"مشروع كلمة" والترجمة من الإيطاليّة ـ د. عزالدين عناية

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

kalimaطوال تاريخ التثاقف بين اللّسانين العربي والإيطالي، لم تتجاوز أعمال الترجمة إلى العربية 313 عملا، توزّعت بين 233 عملا أدبيا، و 43 عملا مسرحيا، و 37 عملا غطّى مجالات متنوّعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وهي حصيلة متدنّية، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التجاور الجغرافي، والماضي الاستعماري، والثقل الحضاري، لبلد مثل إيطاليا عُدّ بوابة النهضة الأوروبية. علاوة أن تلك الأعمال لم يتكفّل بإنجازها الطرف العربي وحده بل ساهم فيها الجانب الإيطالي أيضا مساهمة لافتة، عبر مؤسّسة دانتي أليغياري المعنية بترويج الثقافة الإيطالية في الخارج، وعبر وحدة التعاون الثقافي في وزارة الخارجية الإيطالية، التي بعثت خلال العام 2000.
غير أنه في أعقاب ذلك الركود الطويل لأنشطة الترجمة بين اللغتين، حصلت طفرة متميّزة وواعدة في مستقبل إنجاز الأعمال الإيطالية المعرَّبة. فقد أنجز "مشروع كلمة" الحديث النشأة، برئاسة الدكتور علي بن تميم، والتابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، أزيد من عُشر الترجمات من مجمل الأعمال المنقولة إلى اللسان العربي، في وقت قياسي لم يتجاوز السنتين، بعد أن انطلق في عمله بالتعاون مع "معهد الشرق كارلو ألفونسو نالينو" في روما، في موفى العام 2009، عقب اتفاق بين الجانبين على ترجمة ما بين عشرين وأربعين عملا سنويا.
ولتيسير الإلمام بأوضاع الترجمة من الإيطالية إلى العربية حريّ، ولو بعجالة، تتبّع أطوارها والتعريج على أبرز المساهمين فيها. إذ يمكن الرجوع بأول أعمال الترجمة إلى العربية إلى عهد تأسيس مدرسة باردو الحربية (1840) وإلى إنشاء المدرسة الصادقية (1875) في تونس، وقد انكبّت الترجمة حينها بالأساس على تعريب المصنّفات العسكرية والعلمية. كانت أثناءها الترجمة مهووسة باللّحاق بركب التقدم، وبقي على إثرها النقل من اللسان الإيطالي بطيئا ومتقطّعا طيلة عقود. فمثلا منذ سنة 1922 إلى 1972، وعلى مدى خمسين عاما، لم ينجز العرب من أعمال الترجمة الإيطالية سوى 50 عملا، أي بمعدل نصّ مترجم سنويا، كانت الأعمال في مجملها أدبية، توزّعت بين الرواية والقصة والمسرحية. أما مع ثمانينيات القرن الماضي، فقد دبّ شيء من التحفّز حيث تُرجم قرابة الأربعين عملا، أي بمعدل أربعة أعمال سنويا، وخلال العشرية الفارطة بين العام 2000 و 2010 ترجم زهاء المئة وخمسين عملا.


