أثر العلم والتكنولوجيا على الثقافات وآليات التأثير* ـ جون لادريير ـ ترجمة د.يوسف تيبس

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

culture-technoتقديم
لقد اتخذ كل من العلم والتكنولوجيا مكانة مهمة في المجتمعات المعاصرة، فامتد تأثيرهما إلى كل مجالاتها ومستوياتها الظاهرة والخفية؛ وبذلك أصبحا يمثلان تحدياً لكل أنساق الثقافة، بل للإنسان ذاته من حيث هو وجود وأخلاق وجمالية.  وعليه، فهما يقدمان قيماً جديدة تحدد الوجود الاجتماعي والثقافي والتاريخي للإنسان.
لفهم هذه الصيرورة وآليات فعلها يسعى جون لادريير (من خلال الكتاب الذي اقتطفنا منه هذا النص) الإجابة عن سؤالين أساسيين: أولاً، ما هي العلاقات الممكنة بين المعرفة العلمية والتكنولوجيا الناتجة عنها؟ وثانياً، ما هي آثار كل من العلم والتكنولوجيا على الثقافات عامة وعلى الأخلاق (القيم الدينية، والاجتماعية، والإنسانية) والجماليات (الشعور، والذوق، وأشكال الفن) خاصة؟ وهي الآثار التي يختصرها في فعلي التفكيك وإعادة البناء.
لقد تركنا بين قوسين، إلى حد الآن، التفاعلات ما بين العلم والتكنولوجيا من جهة، وباقي مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية من جهة أخرى، وقد حان الوقت للاهتمام بهذه التفاعلات، بحيث نعيد وضع العلم والتكنولوجيا في السياق والأكثر اتساعاً، والذي ينتمي إليه تطورهما، سنعنى بالخصوص في هذه الدراسة، بالتفاعلات مع الثقافة، ولكن وجب تدقيق أي معنى نقصده بهذا اللفظ.

من الممكن أن نفهم لفظ الثقافة بمعناه الأوسع، الذي تعطيه إياه الأنثروبولوجيا الثقافية: يتعلق الأمر إذن بمجموع المؤسسات؛ سواء في طابعها الوظيفي أو المعياري، التي من خلالها، تعبر عن نفسها الكلية الاجتماعية، والتي تمثل بالنسبة للأفراد المنتمين لهذه الكلية، الإطار الضروري الذي يشكل شخصيتهم، ويحدد لهم إمكانياتهم ويخط لهم، بطريقة ما وقبلياً، خطاطة الحياة التي من الممكن أن يندمج فيها وجودهم العياني، والذي يمكن عبره أن تتشكل فعلياً.  ليست الثقافة، من هذا المنظور سوى المجتمع ذاته، باعتباره واقعاً موضوعياً.  يفرض على الأفراد، الذي يشكلون أجزاءه، نمطاً من الوجود.  ومن البديهي أن تكون أنساق المعرفة والأنساق التكنولوجية أجزاءً من الثقافة بهذا المعنى.  كما أن المؤسسات ذات الطابع السياسي والاقتصادي هي جزء منها كذلك.  فضلاً عن هذا يمكن فهم لفظ الثقافة بمعنى ضيق أكثر، بحيث يدل على مجموع العلوم التي تمكن الفرد، ضمن مجتمع معين، من بلوغ درجة من تطوير حساسيته، وحسه النقدي، وملكاته المعرفية، وقدراته الإبداعية، باختصار، يبلغ درجة من النمو في شخصيته.  ويمكن اعتبار العلم وبعض أوجه التكنولوجيا جزءاً كذلك من الثقافة بهذا المعنى، بيد أن الأمر لم يعد يتعلق، هذه المرة، سوى بمجال جد خاص من الحياة الاجتماعية.

ولتوضيح الإشكالية التي تشغلنا، علينا في الموضع أن نميز بين مجال المؤسسات ومجال القيم.  وسيكون تأملنا في الحياة الاجتماعية من منظور القيم خاصة.  (بالطبع لا يهدف التمييز المقترح عزل القيم عن المؤسسات، فالقيم هي التي تؤسس الطابع المعياري للمؤسسات.  ومن ثم ليس لها وجود عياني إلا في التفاعلات الفعلية التي تشكل حياة المؤسسات)، كما أننا سنعنى بالثقافة من منظور القيم قبل كل شيء.  بيد أنه يجب أن نأخذ في الاعتبار التعالق المتبادل بين جميع المظاهر الاجتماعية، ووضع القيم ذاتها في علاقتها بمكونات الحياة الاجتماعية الأخرى.  دون شك، هناك سبل عدة لعرض تمفصل الوظائف المختلفة أو تمفصل مجالات التطبيق المختلفة، التي تنتمي إلى كلية اجتماعية.  ومن دون أن ندخل هنا في نقاش معمق حول أفضل سبيل لفهم التمفصل، سنكتفي باقتراح تقسيم بسيط إلى ثلاثة مكونات، تستجيب لمتطلبات التحليلي: المكون السياسي، والمكون الاقتصادي، والمكون الثقافي.  ويتشكل المكون السياسي من أنساق السلطة، أو من الأنساق التي تمكن مجتمعاً ما من أخذ قرارات تلزمها فعلياً، التي من خلالها يرسم قدرها التاريخي ويتشكل المكون الاقتصادي من أنساق الإنتاج التي بفضلها يسعى المجتمع إلى حل مشكلة البقاء، وذلك بتوفير الخيرات والخدمات الضرورية لأفراده، من أجل حفظ وجودهم البيولوجي، وتفاعلهم المتبادل، ومشاركتهم في الحياة الجماعية (ومن بينها أشكالها الأكثر تجريداً، والمتعلقة مثلاً بالبحث العلمي، والسلوكات الرمزية).  وأخيراً يتشكل المكون الثقافي من الأنساق التي تؤمن عمل ما يمكن أن نسميه بالطابع المعلوماتي للحياة الاجتماعية، بعبارة أخرى، التي تكون ركيزة لحياة الدلالات.  وفيها يمكن أن نميز بالأساس القيم، والقواعد، وأنساق التمثلات و"الفنون" المختلفة (بالمعنى الواسع أي "المهارة" التي تتطلب كفاءة خاصة).  والأنساق التعبيرية والأنساق الرمزية.

