الترجمة أهميتها ودورها في تطوير الأجناس الأدبية ـــ عبد الكريم ناصيف

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسأهمية الترجمة:‏
عبر التاريخ لعبت الترجمة دوراً بالغ الأهمية في نقل المعارف والثقافات بين الشعوب. فاليونان يرسلون الطلاب والدارسين إلى مصر القديمة للتعلم ونقل معارفها في الحساب والفلك والزراعة... إلى الإغريقية، ثم يأتي الرومان فينقلون عن الإغريقية آدابها وفلسفتها، ويأتي العرب فينقلون عن اللاتينية والإغريقية، ويأتي العصر الوسيط فيدفع بالأمم الأوربية الغارقة في عصر الظلمة إلى نقل المعارف عن العرب. وهكذا تترجم كتب ابن سينا وابن رشد وابن الهيثم والكندي والرازي وغيرهم من علماء النبات والفلك والجغرافيا والتاريخ.. ويظل كتاب القانون يدّرس حتى القرن السادس عشر في بعض الجامعات الأوربية. ثم تدور الدائرة ويعود العرب، وقد وجدوا أنفسهم متخلفين عن الركب الحضاري بعد عصر انحطاط طويل، مضطرين للنقل عن أوربا. وهكذا دواليك... إذ تبقى الترجمة اللحمة التي تربط بين خيوط السداة في نسيج الحضارة البشرية، ربما، لولاها، لظلت الأقوام والشعوب متباينة متباعدة لا يربط بينها رابط.‏
هذا الدور الأساسي الذي تقوم به الترجمة نراه واضحاً من خلال النظرية التي تقول: إن للحضارة أطواراً ومراحل، وإن لكل طور ومرحلة شعباً من الشعوب يحمل مشعل الحضارة، تماماً كما في سباق الماراثون، إذ ليس باستطاعة أي شعب أن يحمل هذا المشعل إلى الأبد... بل هو يأخذه من شعب سابق ويسلمه إلى شعب لاحق... يأخذ ويعطي... مستفيداً من مجمل الإنجازات التي توصلت إليها الشعوب الأخرى قبله... ناقلاً ما وصل إليه وما استطاع أن يطوره يإمكاناته الذاتية إلى ما بعده... وعملية النقل هنا تعتمد اعتماداً رئيسياً على الترجمة. فعلوم الكلدان وإنجازاتهم في الحساب والفلك لم تضع هباء، بل انتقلت إلى مصر. وفلسفة الإغريق وحكمتهم وجدت نفسها بحلة جديدة بين أيدي العرب، وهكذا جبر الخوارزمي وكيمياء ابن حيان وبصريات ابن الهيثم... مشعل ينتقل من يد إلى يد.‏
ولعلنا نرى في تاريخنا العربي أوضح الأمثلة على الدور الذي لعبته الترجمة؛ فقد تنبه الخلفاء, خاصة بعد عصر الفتوحات الأولى، إلى أن هناك ثغرات واسعة لا بد من سدها، لا سيما في مجال تنظيم الدولة والقوانين والجباية وشؤون الإدارة والمال... إلخ. لهذا سارع عبد الملك بن مروان فأمر كل ذي معرفة بلغة بيزنطة وفارس واليونان بترجمة كل ما كتب في هذه الميادين، بعدئذ بدأت حركة الترجمة تتسع وتتطور إلى أن بلغت الذروة في العصر الذهبي للحضارة العربية، عصر المأمون، ذلك العصر الذي احتل فيه أعلام الترجمة مكانة رفيعة لدى الخليفة ورجال الدولة والوسط الاجتماعي، وهكذا حفظ لنا التاريخ أسماء لامعة لما نقلته لنا من كبار الأعمال عن الفارسية والهندية، اللاتينية والإغريقية.. كابن المقفع، ثابت بن قرة، يحيى بن البطريق، سهل بن هارون، حنين بن إسحاق، يوحنا بن ماسويه... إلخ.
