الحياة العامة والحياة الخاصة ـ ميشال مافيزولي ـ ترجمة: حسن أحجيج

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse11126عرف تاريخ الأمم الغربية مسألة المركزة منذ العصر الوسيط. فتزايد عدد الموظفين الملكيين في الأقاليم وعقلنة الضرائب ومراقبة الحياة المحلية كانت بمثابة أساس لتنظيم هرمي للمجتمع، وهو تنظيم ساهم في ترسيخه تقسيم المجتمع إلى محافظات. يتعين علينا أن نفهم التعارض أو التكامل القائمين بين العام Le public والخاص Le privé انطلاقا من هذا المستوى. إذ توجد بالفعل علاقة سببية متبادلة بين تزايد البنيات الدولتية أو العمومية وتباين الروابط الاجتماعية القاعدية. هذه السيرورة هي التي ولدت الفردانية أو "نزعة التخصيص" Privatisme التي تميز مجتمعاتنا. لقد سلط توكفيل الضوء على العلاقة الموجودة بين ما يطلق عليه هيمنة "الموظفين الإداريين" والإضفاء المتصاعد للاستقلالية على الأفراد. هكذا، ولأن الأفراد "لم يظلوا مرتبطين فيما بينهم بأي رباط طبقي أو عائلي أو رباط البلدة […]، فإنهم أصبحوا يميلون إلى الاهتمام بمصالحهم الخاصة فقط وإلى التفكير في أنفسهم والانغلاق في فردانية ضيقة خنقت فيها كل فضيلة جماعية".
يمكن للمرء أن يتساءل عما إذا كان بإمكان سلسلة من المؤشرات أن تفجر اليوم التعارض القائم بين الحياة العامة والحياة الخاصة. وبالفعل، وحسب لغة سوسيولوجية كلاسيكية، يمكن للمجتمعات (Gesellchaft)، من حيث هي جماعات من الأفراد المستقلين وجماعات محددة بمتوسط إحصائي، أن تترك مكانها للتجمعات (Gemeinchaft)، التي يمكن للجمعي أن يتحدد فيها برباط انفعالي.
 


الحياة العامة
يتعين التذكير أولا بأن النظام العام (الدولة، البيروقراطية، المنظمات، البنيات التقنية…) يقوم بوظيفة التخفيف من حدة المصالح الخاصة. فالدولة، من حيث هي مسير الحياة العامة، هي التي تحرس العالم الأخلاقي. هكذا تكون عبر هذه العلامات الكبرى المتمثلة في الإصلاح Réforme أولا والنزعة الديكارتية ثانيا، ثم ثورة 1789، هذا الكيان الذي يدعى الكيان "الاجتماعي" الذي ينزع إلى الحلول محل التضامن العضوي القديم. وانطلاقا من تلك اللحظة، ستظهر مراقبة نوعية يتعين فهمها بأكبر قدر من الموضوعية: إذ يتم دمج الوجود الاجتماعي برمته في عملية "عقلنة ممنهجة" (ماكس فيبر) تجعل كل حياة فردية اجتماعية تتحدد بواسطة عنصر خارجي مهني أو سياسي-اقتصادي.
