فلسفة اليونان في أرض الإسلام: عملية الترجمة ومطباتها ـ اشريف مزور

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Abstract-PhotographyWallpaperحسبنا من الحقائق الجلية الخفية أو القريبة البعيدة، حقيقتان اثنتان وهما: الأصل في الترجمة هي الحاجة، والغاية منها إدخال الآخر في الذات في سبيل اختصار المسافة بينهما.
بات من المؤكد للدارسين أن الفكر المدعي للتمامية والاكتمال يكون منسد الأفق ينذر انسداده بإمكان التحول إلى عنف رهيب ومنقلب كئيب، لذلك استشعرت الحضارة العربية الإسلامية منذ بداياتها الأولى حاجة ماسة إلى ترجمة علوم الأوائل أي إقحام الثقافات الأخرى في جسدها حتى يتحقق الإقلاع الفكري، فثمة تلازم بين الترجمة والتحديث([1]). وهذه مسألة لا ينكرها إلا مكابر ولا تذهب إلا عن غافل.
ثابت لدينا أن الفكر اليوناني انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية عبر مسار جغرافي متنوع وخلال فترة تاريخية طويلة، وقبل أن نذكر أهم هذه المواقع الجغرافية ننبه إلى ملاحظة هامة عرضت لنا أثناء دراسة بعض الأسفار المرتبطة بالموضوع، يتعلق الأمر بتباين مواقف الباحثين بخصوص تحقيب مراحل تطور الترجمة ووظائفها، بين ذاهب إلى تقسيمها إلى مرحلتين بارزتين، الترجمة في العصر الأموي، والترجمة في العصر العباسي، وبين مدع بضرورة ربطها فقط بالزمن العباسي، وبين زاعم بفكرة تقسيمها بحسب أزمنة خلفاء بني العباس(*).


بدأت عملية التثاقف الفكري الحضاري بين العرب والإغريق من حاضرة الإسكندرية التي أسهمت في حفظ وازدهار التراث اليوناني فاصطبغ بلون هلنستي وصل إلى بغداد بعد ترحال عبر مراكز أخرى (أنطاكية، حران...) ([2]).
ارتبطت حركة الترجمة في بغداد بتأسيس بيت الحكمة (*) حيث تم استجلاب عيون التآليف حتى "بلغ الالتحام بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى أوجه في ظل المأمون (198هـ/813م-218/833)، إذ أحب الفلسفة والعلوم وأخذ يشجع المترجمين ويرسل الوفود إلى فارس واليونان وشبه القارة الهندية لاقتناء الكتب بغية تعريبها، وكان يشترط على أعدائه لكي يبرم معهم الصلح الحصول على كتب الفلسفة والعلوم، وقد أثر عنه أنه كان يدفع لحسين بن إسحاق زنة الكتاب المترجم ذهبا"([3]). نجح بيت الحكمة في القيام بدورين جليلين: تهييء المتن الفلسفي الذي سيتكون عليه فلاسفة كبار من الكندي إلى ابن رشد([4])، من خلال التشبث باستخدام منهج عقلاني نقدي في فروع معرفية مختلفة([5])، هذا علاوة على الاحتفاظ في اللغة العربية بنصوص يونانية ضائعة كنصوص الإسكندر الأفروديسي وبروكلوس مترجمة أحسن ترجمة([6]).

حري بنا الإلماع إلى أن دخول الفلسفة اليونانية إلى الثقافة العربية الإسلامية تم تحت ذريعة المنفعة باحتوائها علوم نافعة للمسلمين كالطب والهندسة، وإلا ما وجدت لها موضعا في المجتمع الإسلامي بالنظر إلى تباعد نظامها الميتافيزيقي (أصل الكون وحركته وغايته...) مع بدائل الإسلام.
لا جدال في أن مشروع الترجمة في بغداد كان شأنا ترعاه الدولة بالإضافة إلى بعض الأسر المشكلة نخبة المجتمع (أبناء موسى بن شاكـر...)، كما تـم متابعتـه علـى أسـاس منهجية بحث صارمـة وضبط فيلولوجـي دقيـق لزمن غير قصيـر([7])، وارتباطا بذلك لم يكن ترفا فكريا أو ذا دافع شخصي إذ "لابد من الكشف عن أسبابه ومبرراته الموضوعية التي لها صلة بالخيار الإيديولوجي للدولة العباسية في نهاية ق 2هـ، وتتمثل في محاولة المأمون كي يتحصن من الحركات الشيعية المعارضة، تحصين الإسلام(= الدولة) بالعقل ممثلا في العقل اليوناني"([8]) (*).

