نحن نتذكّر: تأمّلات في المحرقة - ترجمة: د. عزالدين عناية

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس(الوثيقة الرسمية التي تنظّم علاقة الكنيسة الكاثوليكية باليهود)
تعد هذه الوثيقة المترجمة واحدة من أبرز النصوص المتعلّقة باليهود في التاريخ المعاصر للكنيسة الكاثوليكية. فهي وثيقة لاهوتية مرجعية تعكس مواقف الكنيسة ورؤاها في مستهلّ القرن الواحد والعشرين، ومحورية من حيث إلزامها للكاثوليك واستلهام أبعادها ومضامينها، سواء في الحوارات الجارية مع اليهود، أو ما تعلّق منه بمواقف الكنيسة. آثرنا ترجمتها إلى اللّسان العربي وإطلاع القارئ العربي عليها، لما لها من جدوى في الإلمام بسياسة الكنيسة.
فنظرا للقيمة المرجعية الرسمية لهذه الوثيقة التي أعدتها لجنة العلاقات الدينية مع اليهودية، برئاسة الكردينال إدوارد إدريس كاسيدي في الفاتيكان، فإن الجدل حولها داخل الكنيسة ما انفك، لاسيما لأثر المفاعيل الثقافية والدينية المترتبة عليها في الأحقاب المقبلة.
استهلّت الوثيقة بتوطئة للكردينال كاسيدي، جاءت كالتالي:
عبر عديد المناسبات وفي أثناء مهمتي البابوية، استعدت بشعور يغمره الأسى عذابات الشعب اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية. إذ تستمرّ تلك الجريمة، التي صارت تعرف بالمحرقة، وصمة بيّنة في تاريخ القرن العشرين.
ونحن نتأهّب لحلول الألفية الثالثة من العصر المسيحي، تبقى الكنيسة مدركة أن غبطة اليوبيل، هي مسرّة متأسّسة على الصفح عن الخطايا والتصالح مع الربّ ومع القريب. لذلك تدعو الكنيسة أبناءها وبناتها لتطهير قلوبهم من الشوائب، عبر التوبة عن الأخطاء وعن أصناف المكر الذي حصل في الماضي. وتدعوهم إلى الوقوف بخشوع بين يدي الرب، وتفحّص مسؤولياتهم في ما اقترف من شرور في زماننا.
رجائي الصادق أن تعين بحق وثيقة " نحن نتذكّر: تأمّلات في المحرقة"، التي أعدتها وأشرفت عليها لجنة العلاقات الدينية مع اليهودية، على تضميد جراح الخلافات والمظالم في الماضي. وتحفّز الذاكرة وتؤهّلها لأداء مهامها في كنف تشييد مستقبل، لا مكان فيه البتة لظلم المحرقة المجحف. لتكن قدرة ربّ العالمين في عون جهود الكاثوليك واليهود، وكلّ الرجال والنساء، من ذوي النوايا الطيبة، للعمل معا من أجل عالم يسوده احترام أصيل لحياة وكرامة كل كائن بشري، لأن الجميع خلقوا على شبه الله وصورته.
الفاتيكان، 12 مارس 1988
مأساة المحرقة وواجبات الذاكرة
إن هذا التأمّل يتعلّق بإحدى أهم المجالات، التي يستطيع الكاثوليك بكل ثبات، ومن قلوبهم الإصغاء فيه للنداء الموجه إليهم من جانب يوحنّا بولس الثاني في الرسالة الرعوية – Tertio millennio adveniente- في قوله: "مما هو جدير والألفية الثانية بصدد الانقضاء، أن تواجه الكنيسة مسؤولياتها بوعي متيقّظ بآثام أبنائها، مستذكرة عبر التاريخ، كل الظروف التي حادوا فيها عن روح المسيح وإنجيله، موفرة بذلك للعالم، إضافة إلى شهادة حياة مستلهَمة من قيم الإيمان، صورة من ضروب التفكير والفعل المناقضة حقا للشهادة".