بل يذكر لنا التاريخ أن هؤلاء الأعلام كانوا من أقرب المقربين للخليفة العباسي، يعتمد عليهم، ويأخذ بمشورتهم ويقدم لهم أجزل العطاء. بالمقابل، نجد أن عصر الانحطاط الذي مرت به أمتنا العربية يتسم بالانغلاق التام والتقوقع وعدم النقل عن الأمم الأخرى. فطوال قرون عديدة أعقبت الازدهار في حركة الترجمة في القرنين الثاني والثالث الهجريين، عانت الترجمة انحساراً تاماً بلغ في مرحلة من المراحل درجة الانعدام، وذلك كما في العهد العثماني، حين غدا النشاط الثقافي والفكري مقتصراً على شؤون الفقه والدين ومماحكات اللغة وسفسطائيات النحو والصرف.‏
لعل الترجمة تكتسب أهميتها من النقاط التالية:‏
1 ـ الترجمة محرض ثقافي يفعل فعل الخميرة الحفازة في التفاعلات الكيماوية، إذ تقدم الأرضية المناسبة التي يمكن للمبدع والباحث والعالم أن يقف عليها ومن ثم ينطلق إلى عوالم جديدة يبدع فيها ويبتكر ويخترع.. هذه الأرضية تصنعها الترجمة بما توفره من معارف الشعوب الأخرى التي حققت تراكماً عبر التاريخ يمكنها من دفع النخبة الفكرية من النقطة التي بلغتها الثقافة البشرية وليس من الصفر، وكذلك بما تقدمه من نماذج وأساليب تمكنت الشعوب السابقة من إيجادها عبر كفاحها المتواصل والمستمر لتحسين العقل البشري وتطوير المعرفة لدى الإنسان.‏
عملية التحريض التي تقوم بها الترجمة نراها واضحة لدى كل أمة، خاصة حين تنتقل إلى طور حامل المشعل الحضاري، إذ تسبق حركة الترجمة دائماً حركة التأليف، بالمعنى العام للكلمة، وتمهد الأولى للثانية بحيث يبدو جلياً إذا ما ألقينا نظرة على تاريخ الأمم أن حركة الترجمة كانت دائماً هي المرحلة الانتقالية ما بين مرحلة الجدب، أي عدم العطاء بالمعنى الحضاري والثقافي، ومرحلة الإبداع والتأليف. ذلك أنه ما من أمة انتقلت، أو يمكن أن تنتقل، بقفزة واحدة من الجدب الثقافي إلى الخصب والعطاء، بل لا بد لها من فترة زمنية قد تستغرق عقوداً بل ربما قروناً من السنين. نرى هذا في حضارات الشرق، اليابان والصين، الهند والشعوب المجاورة لها، كما نراه في الغرب: الإسبان الذين نقلوا عن العرب، وشمال أوربا التي نقلت عن جنوبها، وجنوب أفريقيا التي نقلت عن شمالها وعن أوربا... إلخ... إلخ.‏
2 ـ الترجمة تجسر الهوة القائمة بين الشعوب الأرفع حضارة والشعوب الأدنى حضارة. ذلك أن الإنسان في سعيه الحثيث والدائب لاكتساب المعرفة يتطلع دائماً إلى من سبقه في هذا الميدان، لهذا تغدو المراكز الحضارية في العالم مراكز نور وإشعاع تجذب أبناء الظلمة وتغريهم بالاندفاع نحوها. لهذا السبب غدت بغداد المنارة المضيئة للعالم ذات يوم كما كانت قبلها روما وأثينا، وكما أصبحت بعدها باريس ولندن... هنا تلعب نقاط الاحتكاك والجغرافية دور الجسر الحقيقي بين الأرفع حضارة والأدنى حضارة... فالتماس بين شعبين متباينين ثقافياً يدفع الأقل ثقافة إلى تقليد الأرفع ثقافة وتحصيل ما لديه من