكذا عند تتبعنا لمصطلح أسطورة في مختلف المعاجم العربية ومصطلح Mythe في المعاجم الغربية نضع أيدينا على الحجم الحقيقي للمسافة الفاصلة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية في هذا المجال.
جاء في لسان العرب، مادة سطر: والأساطير: الأباطيل، والأساطير أحاديث لا نظام لها13.
وجاء في تاج العروس للزبيدي: الأساطير: الأباطيل والأكاذيب والأحاديث لا نظام لها14.
وجاء في النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: يقال سطر فلان على فلان، إذا زخرف له الأقاويل ونمقها15.

ونجد في أساس البلاغة للزمخشري: "وهذه أسطورة من أساطير الأولى، مما سطروا من أعاجيب أحاديثهم16.
وورد في المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية: "الأساطير الأباطيل والأحاديث العجيبة"17.
وجاء في معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية: "الأساطير وهي الأحاديث لا نظام لها أو الأباطيل"18.
ويمكن الخروج من هذه التعاريف بملاحظتين أساسيتين هما:

1 ـ كل المعاجم العربية القديمة على اختلاف أنواعها ترى أن الأساطير هي الأباطيل والأكاذيب والأحاديث التي لا نظام لها باستثناء الزمخشري في أساس البلاغة الذي يرى أن الأسطورة هي الأحاديث العجيبة.
2 ـ لا فرق في هذه التعاريف بين المعاجم العربية القديمة والمتأخرة، ومعنى ذلك أن المعاجم العربية المتأخرة لم تسع إلى بلورة مفهوم الأسطورة في اللغة العربية، ولعل ذلك راجع إلى انقطاع العرب عن الإسهام الفعال في تطوير العلوم الإنسانية الحديثة.

هذا فيما يتعلق بمصطلح أسطورة في المعاجم العربية، أما إذا بحثنا عن مصطلح Mythe الذي يترجم عادة بأسطورة في معجم مثل Le grand larousse فإننا نجد التعريفات الآتية:
1 ـ تقديم تصور ما عن حدث أو شخص كان له وجود تاريخي، ولكن تدخل الخيال الشعبي أو التراث قد غير إلى حد كبير في صفته الواقعية باتجاه التضخيم طبعا.
2 ـ عرض فكرة أو تعاليم مجردة بصيغة مجازية وشعرية.
3 ـ تقديم تصور مثالي عن حالة معينة من حالات البشرية في الماضي.
4 ـ صورة المستقبل التي تعبر عن الطموحات العميقة لطبقة اجتماعية ما، وتقوم بوظيفة النابض لعملها.
5 ـ تصور تبسيطي ومشوه قليلا أو كثيرا لواقعة ما: حادثة، فكرة، عاطفة معترف بها من قبل أعضاء الجماعة والتي تشرط آراءهم وأعمالهم.
6 ـ ما هو خيالي صرف وعار عن كل حقيقة.

ولعل هذا التعريف الأخير هو التعريف الوحيد الذي يطابق التعريف العربي. إلا أن كليهما يبتعد عن التعريف الأنثروبولوجي الحديث الذي يرى أن كل أسطورة تحتوي على جزء ولو ضعيف من الحقيقة التي ينميها فيما بعد الخيال ويضخمها.
وهكذا فالفرق شاسع بين مصطلح أسطورة بمفهومه العربي ومصطلح Mythe بمفهومه الغربي. ولقد تنبه محمد أركون إلى ذلك حيث يقول: لم نوفق بعد إلى إيجاد مصطلحات وافية سليمة للدلالة الفكرية الكاملة على مفهومات مثل:Mythe, tradition, orthodoxie, spiritualité…19 .