لقد شهد القرن العشرون مأساة هائلة يتعذر نسيانها، تتمثل في محاولة النظام النازي إبادة الشعب اليهودي. عبر قتل الملايين، رجالا ونساء، شيبا وشبابا وأطفالا، لا لشيء إلا لأنهم من أصل يهودي، وعليه تمت ملاحقتهم وتهجيرهم. فالبعض منهم قتل توّا، وآخرون جرى إذلالهم وإرهاقهم وتعذيبهم، مع إهدار كرامتهم الإنسانية، وفي النهاية أزهقت أرواحهم. وقلّة ممن حشروا في المحتشدات نجوا بأرواحهم، فيما ظلت البقية المتبقّية في رعب طيلة حياتها. هكذا شكلت المحرقة، إحدى أهم المآسي التي جرت في التاريخ.
أمام هذه الإبادة الرّهيبة، التي يجد قادة الدول، والجماعات اليهودية ذاتها، صعوبة في تمثل اقترافها دون شفقة، إذ لا أحد بإمكانه أن يبقى غير مبال. خصوصا الكنيسة، بسبب من صلات القربى الروحية الوثيقة التي تجمعها بالشعب العبري. فعلاقة الكنيسة بالشعب اليهودي تختلف عن كلّ ما يجمعها بأي دين آخر. ليست المسألة هنا مجرّد عودة إلى الماضي فحسب، إذ المستقبل المشترك لليهود والمسيحيين يملي علينا التذكّر، لأنه "لا مستقبل بدون ذاكرة"، والتاريخ نفسه ذاكرة للمستقبل.
مع التوجه بتلك التأملات نحو إخواننا وأخواتنا في الكنيسة الكاثوليكية في شتى أنحاء العالم، نطلب من جميع المسيحيين مشاركتنا التمعّن في تلك الكارثة التي ألمت بالشعب اليهودي، وتنبيههم إلى واجباتهم الخلقية، حتى لا تبلغ الأنانية والبغضاء مبلغا تزرعان فيه العذابات والموت. وبشكل خاص، ندعو أصدقاءنا اليهود، "في هذا القدر الرهيب الذي صار رمزا للضلال، الذي يمكن أن يلمّ بالإنسان حين يضاد مشيئة الله"، لتليين قلوبهم والإصغاء إلينا.
2. ماذا ينبغي أن نتذكّر؟
على مدى شهادته الفريدة على قداسة إسرائيل والتوراة، عانى الشعب اليهودي أيما معاناة عبر شتى الأزمنة والأمكنة، لكن المحرقة كانت بحق العقاب الذي فاق غيره. فالشكل اللاإنساني الذي لوحق به اليهود، وقتلوا به خلال القرن العشرين، يتجاوز قدرة تعبير المفردات.
تثير ضخامة الجريمة جملة من الأسئلة. حيث يسعى مؤرّخون وفلاسفة، وساسة وعلماء نفس ولاهوتيون، لإلمام أعمق بالواقعة. ولئن كانت معظم الدراسات المتخصصة تحتاج للإتمام، فإن حدثا مشابها لا يمكن أن يقاس بالمعايير العادية للبحث التاريخي. ذلك أن الأمر يستدعي –وخصوصا بين المسيحيين- "ذاكرة أخلاقية ودينية"، وتفكّرا جادا في المسببات التي أحدثته. لأن مسرح المحرقة كان أوروبا، أي في بلدان ذات حضارة مسيحية عريقة، فذلك يطرح سؤالا بشأن العلاقة بين الاضطهاد النازي والمواقف المسيحية، عبر القرون تجاه اليهود.
العلاقات بين اليهود والمسيحيين
إن تاريخ العلاقات بين اليهود والمسيحيين هو تاريخ معاناة. اعترف بذلك الحبر المقدّس يوحنا بولس الثاني في نداءاته المتكرّرة للكاثوليك لمراجعة المواقف في علاقتنا حيال الشعب اليهودي. وبالفعل فقد كانت حصيلة العلاقات أثناء الألفيتين سلبية.