يدخل كل شيء في النظام العام الذي سيتمظهر بواسطة مؤسسات وأنظمة ضبط منسقة وفعالة. ولذلك فإن الهيئة التشريعية، وآلية الحوافز، ومراقبة الاعتمادات بواسطة هيئات وطنية أو بواسطة مؤسسات نقدية دولية، وضبط التوزيع، وإقامة مراقبة وزارية لتنظيم العمل بواسطة الوسائل الملائمة، إن كل ذلك يمثل كلا مؤسساتيا يحدد جزءا كبيرا من نمو النشاط الاقتصادي. فضلا عن ذلك، فإن الهيئات الدولتية تضمن لنفسها سلطة إضافية ذات فعالية مهمة فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية، لأنها تقوم بدور الحكم بين البيروقراطية الاقتصادية والبيروقراطية النقابية. زد على ذلك أن الدوران المتواتر والسريع القائم بين البيروقراطية الاقتصادية الخالصة والبيروقراطية النقابية يدعم آلية المراقبة. ولكي يكون بإمكان الموظف أن يطمح إلى منصب مهم في الديوان الوزاري يضمن له القيام بتأثير حقيقي، ينبغي عليه أن يمر عبر قطاعات مختلفة في العالم الاقتصادي والاجتماعي، شأنه في ذلك شأن رجل الدين الذي يجب عليه أن يقوم بعدة أعمال متكاملة جدا فيما بينها (الخورنية، المؤلفات، المؤسسات، الهيئة المركزية) قبل أن يصل إلى تقلد مسؤولية فعلية. يوضح هذا الدوران جيدا الأهمية التي تحظى بها "الهيئات" التي ستسير الحياة العامة. وبالفعل، يعود تحكم "المدراء" في الفضاء الاجتماعي برمته إلى كونهم أعضاء في جمعية حرفية. لن نكرر القول مرة أخرى بأن الاستمرارية هي التي تضمن لهم سلطتهم. إن هذه الاستمرارية المرتبطة بمراقبة الاعتمادات، وإعادة الإنتاج الذاتي هما اللتان تجعلان من الهيمنة البيروقراطية "استغلالا مهنيا" (ج.بيرنهام)، تقدم عنه التواريخ الإنسانية أمثلة متعددة.
إن لهذه الملاحظة أهمية كبيرة في إدراك أن المجال العمومي مرتبط بإقامة بيروقراطية متعددة الأشكال، أي هيئة تميل إلى تحديد "ما يتعين أن يكون عليه" مجتمع معين.
لقد تم الانتقال في البيروقراطيات العتيقة (كالبيروقراطيات الصينية التي درست بشكل جيد) من ملكية الإمبراطور "ابن الله" ومبلور السيادة الشعبية إلى الموظفين المتعلمين أو إلى خصومهم الإضافيين، أي المخصصين(*)؛ كذلك الشأن بالنسبة للبلدان الديمقراطية التي تقوم على الفردانية، حيث يتم الانتقال من البرلمان المنتخب إلى سلطة الموظفين الراسخين. ففي الولايات المتحدة نفسها، بلد المقاولة بامتياز والفردانية الكاملة، تسجل الخطة الجديدة New deal، حسب بيرنهام، لحظة الانتقال من سيادة البرلمان إلى مكاتب الدولة، "هذا القطاع التنفيذي […] الذي لا يكف عن التوسع على حساب القطاع التشريعي والقانوني". إن السيادة البرلمانية التي تمثل التحقق الملموس للديموقراطية الفردية تفقد تدريجيا من اختصاصاتها الأساسية من جراء هذه المقاومة السلبية التي تجسدها السلطة التنفيذية، ومن خلالها سلطة الموظفين الذين أصبحوا، بفضل المجالس ولجن الدراسات والمكاتب التي تهتم بهذه المسألة أو تلك، يحتكرون المشاكل المستعصية تقنيا أو التي حولت عن قصد إلى مشاكل مستعصية.