بإمكاننا أن نكيف لغة نظرية الأنساق، فنعتبر المجتمع الكلي نسقاً كبيراً مكونات من ثلاثة أنساق جزئية أساسية، تنحل هي كذلك إلى أنساق جزئية متخصصة.  وكل هذه الأنساق تتكون أساساً من خطاطات، ثابتة إلى حد ما، (على الأقل إذا رهنا أنفسنا بمرحلة ما)، السلوك أو التفاعل بين الأفراد.  لكن وجب أن نعتبر، خلال تحليل الحياة الاجتماعية، الأجهزة الموضوعية التي يحتاج مجتمع ما من أجل توفير ركيزة عينية للتفاعلات التي تكونها.  بمقدورنا أن نرتب ضمن هذه الأجهزة، إذا وسعنا نظرنا، ليس فقط الأدوات والآلات، والإنشاءات، التي سيخدمها النشاط الاقتصادي (وجزئياً النشاط السياسي كذلك).  بل كذلك "الأدوات النفسية" مثل اللغة، والأنساق المنطقية والرياضية، وبشكل عام، كل النظريات التي يتم في إطارها اكتساب المعارف وتطورها.

ينتمي العلم والتكنولوجيا، بمعنى ما، إلى النسق الثقافي، كما عرضنا أعلاه، العلم باعتباره نسقاً من المعارف التي تستجيب لمعايير خاصة من العقلانية النقدية، والتكنولوجيا باعتبارها مجموعة من "الفنون" تعمل كركيزة لكل من الأنشطة الاقتصادية والتواصلية الخاصة بالمكون الثقافي نفسه [...] يمكن بحق أن نعتبر العلم والتكنولوجيا، في حالتهما الراهنة، مكونين لبنية فوقية، مستقلة إلى حد كبير، وواقع موضوعي يمتلك حياته الخاصة، في استقلال عن الحياة الاجتماعية، التي تعمل على مؤازرته.  ومن هذا المنظور، وجب بالأحرى اعتبار العلم والتكنولوجيا أجزاءً من مجال الأجهزة الموضوعية، وليس جزءاً من أحد المكونات المميزة للحياة الاجتماعية نفسها [...] من الممكن إذن أن نعرض المشكل بوضوح كبير كالآتي: إذا كان النسق يشمل ويتكون من العلم والتكنولوجيا من جهة، وإذا كان النسق الثقافي، من جهة أخرى، هو نفسه جزء من نسق اجتماعي معين، فبأي آليات يمارس الأول تأثيراً، يكون بالفعل حاسماً، على الثاني؟

لكي يتمكن العلم والتكنولوجيا من ممارسة تشويش على النسق الاجتماعي، وجب أن تكون ممثلة عينياً بطريقة ما داخل هذا النسق.  وهي كذلك فعلاً من خلال بعض المجموعات التي تنتظم من أجل إنماء البحث العلمي والتكنولوجي، التي تنخرط، باعتبارها جماعات ممأسسة، بصفات متنوعة، ضمن المكونات الثلاثة التي يتمفصل إليها النسق الاجتماعي وفقاً للخطاطة التي اقترحنا أعلاه.  فإذا كان العلم، في بداياته، أمراً يخص بعض الأفراد المنعزلين أو جماعات منغلقة كالأكاديميات، فقد أضحى مؤخراً ظاهرة اجتماعية أصيلة، ذات أهمية كبرى، تمثل جزءاً لا بأس به من الشغل الجماعي.  لقد أصبح البحث احترافياً.  تقوده مجموعات، لأن تقسيم العمل ترسخ في هذا المجال كما ترسخ في مجال الإنتاج، ووجود منظمة، ضروري لتجميع المهام حول مشروع موحد، والحال أن نشاط البحث يتطور، بشكل عام، حول مشروع محدد.  وتحقيق مثل هذا المشروع قد يتطلب سنوات عدة من العمل، لأنه يتطلب تضافر الجهود وتوزيعاً للمهام وفقاً للزمن.  يجب إذن توفير دعم مؤسساتي قادر على تجميع، خلال الزمن المرغوب، التعاونات الضرورية، وكذلك تحريك الموارد المادية الأساسية (مثلاً على شكل أجهزة).  وفي مستوى أعلى، تتكتل المجوعات ذاتها في وحدات أكبر (أو تحدث من طرف وحدات أكبر)، تشكل ما نسميه عامة بمراكز البحث التي تنصب لا على مشروع محدد، بل على علم محدود إلى حد ما، وأحياناً يكون علوماً عدة.  وهذه المراكز غالبا ما تكون متآلفة في إطار أكبر، من قبيل الجامعة (حيث يرتبط البحث، بشكل محتشم، بالتعليم على مستوى التكوين المهني المختصص ومستوى تكوين الباحثين الشباب معاً).  أو من قبيل المختبر (يفهم هذا اللفظ هنا بمعنى واسع يدل على مؤسسة البحث ذات أهمية كبرى، وتتميز عن الجامعة من حيث أن التعليم يحتل فيها مكانة هامشية).  وأخيراً وفي مستوى أعلى كذلك، يمثل البحث العلمي موضوعاً، في الدول الحديثة، لتنظيم شامل، على شكل مؤسسات مملوكة مثل المراكز الوطنية للبحث، وأكاديميات العلوم، وأجهزة الدولة للسياسة العلمية وهي المؤسسات ذاتها التي تتعلق مباشرة بوزارة مكلفة بتدبير البحث العلمي.  يجب أن نأخذ في الاعتبار، بجانب مؤسسات البحث بالمعنى الحقيقي، الجمعيات المختلفة، حيث يتجمع رجالات علم معين، أو مجموعة من العلوم، سواء وطنياً أم دولياً، الذين يسعون إما إلى دعم تطور العلوم المعنية (عبر التبادلات الشخصية، وتنظيم مؤتمرات، ونشر مجلات متخصصة) أو إلى تحسين المصالح المهنية للباحثين (مثال نقابات الباحثين)، أو كذلك إعطاء دعم جماعي للتعبير عن المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية للعلماء.  وانطلاقاً من كل هذه البنية التحتية التنظيمية للبحث يمكن الحديث حقاً، في المجتمعات الحديثة، عن "إنتاج" للمعارف العلمية، بمعنى إنتاج الخيرات والخدمات نفسه في المجال الاقتصادي.

