ألبرتو موراڤيا، فن الأدب القصصي، المقابلة السادسة ـ حاوره : آنّا ماريّا دي دومونيشس وَبن جونسون ـ ترجمة: ريوف خالد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

moraviaيقع شارع ڤياديلوكّا بالقرب من ميدان ﭙيازا ديل ﭙوﭙلو، الشارع المُشكّل بغرابة يتسع عند منتصفه وينتهي نهايتين متدرّجتين رفيعتين، في ممره القصير المرصوف الممتد من سد لونغوتيڤيريه إلى جانب من كنيسة سانتا ماريّا دي ميراكولي. أخذ شارع الإوزة "ڤياديلوكّا" اسمه، مثل شوارع عديدة في روما، من لافتة مطعم منسي منذ زمن.على جهة ممتدة دون انقطاع، من ضفة نهر تايبر إلى شارع ڤياريـﭙتّا، تنتشر بيوت الطبقة العاملة؛ طابور من المداخل الضيّقة بسلالمٍ رطبةٍ مظلمةٍ صغيرةٍ، نوافذ محشورة، خيطٌ من المتاجر الصغيرة، روائح فواكه محلّاة، متاجر ترميم، كحول كاستيلّي، عوادم المحركات، بكاء صبية الشارع، أزيز تجريب درّاجات غوزّيه الناريّة، ومواء من الساحة.
في الجهة المقابلة؛ المباني أطول، تخرج بعشوائية عن النطاق، يُشكّلها التعجرف الخالص للأفاريز المتّصلة والشُرفات الطافحة بمتسلّقات مؤصّصة، نباتات زاحفة مُعتنى بها؛ هذه منازل الأثرياء. هنا، في هذه الجهة، يعيش ألبرتو موراڤيا، في البناء العصري الوحيد في الحي. البناء الناتئ مثل سدّ بلون اليشب والعاج بالنسبة للمحيط الأحمر الذهبي.
يُفتح الباب من قِبل العاملة المنزليّة، فتاة سمراء ترتدي الثوب الأسود التقليدي والمريلة البيضاء. في المدخل، خلفها، يظهر موراڤيا متحقّقًا من وصول صندوق نبيذ، يستدير. ليذهب المحاور إلى غرفة الجلوس، حيث سيكون موراڤيا هنا حالًا.

غرفة جلوس موراڤيا تبدو مخيّبة من النظرة الأولى. لها الغموض التقليدي الأنيق ذاته لشقة في حي ﭙاريولي يستأجرها ممثّل أفلام، لكنها أصغر؛ أو غرفة استقبال لمفوضيّة سويسريّة، دون ملفات سفر ولا متعلّقات قراءة من أي نوع. يوجد القليل جدًا من أثاثٍ يعود إلى القرن الثامن عشر. أربع لوحات تزيّن الجدران، لوحتين لريناتو غوتوسو، وواحدة لجيوفاني مارتينللّي، ولوحة لتوتي سيشالوجا أعلى أريكة زرقاء عريضة. عند نهايتي الأريكة يوجد مقعد، وطاولة قهوة فينيسيّة طويلة خفيضة محصورة بين الأريكة والمقاعد، مزيّنة بتصميم عتيق لرموز دائرة البروج والكواكب. لونيّ الطاولة؛ الأزرق الباهت والزهري القديم تتكرّر في ألوان السجّادة الفارسية أسفلها. على الجدار المقابل يستند دولاب سجلات، يحوي باخ، سكارلاتي، سمفونية بيتهوڤن التاسعة، وبعض الرباعيّات الأولى، ستارفنسكي، بروكوفيڤ، و«أرفيو» لمونتيڤريدي.

انعدام هويّة الغرفة يبدو على الأغلب مُتعمّدًا. المنظر عبر النافذة، فقط، يُذكّر بالربيعٍ الوشيك؛ حيث الأزهار تتفتّح على مصطبات الأسطح، والمدينة دافئة، حيث الحُمرة في الشمس المُغرِّبة. فجأةً، يدخل موراڤيا. طويلٌ ومتأنق، صارم، تقاسيم وجهه وانعكاساتها باردة وصلبة تقريبًا. صوته خفيض وصلب كمعدن هو الآخر، قد يفكّر المرء في معدن السلاح في الحالتين. من طريقته، قد يستشف المرء بعضًا من عدم الارتياح وربّما الخجل، لكنه في بيته، في غرفة جلوسه، يستوطن الأريكة بارتياح واضعًا ساقًا على ساقِ.
 

المحاور: هلّا تحدّثنا من البداية؟
موراڤيا: من البداية؟
المحاور: ولدتَ ...
موراڤيا: آه، ولدتُ هنا، في روما، في الثامن والعشرين من تشرين الثاني، عام 1907م.
المحاور: ماذا عن تعليمك؟
موراڤيا: تعليمي النظامي، فعليًا؛ صفر. أتممت دراستي الابتدائية، لا أكثر. مجرد تسع سنوات من الدراسة. اضطررت للانسحاب بسبب سل العظام. أمضيت ما مجموعه تسع سنوات بسببه في السرير، بين التاسعة والسابعة عشر، حتى عام 1924م.
المحاور: إذن، «شتاء صبي عليل - Inverno di malato[1] » لا بد وأنها تُشير إلى تلك الأعوام. يفهم المرء كيف ...
موراڤيا: أنت لا تُلمّح إلى أنني غيرولامو! أليس كذلك؟
المحاور: في الحقيقة؛ بلى.
موراڤيا: لستُ هو، دعني أقول ...
المحاور: إنه نفس المرض.
موراڤيا: دعني أقول هنا والآن أنني لا أظهر في أيٍ من أعمالي.
المحاور: ربّما يمكننا العودة إلى هذا لاحقًا.