إن ما يفسر هذه السيرورة هو النشاط المتمدد للدولة التي أصبحت مقاولا بالمعنى الواسع للكلمة؛ فلكي تخفي الدولة فوضى المبادرات الفردية، ستستأثر بمختلف الاحتكارات: النقل، الاتصال، التسلح، الكهرباء، المواد الأولية… وكثير من الميادين التي تعمل فيها الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالتالي تنقل السيادة من مكان إلى آخر. لم تعد الدولة هي ذلك المعدل الخير الذي ييسر توازن الجماعات المتناحرة؛ ولم تعد تقوم بتلك الوظيفة الرمزية الخالصة التي تحمي من خلالها التيارات التي توحد بين أفراد الشعب بغض النظر عن الاختلافات القائمة بينها؛ لقد أصبحت الممر الذي يتعين أن تنفذ عبره كل المبادرات الفردية التي سيتم بعد ذلك إنكارها بما هي كذلك. وستنزع منذئذ المؤسسة التمثيلية التي تبنتها الديموقراطية الفردية إلى الزوال حتى لا تقوم بوظيفة رمزية، بل بوظيفة فخرية، وظيفة النسيخ التي ستمكن الهيئات الدولتية من أن توسع بسهولة من رقعة تأثيراتها. في الحقيقة، لم نعد أمام ما يمكن أن يطلق عليه "البيروقراطيات السياسية"، أي أمام موظفي الجهاز الذين ظهروا في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، والذين كانوا يوجدون في كل أحزاب تلك المرحلة، وظلوا في آخر الأمر خاضعين ولو بشكل ضعيف جدا للتصويت الشعبي بفعل ارتباطهم بالأعيان المحليين. لقد ترك هؤلاء الموظفون مكانهم لتكنوقراطيين فعالين لا قدرة لهم على التخلص من هيمنة الشعب الذي يطمحون إلى تسييره ماداموا لا يستمدون سلطتهم من ذواتهم؛ وبما أن "المدراء" يتوفرون على حس معرفة ما يتعين أن تكونه سعادة الإنسان، من حيث أن هذا الحس هو نتيجة لإيديولوجيا الخدمة العامة، فإنهم يستطيعون بذلك أن ينفلتوا، وبكل حسن نية، من الضغط والتأثير الجمعيين المباشرين وغير المباشرين.
هكذا يتم بناء "الحياة العامة" التي تقوم على احتكار ما كان ينتمي إلى نظام الجوار أو القرابة. فقد توصلت هذه السيرورة التي يبدو أنه لا رجعة فيها إلى إقامة كل آليات المراقبة والتخطيط التي نعرفها. سيعمل الوجود الاجتماعي منذئذ تحت هيمنتها. لذلك فإن هذه الوضعية يلازمها استيطان مستمر لكل لحظات الحياة؛ وبالفعل، تتم تسوية الزمن كليا وتقسيمه إلى أجزاء، الشيء الذي يمكن من مراقبته بصورة دائمة. حيث يصبح وقت العمل والوقت "خارج العمل" خاضعين للتخطيط. لقد كان العامل في التنظيم الرأسمالي الخالص للمجتمع خلال النصف الثاني من القرن 19 مستغلا بشكل كبير، ولكن رغم قساوة هذا الاضطهاد وطول مدته، فإنه كان يسمح بظهور لحظات من الزمن تنفلت من إكراهات الفرض. وبالمقابل، إذا كان الاستغلال قد قل من ناحية الكم مع برقرطة الوجود، فإنه تقوى من ناحية الكيف: إذ أصبح الوقت الحر والحياة الجنسية واللغة والاستهلاك تخضع كلها للضوابط. إذ لم يعد يتعلق الأمر بتحقيق فوائد حسم فيها تماما على كل مستويات الحياة اليومية، بل أصبح يتعلق بدمج الأفراد وحياتهم في تنظيم مؤطر ومجرد قليلا.
الحياة الخاصة
يصعب طبعا تحديد النظام الداخلي الذي يتحكم في العلاقة القائمة بين العام والخاص. يبدو أن هذه العلاقة تقوم على سببية متبادلة. فمن المؤكد أننا نشهد انطواء على الفردانية عندما يدخل الوجود برمته في "الإشهار". زد على ذلك أن قابلية تعويض الأفراد لبعضهم البعض تتزامن مع تطور عملية برقرطة الوجود الاجتماعي. وبالفعل، إن ما يسمح بالحديث عما يطلق عليه أدورنو Adorno "المجتمع المتلاعب به" هو استقلال الأفراد عن بعضهم البعض. ويمكن التعامل حقا مع الفرد المعزول كطفل، متلاعب به بما هو كذلك، ويمكن له أن يجد طمأنينته في منظمة صارمة تلعب دور القوة الحامية. ويكتسب الطمأنينة مقابل تبعيته الكلية لكيان متعال. عندما ينجح النظام العام الذي يقوم بعملية المركزة في تحقيق الواحد l’un والتجانس، فإنه يضمن الأمن ويقدمه، لكن مقابل أي ثمن؟ إنه التعهد الكلي بتنظيم حياة الأفراد وانفعالاتهم. فالدولة الحامية والضامنة تطمح إلى أن تزيل عن عاتق الفرد الهموم التي أثقلت عليه الصدفة بها. غير أن مثل هذا التدجين للمستقبل غير المحقق، أي مثل هذا التخطيط للوجود الاجتماعي، يجعل من التسوية الكلية إلى هذا الحد أو ذاك شرطا لإمكانية التحقق.