منذ فجر المسيحية، وبعد صلب المسيح، ظهرت خلافات بين الكنيسة الأولى، وقادة اليهود والشعب العبري. ما أدى أحيانا، إلى تعريض المبشّرين بالإنجيل والمسيحيين الأوائل إلى التعنيف. وفي زمن الإمبراطورية الرومانية، التي كانت وثنية، كان اليهود محميين قانونيا بفضل الامتيازات التي خصهم بها الإمبراطور. وفي وقت مبكر كانت السلطات تميز بين الجماعات اليهودية والمسيحية، لكن فيما بعد اصطدم المسيحيون باضطهاد الدولة. ولما اهتدى الأباطرة أنفسهم إلى المسيحية، واصلوا ضمان امتيازات اليهود. لكن جماعات مغالية من المسيحيين هاجمت المعابد الوثنية، من دون إغفال بعض التأويلات المنحرفة للعهد الجديد، في ما يتعلق على الجملة بالشعب اليهودي: "في العالم المسيحي-ولا أقول من جانب الكنيسة- شاعت تأويلا منحرفة وغير صحيحة للعهد الجديد تتعلق بالشعب اليهودي وإثمه المدعى، على مدى وقت طويل، مخلفة عداوة تجاه هذا الشعب". وما يجدر ذكره أن مثل هذه التأويلات للعهد الجديد تم دحضها نهائيا مع انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني.
على الرغم من دعوة المسيحية إلى محبة الجميع، فإن العقلية السائدة، بقيت غالبا، وعلى مدى قرون، تؤذي الأقليات بصفتهم "أغيار". فمشاعر الكره لليهودية في بعض الأوساط المسيحية عكست التناقضات الموجودة بين الكنيسة والشعب اليهودي. وهي المشاعر التي قادت إلى تمييز عام، صبّ أحيانا في بوتقة التهجير، أو في محاولات التنصير القسرية، جرى ذلك في حيز واسع من العالم "المسيحي"، حتى منتهى القرن الثامن عشر، حيث لم يتمتّع غير المسيحيين بقانون تشريعي يحميهم. ومع ذلك، بقي اليهود المنتشرون في أرجاء العالم المسيحي أوفياء لتقاليدهم الدينية وأعرافهم المميزة، وبسبب ذلك وضعوا محلّ شبهة وريبة. إذ في أزمنة المحن، كالمجاعات والحروب، أو انتشار أوبئة الطاعون، أو التوترات الاجتماعية، غالبا ما تحوّلت الأقلية اليهودية كبش فداء، تعرضت أثناءه للعنف والنهب والقتل.
بين نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، بات اليهود عموما على درجة من التساوي مع غيرهم في جلّ الدول. بل منهم من حاز مواقع مؤثّرة في المجتمع. لكن خلال هذا السياق التاريخي، وخصوصا في القرن التاسع عشر، دبّت قومية يائسة وخاطئة. في مناخ تحوّل اجتماعي متسارع، غالبا ما أتهم فيه اليهود بممارسة تأثير متفاوت بحسب أعدادهم. الأمر الذي أدّى لانتشار كراهية اليهود وبمستويات مختلفة في أوروبا، وهي كراهية ذات طابع اجتماعي سياسي أكثر من كونها ذات طابع ديني.
وفي الفترة نفسها، ظهرت نظريات تنفي وحدة النوع البشري، وتؤكد على اختلاف الأجناس. وخلال القرن العشرين، وظّفت القومية الاشتراكية في ألمانيا بعض تلك الأفكار، واستندت إليها كقاعدة علمية محرّفة، بحجّة التمييز بين الأجناس الشمالية الآرية والأجناس المعتبَرة من درجة أدنى. بالإضافة إلى هذا، أخذ شكل من التطرّف القومي تتّسع رقعته في ألمانيا، منذ هزيمة 1918. جرى ذلك بسبب الشروط المذلّة التي فرضها المنتصرون، والتي دفعت بالكثيرين إلى أن يجدوا في القومية الاشتراكية حلاّ لمشاكل البلاد، لذلك تعاونوا سياسيا مع هذه الحركة.