معرفة، سواء بالتحصيل المباشر أي التعلم والنقل الحرفي والمهني أم بالترجمة وبالتالي التعلم غير المباشر. وفي حضارتنا العربية لعبت إسبانيا وصقلية والبندقية دور الجسر هذا، إذ انتقلت عبرها معارف العرب وعلومهم مترجمة إلى لغات أوربا الجنوبية ودرست في مدارسها وجامعاتها إلى أن أعطت أُكُلها في عصر النهضة الذي بدأ أول ما بدأ في إيطاليا وإسبانيا ثم انتقل إلى فرنسا وألمانيا وبريطانيا... وليس هذا الانتقال التدريجي اعتباطياً أو محض مصادفة بل هو الجسر الحضاري الذي شكلته هذه البلدان من خلال احتكاكها المباشر والأشد فعالية بمركز الحضارة العالمي في القرون الوسطى: الحضارة العربية الإسلامية.‏
3 ـ الترجمة هي الوسيلة الأساسية للتعريف بالعلوم والتكنولوجيا. ذلك أن ما يكتشفه العلماء ويتوصل إليه التكنولوجيون إنما ينتقل إلى المناطق الأخرى من العالم بواسطة الترجمة وحسب. فعالم الفضاء, الذرة، الكيمياء، الطب، مهندس الإلكترون، كلهم يكتبون ما توصلوا إليه من نتائج بحث في مختبراتهم وميادينهم المختلفة ثم يُنقَل ما كتبوه إلى اللغات الأخرى، شفهياً في المؤتمرات والمحاضرات أو خطياً على صفحات المجلات والكتب. هنا تبدو الترجمة وسيطاً مباشراً في التعريف بإنجازات البشرية وإطلاع بعضها على ما حققه البعض الآخر من تقدم وتطور، ولولاها لامتنع هذا الاحتمال وتعذر انتقال الإنجازات العلمية والتكنولوجية إلى الشعوب الأخرى... ففي اليابان مثلاً يتم اختراع جهاز إلكتروني ما، وقد ينتقل هذا الجهاز إلى هذا البلد أو ذاك لكن يبقى سر صنعته واختراعه غامضاً بل مجهولاً إن لم تكتب البحوث عنه وتترجم إلى اللغات الأخرى. ومن هنا نجد الكثير من الأسرار في عالم الصناعة والتكنولوجيا، تحتفظ بها دول بعينها وتعمل المستحيل لمنعها من الانتشار. حدث ذلك عقب اكتشاف أمريكا للقنبلة الذرية، محققة بذلك سبقاً على دول الأرض كلها وتفوقاً على الاتحاد السوفييتي خصوصاً. وقد حاولت جاهدة الحفاظ عليه ومنع الأسرار التقنية لعملية انشطار الذرة من الانتشار... كما يحدث ذلك الآن في ما نسمعه عن حظر بعض المعلومات والتقنيات الإلكترونية ومنعها من التسرب من بعض البلدان المتقدمة كاليابان مثلاً إلى بعض البلدان الأخرى الأقل تقدما في هذا المضمار.‏
4 ـ الترجمة عنصر أساسي في عملية التربية والتعليم. ذلك أن مناهج التربية والكتب التي تعتمدها المدارس في العملية التربوية لا تأتي من العدم ولا تنشأ من الفراغ، بل غالباً ما تتكون بصورة تدريجية معتمدة في ذلك اعتماداً أساسياً على الترجمة، إذ تنقل الشعوب الأقل ثقافة عن الشعوب الأكثر ثقافة مناهجها وكتبها أو الهيكل العظمي لهذه المناهج والكتب إلى لغتها الخاصة ثم تطورها شيئاً فشيئاً، بل كثيراً ما تبدأ هذه المناهج باستخدام الكتب الأجنبية كما هي ثم تنقلها إلى لغتها تدريجياً. الأمثلة على ذلك كثيرة، ففي الهند مثلاً، كان التعليم يجري باللغة