فيما يتعلق بالتكنولوجيا، دون شك وجب التمييز بين ما يرتبط بالبحث عن أساليب جديدة وما يرتبط باستعمال الأساليب المعروفة، سواء في شكل تحقيق مشاريع فردية (من قبيل إنشاء مفاعل نووي)، أو في شكل إنتاج عدد كبير (مثل إنتاج الآلات الحاسبة الصغيرة).  فما يتعلق بالاستعمال يرجع، في جزء كبير منه، إلى المكون الاقتصادي؛ وعملياً فإن المؤسسات التي تدعم النشاط الاقتصادي، أي المقاولات، هي التي توفر الإطار التنظيمي الضروري.  لكن عندما يتعلق الأمر بالمشاريع الكبرى، التي تعتبر ذات أهمية وطنية أو أن مداها يتجاوز إمكانات المقاولات، أو أن طابعها "المجاني" يكون خارج اهتماماتها، فإننا نلحظ تكون وكالات متخصصة محدثة مباشرة من طرف الدولة، بحيث تسيرها فعلياً أو، على الأقل، تراقبها، مهمتها بالضبط هي تأمين اشتغال التكنولوجيا المناسبة استجابة للأهداف المسطرة.  يمكن أن نقصد هنا تنظيم الرحلات الفضائية، أو التجهيزات الطاقية، ودون شك علينا تصنيف، ضمن هذا النوع من المنظمات، كل ما يرتبط باستعمال التكنولوجيات ذات أهداف عسكرية.  فضلاً عن ذلك، يتم البحث التكنولوجي كذلك ضمن أطر مؤسساتية، سواء خاصة أم تتعلق بمهام لآخر: جزء من هذا البحث، وهو الأقرب للبحث العلمي بالمعنى الخاص، يتم (تحت اسم البحث التطبيقي) في وحدات ذات منحى علمي بالأساس.  وجزء آخر في إطار المقاولات أو الوكالات المتخصصة للدولة، وأخيراً جزء في المختبرات المتخصصة، الموجهة خاصة نحو حل المشاكل التكنولوجية لنوع معين.  يمكن أن نسوق مثال المختبرات التي يتم فيها تدجين طاقة التحام النواة الذرية.  علينا أن نقر إذن بأن هذا النوع من البحث يوجد حقاً في تخوم البحث العلمي الخالص والبحث التكنولوجي بمعناه الخاص.  على أي حال، إن النشاط التكنولوجي، مثله مثل النشاط العلمي، تتحمله مجوعات ومنظمات خاصة.

وبواسطة هذه المجموعات وهذه المنظمات بالضبط تتم التفاعلات بين نسق العلم والتكنولوجيا وبين المكونات الثلاثة للنسق الاجتماعي.  وقد يكون التفاعل الأكثر بياناً هو ذلك الذي يحدث مع المكون الاقتصادي.  وكما أشرنا إلى ذلك، فإن الموارد التكنولوجية تستعمل، في جزء كبير منها، في إطار الوحدات الاقتصادية أي المقاولات.  وفي الإطار نفسه كذلك ينجز جزء مهم جداً (دون شك مرجح في مستوى المشاريع القابل للتطبيق الأكثر قرباً) من البحث التكنولوجي.  وحيث أن التكنولوجيا الحديثة مرتبطة بالعلم أيما ارتباط، فإن كل ما يمكن قوله عن التكنولوجيا ينطبق كذلك على العلم، على الأقل بالنسبة لهذا الجزء من العلم الذي له تأثير مباشرة على التقدم التكنولوجي.  (أكيد أنه يصعب الجزم قبلياً، كما أشرنا إلى ذلك بأن هذا الجزء أو ذاك من المعرفة العلمية ليس قابلاً لإنتاج تطبيقات في يوم ما.  لكن هذا لا يمنع الإمكان الدائم للتمييز بين مجالات تكون علاقتها مع التطبيقات الفعلية أمراً إشكالياً جداً وغير محتمل، ومجالات تكون التطبيقات فيها جد مباشرة، أو على الأقل محتملة.  وهكذا يبدو أن بعض التطورات لنظرية العدد أو النسبية العامة، بعيدة جداً عن الاستعمال العملي.  في حين أن علماً جد مجرد كنظرية اللوغاريتم (algorithmes) له أثر جد مباشر على البحث التكنولوجي، لأنه يمنح الإطار المنطقي الذي يسمح بصناعة الآلات الحاسبة الكبرى وتحليل اشتغالها وطريقته).