غير خاف أن الترجمة بما هي أداة للحوار والتلاقح الحضاري تثمر نتائج فعالة عندما تكون صادرة عن مخاض فلسفي وهم فكري، وهو أمر يصعب تبين ملامحه في تاريخ الفكر العربي الإسلامي بحكم تعالق النشاط الثقافي بالسلطة السياسية(**). فلنومئ إلى مكامن هذا التعثر بعد أن نشير بالبنان إلى مواطن فعالية الترجمة بما هي دواء لجرح بابل (مشكلة بابل وبلبلة الألسن).

إذا كانت المفاهيم عندما تخرج من بيئتها لابد وأن تغير من دلالاتها نتيجة لظرفية التلقي فتحمل حمولات ربما لم يكن لها بها عهد، فإن حال المتون أشد وأقوى، فالعمل يعيش مدة أطول وفي حلة أحسن بفضل ترجماته، يقول إيكو Umberto.Eco "كنت أشعر أن النص يكشف في حضن لغة أخرى عن طاقات تأويلية ظلت غائبة عني، كما كنت أشعر أن بإمكان الترجمة أن ترقى به في بعض الأحيان"([9])، وغير بعيد عن ذلك لا يكمن صيت مفكر ما في قدرة اللاحقين عليه على فهم معاني متنه ومقاصد فكره، بل المهم هو ما يمكنه أن يقوم به من دور في تحفيزهم لاستخراج ما لم يكن يتوقعه حتى صاحبه من أطروحات جديدة موجودة بالقوة في أعماله، وتلك كانت حال أرسطو مع ابن رشد، وحال النزعات الرشدية مع ابن رشد([10]).

تتساوى الترجمة مع وضع كتب أصيلة لاسيما عند إيلاء أهمية للثقافة المتلقية أو بلغة طه عبد الرحمان للمجال التداولي(*) المنقول إليه(**). وفي غياب ذلك، تفشو علل النقل التي تزري بالفعالية الفكرية وتعطل من إنتاج المعقولية. في سياق بسطه القول في لغة ابن رشد الفلسفية من خلال عرضه للمقولات المنطقية، تحدث صاحب "التكوثر العقلي" الذي تقوم "فلسفته التداولية" على "التحليل المنطقي" و"التشقيق اللغوي" عما سماه بعوائق الترجمة العربية للفلسفة اليونانية، وقد أوجزها في أربعة: النقص في امتلاك ناصية العربية (مع العلم أن أغلب المترجمات نقلت عبر السريانية)، الضعف في التكوين الفلسفي (لم يكن النقلة مختصين)، قوة المعتقد غير الإسلامي (التراجمة أغلبهم مسيحيين وصابئة)، الترجمة الحرفية([11]) باعتبارها أبلغ وأفحل حسب حنين بن إسحاق(***)، وقد حالت هذه العوامل مجتمعة دون النفاذ إلى معميات النص الأصلي بَلْه إلى آفتين: قلق العبارة (الركاكة والاستغلاق) وغموض الأغراض بأصنافه المختلفة تعبيريا ودلاليا وتداوليا واصطلاحيا وتأويليا([12]).