الإنكليزية أيام الاستعمار بريطاني، وكانت المدارس تستخدم المناهج والكتب الإنكليزية تماماً كما في بريطانيا، ثم شيئاً فشيئاً تحول إلى اللغتين الأوردية والهندستانية وغيرهما من اللغات المحلية. في سورية ولبنان، كانت مناهج التعليم هي نفسها المعتمدة في فرنسا والكتب هي تلك المستخدمة في فرنسا، ثم ترجمت وعربت شيئاً فشيئاً إلى أن أصبحت عربية تماماً في سورية ومزيجاً من العربية والفرنسية في لبنان. في الساقية الحمراء ووادي الذهب، حيث كان الاستعمار الإسباني، كانت المناهج والكتب إسبانية في معظمها... لكن لا بد من أن يأتي يوم تترجم فيه هذه الكتب إلى العربية وتتبلور بشكل نهائي، متخذة أبعادها الخاصة، وذلك حين تكون الترجمة قد أدت دورها كمحرض ثقافي ومرحلة انتقالية يغدو الناس بعدها قادرين على تأليف كتبهم بأنفسهم ووضع مناهجهم من تلقاء ذواتهم، سواء على صعيد المدارس الابتدائية والثانوية التي أدت الترجمة فيها دورها بصورة عامة وبات بالإمكان الانتقال إلى مرحلة التأليف في معظم البلدان العربية، أم على الصعيد الجامعي حيث ما تزال المشكلة قائمة على نحو أشد وضوحاً حتى الآن، ففي معظم جامعات البلدان العربية ما تزال فروع كاملة كالطب والرياضيات والعلوم، تدرس باللغة الإنكليزية أو الفرنسية وتستخدم فيها المناهج الأجنبية، الأمر الذي يدل على أن حركة الترجمة لم تستطع نقل هذه المعارف إلى اللغة المحلية كما ينبغي، وبالتالي ما يزال يطلب منها الكثير باعتبارها العنصر الفعال في عملية التربية والتعليم.‏
5 ـ الترجمة هي الأداة التي يمكننا بها مواكبة الحركة الفكرية والثقافية في العالم. فنظرة واحدة يلقيها المرء على ما تصدره دور النشر باللغة الإنكليزية مثلاً تجعله يقف مندهشاً نظراً للأعداد الهائلة من الكتب والدوريات التي تصدر كل عام، هذا بلغة واحدة فكيف ببقية اللغات، الفرنسية، الروسية، الإسبانية، الصينية وغيرها من اللغات الأخرى... هذا الفيض من الكتب يشكل الحركة الفكرية والثقافية في العالم التي يتعين علينا أن نواكبها بهذا الشكل أو ذاك، ومواكبتنا لها لا تتم بالطبع إلا بمقدار ما نترجم من هذه الكتب كي يكون بإمكان القارئ الاطلاع على آخر الإبداعات والأفكار والآراء في العالم.‏
هنا نجد أن الترجمة ليست الواسطة الوحيدة، فمع التطور التقني وتقدم وسائل الاتصال باتت أجهزة الإعلام، من إذاعة وتلفزيون، تلعب دوراً مباشراً في نقل أخبار الثقافة والإنجازات الثقافية والفكرية، إلا أنه يبقى للترجمة مكان الصدارة في تحقيق المواكبة الفكرية والثقافية نظراً لأن الكتاب كان وما يزال العمود الفقري للتحصيل الثقافي.‏