تنتهي عملية تضييق الفردانية إلى خلق نظام استبدالي واسع يمكن فيه اعتبار كل عنصر فاقد للنوعية على أنه عنصر آخر. إننا بالفعل في عصر "الإنسان الفاقد للنوعية"، الذي يؤدي فيه تعهد الدولة بمجموع الحياة الاجتماعية والفردية إلى اختزال الإنسان في متفرج سلبي على مصيره الخاص. إن هذا الفرار من أمام القدر، الملازم لعملية تحويل المجتمع إلى ذرات، هو ما يقوم الترويض الذي يولده النمو التكنولوجي والصناعي. يدعم العامالدولتي والخاص الفرداني بعضهما البعض من أجل تأسيس كيان غير متمايز. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة ليست في نظرنا خاصة بالمجتمع الحديث، فإنه بإمكان المرء أن يلاحظ نتيجة هذه السيرورة فيما يخص الانخراط في امتثالية اجتماعية أو في انقياد جماعي. يتعين أن نسجل مع ذلك أن عملية الانقياد، أو الامتثالية هذه، والتي نعتبرها واحدا من أهم عناصر الرغبة في الخضوع، تعبر عن الحاجة إلى إقامة علاقات اجتماعية أو إلى التجذر الاجتماعي التي جاءت عقب زوال شبكات الأمن والتعاضد التقليدية. يلاحظ هنا، حسب تعبير دوركايم (سنعود إلى هذه المفاهيم)، "تضامنا آليا" جاء نتيجة لضغط اجتماعي قوي، وهو تضامن لا يعترف بالتمايز والتكامل الخاصين بـ"التضامن العضوي". ونعتقد من جهتنا أن "التضامن الآلي" يرتبط بظهور التخصص الذي ذهب إلى أبعد حد والذي يخص نوعيا تنظيم العمل المعاصر. ومن هذا المنظور، فإن العلاقة بين العمل والخضوع للسلطة تفرض نفسها.
لكي يحدد جيدا نظام الخاص l’ordre du privé وأهميته، تنبغي الإشارة، كما فعل لوي ديمون L.Dumont في كتابه Homo aequalis، إلى أنه هو الذي يدعم أولوية علاقات الإنسان بالأشياء. وهذا ما يبرر كون العنصر الاقتصادي نشاط مستقل. وبالفعل، أصبح بإمكان الاقتصاد بفضل الفردانية أن يستقل تدريجيا عن النظام الديني، ثم عن الحقل السياسي بالمعنى الأوسع للكلمة، وبعد ذلك عن الأخلاق مع المنظرين الأوائل لها، إلى أن أصبح الاقتصاد هو "العلم الطبيعي للفرد في المجتمع" (ل.ديمون). فأضحى الاقتصاد يشتغل عقلانيا على شكل نشاط مفارق عندما اختفت ضرورة تقديم الهبة والهبة المضادة.
