الجودة بين الشعار و الممارسة - مراد العبدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasse.orgتقديم:
يعتبر مفهوم الجودة من المفاهيم التي أضحت كثيرة التداول على جميع الأصعدة. المفهوم ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية منذ 1924م، ليتطور بشكل يجعل من الصعب رسم ملامحه التاريخية، و المغرب ليس بمعزل عن هذا التطور، إذ لعب الموقع الجغرافي للمغرب دورا مهما في بلورة المفهوم بحكم الروابط الاقتصادية مع الاتحاد الأوربي و حجم الاستثمارات الأجنبية و سياسة السوق الحرة التي يسعى المغرب إلى تطبيقها . كل هذا جعل من الضروري التعاطي مع مفهوم الجودة و مجاراته و لو بحرق المراحل. المفهوم كذلك شاع في كل المجالات بما فيها ميدان التعليم الذي حاول تطويع المفهوم و جعله بمقاس المؤسسة التربوية. تطورات مركبة أوصلت مفهوم الجودة إلى وضعيته الحالية. فما المقصود بالجودة؟   و كيف تطور المفهوم؟ و ما عناصره؟ و كيف ندبره؟ و إلى أي حد يمكننا التشدق بالجودة في أوساطنا التعليمية؟
ماهية الجودة:
الجودة مفهوم يتماهى حسب استعمالاته، فهو أحيانا يستعمل إلى جانب صفة؛ فنقول جودة عالية أو جودة ضعيفة. كما يستعمل كخاصية ملاصقة لمنتوج أو خدمة معينة. و قد عرف المفهوم تطورا كبيرا اتضح جليا في الطبعات المتتالية لإصدارات المنظمة الدولية للمعايير و التي نلخصها فيما يلي:
طبعة 1987: الجودة مجموعة خاصيات مرتبطة بمنتوج أو خدمة تمنحه أو تمنحها القدرة على تلبية حاجات المستهلك.
طبعة 1994: الجودة مجموعة خاصيات مرتبطة بالشيء، تمنحه القدرة على تلبية حاجات صريحة أو مضمرة.
طبعة 2000: الجودة قدرة مجموعة من الخاصيات على تلبية المتطلبات.
مراحل تطور مفهوم الجودة:

3-1 مرحلة 1940 – 1960:
    كان الهم الوحيد آنذاك هو توفير المنتوج بشكل كاف للمستهلك، و قد اقتصرت الجودة على آليات للمراقبة تحتفظ بالجيد و تستبعد الرديء من السلع. و بعد الحرب العالمية الثانية أصبح من الصعب مراقبة كل السلع أمام تزايد العرض و الطلب، و هو ما جعل تكاليف المراقبة ترتفع و مصلحة الزبناء في مهب الريح. فظهر ما يصطلح عليه بـ" الحد الأدنى للجودة" ، أي تحديد أقل ما يمكن أن ينتظره المستهلك كحد مقبول من لدن الممون.

    3-2 مرحلة 1960 – 1980:
        أدى تجاوز العرض للطلب إلى تزايد الشكايات من طرف المستهلكين، و كذا طلبات تحسين الأداء و تخفيض الأثمنة مع احترام آجال التسليم. و هنا تم استبدال مفهوم المراقبة بمفهوم "ضمان الجودة" كناية على مجموع العمليات المنظمة التي تتيح كسب الثقة و إضفاء المصداقية على المنتج.
    تطور دفع إلى التفكير في خلق منظومة مرجعية ذات معايير معتمدة للنسج على منوالها، و من بين الهيآت العاملة على ذلك؛ نذكر على سبيل المثال "الجمعية الفرنسية للمعاييرAFNOR"  التي وضعت وثائق مرجعية لحل مشكلات ذات طابع تقني أو تجاري. كان ذلك نهاية الثمانينات بأوربا، فالتعيير دعامة أساسية للحصول على الاعتراف بالجودة، و كذلك تبني الطريقة الوقائية و التطوير المستمر، و على هذا الأساس وضعت المنظمة الدولية للمعايير "ISO"- منظمة غير حكومية تعمل بداخلها مجموعة من المنظمات الوطنية المنتمية لمختلف أقطار العالم و المختصة في المعايير لتطويرها على المستوى الدولي، و يتوفر كل بلد ينتمي للمنظمة على هيأة معترف بها دوليا، لها أهلية منح الاعتراف بالجودة- ، وضعت أربعة أنظمة للمعايير خاصة بالجودة هي:
9001-ISO  : نموذج ضمان الجودة على مستوى التصميم و الإنتاج و الخدمة بعد البيع.
9002- ISO : نموذج ضمان الجودة على مستوى الإنتاج، و إقامة الجودة بالمؤسسة.
9003- ISO : نموذج ضمان الجودة على مستوى المراقبة.
9004- ISO : معايير تدبير الجودة، و التوجهات العامة لنظام الجودة.
من فوائد نظام الإيزو 9000 هذا؛ الضبط الكامل للهيئات داخل المنظمة، تعريف كامل للعمليات داخل المنظمة، تعريف كافة العاملين بإجراءات العمل، توزيع المهام، الحصول على رضا العملاء و تحسين جودة الأداء.