كذلك نرى أن هناك فروقاً واسعة بين البلدان في إمكانية تحقيق هذه المواكبة، فالبلدان الأرفع درجة في سلم الحضارة أشد قدرة على تحقيق المواكبة بينما البلدان الأدنى درجة في سلم الحضارة أقل قدرة على ذلك. مثال بسيط يمكن أن يوضح لنا ذلك، فالكتاب الصادر باللغة الروسية مثلاً يمكن أن يترجم إلى عشرات اللغات ويصدر بها في الوقت نفسه الذي يصدر بلغته الأم، كما أن بإمكان القارئ الروسي مثلاً أن يقرأ الكتاب الإنكليزي أو الروسي بعد فترة وجيزة من صدوره بلغته الأم. ذلك أن التقدم التقني في فن الطباعة ومجمل الشروط والأنظمة الأخرى المتعلقة بالطباعة والكتاب تمكن الناشر في بلد من هذه البلدان من مواكبة الحركة الفكرية والثقافية في العالم، بينما تقف مثل هذه الشروط والأنظمة عائقاً قد يكون مستحيلاً تجاوزه في بعض البلدان الأخرى، وبالتالي يحول بين الترجمة ودورها في تحقيق تلك المواكبة ذات الأهمية البالغة في التطور الحضاري خاصة بالنسبة إلى بلدان العالم النامي.‏
6 ـ الترجمة وسيلة لإغناء اللغة وتطويرها وعصرنتها.‏
تلعب الترجمة دوراً هاماً في إغناء اللغة وتطويرها، ذلك أن الميادين الجديدة التي تخوضها الترجمة تقتضي منها، بالتأكيد، أن تبحث عن صيغ جديدة، مصطلحات جديدة، تعابير مناسبة، كلمات ملائمة وهذا كله إغناء للغة وتطوير لها. وبما أن اللغة كائن حي يولد ويزدهر ويموت وأن وجوده يقوم على الأخذ والعطاء، على الحركة والتجدد، ندرك ما يمكن أن يفعله في اللغة احتكاكها باللغات الأخرى. فكم هناك من لغة كانت في يوم من الأيام ذات شأن كبير ثم انحسرت بعد ذاك وتراجعت إلى أن انقرضت تماماً، وكم هناك من لغة ليس لها شأن اليوم قد تصبح بعد حين من الزمن لغة العالم. ذلك أن هذا الكائن الحي الذي يدعى اللغة له خصائص الكائن الحي كلها، يكبر ويصغر، يزدهر ويضمحل، يعتل ويصح... إلخ. واللغة التي لا تستطيع التجدد والتطور لا بد من أن تموت، فسنة الحياة هي التجدد وشرط الاستمرار هو التطور، أو خمد الكائن الحي وذوى إلى أن يلفظ أنفاسه.‏
في عملية التطور والتجدد هذه تلعب الترجمة دوراً أساسياً بالنسبة إلى اللغة، فهي تعرفنا بتراكيب اللغة الأخرى، تتأثر بمفرداتها، تستمد من زخمها وحيويتها، وليس في ذلك أية سبة أو عار. ففي اللغة الإنكليزية، مثلاً، آلاف الكلمات ذات الأصل العربي، وفي الفرنسية أكثر من عشرة آلاف كلمة، وكذلك في الإسبانية والإيطالية... إلخ فهل أساء هذا لتلك اللغات؟ لا أظن ذلك، فالكل يستخدم كلمة «الجبر» العربية أو كلمة «أمير» أو «قصر» أو «شريف» التي يستخدمها الأمريكان، ربما، أكثر من العرب أنفسهم ودون أي شعور بالنقص. صحيح أنهم قد لا يستخدمونها بمعناها الأساسي، لكن من المؤكد أن المعنى الجديد للكلمة «حاكم البلدة أو المسؤول عن الأمن والنظام فيها» هو نوع من الإغناء للغة بإضافة كلمة جديدة قد لا يتوفر معناها هذا لأية كلمة أخرى في اللغة الإنكليزية.‏
وهكذا نحن في الوقت الحاضر، يمكننا أن نغني لغتنا بكلمات منحوتة جاهزة دون أن نشعر إزاء ذلك بأي غضاضة أو ضير، فكلمة «إلكترون» أو «بروتون» أو «نيوترون» هي مصطلحات عالمية قد لا ينفع معها أن نعربها أو نجد لها بديلاً وليس في استخدامها من عيب. أجدادنا في السابق أخذوا كثيراً من الكلمات الفارسية والإغريقية واستخدموها كما هي، ثم تمثلتها اللغة إلى أن غدت جزءاً لا يتجزأ من اللغة... مثال على ذلك: «أستاذ», «شطرنج» «فيزياء»، «اسطرلاب»... إلخ.‏