إن التفاعل يتم طبعاً في كلا الاتجاهين من جهة، عندما تظهر تكنولوجيا يبدو أنها قادرة على تلبية "حاجة" كامنة (اصطناعية إلى حد ما، لم يتم التعبير عنها بعد فعلياً، ولكن من الممكن إظهارها وتحقيقها)، نلاحظ خلق مبادرات ذات طابع اقتصادي لترجمة هذه التكنولوجيا إلى أشياء قابلة للاستهلاك أو خدمات من نوع ما.  فإذا لبت هذه الأشياء أو الخدمات طلباً يمكن تحركه بسهولة (أو يستجيب بشكل أفضل من الماضي لطلب كان موجوداً بشكل بين)، من الممكن أن يجدوا بسهولة مقتنين، وإنتاجها لن يضع أي مشكل شائك فعلاً من الناحية الاقتصادية: وبذلك، يمكن القول إن اختراع المحرك الانفجاري قد مكّن من إنتاج السيارات بقدر كبير، التي لم تكن إطلاقاً ضرورية للحياة، ولكنها لبت حاجة كامنة إلى التنقل السريع والفردي، كان ظهور الآلات وحده كافياً لإبرازها.  لقد وجد مشكل التنقل بالآلة منذ القدم؛ لكن المحرك الانفجاري منحه حلاً أنيقاً وفعالاً بشكل خاص.  فإذا كانت الحاجة ليست موجودة إلا بأسلوب افتراضي، أو لا ترتبط بالخيرات أو الخدمات المقدمة إلا بطريقة غير مباشرة، وجب انتظار الكثير من الوقت، وجهود لا بأس بها لتحويلها إلى مطلب حقيقي، ومتكتل بشكل كافٍ، فكل مطلب يستجيب لحافز، وكل حافز يرتبط في النهاية، ولو بطريقة غير مباشرة، بمطلب عميق، غير مصاغ وغير محدد، قابل لأن يتحول إلى أساليب متنوعة من التحيين.  ولخلق حاجة جديدة، وجب إيجاد سبيل لربط مطلب سطحي، جد خاص، بمطلب عميق معمم (الذي يمثل حاجة افتراضية أو بالأحرى إرهاصاً لحاجيات افتراضية).  وهذه بالضبط إحدى مهام المقاولات، وبخاصة في جانبها الاقتصادي؛ أي من حيث أنها تهتم بترويج منتوجاتها، عوض إحداق حاجيات خاصة وظاهرة تناسب ما لديهم للعرض: وهكذا يمكن القول إن آلة غسل الأطباق الآلية لا تناسب حاجة جد لحظية.  لكن من السهل، وبخاصة في سياق يكون فيه الأفراد مطالبين بإنجاز أعمال متعددة، ويظنون دائماً أن وقتهم ضيق، إيجاد علاقة بين مثل هذه الآلة وميل، قد يكون جد عميق لدى الكائن الإنساني، إلى عدم تبديد الجهود، دون جدوى؛ أو بعبارة أدق، تحويل أقصى طاقة متوفرة إلى استهلاك مجاني خالص أو لعبي.  بلغة أكثر بساطة، يمكن القول إن أغلب الأفراد يقنعون أنفسهم بسهولة بالتخلص من مهام نسبياً مملة من أجل التمتع بحرية أكثر بوقتهم وبمواردهم، وإن كانوا يستغلونه بشكل سيئ، ويوهمون أنفسهم باستعماله على أحسن وجه.  إن خلق المطلب الفعلي يتحقق في جزء منه من خلال الإشهار.  ولا عجب إذا رأينا أن دوره يتنامى كلما أخذت المنتوجات المعرضة تدريجياً طابعاً معقداً، وابتعدت أكثر فأكثر عن الحاجات المباشرة (وجب أن نأخذ في الاعتبار طبعاً نتائج المنافسة، فإذا صنعت مقاولتين نفس المنتوج تقريباً، عليهما الالتجاء إلى الإشهار قصد الصمود في وجه بعضهما البعض).  يبد أن الإشهار ليس سوى "وسيط": يعرض منتوجاً بحجج مقنعة قدر الإمكان، وبالارتكاز فعلياً على حوافز جانبية (بل على تداعيات تحرك ميولاً لا شعورية).  إن العامل الأساسي هو نتيجة للاستدلال: تصبح الأداة مرغوبة لمجرد مشاهده إنجازاتها، لأنها تبرهن بذاتها، بطريقة ما، عن فائدتها من خلال عرضها، وتشغيلها، والتأكيد على فعاليتها.  علينا أن نضيف أن الإكثار من الأدوات يجعلها أكثر فأكثر ضرورية، سواء على المستوى النفسي (عبر عامل التقليد ) أم على مستوى الضرورات الواقعية (بسبب عوامل التعالق، وكذا بسبب تنظيم الوقت، الذي أضحى أكثر فأكثر وظيفة الأجهزة المتوفرة).

وفي المقابل، كلما تطور النشاط الاقتصادي إلا وسعى إلى العقلنة، باستعماله لذاته وبشكل مباشر (وليس فقط على مستوى التكنولوجيات التي تستعمل) مناهج التنظيم والتدبير المستوحاة من المنهج العلمي.  وهذا يعني أنه يسعى، تدريجياً إلى تحديد أهداف قبلية، ويحاول بلوغها بالوسائل الأكثر عقلانية، آخذاً في الحسبان التوقعات التي يمكن القيام بها على أساس المعلومات ومناهج التحليل المتاحة، وآخذاً في الحسبان كذلك الإكراهات المادية والاجتماعية التي تفرض عليه.

الحال أن الأهداف لا تعود، في مستوى معين، مجرد أهداف مبتذلة، متعلقة بإنتاج معين، بل تكتسب أهمية أعم، إذا أضحت عندئذ تنطبق على نوع الإنتاج ذاته، الذي ننوي الشروع فيه، بعبارة أخرى لم يعد المشروع الاقتصادي مجرد مشروع رعاية، يهدف فقط إلى الحفاظ على تدفق لإنتاج نوع معين، لقد أصبح مشروعاً تحويلياً، يتصور الإنتاجات الممكنة، قادرة على تلبية مطالب افتراضية، يمكن ضمن شروط محددة، إظهارها، فكلما ازداد حجم المقاولة وقوتها، فقدت خصوصياتها وربحت، في مقابل العمومية، وبالتالي التجريد.  لا يفكر الحِرفي في صناعة شيء آخر غير ما تعلم صنعه بالتقليد والتجربة.  في حين أن المقاولة الكبرى تتسم بالمرونة في اختيار أهدافها.  لأنها، دون شك، تأخذ في الحسبان بعض الإكراهات: المواد التي يجب استهلاكها، والكفاءات الخاصة للمستخدمين.  يبد أن المواد أضحت متعددة الأوجه أكثر فأكثر، كما أن المقاولة الكبيرة تحتضن أكثر الكفاءات تنوعاً (أضف إلى ذلك أن مناهج إعادة التكوين تسمح لأعضاء المقاولة بالتكيف مع المهام الجديدة.  فما يصير أساسياً ليس التوفر على تكوين جد متخصص في البداية، بل تكوين أساسي يسمح بإعادة التوجيه بسهولة).  لكن عند صياغة مشروع ذي درجة عليا من التعميم، تضع المقاولة مشكلاً تكنولوجياً، قد لا يكون حله متوفراً بالضرورة، أو على الأقل، بشكل تام وقت صياغة المشروع.  هناك إذن مطلب موجه إلى التكنولوجيا: إن النشاط الاقتصادي ذاته هو الذي يضع الأسئلة التي يكون البحث التكنولوجي مدعواً للإجابة عنها.  فسواء تم البحث في إطار المقاولة نفسها التي وضعت السؤال، أم فعلت ذلك لحسابها في مواضع أخرى، سيكون هناك في كل الأحوال، مرحلة بحث، تقود بالفعل إلى تعديل المشروع الأولى أو تدقيقه، الذي لم يمكن في نهاية المطاف سوى فرضية.  وأخيراً، نتيجة لصيرورة كاملة من التفاعل بين البحث والمشروع، يتم ضبط آلية تسمح بالانتقال إلى تصنيع منتوج جديد بكميات كبيرة.  يمكن أن نسوق، كمثال نموذجي، صناعة الصيدلة، حيث البحث نصف علمي ونصف تكنولوجي، يلعب دوراً جوهرياً في تحديد ما تقدر هذه الصناعة على تقديمه.  بيد أن تنظيم هذه الصناعة للبحث الذي تحتاجه مرتهن بأهدافها الاقتصادية الخاصة.