3-3 مرحلة 1980 – إلى الآن:
بعد تحويل المنتوج إلى السوق الخارجية تماشيا مع العولمة، أصبح الهدف المنشود هو تحسين الأداء بشكل عام داخل المؤسسة الإنتاجية للرفع من القدرة التنافسية، فظهر على إثر ذلك مفهوم "الجودة الشاملة" .

تدبير الجودة:
الجودة مجموعة طرائق و مبادئ منظمة على شكل استراتيجية شاملة لتوظيف جيد لإمكانيات و موارد المؤسسة من أجل تلبية حاجات المستهلك بأقل تكلفة. إنها منهجية في التدبير تقوم على أساس الإتقان.

3-1 مواطن الجودة:
إن شمولية المفهوم تجعل أهداف الجودة متعددة تطبعها الشمولية، فهي تستهدف:
-  جميع وظائف و أنشطة المؤسسة.
-  جميع المتدخلين مهما كانت صفتهم و مركزهم بالمؤسسة.
-  جميع العلاقات بين الممون و المستهلك.
-  جميع مراحل الإنتاج من التصميم حتى التلاشي.
-  جميع العلاقات بين المؤسسة و الشركاء.

منذ 1951م ظهر مفهوم الجودة الكاملة، مفهوم رسم ملامحه عالم الاقتصاد الشهير "Deming" الذي درس بالجامعات اليابانية بين 1950 و 1954م ، بالمنظومة المرجعية للجودة الشاملة اعتمادا على المقاربة الشمولية بدل المقاربة الوظيفية، هذه المرجعية تعتمد:
    -  سياسة الوضوح و الشفافية .
    -  تمتين الروابط بين الفاعلين داخل و خارج المؤسسة.
    -  العمل على تلبية حاجات المستهلك.
    -  إيلاء الموارد البشرية ما تستحقه من عناية و تكوين.
    -  اعتماد آليات المراقبة و التقويم لتطوير الجودة.
    -  وضع خطط عمل مستقبلية بإشراك الجميع.
   
3-2 عناصر الجودة:
    3-2-1 خصائص الجودة:
هناك طرق كثيرة لتقييم أي منتج، و عليه نستعمل مصطلح "خصائص" تعبيرا عن الصفات التي تحدد طبيعة المنتج لأغراض ضبط الجودة من قبيل الأبعاد، اللون، القوة، درجة الحرارة، الذوق...

    3-2-2 جودة التصميم:
إيمانا منهم باستحالة كمال التصرف البشري، حدد المصممون المواصفات القياسية للتصميم الجيد، بالإضافة إلى التفاوتات المقبولة.

3-2-3 جودة المطابقة:
بعد تحديد نوعية التصميم، تكون جودة المطابقة هي الدرجة التي يتطابق بها العمل الناتج مع المقاييس الموضوعة. تتأثر جودة المطابقة بطرق العمل الميداني الفعلية من ؛ مهارة العامل و الأجهزة و المواد الخام، و كذلك بالإشراف على العمال باعتماد الضوابط الإدارية، و كذا بإجراءات الفحص و ضبط الجودة.
 