غير أن الترجمة تقوم، مع تطور الحضارة وتقدم التكنولوجيا، بأكبر المهام في تطوير اللغة وعصرنتها. إنها تنحت كلمات جديدة، تنقلها عن اللغات الأخرى وذلك بإيجاد البديل للكلمات المستخدمة فيها، وبذلك يتشكل فيض من الكلمات الجديدة التي لم تكن اللغة تعرفها من قبل أو كانت تعرفها إنما بمعنى آخر. مثال على ذلك: الهاتف، السيارة، الطيارة، الرائي... إلخ... وهذا ما يجعل اللغة عصرية فعلاً قادرة على مواكبة التقدم الحضاري وتمثل إنجازاته، فاللغة هي قبل كل شيء، مرآة تعكس تطور الناطقين بها أو تخلفهم، تقدمهم أو تراجعهم.‏
الترجمة والتواصل الثقافي‏
إذا كانت الإشارة أو الصورة المتلفزة قد أصبحت في العصر الحاضر وسيلة من وسائل التواصل الثقافي، يتم من خلالها نقل أخبار أو تصوير حالة أو تقديم وضع، فإن الترجمة كانت وما تزال الوسيلة الأهم لتحقيق ذلك التواصل بين الشعوب. فمذ عرف الإنسان الأبجدية محققاً بذلك قفزة تاريخية في مضمار التطور، ومذ بدأ يكتب ما يعرفه ويدون تاريخه وأفكاره، كانت الترجمة الرديف المباشر لذلك التطور، فالبشر سلسلة متصلة الحلقات رابطتها اللغة وقوام تلك الرابطة هو الترجمة.‏
إذن، عن طريق الترجمة تعرف الشعوب بعضها بعضاً، يتعرف الناس في هذا البلد إلى عادات الناس في ذلك البلد، إلى أعرافهم، تقاليدهم، أفكارهم، آدابهم، سلوكهم، تاريخهم، بل حتى إلى تضاريسهم وجغرافيتهم. من هنا نرى الدور الكبير الذي لعبته ترجمة الأدباء الروس كتولستوي ودوستويفسكي وغوركي في تعريف العالم بهذا الشعب، تعريفه بطباعه، بأنماط معيشته، بأرضه. كذلك الأدب الفرنسي أو الإنكليزي... فالكثيرون منا يعلمون عن لندن وباريس، من خلال «قصة مدينتين» لتشارلز دكنز، مثلاً، أكثر مما يعرفون عن الدوحة أو الخرطوم رغم جميع وسائل الاتصال الحديثة المعروفة الآن. يبرز دور الترجمة في تحقيق التواصل الثقافي هذا على نحو خاص حين تكون حلقات السلسلة متباعدة أي حين لا يكون هناك تماس مباشر بين شعبين أو أمتين. في هذه الحالة قد تصل حد الانعدام، إن لم تقم الترجمة بسد هذه الثغرة سداً مباشراً.‏
مثلا على ذلك: كانت الصين قديماً بلاداً نائية بالنسبة إلى شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت المعلومات عنها ضئيلة إلى حد جعلها بلاداً مبهمة غامضة، لهذا كانت رحلة ابن بطوطة وما كتبه عنها ورحلة ماركو بولو حدثاً تاريخياً، إذ نقل كل منهما من المعلومات ما قرب تلك البلاد وألقى عليها ضوءاً ربما كان هو الركن الأساسي للتواصل الثقافي الذي حدث فيما بعد بين هذه البلاد والبلدان الأخرى. رحلة ابن فضلان إلى بلاد البلغار والروس في القرن العاشر الميلادي مثال