حاصل القول أن ما يميز التفاعل بين التكنولوجيا (وبواسطتها، العلم) والمكون الاقتصادي، أن استعمال التكنولوجيا في مستوى الإنتاج يقل تعلقه تدريجياً بالظروف العرضية (الخاصية المتقطعة والجد احتمالية للاختراعات)، والدور العام للشخصيات من قبيل "المقاولين" في المبادرات الاقتصادية)، وعلى العكس من ذلك، تزداد نسقية وعينية وانتظاماً واستقلالية عن الأوصاف الخاصة بالأفراد الفاعلين فيها.  يتخذ تطبيق التكنولوجيا، شيئاً فشيئاً، طابعاً عقلانياً من حيث أنه يشكل موضوعاً لتخطيط وضع بطريقة نقدية، مراقب من طرف التحليل المفهومي والتجربة معاً، وينسق بين أنشطة جد متنوعة، وينظم، طبقاً لأهداف لها درجة أعلى من العمومية، مراحل من العمليات وجب أن تتتالى زمنياً وفق تنظيم محدد قبلاً بدقة.

إذا كان التفاعل مع المكون الاقتصادي جد بديهي منذ القدم، فإن التفاعل مع المكون السياسي يصير كذلك تدريجياً عن طريق سياسة العلم، التي تعنى، في الواقع، بالبحث العلمي الخالص والبحث التكنولوجي.  لقد أدركنا، منذ الحرب العالمية الثانية، أن العلم قد أصبح، من خلال التكنولوجيا المرتبطة به، عاملاً مهماً جداً، إن لم نقل حاسماً في الحياة الاجتماعية، إذ يخص، بشكل جد مباشر، الحياة الجماعية، في حاضرها ومستقبلها، باختصار لقد أضحى ظاهرة ذات بعد سياسي، وعلى الدولة أن تستخلص النتائج العملية من هذا الواقع بتحملها للمسؤولية الشاملة لمصير العلم.  ويظهر هذا التأثير السياسي للعلم جلياً بالخصوص في مجال التطبيقات العسكرية، والتسلح الذري يمنحنا المثال الأكثر إقناعاً.  بيد أن الظاهرة أكثر عمومية من ذلك.  فالمجتمعات الحديثة تفكر بلغة التطور.  وهو ما يعني، عينياً، أنها تسعى إلى الزيادة المنتظمة في قدر الخيرات والخدمات المتاحة، وفي الوقت نفسه زيادة إنتاجية العمل الاجتماعي، فتحرر بذلك جزءاً من الطاقات الإنسانية من أنشطة مغايرة للعمل المنتج. (وجب إنتاج قدر كبير من الخيرات بواسطة قدر أقل من العمل والتكنولوجيا الحديثة هي بالضبط ما يمكّن من تحصيل هذه النتيجة).  لقد اعتبرنا، لفترة من الزمن، أن العامل المحدد للتطور ذو طابع اقتصادي؛ أي أنه مشكل من الرأسمال ومن الشغل: كأن الأمر يتعلق بإنتاج كافٍ لكي يظل جزء من الإنتاج مهيئاً للاستثمار، بعبارة أخرى، لتأمين نمو آلية الإنتاج؛ فتكون لدينا بذلك، من حيث المبدأ، ظروف اقتصاد تراكمي.  بيد أن النظر إلى دور الابتكارات التكنولوجية والمعارف العلمية، التي تمثل قاعدة لهذه الاختراعات، يدفعنا إلى الجزم بأن العلم هو في الحقيقة، العامل المحدد، وبالتالي فسياسة العلم المتبصرة هي مفتاح كل تطور.  إن هذا الرأي سيكون جد مبسط إذا أخذ حرفياً.  فالمحدد هو التضافر بين العوامل العلمية والتكنولوجية والعوامل الاقتصادية الخالصة (الإمكانيات والإدارة الفعلية في الاستثمار).  المؤكد أننا لا يمكن أن نكتفي باعتبار عامل "خيرات الاستثمار" في الحالة الخامة، إذا صح القول، ويجب أن نأخذ في اعتبارنا، أكثر فأكثر عامل "المعلومة".  من الممكن إذن القول إن التطور مشروط بالقدرة على ضخ تركيبة مناسبة من خيرات التجهيزات والمعلومات في دورة الإنتاج.