3-3 الاعتراف بالجودة:
هو إجراء تقييمي تصدره هيأة ذات سلطة تقديرية، كحكم على مؤسسة أو شخص من خلال كفايته لإنجاز مهام محددة و ذلك باعتمادها على مدى القرب من أو البعد عن معايير الجودة الموضوعة و المتفق عليها دوليا. فتأكيد الجودة يتضمن الدراسات الاقتصادية لاختيار أنواع المواد و الطرق التي تستخدم في التصميم، بشكل موافق للمواصفات القياسية المحددة المعمول بها.

3-4 علاقة الجودة بالكلفة:
رغم أهمية التدبير و التسيير في تحقيق الجودة، يبقى البعد المادي و الاقتصادي للمفهوم حاضرا بقوة، كمحدد أساس لكل من معيار الفعالية و معيار الإتقان. لذا فالجودة مكلفة؛ كلفة تتخذ ثلاثة مواقع نوجزها فيما يلي:
3-4-1 تكلفة الوقاية:
للقيام بإجراءات احترازية تفاديا لحصول مشاكل أو أخطاء، تدابير وقائية تستبق و تتنبأ بالمشاكل التي قد تؤدي إلى حدوث أخطاء تكلف مصاريف إضافية أكبر من مصاريف التدبير.

3-4-2 تكلفة المراقبة و التقويم:
للقيام بتتبع و مراقبة النتائج المحصلة خلال التكوين، طيلة مسار الإنتاج و ذلك لتصحيح ما يمكن تصحيحه و تدارك ما يمكن تداركه من المستجدات، و ذلك قبل اكتمال المنتوج و وصوله للمستهلك. و تدل كذلك هذه التكلفة على درجة الجودة المحققة أثناء السيرورة.

3-4-3 تكلفة إصلاح الأخطاء:
للقيام بإجراءات تقويمية للرفع من درجة الجودة و ردم هوة الفرق بين حالة المنتوج و المعايير الموضوعة سلفا و تحقيق المطابقة. و ذلك بالحد من آثار الأخطاء المرتكبة و الأعطاب المسجلة. و تجدر الإشارة إلى أنه كلما ارتفعت تكلفة الوقاية، قلت تكلفة إصلاح الأخطاء، فالوقاية خير من العلاج.

الجودة و التنمية المستدامة:
إن اعتماد التدابير التشاركية و المقاربات النسقية في الآونة الأخيرة، جعل المحيط في قلب الاختيارات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و في سيرورة متطورة هدفها التنمية المستدامة، و هو ما يستدعي التنسيق بين عدة قطاعات بهدف تحقيق جودة الحياة عامة، و التي تضمنها جودة المنتوجات التي تحفظ التوازن البيئي و تضمن صحة و سلامة المواطن.
    إن التدبير الشمولي هو الذي يصنع الفرق بين التنمية المستدامة و التنمية الكلاسيكية التي عهدناها، فالمستدامة متعددة الأبعاد و دقيقة الأبعاد و دقيقة على مستوى القطاعات الإنتاجية. كما أن لكل الأطراف المتدخلة في صنع القرار نفس التراتبية و الترتيب على اختلاف مراكزهم. كما أن مبدأ الشمولية يجعل هندسة الجودة من إخراج المستهلك و تنفيذ رب المقاولة عبر متدخلين لهم نفس الأهمية.
    و عليه فالمقاربة النسقية تفترض ضمان جودة الخدمات المقدمة و إحداث أنظمة وظيفية مع نظام فعال للقيادة، بغية ربط علاقات إيجابية مع المحيط. قيادة ذات مواصفات خاصة تضمن المرونة، و الإجرائية و التواصل و التنظيم و الريادة، تحفز الجميع للمشاركة. فعملية التنمية و البناء و التطوير لا تعتمد على من هم في واقع المسؤولية فقط بل تحتاج إلى تظافر الجهود، لكل مواطن عل أرض هذه الدولة.