ردّت الكنيسة في ألمانيا على ذلك بإدانة العنصرية. وقد ظهر ذلك للمرّة الأولى في خطب بعض رجال الدين، وفي التعاليم العامة للأساقفة الكاثوليك، وفي كتابات الصحفيين من ذوي التوجهات الكاثوليكية. ففي شهر فبراير من العام 1931، نشر الكردينالان برترام دي برسلافيا وفولهابر، وأساقفة بافاريا، وأساقفة مقاطعة كولونيا، وأساقفة مقاطعة فريبورغ، رسائل رعوية أدانوا فيها مفاهيم القومية الاشتراكية الوثنية بشأن العرق والدولة. وفي السنة نفسها التي أمسكت فيها القومية الاشتراكية الألمانية بمقاليد السلطة، عام 1933، خطب الكردينال فولهابر خطبة آفنتو الشهيرة، والتي لم تقتصر المشاركة فيها على الكاثوليك، بل انضم إليها أيضا البروتستانت واليهود، عبر فيها عن رفض صارم للدعاية النازية اللاّسامية. وعلى إثر ذلك أقام برنار ليشتنبيرغ، راعي كاتدرائية برلين، صلوات عامة لأجل اليهود.
إضافة إلى ذلك أدان البابا بيو الحادي عشر العنصرية النازية بشكل صارم، في رسالة –Mit brennder Sorge- التي تليت في كنائس ألمانيا ذات أحد من سنة 1937. كذلك توافق يوم آلام السيد المسيح، مع مبادرة كلّفت الإكليروس تهجمات ومقاطعات. وفي السادس من سبتمبر سنة 1938، وفي حديث موجّه لمجموعة من الحجيج البلجيكيين، قال البابا: "إن اللاسامية شيء مرفوض، فمن الناحية الروحية كلّنا ساميون". كذلك حذّر بيو الثاني عشر في رسالته البابوية الأولى -Summi Pontificatus-، في العشرين من أكتوبر سنة 1939، من النظريات التي ترفض وحدة الجنس البشري، أي تلك النظريات التي تؤلّه الدولة. ولقد بدا واضحا أن كل الأشياء التي تنبأ بها قادت إلى "ساعات ظلمة" حقيقية.
4- اللاّسامية النازية والمحرقة
لا يمكن نكران التناقض الموجود بين اللاسامية -المتأسّسة على نظريات مضادة للتعاليم الثابتة للكنيسة فيما يتعلّق بوحدة النوع البشري، وتساوي كرامة كلّ الأجناس- وبين مشاعر التوجس والعداء الموغلة عبر القرون، التي نسميها معاداة اليهودية، والتي للأسف، انساق مسيحيون لاقترافها.
لقد ذهبت إيديولوجيا القومية الاشتراكية بعيدا، في رفضها الاعتراف بأي حقيقة متعالية. أو بأي مصدر للحياة، أو بأي معيار للخير الأخلاقي. وبالنتيجة، تجسّد إقرار مفهوم الدولة في مجموعة بشرية نظرت إليها كقيمة مطلقة، وقرّرت محو الوجود الذاتي للشعب اليهودي، هذا الشعب المدعو لتقديم شهادة عن الله الواحد وعن شريعة العهد. وعلى المستوى اللاهوتي، لا يمكن أن نتجاهل، أن من أبدوا اعتراضا، على فكرة العناية الإلهية تجاه البشر، كانوا قلة منتمية إلى الحزب النازي، إضافة لما أبدوه من مقت لله ذاته. وهكذا فقد ساد منطقيا، موقف مشابه قاد إلى رفض المسيحية، وإلى الرغبة في رؤية الكنيسة مدمَّرة، أو على الأقل خاضعة لمصالح الدولة النازية.
كانت هذه الإيديولوجيا المتطرفة ملهِمة للإجراءات المتبعة، بدءا باجتثاث اليهود من دورهم ثم إبادتهم. فكانت المحرقة عملا لنظام شاذ شابته لوثة وثنية حديثة، وجد جذور معاداته للسامية خارج المسيحية، ولم يتوان عن متابعة أهدافه عبر مناهضة الكنيسة واضطهاد أعضائها.