موراڤيا: نعم، لكنني أريد للمسألة أن تُفهم بوضوح كليّ: أعمالي ليست سيَريَّة بالمعنى المعتاد للكلمة. لعلّني أوضّحها هكذا: مهما يكن للعمل صلة بالسيرة الذاتيّة، فهو كذلك فقط بطريقة غير مباشرة مطلقًا، بطريقة عامة للغايّة. أنا ذو صلة بغيرولامو، لكنني لستُ هو. لا آخذ، ولم آخذ قط لا واقعة ولا شخصيّة من حياتي بشكلٍ مباشر. الأحداث قد تُلمِّح إلى أحداثٍ تُستخدم لاحقًا في عمل، على نحوٍ مماثل، الأشخاص قد يُلمّحون إلى شخصيات مستقبليّة، لكن "يُلمّح" كلمة للتذكّر. يكتب المرء عمّا يعرف، مثلًا: لا يمكنني القول بمعرفة أمريكا رغم أنني زرتها، لم أتمكن من الكتابة عنها. نعم، يستخدم المرء ما يعرف، لكن السيرة تعني شيئًا آخرًا. يجدر بي ألّا أقدر على كتابة سيرة ذاتيّة حقيقيّة، أنتهي دائمًا إلى التزييف والاختلاق القصصي، أنا كاذب، في الحقيقة. وهذا يعني أنني روائي، مع هذا فأنا أكتب عمّا أعرف.
المحاور: حسنًا، على كل حال، عملك الأول «اللامبالاون - Gli Indifferenti».
موراڤيا: صحيح.
المحاور: هل ستخبرنا شيئًا عنه.
موراڤيا: ماذا تريد أن تعرف؟ لقد بدأته في تشرين الأول من عام 1925م. كتبت قدرًا لا يُستهان به من العمل في السرير، في بلدة كوروكونا، لدى مورا بالمناسبة. نُشر عام 1929م.
المحاور: هل كانت هنالك معارضة شديدة للعمل؟
موراڤيا: معارضة؟ أي نوع من المعارضة؟
المحاور: أعني مجيئه بعد داننسيو، في أوج القصاصيّة - [2]Fragmentism ، والنثر الفنّي - Prosa d’arte.
موراڤيا: أوه، لا. لم يكن هنالك أي معارضة، إطلاقًا. لقد حقق نجاحًا عظيمًا، في الواقع، كان أحد أعظم النجاحات في الأدب الإيطالي الحديث برمته. في الحقيقة كان الأعظم، يمكنني قول هذا بكل تواضع. لم يُنشر شيء مثله أبدًا. دون شك، لم يُحتفى بكتاب خلال الخمسين سنة الأخيرة بمثل هذه الحماسة والإثارة إجماعًا.
المحاور: وقد كنت صغيرًا بعض الشيء حينها.
موراڤيا: واحد وعشرون. كانت هنالك مقالات في الصحف تمتد لخمس أعمدة كاملة، لم يكن لهذا سابقة؛ الكتاب ناجح. أُضيف أنه لا شيء مشابه قد حدث لي مذ ذاك، أو حتى لأي أحدٍ آخر، من وجهة نظري.
المحاور: "زمن اللامبالاة" قد فُسِّرت بأنها نقد بليغ لاذع وحتّى جارح إلى حدٍ ما للبرجوازية الرومانيّة ولقيم البرجوازيّة عمومًا. هل كُتب العمل كردة فعل على المجتمع الذي تراه حولك؟
موراڤيا: لا. على الأقل لم يكن هذا مقصودًا. لم تكن ردة فعل ضد أي شيء، كانت رواية.
المحاور: إذن، هل تود قول أن أولئك النقّاد الذين عدّوك بجانب سڤيڤو مخطئين؟
موراڤيا: تمامًا. نعم، بالضبط. للحقّ، سڤيڤو كاتب لا أعرفه جيدًا بشكلٍ كلي. قرأت له حينها، فقط، «عندما يكبر الرجل – Senilità [As a Man Grows Older ]»[3]  وماذا كانت الأخرى؟ «ضمير السيّد زينو - La Coscienza di Zeno [Confessions of Zeno] » كان هذا بعد أن أتممت كتابة «زمن اللامبالاة». بالتأكيد لا مجال للشّك بوجود تأثر. ثم أن سڤيڤو ناقدٌ متعمِّد للبرجوازية. أما نقدي، مهما يكن وجوده، فهو سهوٌ حدث كليًا بالصدفة. برأيي، وظيفة الكاتب ليست أن ينقد الحال، إنما أن يخلق شخصيات حيّة فحسب.
المحاور: أنت تكتب، ثم؟
موراڤيا: ببساطة: أكتب لأسلّي نفسي، أكتب لأُمتِّع الآخرين، وأيضًا لأعبّر عن نفسي. لكل شخص طريقته في التعبير عن نفسه، وصادف أن تكون الكتابة وسيلتي.
المحاور: معنى هذا أنّك لا تعتبر نفسك منظِّرًا أخلاقيًا، أليس كذلك؟
موراڤيا: نعم، بالطبع لا أعتبر نفسي في الغالب منظرًا أخلاقيًا. الحقيقة والجمال تعليمية بطبيعتها. الحقيقة أن تقديم الجناح الأيسر، أو أي جناح من أي نوع، يدل على اللاموضوعيّة والموقف المتحيّز. لهذا السبب، يعجز المرء عن النقد بحس عادل. النقد الاجتماعي لا بد أن يكون دائمًا أمرًا سطحيًا للغاية. لا تسئ فهمي، الكتّاب مثل كل الفنانين مهتمون بتقديم الحقيقة، خلق حقيقة أكثر صفاءً واكتمالًا من الحقيقة ذاتها. يجب عليهم إذا ما أرادوا إحراز هذا أن يتبوءوا موضعًا أخلاقيًا، موقفًا سياسيًا اجتماعيًا فلسفيًا مبتكر بوضوح. وعليه، اعتقاداتهم ستجد طريقها للعمل بالتأكيد. ما يؤمن به الفنانون، على أيّةِ حال، بمرتبة ثانويّة من الأهميّة بالنسبة للعمل نفسه. يبقى الكاتب بالرغم من اعتقاداته. لورنس سيُقرأ مهما يكن اعتقاد الشخص في آرائه حول الجنس، ودانتي يُقرأ في الاتحاد السوفيّيتي.

من جهةٍ أخرى، للعمل الفني وظيفة تمثيليّة وتعبيريّة. في هذا التمثيل، أفكار الكاتب وأحكامه، والكاتب نفسه، مأخوذون بالحقيقة. بالتالي، النقد ليس إلا جانب –جانب جزئي- من الكل. يمكنني القول في نهاية الأمر أنني منظِّر أخلاقي إلى حدٍ ما، جميعنا هكذا. تعلم، بعض الأحيان تستيقظ صباحًا في ثورة ضد كل شيء. لا شيء يبدو صوابًا. وخلال هذا اليوم أو أكثر، على الأقل حتى تتجاوزه، أنت منظِّر أخلاقي. كل شخص يعتبر منظر أخلاقي بأسلوبه الخاص، لكن إلى جانب هذا، هو العديد من الأمور الأخرى أيضًا.