خاتمة:
ما يجب التركيز عليه في النهاية هو أن الجودة بشكل عام هي مطابقة المنتوج للمواصفات و المعايير التي سطرت له في البداية. فالجودة التزام بالوفاء بما اتفق عليه. و قد أصبحت اليوم من الضروريات و ليست خيارا تكميليا كما يعتقد البعض. و نحن مقبلون على تبادل حر يرفع شعار الجودة أولا و الجودة أخيرا.
تدبير الجودة يقتضي منا تظافر الجهود لجعل الجودة سلوكا يوميا و ليس شعارا نتشدق به في منابر الإعلام. فوعي المستهلك ترك المجال للجودة لتعرف بنفسها و تقدم نفسها. فهي أبعد و أعمق من أن تكون مخططا، إنها ثقافة و كذلك وعي اجتماعي و اختيار استراتيجي.

استنتاجات:
ما تم توضيحه بشأن الجودة يقتضي منا نحن رجال التعليم الممارسين قبل أي طرف آخر وقفة تأمل لإعادة ترتيب مسلماتنا، فمن المفروض بعد كل هذا التوضيح الجزم بكون الجودة شيئا ممكن التحقيق على اي قاعدة كانت مهما كانت ضعيفة البنية المادية بشرط قوة البنية المعنوية و الإرادة الصلبة. و عليه نخلص إلى تكلفة أن الجودة تعنى تقديم الممكن في أبهى و أفضل صوره مع الأصالة، أمر يجعل الحديث عن جودة المنتوج التربوي قابلا للتحقيق في ظل الظروف التي تعانيها مثل هذه الأوساط ذات الاحتياجات الخاصة التي نمارس فيها. تحقيق ذلك يشترط تبني رؤية موحدة من جميع الفاعلين و إرادة مشتركة بغية تحقيق الهدف المتفق عليه مع الشركاء الميدانيين و ليس ما يسطر في الدوائر العليا، كما يقترض إشراك الجميع في أي مشروع دون اعتبار لتراتبية فنحن أمام فسيفساء يزيدها اختلاف الألوان رونقا، كما يجب الاستفادة من الإمكانيات المتاحة و عدم تعليق المطلوب بمستحيل أو غائب. و لمزيد من التوضيح اضرب لكم مثالا يتكرر بمؤسساتنا التعليمية حيث نلحظ في بداية كل موسم دراسي كيف يتهافت أولياء أمور التلاميذ على تسجيل أبنائهم في مؤسسات دون أخرى و لو كانت بعيدة، و كذلك الطلبات المتكررة للآباء لنقل أبنائهم من أستاذ لآخر، ألا ترى معي أن الجودة هي ضالة هؤلاء و التي تحققت في مؤسسة دون أخرى في نفس المجال، أو عند أستاذ دون الآخر في نفس المؤسسة. و في نفس السياق كثيرا ما نرى و نسمع حنين الكثير إلى الدراسة في العقود الماضية و يخوض في وصفها كملاحم، مع ما نعلمه عن شح الماديات آنذاك و بخاصة في ميدان التعليم. هكذا يتضح جليا كيف أن مسألة الجودة تحددها معايير ذاتية أولا قبل أي مبرر مادي أو خارجي، و الرهان رهان إرادة قبل أي شيء. و همسي لك في أذنك أن أنك قادر إذا أردت.       

بيبليوغرافيا:

دونالد باري و بويد بولسون. إدارة التشييد المتخصصة. ترجمة محمد سعيد بن مشبب سعد فنيس. مركز البحوث. معهد الإدارة العامة.2005م.
محمد أمزيان. تدبير جودة التعليم . مطابع أفريقيا الشرق. الدار البيضاء. 2005م.
نشرة الجودة. العدد1.قسم الإدارة الإستراتيجية. مركز الجودة. يناير 2004.أبو ظبي.
نشرة الجودة. العدد2.قسم الإدارة الإستراتيجية. مركز الجودة. ماي 2004.أبو ظبي.
نشرة الجودة. العدد3.قسم الإدارة الإستراتيجية. مركز الجودة. شتنبر 2004.أبو ظبي.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