ولعل هذا ما جعل أركون يميل في البداية إلى ترجمة كلمة Mythe الفرنسية كما هي إلى العربية، أي "ميث" خوفا من أن يؤدي استخدام كلمة أسطورة إلى اللبس وسوء الفهم. وهذا ما وقع بالفعل، فعندما قام عادل العوا بترجمة كتاب محمد أركون الفكر العربي20، صرخ وندد مجموعة من العلماء بعد قراءتهم لترجمة هذه الجملة: Le coran est un discours de structure mythique  أي: "القرآن خطاب أسطوري البنية" وكما يؤكد ذلك أركون نفسه فإن الترجمة صحيحة وسليمة لغويا، إلا أن مفهومات مثل خطاب وأسطورة وبنية لم يفكر فيها بعد كما ينبغي في الفكر العربي المعاصر21.

ولا أخفي أنني كنت: أيضا أميل في بداية الأمر إلى البحث عن بديل لمصطلح أسطورة يكون قادرا على حمل المفهوم الأنثروبولوجي الحديث لمصطلح Mythe، ولكنني تنبهت بعد ذلك إلى أنه سيكون من المفيد البحث عن مفهوم جديد لمصطلح أسطورة لا عن بديل له.
فحتى مصطلح Mythe نفسه عرف عدة دلالات منذ عهد الإغريق إلى يومنا هذا دون أن يتغير هو كمصطلح. فكلما تطورت مختلف العلوم الإنسانية من فلسفة، وعلم نفس، وعلم اجتماع، وأنثروبولوجيا واثنولوجيا، وعلوم لغة… الخ، إلا وتطور مفهوم Mythe، وصار يحمل أبعادا جديدة. فلماذا لا نستفيد نحن العرب من هذه العلوم الإنسانية ونسعى إلى جعل مصطلح أسطورة يحمل مفهوما جديدا يتماشى مع ما وصلت إليه أحدث الدراسات والأبحاث؟

لا شك أن ذلك لن يكون أمرا سهلا، ولكن هذا ليس سببا لكي لا نحاول، ولعل ما يجعل الأمر صعبا هو أن النظريات الخاصة بـ الأسطورة Le Mythe مازالت موضع خلاف كبير، إذ يعرض علينا كل مذهب إجابة مختلفة وتتعارض بعض هذه الإجابات مع بعضها تعارضا كبيرا. إن علماء الأجناس وعلماء الاجتماع والفلاسفة وعلماء الأديان ومؤرخي الأديان والأفكار وعلماء اللغة، كل هؤلاء وآخرون اهتموا بـ الأسطورة Mythe، إلا أنه على الرغم من ذلك يبقى مفهومها غير واضح تماما.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن مجموعة من الدارسين العرب قد تعرضوا إلى الأسطورة وحاولوا أن يثبتوا وجودها في مجتمعاتنا العربية. ونجد من بين هذه الدراسات من الأساطير العربية والخرافات لمصطفى الجوزو، والميثولوجيا عند العرب لعبد المالك مرتاض، ومضمون الأسطورة في الفكر العربي لخليل أحمد خليل، والأسطورة عند العرب في الجاهلية لحسين الحاج حسن وفي طريق الميثولوجيا عند العرب لمحمود سليم الحوت. والأساطير والخرافات عند العرب لمحمد عبد المعيد خان. والقارئ لأغلب ما كتبه الباحثون العرب عن الأسطورة بصفة عامة والأسطورة العربية بصفة خاصة، يمكنه أن يخرج بالملاحظات الآتية:

1 ـ يظهر في أغلب مقدمات هذه الكتب والدراسات أن جل هذه الأبحاث جاءت ردا على آراء المستشرقين الذين قالوا بغياب ميثولوجيا عربية وبقصور الخيال العربي، وبذلك فإن هذه الدراسات جاءت بدافع ذاتي لا بدافع موضوعي.

2 ـ لقد مارست محاولات الرد هاته ضغطا نفسيا على هؤلاء الباحثين العرب، فصاروا يأتون بكل شيء وبأي شيء ويدعون أنه أساطير، ناسين أن الأسطورة هي قبل كل شيء حكاية وأن كل ما ليس حكاية لا يمكن اعتباره أسطورة.