المحاور: لنعد إلى «زمن اللامبالاة» لبرهة، هل شعرت بمواجهة مشاكل تقنيّة معيّنة أثناء كتابتها؟
موراڤيا: كان هنالك مشكلة كبيرة في هذه المحاولة، استعرت تقنيّات المسرح لأبدأ وأنهي القصة خلال مدة مختصرة ومحدّدة بوضوح، دون حذف شيء. كل الأحداث، في الواقع، تحدث خلال يومين. تتعشى الشخصيتان، تنام، تُمتِّع أنفسها، تخدع إحداهما الأخرى، وهذا كل شيء بالمختصر، وكل شيء يحدث كما لو كان على المسرح.
المحاور: هل سبق وأن كتبت للمسرح؟
موراڤيا: قليلًا، توجد مسرحية مبنيّة على «زمن اللامبالاة»، كتبتها مع لويجي سكوارزينا، وكتبت بمفردي مسرحية «حفلة تنكّريّة - La Mascherata [The Fancy Dress Party]».
المحاور: مبنيّة على الكتاب؟
موراڤيا: ليس تمامًا، الفكرة واحدة على أيّةِ حال لكن الكثير من الأحداث قد غُيِّرت. عُرضِت في ميلان من قِبل ﭙيكولو تيترو.
المحاور: هل تنوي مواصلة كتابة المسرحيّات؟
موراڤيا: نعم. بالطبع أتمنى أن أواصل الكتابة. اهتمامي بالمسرح يعود إلى سنين عديدة مضت، حتّى عندما كنت يافعًا قرأت، ولا زلت أقرأ، المسرحيات وأستمتع بها. غالبًا العظام مثل شكسبير وغيره من الإليزابيثيين، مولير، غولدوني، والمسرح الإسباني، لوﭖ دي فيغا، كالديرون. غالبًا أنجذب في قراءاتي إلى التراجيديا، التي أجد أنها أعظم أنواع التعبير الفنّي، المسرح ذاته يصبح أكمل القوالب الأدبية. لسوء الحظ، فإن الدراما الحديثة معدومة.
المحاور: كيف؟ أظنّك تعني في إيطاليا.
موراڤيا: لا. ببساطة لا يوجد مسرح حديث، لا يعني هذا أنه ليست هُنالك عروض تؤدِّى إنما لا شيء قد كُتِب.
المحاور: لكن يوجين أونييل، ﭼورﭺ برنارد شو، لويـﭼـي ﭙيرانديلو ...
موراڤيا: لا، لا أحد منهم. لا أونييل، شو، ﭙيرانديلو ولا أي أحد آخر قد أبدع دراما –تراجيديا- بالمعنى العميق للكلمة. اللغة، اللغة الشاعريّة هي ركن الدراما. حتى إبسن، أعظم مسرحي حديث، رجع إلى اللغة اليوميّة. وعليه، بطبيعة الحال، فشل في خلق دراما حقيقية.
المحاور: كريستفور فري يكتب مسرحيات شعريّة، لا بد وأنك قد شاهدت «السيدة ليست للحرق - The Lady’s Not for Burning»[4] في إيلبسو
موراڤيا: لا.
المحاور: قد تفضّله.
موراڤيا: ربّما أفضّله، لكن يجدر بي مشاهدته أولًا.
المحاور: وعملك في الأفلام؟
موراڤيا: تعني كتابة السيناريو؟ في الواقع لم أقم بالكثير، والقليل الذي كتبته لم أستمتع به بشكل خاص.
المحاور: مع هذا، هي أيضًا شكل آخر من أشكال الفن.
موراڤيا: بالطبع هي كذلك، بالتأكيد. حيثما تكون المهارة فثم فن هناك. لكن السؤال: إلى أي درجة ستتيح السينما التعبير الوافي؟ الكاميرا أداة تعبير أدنى من القلم. حتى في يد آيزنستاين، لن تكون أبدًا قادرة على التعبير عن كل شيء، لنقل، لن تكون بقدرة مارسيل ﭙروست! إطلاقا. مع هذا، فالكاميرا وسيط استعراضي، زاخرة بالحياة. وعليه فالسينما ليست جامدة كليًا. في الواقع، إنها الفن الوحيد الحي في إيطاليا هذه الأيام، الفضل لعائدها المادي العظيم. لكن العمل للسينما مُرهق. ولن يتمكن الكاتب من أن يكون أكثر من كاتب سيناريو أو صاحب فكرة –تابع في التأثير-. يقدم العمل له القليل من الرضى بغض النظر عن أجره. إن اسمه لا يظهر حتى على ملصقات الفيلم. إنها وظيفة مريرة بالنسبة لكاتب. ماذا أيضًا؟ السينما فن غير صافٍ، تحت رحمة فوضىً من التقنيات، الحيل السينمائيّة، أظنكم تقولونها سلاسل في الإنجليزيّة. يوجد في السينما القليل من التلقائية، وهذا طبيعي فقط إذا فكّرنا في مئات الأجهزة التقنيّة المستخدمة في صناعة فيلم، في جيش التقنيّين. الآلية كلها مسألة مكرورة. يصير إلهام المرء بائتًا بسبب العمل في السينما، والأسوأ أن عقل المرء ينهار، يُستنزف، جرّاء البحث الدائم عن الحيل. لا يعجبني العمل السينمائي مطلقًا. تدرك ما أعنيه: إن تعويضاتها ليست ذات قيمة، في الواقع، ما لم تكن مضطرًا إليها.
المحاور: أخبرنا قليلًا عن «امرأة من روما - La Romana [The Woman of Rome]».
موراڤيا: بدأت «امرأة من روما» قصةً قصيرة إلى أن وصلت الصفحة الثالثة. بدأتها في الأول من تشرين الثاني عام 1945م. كنت قد خططت ألا تمتد لأكثر من ثلاث أو أربع صفحات مطبوعة، تعالج قضية سيدة وابنتها. لكنني، ببساطة، مضيت في الكتابة. بعد أربعة أشهر، في الأول من آذار تمّت المسودة الأولى.
المحاور: لم تكن حالة ذيل الكلب الذي يُطارده؟
موراڤيا: كانت الحالة. مبدئيًا اعتقدت ببساطة أن لدي قصة قصيرة، بعد أربعة أشهر صارت رواية بدلًا من قصة قصيرة.