لكن ينبغي التساؤل عما إذا كان عسف النازية الممارس ضد اليهود، قد وجد دفعا من الأحكام المسبقة المضادة لليهود، أي تلك الحاضرة في عقول وقلوب بعض المسيحيين. أوليس الشعور بكره اليهود هو ما جعل المسيحيين أوهن إحساسا، وحملهم إلى حدّ اللامبالاة بالاضطهادات المقترفة ضد اليهود من جانب القومية الاشتراكية حين تسلّمت السلطة؟
كل إجابة عن ذلك ينبغي أن تولى اهتماما خاصا، كون الحادثة، المتعلقة بتاريخ ومواقف ورؤى أناس، نحن بصدد معالجتها، كانت خاضعة لجملة من المؤثرات. زيادة على ذلك، كان الكثير يجهل كلّيا "الحلّ النهائي" الذي يزمع اتخاذه ضد شعب بأسره؛ وإلاّ لتملّكتهم الخشية على أنفسهم وعلى أحبتهم، مع أن البعض حازوا غنيمة من الوضع السائد، وآخرون تحرّكوا بدافع الحسد. للإجابة على ذلك ينبغي تفحّص كل حالة على حدة، وللقيام بها، نجد من الضروري معرفة دوافع الأشخاص بالضبط في الحالة المحددة.
ففي البداية، سعى قادة الرايخ الثالث لتنقية اليهود. ولسوء الحظ، فإن مواقف حكومات بعض الدول الغربية ذات التراث المسيحي، ومن ضمنها بعض دول شمال وجنوب أمريكا، كان يشوبها التردد بغرض فتح حدودها لليهود المضطهَدين. حتى وإن كان يتعذّر عليهم التنبؤ بما تبيّته الطغمة النازية من نوايا إجرامية، فقد كان قادة بعض الدول على علم بالمصاعب والمخاطر المحدقة باليهود، لاسيما من الذين يعيشون على تراب الرايخ الثالث. في تلك الظروف، سوف يؤدي غلق الحدود أمام الهجرة اليهودية، أيا كان سببه، التخاذل، أو محدودية الرؤية السياسية، أو الأنانية القومية، إلى أن يشكّل عبئا ثقيلا على ضمائر السلطات المعنية.
في الأراضي التي قامت فيها النازية بالتهجير الجماعي القسري، حدثت فظاعات مع أناس عزّل، فهل قدّم المسيحيون أية مساعدة ممكنة للمضطَهدين وخصوصا لليهود؟
في الواقع، لقد قام بذلك كثيرون، وتهاون آخرون. إن من ساهم في إنقاذ اليهود حتى تعريض حياته للهلاك، ينبغي ألا ينسى. فأثناء الحرب وبعدها، عبرت جماعات وشخصيات يهودية عن شكرها لمن مدّ لهم يد العون، كالذي فعله بيو الثاني عشر شخصيا أو عبر ممثليه، بإنقاذ أرواح مئات الألوف من اليهود. واعترافا بذلك، تم تكريم عديد الأساقفة والقساوسة ورجال الدين والعلمانيين، من طرف دولة إسرائيل.
برغم ذلك، اعترف البابا يوحنا بولس الثاني –بجميل هؤلاء الجسورين من الرجال والنساء- لكنه رأى أن النضال الروحي، والعمل الفعلي لمسيحيين آخرين، كان دون ما ينتظر من أتباع المسيح. فليس بإمكاننا معرفة أعداد المسيحيين في البلدان المحتلة، أو التي تولت القيادة فيها قوى نازية، أو التي سيرها حلفاؤهم، ممن استنكروا مأساة مجاوريهم اليهود، أو رفعوا عقيرتهم بالاحتجاج. وبالنسبة للمسيحيين، فإن عبء الضمير الثقيل تجاه إخوانهم وأخواتهم أثناء الحرب العالمية الثانية، ينبغي أن يكون مدعاة للتوبة.
أسفنا عميق على ما اقترفه أبناء الكنيسة وبناتها من أخطاء وآثام، ونهتدي بما قاله المجمع الفاتيكاني الثاني في تصريح nostra aetate البين: "إن الكنيسة... تشيد بالتراث الذي يجمعها باليهود، وتحض، ليس تحت داع سياسي ولكن بورع ديني إنجيلي، على التأسف على ما اقترف من كره وظلم أو من مظاهر العداء للسامية ضد اليهود في كل الأزمنة ومن أي طرف كان".