3 ـ رغم أن أغلب الباحثين العرب يعتمدون على مفاهيم غربية أثناء تعريفهم للأسطورة، إلا أن جلهم يسقط –أثناء تقديمه للنماذج المختارة- في المفهوم المعجمي العربي القائم على أساس أن الأساطير أباطيل وأكاذيب.

وسأحاول أن أعطي الآن مفهوما جديدا لمصطلح قديم هو مصطلح أسطورة، وسأعمل على توسيع هذا المفهوم حتى لا أسقط في تلك الرؤية الضيقة التي يفرضها تخصص ما أو الانتماء إلى مدرسة ما، وسأركز على نقط الالتقاء الموجودة في أغلب المذاهب وسأتجاوز نقط الاختلاف الموجودة بينها. لأن نقط الالتقاء هاته كامنة في جوهر الأسطورة، أما نقط الاختلاف فهي موجودة في جوهر تلك المذاهب والاتجاهات.

وهكذا فالأسطورة حكاية حقيقية مقدسة وقعت في بداية الزمن، وتصلح كنموذج للتصرفات الإنسانية، حيث إن مهمة الإنسان تكمن في إعادة القيام بالتصرف النموذجي الذي قام به الأبطال الأسطوريون. وأبطال الأسطورة ليسوا بالضرورة آلهة، وإن كانت الآلهة تلعب دورا مهما في الأسطورة. ويتمتع أبطال الأساطير في الغالب بقوة كبيرة يستطيعون بفضلها إنجاز أشياء خارقة، وهذه الشخصيات الأسطورية هي التي علمت الناس ممارساتهم للشعائرية الأكثر أهمية، كما علمتهم مختلف التقنيات والمؤسسات. وبذلك فالأسطورة "تشرح" أصل وسر التقنيات والمؤسسات و"تعلل" بعض مظاهر الطبيعية، وتعلل كذلك الممارسات الشعائرية. ورغم أن الأسطورة تحكي عن الزمن الأول وعن الأحداث الأصلية، إلا أننا نعاين من خلالها نقلا للعالم الإنساني بآماله ومخاوفه ورغباته وصراعاته، وفي الوقت نفسه تسعى إلى وضع نظام أولي للعالم وللأشياء وللإنسان.

إن الأسطورة تعانق عن قرب الواقع الإنساني وتسعى إلى تحقيق مقاصده ورغباته ومتطلباته. إنها نوع من الجرد للإمكانيات والمتطلبات الإنسانية. وتؤسس الأسطورة من خلال أبطالها كل أشكال الفعل والفكر التي بواسطتها يفهم الإنسان نفسه داخل العالم. وغاية الأسطورة هي إقامة الاستقرار والنظام في الطبيعة والمجتمع، وتأكيد العقيدة وضمان فعالية الشعيرة والحفاظ على التصرفات والقوانين التقليدية والتعبير بلغة رمزية عن أفكار دينية وفلسفية وعن تجارب الروح وشرح وتبرير وجود العالم والإنسان والأشياء.

ومن أجل أن تحقق الأسطورة كل هذه الغايات، فإنها تتحدث إلى كل إنسان بلغته الخاصة لتبين في نهاية الأمر أنه ليس للإنسان مفتاح إلا الإنسان نفسه.

إن هذا المفهوم لا يدعي الإحاطة بكل مفاهيم ووظائف الأسطورة في كل المجتمعات، ولكنه يحاول على الأقل رفع اللبس الذي يكتنف عادة تعاريف الأسطورة.

وهكذا يجب أن تتغير نظرتنا إلى الأسطورة، بحيث نترك جانبا المفهوم المعجمي القائم على أساس أن الأساطير أباطيل وأكاذيب، ونضع نصب أعيننا ما وصلت إليه مختلف العلوم الإنسانية فيما يتعلق بالأسطورة وبقيمتها ومكانتها ودورها في المجتمع، وفي التعبير عن آماله وطموحاته وآلامه ومآسيه، ورغبته في تحقيق النظام والاستقرار.