وعليه، وجب إعادة وصف التفاعل بين المكون السياسي والمركب العلم- التكنولوجيا، باعتباره يتم في كلا الاتجاهين.  فمن جهة، يفرض البحث تحريك موارد مهمة: يتطلب أحياناً تجهيزات باهظة جداً، ومستخدمين أيضاً، الأمر الذي يجب أن يستخلص من الدورات المنتجة مباشرة.  ويجب أن تقتطع هذه الموارد من مجموع ما هو متوفر على مستوى الجماعة في كليتها.  لذا، على السلطة السياسية أن تتدخل لتأمين الاقتطاعات الضرورية.  يمكن القول، بشكل عام، في الوقت الراهن، إن الجزء الأكبر من البحث يمول، بشكل مباشر أو غير مباشرة، من طرف الدولة.  إن المقاولات تحمل حقاً على عاتقها جزءاً مهماً من البحث التكنولوجي، بل وجزءاً ما من البحث العلمي الخالص.  لكن في هذه الحالة، يتعلق الأمر كذلك باقتطاع موارد من كتلة متوفرة، عندئذ تتدخل سلطة القرار الاقتصادية، باعتبارها هيئة تخصيص الموارد، وبالتالي ضمن وظيفة ذات طبيعة سياسية في نهاية المطاف، وحيث أن مقاولة البحث تحرك بدينامية داخلية للنمو، فإنها تستدرج إلى الضغط على منابع السلطة بغية الحصول على القروض الضرورية.  ولكن من جهة أخرى، عندما تتدخل السلطة السياسية، فإنها تسعى إلى فرض تصورها الخاص للتطور العلمي والتكنولوجي.  وإذا كانت توزع مواردها، فإن ذلك يكون، من حيث المبدأ وفي جميع الأحوال، وفقاً لسياسة علم تسطر الأوليات، وتحدد معامل الأهمية، وآجالاً للتحقيق أيضاً، ثم كذلك الإكراهات المختلفة التي تتعلق بالوسائل المستعملة، ووضعية المستخدمين، وبسبل تدبير المشاريع، وبمراقبة الأنشطة،... الخ.  ومع ذلك، فإن مبادرة السلطة لا تقتصر، كما رأينا، على تمويل المؤسسات المستقلة نسبياً، أو المشاريع التي تصدر عنها، بل تتخذ مبادرات ذاتية، وتتحمل هي ذاتها، وبشكل مباشر، مسؤولية تنظيم البحث جزئياً.  في كلتا الحالتين؛ حالة التمويل والمراقبة المباشرة، تتموضع في موقع يسمح لها بالتأثير بشكل حاسم في توجيه.  [...] فإذا صح أن العلم والتكنولوجيا يسعيان إلى منح أنفسهما نمواً مستقلاً، وجب حقاً الاعتراف أن نموهما مشروط جداً بتفاعلهما مع السلطة سياسية (ومع السلطة الاقتصادية من حيث وظيفتهما السياسية).  بيد أن هذا الارتهان له حدود.  بداية، طالما أن البحث لا يمكن أن نخطط له أو نمكننه كلياً، وحيث أن المبادرة الشخصية، والخيال، وأحياناً، الصدف السعيدة، ما زالت تلعب دوراً كبيراً، فإن أي منظمة تود أن تكون فعالة لا بد أن تترك هامشاً كافياً للعلماء ولتنظيماتهم الخاصة.  وهو أمر حقيقي إلى حد أننا نواجه مجالات ذات طابع "قاعدي".  إننا نعلم أن الاستعمالات التطبيقية تتحكم فيها، عن بعد، ما نسميه البحث القاعدي، الذي يجب أن يترك، بشكل كبير، لذاته، وأن علينا أن نمنحه الوسائل للاستمرار في الوقت الذي نعرف أن جزءاً صغيراً فقط من النتائج المحصلة قد يكون من حظها أن تقود إلى تطبيقات مهمة. بالإضافة إلى ذلك، مهما كانت إرادة السلطة السياسية والمشاريع التي يمكن أن تتصور، فليس بإمكانها أن تطلب من العلم ما هو غير قادر على منحه، على الأقل في وضعه الراهن؛ على العكس، يجب أن تستلهم من العلم، عند وضع مشاريعها، ما يعتبره أمراً قابلاً للتحقق.  ومن هذا المنظور تفرض الرؤية العلمية على سياسة العلم توجيهاتها.  وغالباً ما يكون في مقدور هذه ترجيح مسار بحث على آخر.  بيد أنه يعلم كذلك أن الإهمال التام لبعض المجالات، حكم عليها في زمن ما بأنها غير مربحة، يمكن أن تعيق التطورات، التي يمكن أن يتبين أنها تبشر بالخير من وجهة نظره الخاصة.

بقي أن نتفحص التفاعل مع المكون الثقافي، ووجب في هذا المقام أن نعنى من جهة بالآثار المباشرة، ومن جهة أخرى بالآثار غير المباشرة.  تحدث الآثار الجد المباشرة، بالطبع، في مستوى التمثلات الذهنية، التي من خلالها يكون مجتمع ما صورة عن الواقع وعن ذاته.  لكي نكون أكثر وجب أن نشرع في تحليل مفصل لهذا النسق الجزئي للفضاء الثقافي، حيث توجد فعلاً مكونات ذات طبيعة متنوعة: هناك عناصر ذات طبيعة أسطورية (جد متشابهة مع الأنساق الرمزية، وبخاصة مع الأنواع المختلفة من الطقوس التي تقطع وثيرة الحياة الاجتماعية)، وأنساق الاعتقاد (ذات طبيعة دينية أو على الأقل تقليدية، تجمع، بشكل جد وثيق، التصورات المتعلقة بواقع العالم وبالحياة الإنسانية وبالدلالات الوجودية حيث يستخدم الوجود كقدر)، وتمثلات ذات طابع لاهوتي (نشأت عن بعض الاعتقادات عن طريق نشاط تأملي خاص)، وأنساق ذات سمة ميتافيزيقية، ومعارف ذات أساس تجريبي تعتبر ما قبل علمية، وعناصر ذات طبيعة أيديولوجية (تمثلات تتعلق بطبيعة المجتمع، وبمكانة الفرد في المجتمع، وظيفتها المؤازرة والتبرير، الذي قد يكون على شكل أوهام مغلطة، بالنسبة للبنية الاجتماعية الراهنة).