المحاور: هل كانت هنالك أوقات خرجت فيها الشخصيات من يديكِ؟
موراڤيا: ليس في أي شيء نشرته. حينما تخرج الشخصيات عن السيطرة، فهذه علامة على أن العمل لم ينبثق من إلهام حقيقي، وعليه فالكاتب لا يستمر.
المحاور: هل كتبت من ملاحظات في «امرأة من روما»، هناك شائعة ...
موراڤيا: مطلقًا. لم أكتب قط من ملاحظات. التقيت بسيدة من روما قبل عشر سنوات. ليس لحياتها أي علاقة بالرواية. لكنني تذكّرتها، بدا كأنها أطلقت الشرارة. لا، لم أقم مطلقًا بالكتابة من ملاحظات، إنني لا أمتلك دفترًا حتى. في الواقع، عملي لا يُعد له مسبقًا بأي طريقة. أضف إلى ذلك، أنني حين لا أكتب، لا أفكر في عملي أبدًا. عندما أجلس للكتابة، وهذا بين التاسعة والثانية عشر كل صباح ولم أكتب بالمناسبة سطرًا في الليل أو المساء، حين أجلس على طاولتي للكتابة، لا أعلم ماذا سيحدث حتى أشرع في الكتابة. أثق في الإلهام، الذي يأتي أحيانًا وأحيانًا لا يأتي، لكنني لا أسترخي في انتظاره. أعمل يوميًا.
المحاور: أظن أن زوجتك قدّمت بعض المساعدة لك، الجانب النفسي ...
موراڤيا: لا، أبدًا. بالنسبة للجانب النفسي لشخصياتي، وبالنسبة لكل جانب آخر من العمل، أعتمد كليًّا على خبرتي، أُدرِك، أشعر، لكن لا يكون هذا مطلقًا بطبيعة فيلم وثائقي أو كتاب دراسي. التقيت بسيدة رومانيّة تدعى أدريانا، بعد عشر سنوات كتبت رواية أعطت هي دافعها المبدئي، وعلى الأرجح لم تقرأ السيدةُ الرواية أبدًا. رأيتها مرة فحسب، تخيّلت كل شيء، اخترعت كل شيء.
المحاور: فنتازيا في ثيمة واقعيّة؟
موراڤيا: لا تخلط الخيال بالفنتازيا، إنهما نشاطان عقليان مستقلان. بينيدتو كروز قام بتمييز عظيم بينهما في بعض أفضل أوراقه. كل فنان يجب أن يمتلك خيالًا، بعض الفنانين يمتلكون الفنتازيا. الخيال العلمي، مثلًا أريوستو؛ فنتازيا. أما الخيال، فخذ مدام بوڤاري. فلوبير لديه خيال عظيم، لكن بالتأكيد لا يوجد فيه فنتازيا.
المحاور: إنه لأمر يدعو إلى الاهتمام أن أكثر شخصيّاتك المحبوبة من النساء دائمًا، مثلًا في: «امرأة من روما»، «خيانة زوجة - La Provinciale»، «امرأة من المكسيك - La Messicana» ...
موراڤيا: هذه ليست حقيقة. بعضها قد كانوا رجالًا أو أولادًا، مثل ميشيل في "اللامبالون."، أو أوغستينو في «أوغستينو - Agostino»[5]، أو لوكا في «العصيان - La Disubbidienza»[6]، في الواقع أود أن أقول أن غالبية أبطالي محبوبون.
المحاور: مارسيلو كليرتشي أيضًا؟ «الملتزم – [The Conformist]».
موراڤيا: نعم، كليرتشي أيضًا. ألا تعتقد أنه كذلك؟
المحاور: ليس كما في رواية پراتوليني «بطل من هذا الزمان - Eroe del nostro tempo»[7]، أنت لا تعني أنك تشعر حقًا تجاهه ببعض الإعجاب.
موراڤيا: إعجاب؟ لا، إنما شفقة. إن شخصيته يُرثى لها، يُرثى له لأنه ضحية الظروف، يضلّله الزمن، مُضلّل. لكنّه لم يكن سلبيًّا بالتأكيد. وهنا نحن أقرب إلى الفكرة، ليس لدي شخصيّات سلبيّة، لا أعتقد أن من الممكن أن تكتب رواية جيّدة حول شخصيّة سلبيّة. مع هذا، بالنسبة لبعض شخصيّاتي، قد شعرت تجاهها بالإعجاب.
المحاور: تجاه أدريانا؟
موراڤيا: نعم، تجاه أدريانا، بالتأكيد تجاه أدريانا.
المحاور: العمل دون ملاحظات أو خط أو خطّة، أو أي شيء، لا بد من أنك تقوم بالعديد من المراجعات.
موراڤيا: آه، نعم، أقوم بهذا. كل كتاب يتم العمل عليه مرّات عدّة. أفضّل أن أقارن طريقتي برسّامي القرون الماضية، طريقة مستمرة، كما كانت، من طبقة لأخرى. المسودة الأولى خام خالص، بعيدة جدًا عن الإتقان، بالتأكيد ليست منتهية، مع هذا، حتى حينها في تلك المرحلة، لها تركيبتها النهائية، شكلها مرئي. بعدها أعيد الكتابة مرارًا، أضع طبقاتٍ عدّة، إذا ما شعرت بضرورة هذا.
المحاور: كم عدد المرات الذي تتخذه قاعدة؟
موراڤيا: حسنًا، «امرأة من روما»، كُتبت مرتين، ثم راجعتها مرةً ثالثة، بعناية شديدة، بالتفصيل، حتى وصلت بها إلى ما أريده لها، حتى شعرت بالرضى.
المحاور: إذن؛ مسودتان ثم مراجعة أخيرة، لتصحيح تفاصيل المخطوطة الثانية، هل هي كذلك؟
موراڤيا: نعم.
المحاور: وغالبًا هذه هي، مسودّتان؟
موراڤيا: نعم. لقد كانت ثلاث مرات مع «الملتزم» أيضًا.
المحاور: من الذي تعتبره مؤثرًا فيك؟ على سبيل المثال عندما كتبت «زمن اللامبالاة»؟
موراڤيا: من الصعب قول هذا، ربّما فيما يخص التقنيات السردية، دوستوفيسكي وجويس.
المحاور: جويس؟
موراڤيا: في الحقيقة، لا. دعني أوضّح، تأثرت بجويس فقط للدرجة التي تعلمت منه استخدام عنصر الوقت المرتبط بالحدث. ومن ديستوفسكي فهم تعقيدات الرواية الدراميّة، «الجريمة والعقاب» أثارت لدي اهتمامًا عظيمًا كتقنيّة.