لم يعد منذئد الأمر يتعلق، في الفرادانية والاقتصاد اللذين أديا إلى نزعة التمركز، سوى بكيانات متسلسلة تدخل في شفرة معينة تحددها وحدها. إن تحول الوضعية جاء مع الاقتصاد النقدي الذي وصفه جورج سيمل G.Simmel، أي اللحظة التي أصبح فيها النقد هو أكمل وساطة، أي الوساطة في ذاتها والمعامل المعمم. ففي هذا الاقتصاد العام الذي يعبر جيدا عما نطلق عليه عدم التمايز، أصبح الإنسان شيئا كباقي الأشياء، من جهة، ولم يعد هناك "شيء يستحق أن يكون مفضلا على شيء آخر" من جهة أخرى. إن عدم التمايز القائم بين البشر والأشياء، أي هذا الحياد في العلاقات، وبالإجمال عدم الالتزام، هو نتيجة عملية تشكيل كل شيء على منوال واحد. يسجل سيمل بهذا الصدد: "بينما كان الإنسان خلال الفترة السابقة عن التطور ملزما بأن يؤدي علاقاته الشخصية الحميمية ثمنا لعلاقات التبعية النادرة القائمة بينه وبين الآخرين، وغالبا ما يكون ثمن ذلك هو عدم قابليته لأن يستبدل بشخص آخر، نلاحظ اليوم أن ما يعوض تعدد علاقات التبعية هو الحياد الذي يمكن أن نظهره إزاء الأشخاص الذين نقيم معهم علاقات معينة وحريتنا في استبدالهم". يلخص هذا النص جيدا نمط التضامن الآلي الذي حل محل عضوية الحياة الجماعية. عندما يحيل تضاعف العلاقات الخاصة أو العامة إلى العنصر الكمي على حساب العنصر الكيفي، فإننا نكون أمام غفلية معممة حيث يتحالف الفرد مع البنية التقنية لصالح قيام عزلة قطيعية.
التجمعية: La socialité
سبق لدوركايم أن أشار في مؤلفه حول تقسيم العمل الاجتماعي إلى أنه على الرغم من أن الفردانية أدت إلى ازدهار الشخص الواعي، فإنها كان بمثابة عائق أمام "الروح الجمعية" وغالبا ما أدت إلى التفكك الاجتماعي. من المؤكد أن هذه السيرورة هي رفض لما يمكن أن يطلق عليه "الإجماع الحدسي" القائم على عفوية الرغبة في العيش الاجتماعي، بيد أن هذا العيش يقوم على تبعية عضوية متبادلة لا تشتغل على أساس ثنائية العام والخاص. إن ما نعرفه عن المجتمعات البدائية بهذا الصدد يمكن أن يساعدنا على التفكير في التضامن العضوي. بالطبع، يجب قلب مصطلحات السوسيولوجيا التقليدية؛ لكن يبدو من خلال استنادنا إلى الأعمال الأنتروبولوجية والتاريخية الحديثة أن العضوية الوظيفية الخاصة بِكُلٍّ مُنَظَّمٍ تمثل واحدة من الخاصيات الرئيسية التي تميز المجتمعات التقليدية، في حين أن ما يهيمن على مجتمعاتنا ذات النمط الاقتصادي الذي تتحكم فيه عملية تحويل المجتمع إلى ذرات، هو الحساب الذي يتحكم في العلاقات، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى الآلية. يمكن القول فعلا أن التضامن العضوي سيكون ممكنا لو ضاعت الشخصية الفردية وانصهرت في الجسم الجمعي، بينما لا يتوقف التضامن الآلي سوى على "حسن نية" قرار صادر عن شخصية نزيهة.