فإذا استطعنا أن نؤمن بهذا المفهوم فلا شك أنه سيصبح من السهل علينا أن نطلق مصطلح أسطورة على بعض الحكايات الدينية والتاريخية التي لم نكن نجرؤ على إدخالها في إطار الأسطورة خوفا من أن نتهم بالكفر أو بتزوير التاريخ.

III  - الحكاية التاريخية الناقصة أو المحرفة:  La légende

تجدر الإشارة إلى أنه لم يكن من السهل إيجاد ترجمة لمصطلح Légende، فالبعض يترجمه بخرافة، والبعض الآخر بحكاية شعبية أو بأسطورة. وقد اعتمدت في هذه الترجمة على تعريف E.O.James الذي يرى أن La légende est l'histoire déformée ou incomplète 22، أي أنها التاريخ المحرف أو الناقص، ويعرفها R.Bailly بأنها: "قصة شعبية خارقة تقوم على أساس تاريخي"23، أما أندريه جول، فيرى أنها استجابة لرغبة الإنسان في التنظيم المثالي، وبين كيف أن ظروف تاريخية معينة في الأمبراطورية الرومانية أدت بالمسيحيين المضطهدين إلى التمسك بنمط من التضحية البطولية والثقة الإنسانية الفائقة، فقدمت بذلك La légende، أو الحكاية التاريخية الناقصة أو المحرفة للمسيحيين الأوائل نموذجا من الثقة البطولية تحت العذاب، وهذا ما قاد إلى تجليات عجائبية لقدرة الدين الجديد. كما جسدت المثال الإنساني الفائق الذي كان من المحال احتذاؤه أو مقاربته، ولا يمكن لبشر آخرين تحقيقه. ويجعل المرء في هذا النوع من الحكايات طموحاته وقيمه محسوسة. ويؤكد اندريه جول أن الشكل يتجلى كما لو كان نقيض نفسه، أي أننا نجد الشكل المضاد أو الحكاية التاريخية الناقصة أو المحرفة المضادة. فالرجل مثلا الذي صرخ بالمسيح عندما كان يحاول التريث تحت عبء الصليب: "انهض وتقدم"، يغدو عند الصليبيين قديسا مضادا ويسمونه اليهودي الجوال، حيث حلت عليه اللعنة بالبقاء جوالا إلى أبد الآبدين. ونجد أن فاوست ودون جوان وآخرين يقومون –كاليهودي الجوال- بالوظيفة السلبية نفسها، إنهم بإثمهم البطولي أمثلة سلبية للبطولة، إلى أن تتحول القيم مع الزمان ويستنشق الإثم البطولي الهواء الرومانسي للسحر24.

وعندما يدرس بيدرو كوردوبا Pedro Cordoba الحكاية التاريخية الناقصة أو المحرفة يرى أن مجال صلاحيتها هو التاريخ وأن قيمة الحقيقة فيها أنها تقوم بدور الشهادة Temoignage، وأن الامتداد فيها هامشي وأن وسيلة الفعل فيها هي المعجزة أو القانون25.
ويعرف جون بيير بايارJean Pierre Bayard  ، الحكاية التاريخية الناقصة أو المحرفة بأنها حكاية: "حدثها العجيب محدد بالضبط وشخصياتها مضبوطة ومحددة، وترتبط الأعمال فيها بأحداث تاريخية معروفة، ويبدو أن كل شيء فيها تم بشكل إيجابي إلا أن الخيال الشعبي يحرف في الغالب التاريخ26.
وهكذا فقد تحولت هذه الحكاية التاريخية الناقصة أو المحرفة –التي تقوم أساسا على أحداث تاريخية محددة- إلى نتاج لا شعوري للخيال الشعبي، فصار البطل –الخاضع لمعطيات تاريخية- يشكل متنفسا لجماعة من الناس أو لشعب برمته، وصارت تصرفاته تخدم عملا أو فكرة يسعيان إلى اجتذاب أشخاص آخرين.