المحاور: وماذا عن تفضيلات أخرى، تأثّرات أخرى؟هل تشعر مثلًا أن واقعيّتك نشأت من الفرنسيين؟
موراڤيا: لا، لن أقول بمثل هذا. إذا ما وُجِد اقتباس مُماثل، فإنني غير مُدرك له إطلاقًا. أعتبر أن طلائعي الأدبيّة، كموزاني، ديستوفسكي، وجويس. بالنسبة للفرنسيين، أُفضِّل في المقام الأول، كتّاب القرن الثامن عشر؛ ڤولتير، ديدروت، ثم ستندال، بلزاك، وموبسان.
المحاور: فلوبير؟
موراڤيا: ليس على وجه التحديد.
المحاور: زولا؟
موراڤيا: إطلاقًا! لدي صداع يشطر الرأس. أعتذر، أرغب المزيد من القهوة. هل تريد بعضها؟
أين كنت؟
المحاور: لا يُعجبك زولا. هل تقرأ لأي من الشعراء؟
موراڤيا: أفضّل رامبو وﭙودلير كثيرًا، وبعض الحداثيين ممن هم مثل ﭙودلير.
المحاور: وفي الإنجليزيّة؟
موراڤيا: أفضّل شكسبير، لا بد من أن كل شخص يقول هذا، لكنها الحقيقة، إنها ضرورة. يعجبني دكنز وﭙو، قبل سنوات عديدة حاولت ترجمة بعض قصائد جون دون. أفضل الروائيين، بوتلر، له رواية جميلة. ومن المتأخرين، توماس هاردي، جوزيف كونراد – أعتقد أنه كاتب عظيم-، وبعض من ستيفنسون، وشيء من فرجيينا وولف. دكنز جيّد فقط في «مذكرات بيكويك - Pickwick Papers»، أما البقيّة فلا. (كتابي القادم سيشبهه قليلًا، لا حكبة.) لقد فضّلت طويلًا الكتب الكوميديّة على التراجيديّة. طموحي الأعظم أن أكتب كتابًا مضحكًا، لكن كما تعرف، إنه العمل الأصعب على الإطلاق. كم موجود من هذه الكتب؟ كم يمكن أن تسمّي؟ ليس الكثير: «دون كيخوت»، رابليه، «أوراق بيكويك»، «الحمار الذهبي - The Golden Ass»، «سونيتات» لبيلي، «النفوس الميّتة - Dead Souls» لغوغول، بوكاتشيو و «ساتيركون - Satyricon»، هذه كتبي المثالية. سأبذل كل ما لدي لأكتب كتابًا مثل «غارغنتوا -Gargantua». (يبتسم). تعليمي الأدبي، كما سترى الآن، أغلبه كلاسيكي، النثر الكلاسيكي والدراما الكلاسيكيّة. الواقعيون والطبيعيون، حتى أكون صريحًا تمامًا، لم يثيروا اهتمامي كثيرًا.
المحاور: لقد أثاروا اهتمام الكتاب الشباب الذين ظهروا منذ الحرب، كما يبدو، ولهم تأثير معتبر عليهم. خاصةً الأمريكيين، يبدو أن لهم التأثير، همنغواي، شتاينبك، دوس باسوس ...
موراڤيا: نعم، هذا صحيح إلى حدٍ ما، استنادًا إلى ما أعرفه من الكتابة الإيطاليّة قبل الحرب. لكن التأثير لم يكن مباشرًا؛ تم تصفيته عبر ڤيتروني، لقد كان ڤيتروني الأعظم تأثيرًا على الجيل الشاب من الكتاب الإيطاليين. التأثير أمريكي، بالضبط كما قلت، لكنه أمريكي على طريقة ڤيتروني. لقد حكّمت مرة في منافسة تقيمها جريدة "L'Unita" لمنح جوائز الأدب القصصي. من خمسين مخطوطة قُدّمت، أكثر من النصف كان بواسطة كتّاب شباب متأثرين بڤيتروني. ڤيتروني والنثر "الشعري" الذي يمكنك أن تجده لدى همنغواي في مواضع، ولدى فولكنر.
المحاور: حتى الآن، بتحريرك في مجلة "Nuovi Argomenti"، لابد من أنك ترى قدرًا عظيما من الكتابة الجديدة.
موراڤيا: كم أتمنى أنني رأيت! الكتاب الإيطاليون كسالى. إجمالًا، أتلقى القليل جدًا. خذ مثلًا حين ندوتنا عن الفن الشيوعي، لقد وُعدنا بخمسة وعشرين مساهمة قيّمة. وكم تحصّلنا عليه؟ تخيّل، ثلاثة! إن إدارة دورية لعمل شاق جدًا في إيطاليا. الذي تحتاجه ولا تحصل عليه، المقالات الأدبية والسياسيّة الطويلة، بطول عشرين إلى ثلاثين صفحة. نتلقى العديد من المقالات الساخرة، بطول أربع وخمس صفحات، وهذا بالذات ليس ما نبحث عنه.
المحاور: لكنني عنيت الأدب القصصي، في تحرير مجلة ""Nuovi Argomenti"، لا بد من أنك تعرف حول الأدب القصصي الإيطالي الحديث أكثر مما تقر به.
موراڤيا: لا، أقولها بصدقٍ بالغ، أعرف فقط هؤلاء الكتاب ممّن يعرفهم الجميع. كما أنه ليس عليك أن تقرأ كل شيء لتعرف ما يعجبك. أفضّل ألّا أسمّي أحدًا، سيكون هنالك فجوات وهفوات مريعة.
المحاور: كيف تفسّر الفراغ الكبير في تقليد الرواية الإيطاليّة؟ أخبرنا قليلًا عن الرواية في إيطاليا.