لا يخفى على كل من له دربة بألوان الثقافة العربية الإسلامية أن أعظم عيوب الترجمة فيها تمثل فيما يعرف بالكتب المنحولة، مناط ذلك أن المترجمين ليسوا اختصاصيين، وتنهض "أتولوجيا" أفلوطين المنسوب خطأ لأرسطو دليلا قاطعا على ذلك([13]). وقد انساق كبار فلاسفة الإسلام وراء هذه الزلات" كما حدث للفارابي الذي نسب خطأ مقتطفات من تساعيات أفلوطين إلى أفلاطون، وحاول على ضوئها التوفيق بين هذا الأخير وأرسطو" ([14])(*).
لقد حقق المسلمون بفضل الترجمة ما يمكن أن نسميه "المجتمع المفتوح" بانفتاحهم على الشعوب والحضارات الأخرى، لكن ذلك اللقاء ظل جزئيا ومقتصرا على حدود معينة، فبعض أبعاد ثقافة الإغريق بقيت معلوماتنا عنها ضبابية (الجانب الأدبي والسياسي)([15])، وقد يعزى ذلك إلى تفطن العرب لقومية أدبهم وأساطيرهم([16]) التي تحكي عن مغامرات الآلهة والأبطال الممدنين، أما ابن رشد فقد أثبت الهجاء في مقابل التراجيديا والمديح في مقابل الكوميديا مستبدلا الزمر الدرامية بالأنواع الشعرية.

وغني عن البيان أن رحلة الكنوز الفكرية واصلت طريقها بالمكتبة المروانية بقرطبة التي تجاوز عدد كتبها ما كان معروفا في الخزانة البغدادية([17])، وقد ارتبط وجودها بكارثة الغرق في المرحلة العامرية اللاهثة وراء سراب المشروعية وممالأة الجمهور، ورب ضارة نافعة، إذ وبسبب من جهل المكلفين بالتدمير، تشتت التواليف في الحواضر الأندلسية، وهي البضاعة التي نما في كنفها فلاسفة أفذاذ كابن رشد الذي لا يصح في حقه القول بأنه شارح أرسطو، لأنه يشرح المترجمات عن المعلم الأول، فالترجمة هي التي توجه شرحه وتحكم عليه وليس الأصل([18]).

إن التغاضي عن دور الرافد المشرقي في الغرب الإسلامي من باب ادعاء ما لا يصح.
وعلى الجملة، نقول إن حركة الترجمة شكلت نقطة انعطاف تاريخية كبرى في التاريخ العربي الإسلامي، وما أحوجنا اليوم إلى مشروع مماثل أي شرح وترجمة المستجدات العلمية والفلسفية الغربية قراءة ونقدا وتأويلا في أفق المشاركة الفعالة المبدعة.