إن ما يمكن أن نلاحظه أكثر فأكثر هو العياء أو الضعف الشديد الذي أصاب في آن واحد الفردانية والحياة العامة، من حيث أن هذه تعد الند الحقيقي لتلك. وتوضح مجموعة من المؤشرات قابلية الحواجز التقليدية القائمة بين الميدان العام والميدان الخاص للتلف. يتجلى ضياع الفرد داخل ذات جماعية في الفن والأخلاق الجنسية والأفعال الصغيرة التي تمارس في الحياة اليومية. لنتناول عبارة الشاعر على نحو حرفي: "أنا آخر" (Je est un autre)، سنرى كيف تعمل هذه العبارة، أو بالأحرى كيف يتحدد "الأنا الشخصي" (Je) انطلاقا من الآخر. ليست المسألة قضية فلسفية فقط، ذلك أنه يمكن أن نقدر، تبعا للجواب الذي تقدمه مرحلة معينة من هذه المسألة، العلاقة التي يقيمها الفرد مع العمل (مع الاقتصاد، مع الممتلكات…) وعلاقته مع مختلف التمثلات، وبالطبع العلاقة التي تتحكم في مختلف التجمعات (الأسرة، الحي، الشعب…). من المؤكد أنه منذ اللحظة التي يحظى فيها الجمعي بالأولوية عن الفردي سيتم إضفاء الطابع النسبي على القيم الكبرى المتمثلة في النشاط والطاقة والاقتصاد لذاته أو للعالم. فأن يكون "الإنسان سيدا على نفسه وعلى الكون" ليس أمرا ذا أهمية كبرى، بل إن هناك خاصيات أخرى تستحق الانتباه كالليونة والسلبية والضياع في أوسع معانيه. ففي مقابل أنا نشيط، أي ذات فاعلة ومحددة لتاريخ متحرك، كتلك التي فرضت نفسها تدريجيا خلال القرنين 17 و19، ستقل قوة الأنا في كيان أكثر ليونة وأكثر انصهارية. ليس الفرد كائنا جامدا في وضعية ووظيفة محددتين، كما أنه لا يطيع دون اعتراض الأمر الموجه إليه بأن يكون على هذا الشكل أو ذاك وبأن يكون هذا الشخص أو ذاك. فالحدود تنزع إلى الزوال. بل إن الانتهاك والمعارضة يفقدان أهميتهما، لأن الاحتجاج يبقى سجين فضاء ما نعترض عليه.
يمكن لهذه القائمة أن تبدو ذات سمة تبسيطية، لذلك ينبغي تدقيقها أكثر. إن الموضة والثقافة والرؤية وعدم المشاركة السياسية والجنس الشارد، إلخ، تعد مؤشرات على ضياع الخاص في العام ضمن خليط اجتماعي غير محدد. يعني ذلك أن الفرد، وحسب مصطلحات قديمة ما زالت تتميز بالدقة، لم يعد الغاية القائمة لكل الأشياء، مثلما لم تعد الدولة، في مختلف متغيراتها، الغاية النهائية. لا يجب أن نستخلص من هذا القول أن الأمر يتعلق بعملية تشكيل كل شيء على منوال واحد. بل على العكس من ذلك، يلاحظ في جماعة عضوية معينة، تحظى فيها الطائفة بالأولوية الكبرى، تشكل لعبة اختلافات داخل ما يمكن أن يطلق عليه قابلية الانقلاب. إن الدور (وليس الوظيفة) هو الذي يشغل المكانة المتميزة تبعا للوضعيات وفي إطار معمارية عامة. يتعلق الأمر هنا بأشكال تتجانس فيها طبائع متعددة. إننا نتفق أكثر فأكثر على الاعتراف بأن الوجود الاجتماعي وجود مسرحي قبل كل شيء، وأن كل مشهد في هذا الإطار، مهما كانت درجة صغره أو "جديته"، هو مشهد مهم في آخر الأمر. يتعين على الفرد أن يقوم بدوره جيدا سواء في المشهد السياسي أو العنصر الرمزي الذي نسيناه قليلا والذي عاد ليفرض نفسه مجددا على الساحة. فما يؤول إليه الفضاء الرمزي هو تفوق الجماعة. فضلا عن ذلك، يتعين أن نسجل أنه إذا كانت الرموز تظهر في أحضان الجماعة، فإنها تسمح أيضا باستمرارية الشعور الذي تحمله الجماعة عن نفسها. ذلك أن الرمز هو علة كل حياة اجتماعية ونتيجة لها.