موراڤيا: هذا سؤال كبير، أليس كذلك؟ لكنني سأحاول الإجابة. أعتقد أن المرء يمكنه القول بحيازة إيطاليا الرواية، في وقتٍ مضى، عندما كانت البرجوازيّة حقيقيّة. في القرنين الثالث والرابع عشر. كان السرد مكتمل التطوّر (تذكر أن كل اللوحات كانت سردية أيضًا.). لكن منذ الإصلاح المضاد لم تعد إيطاليا ترغب النظر إلى نفسها في المرآة. الكتلة الأساسية من الأدب السردي، في المحصلة؛ نقد بشكلٍ أو بآخر. في إيطاليا حين يقولون أن شيئًا جميلٌ فهذه هي الكلمة الأخيرة. يفضّل الإيطاليون الجمال على الحقيقة. يتصل فن الرواية أيضًا بتطوّر ونمو البرجوازية الأوروبية. إيطاليا لم تحقق بعد برجوازية حديثة. تبدو إيطاليا عريقة جدًا، بشكلٍ ما تبدو حديثة لفرط عراقتها. الآن، تتبع ثقافيًا بقية أوروبا، تفعل ما يفعله الآخرون، لكن متأخرةً. أمر آخر، في تاريخنا الأدبي، يوجد كتاب عظماء، جبابرة، لكن لا يوجد متوسّطي الحجم. بترارك كتب في القرن الرابع عشر، ثم لأربعة قرون قام الكل بتقليده. استنزف بوكاتشيو إمكانيات القصة القصيرة الإيطالية استنزافًا كليًا في القرن الرابع عشر. قروننا الذهبية كانت حينها، لغتنا الأدبية وجدت وتبلورت آنذاك. إنجلترا وفرنسا كان لها قرونها الذهبية المتأخرة. خذ على سبيل المثال، دانتي. دانتي كتب بإيطاليّة صافية، لا زالت مفهومة تمامًا. لكن معاصره، تشاوسر، كتب بلسانٍ نامٍ، لا بد من ترجمته اليوم، غالبًا، للقارئ الحديث. هذا السبب وراء كون غالبية الكتاب الإيطاليين الحديثين ليسوا إيطاليين تمامًا، ولا بد من أنهم ينظرون للخارج، لمعلميهم. لأن أعرافهم بعيدة جدًا، تعود حقًا إلى العصور الوسطى. في السنوات العشر الأخيرة، نظروا إلى أمريكا بحثًا عن معلمين.
المحاور: هلّا أخبرتنا الآن شيئًا عن مجموعتك القصصية «حكايات من روما - Racconti romani»؟
موراڤيا: ليس لدي الكثير لأقوله عنها، إنها تصف الطبقة الدنيا وطبقة البرجوازية الصغيرة في روما، خلال فترة معينة بعد الحرب.
المحاور: هل هذا كل شيء؟
موراڤيا: ماذا يمكنني أن أضيف؟ حسنًا، لا. حقيقةً يوجد بعض ما يمكنني قوله، دائمًا يوجد الكثير لأقوله عن إصداري الأخير. اسألني وسأحاول أن أجيب مهما سألت.
المحاور: لأكون صادقًا، قرأت واحدةً منها، لا أطالع جريدة "corriere della sera" عادةً، والكتاب ذاته باهظ الثمن.
موراڤيا: ألفان وأربع مائة ليرة.
المحاور: على أيّة حال، قبل الآن، أو على الأقل عادة، لم تتعاطى مع الطبقة الدنيا والبرجوازية الصغيرة، هذه القصص نقلة واضحة عن أعمالك السابقة. ربما تقول شيئًا عن أي مشكلة معيّنة واجهتها أثناء الكتابة.
موراڤيا: كل كتاب من كتبي، يعتبر نتيجة إن لم يكن لتصميم مسبق فلفكرة عالية التعقيد. أثناء كتابة «حكايات من روما» كانت هنالك مشكلات معيّنة وجب علي التعامل معها، مشكلات تتعلق باللغة. دعني أبدأ هكذا: كتبت كل أعمال، قبل «حكايات من روما»، بضمير الغائب، حتى وإن أُخبرت بضمير المتحدث كما في «امرأة من روما» وما بعدها، في الرواية التي أنهيتها مؤخرًا. أعني بضمير الغائب، التعبير عن الشخصيّة بأسلوب أدبي متواصل، أسلوب الكاتب ببساطة. وقد شرحت هذا بالمناسبة في ملاحظة طبعة بنغوين لكتاب «امرأة من روما». من جهةٍ أخرى، تبنّيت في "حكايات من روما." للمرة الأولى لغة الشخصيّة، لغة المتحدث، لكن مرة أخرى، ليست اللغة بالذات وإنما نبرة اللغة. يوجد مزايا ومساوئ في اتخاذ هذا المسلك. المزايا بالنسبة للقارئ، أن قُدِّمت له ألفة أعظم، دخل مباشرةً إلى قلب الأشياء، لم يقف خارجًا ويتلصص على الداخل. الطريقة كانت تصويرية بشكل أساسي. سيئة الكتابة بضمير المتكلم العظيمة، أنها تتضمن قيود ضخمة مفروضة على ما يمكن للكاتب قوله. يمكنني التعاطي فقط مع ما يمكن للشخصيّة نفسها التعامل معه، أتحدّث فقط بما قد تتحدث به الشخصيّة. لقد كنت محاصرًا لنقل، بحقيقة أن سائق الأجرة لا يمتلك أي معرفة حقيقيّة حتى بشغل عاملة الغسيل. بينما بواسطة ضمير الغائب، يمكنني التحدث عن أي شيء في روما، عن ما يمكنني أنا ذاتي، كروماني أيضًا، التحدث عنه. استخدام أسلوب المتكلم في معالجة الطبقات الدنيا في روما، أدى بالطبع إلى استخدام اللهجة، باستخدام اللهجة تُفرض قيود شديدة على مادة الكاتب. لا يمكنك باستخدام اللهجة أن تقول كل ما قد تقوله باستخدام اللغة نفسها. حتى بيلي، معلم الرومان، يمكنه أن يتحدث عن أشياء معينة، لكنه ممنوع من الحديث عن أخرى. الخيارات التعبيرية بالنسبة للطبقة الدنيا محدودة للغاية، وشخصيًا لستُ ميّالًا إلى أدب اللهجة بشكل خاص. اللهجة شكل تعبير بدائي، لأنها أقل تثقّفًا. لها جوانبها المذهلة، لكن تظل أكثر وعورةً وأقل كمالًا من اللغة ذاتها. باستخدام اللهجة، يعبّر الإنسان بشكل رئيسي، وجيد جدًا، عن الرغبات البدائيّة والضرورات الملحة؛ الأكل، النوم، الشرب، المضاجعة وما إلى ذلك.