في بداياته، يظهر العلم كما لو كان جسماً غريباً عن مجموع هذه التمثلات، أو على الأقل، كنوع من المعرفة السرية تكون حكراً على عدد قليل من الخبراء، وليس لها تأثير حقيقي على نسق المعارف الموزعة على مجموع الناس، إن هذا الوضع يظل صحيحاً، في جزء منه، طالما أن بعض أشكال المعرفة العليا تتطلب تدريباً جد طويل وجد قاس.  (فالثقافة الجامعية ذاتها لا تسمح إلا جزئياً ببلوغ المعارف العلمية العليا، وإن كان ذلك ضمن مجال تلقى فيه الشخص تكوينه.  إننا نلاقي هنا ظاهرة تخصص وتشعب المعرفة العلمية.  إذا استثنينا بعض الشخصيات الفذة، فإن الرياضيين الأكثر دربة أنفسهم لم يعودوا قادرين، في الوقت الراهن، على مسايرة ما يجري في مجموع علمهم).  ولكن ما أن يكتسي العلم أهمية كبرى في الحياة الاجتماعية (للأسباب التي سبق ذكرها) حتى تبدأ المعارف العلمية في الانتشار، على الأقل فيما يخص خصائصها الأكثر جوهرية، بين مجموع الناس.  في البدء يسعى التمدرس إلى الامتداد.  وجزء مهم من الفئة العمرية المناسبة للمستوى الجامعي تباشر فعلاً الدراسات العليا.  وولوج التعليم الثانوي يسير نحو التعميم.  والحال أن النموذج التقليدي للإنسانيات التقليدية يفقد شيئاً فشيئاً مكانته، ويسير نحو التعويض بنوع من التكوين تأخذ فيه العلوم (الصورية، والطبيعية والإنسانية) مكانة مركزية.  وفي المستوى الجامعي، أصبحت كل المجالات، حتى تلك التي كانت موجهة بشكل تقليدي نحو تكوين "ذي نزعة إنسانية"، تحت طائل المنهج العلمي.  (من الملفت للنظر أن نلحظ، مثلاً، أن اللسانيات العلمية، في الشعب الأدبية تأخذ تدريجياً جزءاً أكبر، وأن النقد الأدبي كذلك يتوجه نحو المناهج العلمية للتحليل، من قبيل المعالجة الآلية للنصوص).  وحتى حيث يكون التكوين ذا توجه تكنولوجي -سواء في المستوى الثانوي أو العالي- فإنه يتضمن أسساً علمية خاصة (التي قد تكون ذات طبيعة ابتدائية، لكنها، في المستوى العالي، قد تبلغ درجة نسبياً عالية من التعقيد).  لكن بالإضافة إلى التكوين الدراسي، وجب أن نأخذ في اعتبارنا كل صيرورات بث المعارف التي نتوفر عليها اليوم بفضل وسائل التواصل الجماهيري.  نخص بالذكر التلفزة التي تلعب دوراً مهماً في اكتساب جمهور عريض بعض جوانب العلم المعاصر، (توجد برامج علمية تمثل دروساً نسقية حقيقية.  وتوجد كذلك برامج للتبسيط السهل، التي تمنح، دون شك، أفكاراً جد سطحية عن المواضيع المتناولة، لكنها تمكن، على الأقل، الجمهور من الاستئناس ببعض الجوانب، وبخاصة "المرئية" من الخطوات العلمية) ما نسيمه التبسيط قد أخذ بعداً مهماً ويكتسي أشكالاً جد متنوعة، من الأكثر أولية (في مستوى الأخبار العلمية المنشورة في الجرائد) إلى الأكثر إعداداً (في مستوى المجلات المتخصصة في التبسيط الأرقى، والموجهة إلى جمهور علمي)، مروراً بكل أشكال إعادة التكوين، والتكوين المستمر الذي دخل حالياً حيز التجريب.

عبر هذه القنوات، تقتحم الرؤية العلمية للعالم تدريجياً نسق التمثلات بعمق، وتحدث فيه تحولات [...] بيد أن العلم يمس كذلك، بواسطة نسق التمثلات، باقي الأنساق الثقافية، وبخاصة نسق القيم [..] أضف إلى هذا أن تطور التكنولوجيات ذا القاعدة العلمية يمارس تأثيراً مباشراً على نسق المهارات، وذلك بطريقتين: من جهة، عن طريق التدريبات التكنولوجية التي تهيئ المختصين القادرين على استخدام المحركات والآلات التي أنتجتها التقنية الحالية، ومن جهة أخرى، من خلال بعض الأدوات التي يسهل على الكل عملياً بلوغها، والتي يتطلب استخدامها حداً أدنى من التدريب التكنولوجي.  (وبذلك، فإن الاستعمال الذكي للأجهزة المنزلية الكهربائية يتطلب أدنى معرفة بالتقنية الكهربائية، فيما يتعلق بالقوانين الأكثر أولية للتيارات الكهربائية).  والحال أن التكنولوجيا المعاصرة تخلق مواقف وسبلاً للرؤية مختلفة في جوهرها عن تلك التي تناسب "الفنون" التقليدية.  إن ما أضحى بديهياً بالضبط هو الربط بين المعارف العلمية والطابع الجد عقلاني للمسارات.  عندئذ تحدث الاختلالات في فضاء "الفنون"، فتمس بذلك باقي قطاعات الثقافة أيضاً.  وبذلك فآثار التكنولوجيا والعلم تتكتل لتحدث اضطرابات في المجال الثقافي كله[...].

بجانب الآثار المباشرة، وجب اعتبار الآثار غير المباشرة، أي تلك الآثار التي تلحق المجال الثقافي بواسطة باقي مكونات الحياة الاجتماعية.  لأن هذه المكونات مترابطة فيها بينها، وبخاصة العناصر القيمية (القيم والمعايير)، التي تنتمي إلى المكون الثقافي، وتقوم بدور منظم حيال الأنشطة السياسية والاقتصادية بيد أنهما ليسا مستقلين، بل إنهما بمعنى ما، لا يعكسان سوى إلزامات وظيفية، في مستوى السلوكات التقويمية، تصدر عن المجالات السياسية والاقتصادية.  (بمعنى واحد فقط، لأن هذه العناصر القيمية ترتهن كذلك بالتمثلات، وبخاصة بالاعتقادات، ويمكن لهذه أن تحتاز درجة من الاستقلالية، إلى حد أن تفرض قيماً يحتمل أن تناقض بعض الإلزامات الوظيفية الاقتصادية مثلاً).  نتيجة ذلك، فالتحولات التي قد تحدث في المجال الاقتصادي (سواء على مستوى مناهج الإنتاج أو على مستوى طبيعية المنتوجات، وبالتالي الأنماط العينية للحياة التي يحث عليها استعمال هذه المتوجات) أو في المجال السياسي (سواء على مستوى مناهج التنظيم أو على مستوى الأولويات المسطرة من طرف السلطة، ومعاملات الأهمية المسندة إلى مواضيع القرار)، لا تكوّن انعكاسات على المجال القيمي، وكذلك على باقي مجالات الحقل الثقافي، نظرا للتفاعلات الضيقة التي تربط مكوناتها المتنوعة، وبخاصة أن التفاعلات التي تطورت، كما رأينا، بين المركب العلمي-التكنولوجي والمؤسسات السياسية والاقتصادية تحدث حتماً اضطرابات في مجال المعايير والقيم.