وعبر مسار نقل الأعمال الإيطالية إلى العربية يمكن الحديث عن أعلام بارزين في المجال مثل: الأردني عيسى الناعوري (1918-1985)، والليبي خليفة التليسي (1930-2010)، والمترجم حسن عثمان صاحب أولى تراجم الكوميديا الإلهية لدانتي (1959). تَلَتْهم في وقت لاحق نخبة من المترجمين مثل: سلامة سليمان، ومحب سعد إبراهيم، وسوزان إسكندر، وعامر الألفي ثم ردفتهم مجموعة متماثلة في التكوين من مدرِّسي اللغة الإيطالية والأدب الإيطالي في بعض الجامعات العربية، منهم الأساتذة عماد البغدادي وحسين محمود ومحمد المختاري وأحمد الصمعي والدكتورة أماني حبشي. ولكن مع موجة الهجرة إلى إيطاليا، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، برزت ثلّة من التراجمة يقيمون في إيطاليا، مثل الفلسطيني وسيم دهمش والعراقي عدنان علي والتونسي عزالدين عناية والمصري ناصر إسماعيل وآخرين.
قد يتساءل المرء عن أسباب إقلال العرب في الترجمة من الإيطالية؟ الحقيقة أن إقلال العرب من كافة اللغات ولكن من الإيطالية يأتي بشكل أبرز، فهناك أسباب عدة لعل أهمها:
-أنه يسود بين العرب عامة نقصٌ في الإلمام بما في إيطاليا والفاتيكان من أنشطة فكرية ودينية وسياسية، وهو في حدّ ذاته كابح موضوعي يحدّ من الترجمة، وليس الأمر عائدا إلى قلّة المترجمين كما يروّج بعض أصحاب دور النشر ممن دأبوا في اعتمادهم على لغة وسيطة لنقل المنتوج الإيطالي.
-أن انتشار أقسام دراسات الإيطالية في بعض بلدان المغرب والمشرق، مثل قسم الدراسات الإيطالية في جامعة منّوبة بتونس، أو قسم اللغة الإيطالية في جامعة محمد الخامس الرباط، أو كذلك في جامعتي حلوان وعين شمس، أو في جامعة بغداد لم يضمن توفير المترجم الجيد، وهو أمر عائد بالأساس إلى ما شهدته الجامعات العربية خلال العقدين السالفين من اهتزازات قوية أثرت على خرّيجيها وعلى تحصيلهم العلمي.
ولكن رغم تواجد تلك العراقيل وغيرها نجح "مشروع كلمة" خلال مدة وجيزة في نقل عدد لا بأس به من الأعمال الإيطالية إلى اللغة العربية، تتوفر فيها جودة عالية ونفع جليل للقارئ العربي. فنحن عادة ما نشكو من سوء حال الترجمة في البلاد العربية، ولكن ينبغي إدراك أن الترجمة عمل، ولكن جل أعمال الترجمة المنجَزة في البلاد العربية كانت بمثابة أعمال السخرة، وفي أحسن الأحوال بعد أن يشتغل المترجم أشهر أو سنوات على إعداد عمل تقع مكافأته بإرسال مجموعة من النسخ. واستنادا إلى تجربتي في المجال أدرك أن إنجاز ترجمة الكتاب المتوسط الحجم والذي يناهز المئتي صفحة من لغة أوروبية يشغل المترجم قرابة الخمسة أشهر ويتطلّب مكافأة أقلها ثمانية آلاف دولارا، فأية دار نشر عربية خاصة قادرة على دفع هذا المبلغ للمترجم؟
فحين انطلق تعاون معهد الشرق في روما مع "مشروع كلمة" لانتقاء مجموعة من المترجمين العرب، تم اختبار عشرات المترجمين، من داخل إيطاليا وخارجها، وممن يلتمسون في أنفسهم القدرة على الترجمة، لكن لم يتم الإبقاء سوى على ثلّة منهم توفرت فيهم سمات الإبداع. سعيا للتطلّع لبلوغ مرحلة متقدّمة من الترجمة تتلخص في كُتّاب يترجمون كُتّابا. إذ المترجم المبدع هو غالبا من وفد من الإبداع المكتوب في شتى مجالات الثقافة، ثم عرج لاحقا باتجاه الترجمة، لتعذّر أن يبدع المترجم إن انطلق دون سابق خبرة في الكتابة. وتشكَّل على إثر ذلك فريق عمل للترجمة توزع بين إيطاليا والبلاد العربية.
لقد كانت الأعمال المنجزة متنوعة، من الرواية إلى الشعر إلى أدب الناشئة إلى الكتابة التاريخية إلى الكتابة الفنية السينمائية إلى الدراسات السوسيولوجية وغيرها. توكل فيها الأعمال إلى المترجم وفق تخصصه لضمان شروط أوفر للجودة. وقد استطاع برنامج الترجمة أن يرسم خطّة تُطوّر المشروع ولا تحصره في مجال محدّد، لعل من بينها: توجه الأعمال المنجزة إلى شرائح متنوعة من القراء وعدم التركيز على فئة دون غيرها. فضلا عن تجنبه الإغراق في ترجمة الكتاب النخبوي، برغم الحاجة الماسة إليه، وفي الآن عدم الانشغال بجنس معين دون غيره. وكان أبرز ما تخطّاه "مشروع كلمة" وهو القطع مع الترجمة الوسيطة والتعويل على الترجمة من اللغة الأصلية، الأمر الذي لم يكن مراعى في الترجمة من الإيطالية ولا يزال، فكتاب بوكاتشيو الشهير الديكاميرون، نقل من الإسبانية، وكتاب أومبرتو إيكو كيف تعدّ رسالة تخرّج نقل من الإسبانية، وكذلك بعض كتابات إيتالو كالفينو المنشورة في دار أزمنة الأردنية، مثل آلة الأدب التي ترجمها حسام بدار من الإنجليزية، وماركوفالدو الذي ترجمته منية سمارة من الإنجليزية.
وفي خضم هذه التجربة المؤسساتية وغير الربحية، حاول "مشروع كلمة" أن يغطي عديد النقائص من الجانب العربي في الإلمام بالثقافة الإيطالية وذلك بالتحرر من الترجمة النمطية، أي بالاقتصار على أعلام راجت أسماؤهم أو مصنّفات شاعت شهرتها. على غرار ما حدث في حقل الترجمة العربية من الإيطالية حيث اختزل العربُ الفكرَ الإيطاليَ في كتابي الكوميديا الإلهية لدانتي والأمير لميكيافيلي، وهو ما جرى أيضا بشكل مشابه من الطرف الآخر الإيطالي، مع كتاب ألف ليلة وليلة و الروض العاطر في نزهة الخاطر للشيخ محمد النفزاوي، ولم يقع التنبه للتحولات الفكرية والاجتماعية التي هزت الواقعين الثقافيين من كلا الجانبين.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