بل هناك من يرى أن الحكاية التاريخية الناقصة أو المحرفة حقيقية أكثر من التاريخ بفضل ما تحتوي عليه من حشد هائل من المعلومات الإنسانية، ومع ذلك فهي تناقض الحقيقة السيكولوجية. إلا أن ما تحتوي عليه من خيالات ليس سخيفا ولا مضحكا، وإنما يهمنا ويخفف من توترنا ويمتعنا27.

والشعب عندما يعيد خلق التاريخ، فإنه يحقق بذلك متنفسا سريا، ويحقق بحثا روحيا عن عالم عجيب تنتصر فيه القيم الإنسانية وتنبذ القوانين المكروهة. إنه البحث عن النعيم الدنيوي، وبذلك تنشأ الحكاية التاريخية الناقصة أو المحرفة انطلاقا من عشيرة ما أو مجتمع ما، وتتبلور مواضيعها انطلاقا من مشاغل متشابهة في كل الثقافات، فمواضيعها الأساسية موجودة في تراث أغلب البلدان، وقاعدة الخلق فيها متشابهة في كل هذه البلدان مع ما يمكن أن يظهر فيها من تأثيرات وخصوصيات محلية أو إقليمية تعطي معلومات قيمة عن هذا الشعب أو ذلك وعن طريقة تفكيره.

وإذا كنا نجد في الحكايات التاريخية الناقصة أو المحرفة أحداثا تاريخية مضبوطة ومعروفة، فإننا نجد إلى جانبها عالما عجيبا ونبذا للواقع، حيث يتحول الضعيف إلى قوي والفقير إلى غني، وتتزوج الفتاة المحرومة الأمير الوسيم. وإلى جانب التاريخ ونبذ الواقع نجد جانبا دينيا يتجلى في الصراع بين الله والشيطان، ويتجلى في الصراع بين الكفر والإيمان داخل النفس البشرية.

وإذا كانت أغلب الأنواع الحكائية قد ارتبطت بالثقافة الشعبية وبالطبقات المحرومة، حيث عبرت عن مخاوفها وآمالها وعن طموحاتها وقهرها، وعن بحثها عن حياة، أفضل في عالم أفضل، فإن Le Go يرى أن الحكاية التاريخية الناقصة أو المحرفة أكثر ارتباطا بالطبقات الاجتماعية العليا وبالثقافة العالمة28.
وهكذا لو تنبهنا إلى أن مصطلح Le sacré يعني في الثقافة الغربية –في الوقت نفسه- الطاهر والمدنس والحلال والحرام لعلمنا أن مصطلح مقدس بمفهومه العربي الإسلامي الذي لا يحتمل إلا الطاهر والمبارك لا يصلح كترجمة له.
ولو تنبهنا إلى أن مصطلح Le mythe يعني في الثقافة الغربية الحقيقي والواقعي والمقدس بامتياز لعلمنا أن مصطلح أسطورة بمفهومه العربي القائم على أساس أنها أباطيل وأكاذيب وترهات-لا يصلح كترجمة له.

ولو تنبهنا إلى أن مصطلح Légende يعني في الثقافة الغربية الحكاية التاريخية أولا وقبل كل شيء، إلا أن هذه الحكاية التاريخية يتدخل فيها الخيال الشعبي فينقص منها أو يحرفها لعلمنا أن مصطلحات مثل خرافة وحكاية شعبية وأسطورة لا تصلح كترجمة له.