وهكذا لا يمكننا أن نكتفي باعتبار المكونات المختلفة للحياة الاجتماعية بشكل مجرد ووظيفي خالص.  ومرة أخرى، فإن التقسيمات التي أدرجت بينها ليس لها سوى بعد تحليلي.  ووراء التحليل الصوري وجب أن نلقى من جديد الحياة الاجتماعية العينية؛ أي أنماط الحياة، والعلاقات الإنسانية، والسبل الفعلية لإدماج الأفراد في الشبكات المؤسساتية وفي محيطهم المادي (الطبيعي والاصطناعي معاً)، وطريقة عيش كل واحد في الشغل.  والهواية والتواصل والمعرفة والقيم والاعتقادات والرموز التي تمنح شكلاً لحياته. والحال أنه بواسطة التفاعلات التي تتطور بين المركب العلمي والثقفي والمكونات المتنوعة للحياة الاجتماعية (بشكل مباشرة، وفي الوقت نفسه، بواسطة الوسائط المتبادلة التي تمارسها هذه المكونات المختلفة على بعضها البعض)، يتأثر بعمق كل هذا المجال العيني للوجود.  هناك تعديل متزامن للأجهزة المادية التي ترتكز عليها الحياة الإنسانية، تعديل (بمعنى التجريد المتنامي) شبكات التواصل، وتعديل لبنية الزمان، وتحويل للبنيات المؤسساتية (التي تتمركز، وتنتمي أبعادها، وتصير تدريجياً متعالقة فيها بينها) وتحويل أشكال الشغل (الذي أصبح تدريباً مشروطاً بالكفاءة التكنولوجية المناسبة، وبنوع من الثقافة ذات قاعدة علمية)، بل وتحويل لأشكال الهواية (هي نفسها مشروطة بأجهزة تقنية، من قبيل آلات التصوير، وآلات الاستقبال الكهرومغناطيسية وغيرها).  والنتيجة أن مشهد الحياة كله يتغير بالفعل.  والحال أنه تغيير يتضمن مرحلة تفكيك (Déstructuration) ومرحلة إبدال البنية (restructuration).  وجب أن نفحص عن قرب كيف تتأتى هاتين الحظيتين من التحول العلمي والتقني للمجتمعات.  من خلال ما سلف لم نقم سوى بمعاينة، بشكل تقريبي وجد شمولي، الآليات الصورية الرئيسة التي بواسطتها يمكن للعلم والتكنولوجيا، باعتبارهما أنساقتً مستقلة نسبياً، أن يؤثرا في الحياة الاجتماعية.

د. يوسف تيبس
أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة،
جامعة محمد بن عبد الله، فاس – المغرب

الهوامش
1  هاتان المقالتان ترجمهما وقدّم لهما الدكتور يوسف تيبس، خصيصاً لملف الثقافة العلمية في العدد الخامس والعشرين لـ رؤى تربوية، الأولى لميشيل سير (Michel Serres) (1930) أحد أبرز فلاسفة العلم في العصر الحاضر بعنوان "تقدير"، والثانية للمفكر جون لادريير بعنوان "أثر العلم والتكنولوجيا على الثقافات وآليات التأثير"، وقد ارتأى محررو الملف دمجهما في إطار متصل تحت عنوان "التعددية وتعدد الأشكال".
* Michel Serres, Estime, in politiques de la philosophie, textes réunis par Dominique Grisoni, éd. Bernard Grasset/ Fasquelle, Paris 1976, pp: 99-120.
2 يمكن ملاحظة ذلك من خلال تنوع مواضيع كتاباته التي تتراوح بين فلسفة العلوم والأدب، وكذا في أسلوبه المجازي الذي يعمله في كل كتاباته، سواء الإبستمولوجية أو الأدبية، إلى الحد الذي يجمع الكثير على استحالة ترجمة كتبه.  ولعله لهذا السبب تشح الكتابات عنه؛ فحسب علمنا لا توجد أي دراسة لفكره باللغة العربية غير تلك التي قمنا بها حول فكره الإبستمولوجي (راجع: "تاريخ وفلسفة العلوم عند ميشيل سير"، مجلة عالم الفكر، العدد4، المجلد30، نيسان-حزيران 2002).  كما توجد ترجمة عربية لكتاب واحد: ميشيل سير (2000)، أصول الهندسة، ترجمة: جمال الدين بادو، الدار البيضاء: نشر الفنك.
3 Le Nouveau  Nouvel Esprit Scientifique.
  Cf.   Hermès I, la communication, Paris, 1969, 1984.
          Hermès II, l’interférence, Paris, 1972.
          Hermès III, la traduction, Paris, 1974.
          Hermès IV, La distribution, Paris, 1977, 1981.
          Hermès V, Le passage du Nord-ouest, Paris, 1980.
4 Le Nouvel Esprit Scientifique.
Cf. Bachelard, G., Le Nouvel Esprit Scientifique, éd. PUF, Paris 1979.
5 فيلسوف وعالم رياضيات ألماني (1646-1716).
6 يقول ميشيل سير:"إن العقل العلمي الجديد(يقصد العقل العلمي عند باشلار) كان يركز على فلسفة النفي أما العقل العلمي الجديد- الجديد فيتطور إلى فلسفة للنقل والتقاطع، إنه مبادرة وتوقيف. إن هذه الفلسفة تتحدث عن العلوم ولكنها لا تسكت عن العالم الذي تعبر عنه العلوم أو تؤسسه، وعن الأشياء وعن عالم الناس" Interférence, p.23..
7 نسبة إلى عالم الرياضيات الألماني لايبنتز.
* Ladriére, J., Les Enjeux de la Rationalité: le Défi de la science et de la Technologie aux cultures, édit. Aubier-Montaigne/Unesco, Mayenne 1977, pp:.77-93.