في مجلد «حكايات من روما» واحدة وستين قصة، بالرغم من أنني كتبت أكثر من مائة منها حتى الآن، إنها مصدر دخلي الرئيسي. اللغة المُتَحَدَّثة هي الإيطاليّة، لكن بنيتها متفاوتة، يوجد هنا وهناك  كلمة عرضيّة باللهجة تصوّر تفصيلًا دقيقًا رائجًا، مذاق وفكاهة الرومان. إنه الكتاب الوحيد الذي قد حاولت فيه خلق شخصيات وقصص كوميديّة، في وقت يعتقد فيه الجميع أنه ليس لدي حس الفكاهة. لقد حاولت في هذه القصص كما أسلفت، تصوير حياة المعدمين والبرجوازيين الصغار، في فترة تلي الحرب الأخيرة مباشرةً، مع السوق السوداء وما تبقى. نوعه: أدب صعلوكي - Picaresque. الصعلوك شخصيّة تعيش ككائن اقتصادي على وجه الحصر، النسخة الماركسيّة، في أن همّه الأول بطنه؛ الأكل. ليس لديه الحب، الحب الشاعري الأصيل،وفوق كل شيء لديه الحقيقة الوحيدة المطلقة بأنه إما يأكل أو يموت. لهذا السبب، الصعلوك كائن قاحل أيضًا. حياته نوع من الخداع والاحتيال والغش، إذا ما أردت. حياة المشاعر واللغة الشاعريّة تبدأ حين مستوى أكثر تقدمًا من هذا.  
المحاور: تتكرّر الثيمات بطريقتها خلال عملك.
موراڤيا: بالتأكيد. طبيعي. في أعمال كل كاتب، في أي عمل يظهر جهده، ستجد ثيمات متكررّة. أطالع الرواية، رواية واحدة كإنتاج الكاتب برمته. مثل التأليف الموسيقي حيث النغمات هي الثيمات، من تنوّع لآخر، يكتمل القطع كله. تمامًا بالنسبة لثيمات الأعمال. هذا التشبيه بالتأليف الموسيقي يخطر للبال، أعتقد، بسبب منهجي تجاه مادّتي، إنها لا تُعد أو تصمم من قبل، إطلاقًا. إنما فطريّة: تُصنع بالسمع، كما هي.
المحاور: كتاب أخير، فلا يمكننا مناقشة كل كتبك. لكن هل ستخبرنا شيئًا عن «الحفلة التنكّريّة»؟ وكيف عاملها المراقبون؟
موراڤيا: آه، الآن ذكرتها. كان هذا في إحدى المرات عندما كنت مهتمًا بكتابة نقد اجتماعي، المرة الوحيدة على أيّةِ حال، في عام 1936م. ذهبت إلى المكسيك، ولمّح لي المشهد في أمريكا الإسبانية بفكرة للسخرية. عدت، ولسنوات عدّة شُغلت بالفكرة. ثم في عام 1940م. ذهبت إلى كاﭙري وكتبتها. أنت سألتني عن المراقبين، الذي حدث بعد ذلك قصة مدهشة، على الأقل تبدو مدهشة الآن. كان 1940م.، في عز تدفق الحرب، الفاشية والرقابة، إلى آخرهِ .. إلى آخرهِ. عندما تجهز المخطوطة، مثل كل المخطوطات، يجب أن تُقدّم لوزارة الثقافة الشعبيّة من أجل أن تجيزها. هذه الوزارة، دعني أوضِّح لك، كانت مُكتسحة بواسطة معلمي المرحلة الابتدائية، يحصلون على ثلاثمائة ليرة على كل كتابٍ يقرأون، تقريبًا تعادل ستة أو سبعة آلاف اليوم. وبالتالي، للمحافظة على مناصبهم، فإنهم قد تبنّوا أحكامًا سلبية كلّما أمكنهم ذلك. حسنًا، قدّمت مخطوطتي، لكن من قرأها لم يرغب باتخاذ موقف من الكتاب، فمرّره لوكيل الوزارة، الذي بهواجسٍ مشابهة مرره إلى السكرتير، ثم السكرتير للوزير، والوزير أخيرًا إلى موسيليني.
المحاور: أظن حينها أنك استُدعيت على السجادة.
موراڤيا: إطلاقًا، موسيليني أمر بنشر الكتاب.
المحاور: أوه!
موراڤيا: ونُشر الكتاب. ثم بعد شهر، على كل حال، تلقيت رسالة غير موقعّة تبلغني أن الكتاب سُحب. وهذا كل شيء. لم يظهر الكتاب مجدّدًا إلا بعد التحرير.
المحاور: هل كانت هذه مواجهتك الوحيدة مع المراقبين؟
موراڤيا: أوه، لا. ليس على أيّةِ حال. كنت معارضًا دائمًا للفاشية. كانت المعركة بيني وبين السلطات الفاشيّة مستمرةـ بدأت من عام 29 وانتهت مع الغزو الألماني عام 1943م.، كان علي حينها أن أذهب للاختباء في الجبال القريبة من الجبهة الجنوبية، حيث انتظرت تسعة أشهر حتى وصل الحلفاء. مجدّدًا أصبح من غير المسموح الإشارة إلى كتبي في الصحافة. لمرات عديدة، خسرت بأمر من وزارة الثقافة وظائف قد شغلتها في الجرائد، ولسنوات أُجبرت على الكتابة تحت اسم مستعار: ﭙساودو. الرقابة شيء قبيح! وحين تتّخذ جذرًا تصبح نبتة ملعونة وقحة. وزارة الثقافة كانت آخر من أغلق أبوابه. أرسلت «أوغستينو» إليهم، قبل سقوط الفاشيّة بشهرين، قبل النهاية بشهرين. بينما كل شيءٍ حولهم كان يُسقط، يقع منهارًا، وزارة الثقافة الشعبية كانت تقوم بعملها كالعادة. لم يبد أن الموافقة وشيكة، لذلك ذهبت إليهم أحد الأيام في ڤيا ڤينتو، تعرف المكان فلا يزالوا هناك. بالمناسبة؛ أعرفهم كلهم! ذهبت لأرى المشكلة، أخبروني أنهم يخشون ألّا يتمكنوا من إجازة الكتاب. كانت إضبارتي مفتوحة على الطاولة، وحين ترك السكرتير الغرفة للحظة، ألقيت عليها نظرة. كانت فيها رسالة من الملحق الثقافي البرازيلي، أحد الشعراء يخبر الوزير أنهم يعتبرونني مخرّبًا في البرازيل. في البرازيل من دون كل الأمكنة! لكن الرسالة، هذه الوحيدة، كانت كافية لمنع إصدار الكتاب. مرةً أخرى أيضًا من أجل «دولاب الحظ Le Ambizioni sbagliate  [The Wheel of Fortune ] - »، عندما ذهبت إليهم، وجدت المخطوطة مبعثرة في المكان، وعلى مكاتب عدّة يقرأ عدد من الأشخاص أجزاءً منها. الرقابة وحشيّة، شيء وحشي. يمكنني أن أخبرك عنها كل ما تود معرفته. على أيّةِ حال، عندما بدؤوا كانوا أكثر تحرّرًا. مع الوقت ساء أمرهم. إضافةً إلى ملء الوزارة بمعلمي الابتدائية الجبناء، كان المراقبون أيضًا إما بيروقراطيون أو كتاب فاشلون، ولتغيثك الجنة إذا ما وقع كتابك في يد أحد هؤلاء الكتّاب.