يمكن للمرء أن يقدر أهمية التجمعية انطلاقا من هذا المنظور الرمزي. ذلك أن لعبة الأشكال المندمجة والمتحركة تجري بالفعل داخل التجمعية، وتمكن هذه اللعبة كل فرد من تحيين طاقاته كلها. كما أن كل فرد لا يجد ازدهاره سوى في الجمعي وبواسطته، هذا الازدهار الذي ساعد بدوره على تحقيق السعادة المشتركة. إن "إحساس الوضعية" الذي حللته الوجودية الألمانية جيدا، أي هذا الإحساس بالوجود-هنا وبالانقداف في العالم، يعاش داخل وحدة الشعور القوية جدا التي تستمر في ري الوجود المبتذل برمته. فبهذه الطريقة يعاش التوافق "التعاطفي" مع الكون والطبيعة والبيئة، الذي اعتبر ثانية كضمانة ضرورية لكل توافق مجتمعي. إن الطابع المسرحي للحياة اليومية يعد، مع قابلية قلب الأشكال وعبر "التواصل" العميق الذي أقيم بين الكائنات من جديد، عملية نسخ لما أطلق عليه "الوحدة الكونية". إن لكل عنصر، سواء فيما يتعلق بالقسوة أو الرقة، مكانته في عضوية تتمثل غايتها الوحيدة في إنهاك الفعل الذي يؤدي إلى ضياع الكل. إن المتعة والموت، من حيث أنهما شكلين نموذجين لكل وجود، يتلازمان دوما ويعملان من أجل التذكير بدورة العود الأبدي لذات الشيء.
إننا نميل كثيرا إلى إدراك غاية عدد معين من القيم الاجتماعية التي تركت بصمتها على القرنين الأخيرين، كعودة للنرجسة أو كتفاقم نزعة التخصيص. ليس الانطواء على الذات موضع اهتمام وعناية. فالأهمية التي أصبحت تحظى بها مجددا دراسة الحياة اليومية والتي تتمظهر بأشكال متعددة تعتبر أهم مؤشر على ذلك. وبالفعل، إن ما كان يجسد الأساس الكثيف للسوسيولوجيا لمدة طويلة أصبح اليوم أحد الحقول المركزية، إن لم نقل الحقل المركزي للبحث في العلوم الاجتماعية. لكن ما يتعين الإحاطة به، هو كون هذا اليومي يتجاوز أكثر فأكثر محيط الخاص الذي حصر فيه. يمكن القول بطريقة نموذجية إننا أمام شكل شامل وأولي، سيكون بإمكانه بالتالي أن ينقسم ويتنوع إلى ما لا نهاية. إنه يستخدم إذن كأساس للتحولات التي تمس العيش الجماعي. إنه هذه الوحدة المتنوعة Unitas multiplex التي تكونت بالمشاركة، وبالتضامن، وبالتواصل، إنه الشيء الذي يُكَوِّنُ الاندفاع الحيويn
 
المراجع:
E.BALAZS, La Buraucratie céleste, Ga, Paris, .
J.BURNHAM, L’Ere des organisateurs, Calmann – Lévy, Paris, 1947.
L.DUMONT, Homo hierarchicus, Gallimard, 1966.
L.DUMONT, Homo aequalis, Gallimard, 1977.
E.DURKHEIM, De la division sociale du travail, F.Alcan, Paris, 1926.
N.ELIAS, La Dynamique de l’Occident, Calmann-Lévy, 1975.
M.MAFFESOLI, L’Ombre de Dionysos, lib. Des Meridiens, Paris, 1982.
M.MAFFESOLI, La violence totalitaire, P.U.F, Paris, 1979.
G.SOREL, Les Illusions du progrès, Rivière, Paris, 1947.
G.SIMMEL, Sociologie et épistémologie, P.U.F, 1981.
A.SCHUTZ, Collected papers, vol.III, M. Nighoff, La Haye, 1966.
M.WEBER, L’Ethique protestante et l’esprit du capitalisme, Plon, Paris, 1964