نتذكّر ونقتدي بمقال البابا يوحنا بولس الثاني، في توجّهه لقادة الجالية اليهودية بستراسبورغ سنة 1988: في قوله: "أعرب لكم مجدّدا عن إدانتي الشديدة لأي شكل من اللاسامية، ولأية ممارسة عنصرية، تتناقض مع المبادئ المسيحية".
في هذه الأثناء تندّد الكنيسة الكاثوليكية بشتى أنواع الاضطهاد، في أي مكان وفي أي زمان، مما سلّط ضد أي شعب، أو أية جماعة بشرية. فهي تدين بشكل صارم كل ممارسات  الإبادة، كما تدين بالمثل الإيديولوجيا النازية التي حضّت عليها. وبإلقاء نظرة على القرن العشرين، نذكر ببالغ الأسى ما لحق من عسف بجماعات بأكملها من الشعوب والأمم. ونتذكر بشكل خاص مذبجة الأرمن، والضحايا الذين لا يحصى عددهم من الأكرانيين خلال الثلاثينيات، وإبادة الغجر، الناتجة أيضا عن الأفكار العنصرية؛ ومآس مماثلة جرت في أمريكا وإفريقيا وبلاد البلقان. لا نود أن نغفل كذلك ملايين ضحايا الإيديولوجيات الشمولية في الاتحاد السوفياتي والصين وكمبوديا وغيرهم. ولا نغفل أيضا عن دراما الشرق الأوسط التي يعرف الجميع آثارها. أيضا ونحن نعرض هذه التأملات: " لايزال أناس كثيرون ضحايا إخوانهم".
5- لننظر معا إلى مستقبل مشترك
بالنظر إلى آفاق علاقات اليهود بالمسيحيين، نطلب، في مستوى أول، من إخواننا وأخواتنا الكاثوليك والكاثوليكيات تجديد الوعي بالجذور اليهودية لإيمانهم. كما ندعوهم لتذكّر أن يسوع المسيح منحدر من داود، وأن مريم العذراء والتلاميذ الأوائل من سلالة ذلك الشعب اليهودي أيضا؛ وأن الكنيسة تستمد جذورها من تلك الزيتونة الطيبة التي طعّمت بها أغصان الزيتون البرّي للأغيار؛ وأن اليهود إخوتنا الأعزّة والأحبّة، وبمعنى ما هم حقّا "إخوتنا الكبار".
وتعبر الكنيسة الكاثوليكية عن عميق أسفها على افتقاد أبنائها وبناتها في كل حقبة. يتعلق الأمر بفعل توبة (تشوفا)، فكأبناء في الكنيسة نتشارك معا في الآثام والحسنات. والكنيسة تدنو بوجل من عمليات الإبادة التي عانى منها الشعب اليهودي أثناء الحرب العالمية الثانية. لا يتعلق الأمر بمجرّد كلمات، بل بالتزام جاد "لما نخشاه من إعادة قتل الضحايا شر قتلة، لما يحدوهم من شوق للعدالة يلتزم به كل واحد حسب قدراته، حتى لا يغلب الشر الخير كما جرى في حالة الملايين من أبناء الشعب اليهودي... فالإنسانية لن تسمح مجدّدا بما جرى سابقا".
نصلّي لأجل أن تقود آلام مأساة الشعب اليهودي، إلى علاقات جديدة معه. ونتطلع إلى تصحيح الوعي بأخطاء الماضي عبر التزام ثابت، من أجل مستقبل جديد، خال من مشاعر الكراهية المتبادلة بين اليهود والمسيحيين؛ وإلى احترام مشترك، كما ينبغي على الذين يعبدون إلها خالقا واحدا، ويشتركون في أبوة إيمان واحدة تعود لإبراهيم.
في النهاية، نحض الجميع، رجالا ونساء، من ذوي النوايا الطيبة إلى التأمّل بعمق في معنى المحرقة. فالضحايا من قبورهم، والناجون عبر شهاداتهم الحية، من خلال ما لاقوه، يرفعون نداء صارخا للإنسانية جمعاء يدعوها للتيقظ. إن تذكّر هذه المأساة الرهيبة لهو مدعاة للانتباه للبذور الخبيثة لكره اليهود واللاسامية، تلك التي ينبغي ألا تجد تربة في قلب الإنسان.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