المحاور: وكيف هي الحال بالنسبة لكاتب اليوم؟ تقول بأن المراقبين "لا زالوا هنا.".
موراڤيا: ليس لدى الكاتب ما يخافه، يمكنه أن ينشر ما يريد، أولئك في المسرح والسينما هم سيئي الحال.
المحاور: ماذا عن دليل الكتب المحرّمة؟
موراڤيا: الدليل ليس رقابة حقيقيّة، على الأقل في إيطاليا. الڤاتيكان شيء وإيطاليا شيء آخر، ولايتان مستقلتان. إذا ما جاء إلى السلطة، أو كانت له سلطة مثل سلطته في إسبانيا وإيرلندا، سيكون الوضع حرجًا جدًا.
المحاور: مهما يكن، قد يخطر لأحدهم بأن احتجاجك يوم أُدرجت في الدليل لاعتبارك الأمر تحجيم لحريتك ككاتب.
موراڤيا: لا. لم يكن لهذا السبب. كنت منزعجًا بالتأكيد، لكن في المقام الأول نفرت من الفضيحة.
المحاور: مهما كانت القضية، لا بد من أنها تسببت في زيادة مبيعاتك. أذكره أن بومـﭙاني حينها بدأت بجلب مجموعة أعمالك في طبعات فاخرة.
موراڤيا: لا. في إيطاليا الدليل لا يؤثر على مبيعات أحدهم بشكلٍ أو بآخر. لطالما بيعت أعمالي جيدًا، ولم يكن هنالك أي ارتفاع ملحوظ في المبيعات بعد قضية الدليل.
المحاور: ألا ترى إمكانية سقوط إيطاليا في عهد شمولي جديد؟
موراڤيا: توجد إمكانيّة، لكنها بعيدة جدًا. إذا ما صرنا تحت سلطة شمولية جديدة، أؤمن الآن أن الكتاب لن يجدوا ملاذًا لائقًا، سيعتزلون الكتابة برمتها.
المحاور: بالمناسبة، ما هي رؤيتك لمستقبل الرواية؟
موراڤيا: حسنًا، الرواية كما عرفناها في القرن التاسع عشر اُغتيلت من قِبل ﭙروست وجويس. كانا آخر كتّاب القرن التاسع عشر، الكتّاب العظماء. يبدو أننا الآن متجهين إلى الرواية الوثائقيّة أو رواية الفكرة - roman à idée ، إما رواية الأفكار أو الأخرى رواية الحياة كما تجري، دون شخصيات تتطوّر، دون جانب نفسي. إنه من الجلي أيضًا أن الرواية الجيّدة قد تكون من أي نوع، لكن النوعين الشائعين اليوم هما: الرواية المقاليّة، والرواية الوثائقية أو رواية التجربة الشخصيّة؛ شيءٌ ما يحدث- quelque chose qui arrive. في وقتنا الحالي، اتّخذت الحياة مسلكين؛ الجمهور والمثقفون. يوم الجمهور حدث فحسب، يوم المثقفون فلسفة فحسب. لا يوجد بورجوازية الآن، فقط جمهور ومثقفون.
المحاور: ماذا عن "الأدب كفضيحة" الذي يشغل الفرنسيين؟
موراڤيا: أوه! لثلاثين سنة حتى الآن قد روّعوا بعضهم.
المحاور: هل ترى اتجاهًا جديدًا في أعمالك؟
موراڤيا: سأواصل كتابة الروايات والقصص القصيرة.
المحاور: ألا تتوقع وقتًا في قادم الأيام تشغل فيه صباحاتك على نحوٍ مغاير؟
موراڤيا: لا أتوقع وقتًا أشعر فيه أن لا شيء لدي لأقوله.

•         الكونت أمبرتو مورا دي لاڤيرانو، ناقد أدبي، مؤرّخ، مترجم، مسؤول عن تقديم أعمال ڤيرجينيا وولف إلى إيطاليا. الآن مدير لمنظمة  "Società Italiana Organizzazione Internazionale.".

[1] ثالث أعمال موراڤيا، كتبه عام 1930م. ليست له ترجمة عربيّة.
[2] حركة أدبيّة إيطالية ظهرت قبل الحرب العالميّة الأولى بقليل ولم تدم طويلًا حيث تلاشت بحلول 1919م. تعتمد على قطع النثر الدراماتيكي القصيرة والصور المجتزأة. المقابل العربي هنا اجتهاد شخصي.
[3] لم يُترجم العمل للعربية.
[4] لم تُترجم للعربية.
[5] تُرجم العمل إلى العربية بعنوان: «غسطينو، مأساة المراهقة» من قِبل المترجم جورج مصروعة وعن دار نشر المكشوف، عام 1963م. ثم تُرجم عام 1973م. ضمن سلسلة الكتاب الذهبي الصادر عن مؤسسة روز اليوسف، في كتاب بعنوان «المراهقان» تضمّنها بالإضافة إلى «العصيان»، تمت الترجمة بواسطة المترجم زغلول فهمي.
[6] تُرجم العمل إلى العربية بعنوان «العصيان» عن دار الجيل للنشر والطباعة والتوزيع، ولم أجد معلومات عن هذه النسخة. كما تُرجمت ضمن «المراهقان».
[7] كتب الروائي الإيطالي ڤـاسكو پراتوليني هذه الرواية عام 1947م.، أي بعد رواية ميخائيل ليرمنتوڤ التي تحمل العنوان ذاته، ولم تُترجم إلى العربيّة.

نشرت هذه المقابلة في مجلّة «ذا ﭙاريس ريڤيو»، صيف 1954م.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