[1] - سالم يفوت، "حركة الترجمة في عصر النهضة الأول: بيت الحكمة". مؤسسات العلم والتعليم في الحضارة الإسلامية، تنسيق بناصر البعزاتي، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 150، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، الطبعة 1، 1429هـ/2008م ، ص: 65.
* - في ذات الإطار، يقر علي سامي النشار بصعوبة تحديد تاريخ دخول المعارف الفلسفية والعلمية اليونانية إلى أرض الإسلام، وهناك رأيين: رأي يقول بأن معرفة المسلمين بفلسفة وعلم اليونان كانت في عصر العباسيين مع الاختلاف في تحديد عهد الخليفة العباسي الذي بدأت فيه هذه الترجمة، ورأي آخر يميل إلى التأكيد على أن هذه المعرفة كانت في عصر بني أمية وفي صدره على الخصوص، فما كادت تستقر الفتوح في البلاد التي كانت تسودها الروح الهيلنستية (مصر والشام والعراق...) حتى بدأ التزاوج بين الأمم المغلوبة وبين الغزاة، علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، ط1 لدار السلام، 2008م، ص: 9.
[2] - محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، دراسات ومراجعات نقدية للكلام، دار الفارابي، بيروت لبنان، ومنشورات الاختلاف، الطبعة 1، 2011،ص ص: 24-25.
* - لم يعرف بالضبط من أسس البيت: الرشيد أم المأمون؟ لكن يظهر أن الرشيد وضع نواته ثم نماه المأمون وقواه. المرجع نفسه، ص: 26.
[3] - علي الشابي، مباحث في علم الكلام والفلسفة، دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى، مارس 2002، ص: 33.
[4] - محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، مرجع سابق ص: 50.
[5] - المرجع نفسه، ص: 27.
[6] - المرجع نفسه، ص: 28.
[7] - محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، مرجع سابق، ص: 52.
[8] - المرجع نفسه، ص: 29.
* - ما يعزز ذلك هو أن المأمون جعل من الاعتزال مذهبا رسميا للدولة بوصفه أكثر المذاهب الكلامية مناصرة للعقل ودفاعا عن استعماله، وبذلك تحولت مناصرة العقل وترجمة تراث الأوائل إلى شأن تتكلف به الدولة وتعتبره أحد خياراتها الإيديولوجية الأساسية. سالم يفوت، "حركة الترجمة في عصر النهضة الأول"، ضمن مؤسسات العلم والتعليم في الحضارة الإسلامية، مرجع سابق، ص: 72.
** - ازدهارها في عهد المأمون، وتراجع حدتها في عصر المعتصم، وأفولها في زمن المستعصم بعد الغزو المغولي.
[9] - عبد السلام بنعبد العالي، الفلسفة أداة للحوار، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2011، ص: 53.
[10] - محمد المصباحي، تحولات في تاريخ الوجود والعقل، بحوث في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1995، ص: 16
* - المجال التداولي هو وصف لكل ما كان نطاقا مكانيا وزمانيا لحصول التفاعل والتواصل بين صانعي التراث، وأسباب التفاعل لا تخرج عن ثلاثة: لغوية، عقدية، معرفية. طه عبد الرحمان، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، الطبعة 3، 2007، ص ص: 244-245.
** - يرى الأستاذ طه أن بعض الفلاسفة قد استقامت لغتهم على مقتضى التداول العربي، ومرد ذلك إلى احتكاكهم بالنص القرآني أو ببعض اللغات الفكرية الأخرى التي احتكت به، وتختلف عندهم درجة هذه الاستقامة باختلاف درجة هذا الاستمداد، من هنا يمكن تفسير اختلاف مستويات اللغة الفكرية لابن رشد، إذ يكون أقدر على التبليغ  العربي عند مناقشة المتكلمين أو الموازنة بين الفلسفة والشريعة منه عند عرض المسائل الميتافيزيقية لأرسطـو، المرجع نفسـه ص: 337.
[11] - طه عبد الرحمان، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، الطبعة 1، 1998، ص: 328.
*** - يجد المترجم للنصوص نفسه أمام عدة وضعيات ترجمية: ترجمة اتباعية بنوعيها التحصيلية (الارتباط باللفظ في النص الأصلي يؤدي إلى التطويل في بناء الجملة) والتوصيلية (الارتباط بالمعنى في النص الأصلي يؤدي إلى تهويل معنى الجملة)، وأخرى إبداعية (تأصيلية) من خلال الارتباط بالذات وبالمجال التداولي الذي نترجم إليه. طه عبد الرحمان، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الطبعة 2، 2006، الفصل الخامس (كيف نقوم اعوجاج الفلسفة العربية، الفلسفة المغربية نموذجا) من الصفحة 137 إلى ص: 168.
[12] - طه عبد الرحمان، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي. مرجع سابق، ص: 328-329-330-331.
[13] - محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، مرجع سابق، ص: 58.
[14] - المرجع نفسه، ص: 59.
* - محاولة التوفيق هذه تظل ممزوجة بالكثير من عناصر الأفلاطونية المحدثة لذلك أخفق الفارابي في الجمع بين رأيي الحكيمين "لأنه بنى مذهبه التوفيقي على كتاب "أتولوجيا" المزيف، فلم  يشك فيه ولا تصور إمكان وقوع التناقض عند أرسطو، بل آمن به إيمانا ساذجا يدل على جهله بالنقد التاريخي". محمد أيت حمو، الدين والسياسة في فلسفة الفارابي، من التأسيس البرهاني للسياسة إلى التأسيس الحجاجي، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة 1-2011 ص: 68. ويعزى ذلك إلى معاندة الفقهاء القائلين بأنه ليست هناك فلسفة واحدة، بل فلسفات متعددة ومتعارضة. محمد أيت حمو، أفق الحوار في الفكر العربي المعاصر، منشورات الاختلاف، الطبعة 1، 1433هـ/2012م، ص: 223.
[15] - محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، مرجع سابق، ص ص: 48-49.
[16] - طه عبد الرحمان، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مرجع سابق، ص: 56.
[17] - محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، مرجع سابق، ص: 36.
[18] - محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، مرجع سابق، ص: 53.