إنني لا أنكر جهود الأوائل في الترجمة وفي محاولة جعل اللغة العربية مواكبة للعلوم الإنسانية ومختلف الآداب والفنون. إلا أنه آن الأوان لكي تصبح الترجمة أو البحث عن المصطلح قائمين على التمكن من اللغتين المنقول منها وإليها، وعلى التمكن من ثقافة وموروث كل من هاتين اللغتين، وكذا الاشتغال ضمن مجموعات متعددة التخصصات والتوجهات لأن المصطلح هو ما اصطلحت عليه المجموعة لا ما اصطلح عليه المرء مع نفسهn


[i] ابن منظور: لسان العرب، دار صادر للطباعة والنشر، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1956، المجلد السادس، ص169.
[ii] محمد مرتضى الزبيدي: تاج العروس في جواهر القاموس، تحقيق محمود محمد الطناحي، راجعه مصطفى حجازي وعبد الستار أحمد فراج، مطبعة حكومة الكويت، 176، الجزء السادس عشر، ص355.
[iii] محمد إسماعيل إبراهيم: معجم الألفاظ والأعلام القرآنية، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثانية، مزيدة ومنقحة، ص131.
[iv] النياسبوري: الوسيط في تفسير القرآن المجيد، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1994، الجزء الثاني، ص172.
[v] أبو الليث السمرقندي: تفسير السمرقندي المسمى بحر العلوم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1993، الجزء الثاني، ص337.
[vi]  Emile Durkheim : Les formes élémentaires de la vie religieuse, 5ème édition, Paris, 1968, p51.
[vii]  René Girard : La violence et le sacré, Pluriel, 1972, p359.
[viii]  Joseph Chelhod : Les strucutres du sacré chez les arabes, Islam d’hier et d’aujourd’hui, Maison neuve et larose, Nouvelle édition, Paris, 1986, p35.
[ix] محمد توفيق عويضه: الأحاديث القدسية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1974ـ ص5.
(10)  Nathan, S?derblom, cité par Julien Ries, in Les chemins du sacré dans l’histoire, Audier, Paris, 1985, p35.
11 انظر ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثاني، ص844 وما بعدها.
12  Roger Caillois : L’homme et le sacré : Folio – Essais, Gallimard, 1988, p159.
13 ابن منظور، لسان العرب، المجلد 3، ص2207.
14 محمد مرتضى الحسين الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، الجزء الثاني عشر، ص25-26.
15 مجد الدين بن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق محمود محمد الطناحي، طاهر أحمد الزاوي، المكتبة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1963، الجزء الثاني، ص365.
16 أبو القاسم محمد بن عمر الزمخشري: أساس البلاغة، مركز تحقيق التراث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985، الطبعة الثالثة، الجزء الأول، ص439.
17 المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية، إخراج الطبعة إبراهيم أنيس، عطية الصوالحي، عبد الحليم منتصر، محمد خلف الله أحمد، دار المعارف بمصر، 1972، الطبعة الثانية، الجزء الأول، ص429.
18 معجم ألفاظ القرآن الكريم، مجمع اللغة العربية، دار الشروق، القاهرة، بدون طبعة، بدون تاريخ، ص296.
19 محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، الطبعة الأولى، بيروت، 1986، منشورات الإنماء القومي، ص8.
20 محمد أركون: الفكر العربي، ترجمة عادل العوا، منشورات عويدات، بيروت، 1983.
21 محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص10.
22 E.O.James : Mythes et rites dans le proche Orient ancien, bibliothèque historique, Payot, Paris, 1986, p283.
23 R.Bailly نقلا عن عبد المالك مرتاض: الميثولوجيا عند العرب، الدار التونسية للنشر، 1986، ص15.
24 أندريه جول: نقلا عن روبرت شولز: البنيوية في الأدب، ترجمة حنا عبود، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 1984، ص58.
25 Pedro Cordoba : La revenance, pour une pragmatique de la légende, in : Poétique, 64, p444.
26 Jean Pierre Bayard : Histoire des légendes, p10.
27 Ibid, p10.
28  Le Goff : Cité par Pedro Cordoba, in : La revenance, Poétique, 64, p440.