آخر على الدور الذي يمكن للغة أن تلعبه في تحقيق التواصل الثقافي. فقبل ابن فضلان، ربما لم يكن هناك أية معلومات عن تلك الشعوب التي تعيش في أقصى الشمال حيث الثلج الدائم والدببة البيضاء والشمس التي لا تغيب في بعض الأوقات من العام... على أن التواصل الثقافي عملية تبادلية تتم بين طرفين أو أكثر ويتم من خلالها انتقال الأنماط السائدة والتقارب بين الأفكار ووحدة النموذج البشري.‏
إن نظرة واحدة نلقيها اليوم على بني البشر ترينا أنهم يوماً فيوماً يزدادون قرباً بعضهم من البعض الآخر... ذلك أن عملية التواصل الثقافي، التي تشكل الترجمة عمودها الفقري، كفيلة بأن تلغي التباينات الشديدة، أن تخلق النموذج العام الذي يعمل الناس على احتذائه، وهكذا يحمل ثوار كوبا الأفكار نفسها التي يحملها ثوار الصين ويقرأ الناس في الصومال الفرنسي فولتير وجان جاك روسو بقدر ما يقرؤهما ابن مارسيليا أو سترازبورغ. كما يعرف العالم كله «بخيل» موليير و«أبله» دوستويفسكي و«هاملت» شكسبير و«دون كيشون» سرفانتس.‏
إنها نماذج عالمية معروفة قامت الترجمة بتقديمها للناس في كل مكان. يكفي أحياناً أن تقول هذا رجل مغرم بالنساء يتلاعب بعواطفهن حتى يطلق عليه اسم دون جوان. كما يكفي أحياناً أخرى أن تقول ذلك رجل كسول متواكل بطيء الفهم والحركة حتى يصفه صديق آخر بأنه أبلوموف، كذلك حسبك أن تقول إن ذلك الرجل غيور عنيف قاس حتى يقال إنه عطيل... وهكذا الشأن مع شخصية علاء الدين من الأدب العربي، زوربا من الأدب اليوناني، فاوست، شايلوك... إلخ إنها الأنماط والنماذج التي استطاعت الترجمة عبر عملية التواصل الثقافي بين الشعوب، أن تخلقها وتكرسها إلى أن أصبحت نماذج بشرية عامة يعرفها الناس في كل مكان.‏
أ ـ الترجمة وتطوير الأجناس الأدبية‏
لعل الإنسان بدأ الكتابة بتدوين أهم الأحداث والوقائع التي مرت في حياته، مشاهدة أو سماعاً، وكانت ذات أهمية تاريخية أو مصيرية بالنسبة إليه، ثم عمل بعد ذلك على تدوين معتقداته فيما يتعلق بالحياة والموت، الأرض والسماء، الكون وما فيه وهكذا ولدت الديانات، العلوم، الفلسفة... إلخ.. لكن مما لا شك فيه أن الإمكانات المتاحة للإنسان كانت ترغمه على الاختصار في الكتابة والاجتزاء والاختزال، ولعل هذا السبب هو الذي جعل الأدب يتخذ لدى كثير من الشعوب القديمة شكل الشعر وحسب، دون أشكاله الأخرى. فالقصيدة سهلة الحفظ، سهلة الانتقال، سهلة التدوين أيضاً لكن من عساه كان يستطيع تدوين رواية كالحرب والسلم؟‏
لهذا نرى أن العرب حين بدؤوا الترجمة في عصرهم الذهبي اتجهوا إلى حساب الهند وطب الإغريق وفلسفتهم وفلك الكلدان وتنجيمهم؛ أما الآداب فكان لهم معها شأن آخر. لم ينقلوا الملحمة ولم يترجموا المسرحية ولم يعربوا القصة لأسباب ليس في بحثنا هذا مجال لذكرها، لذلك ظلت هذه الأجناس الأدبية غريبة على الأدب العربي بعيدة عنه، لكن لا يسعنا هنا إلا أن نتساءل، ما تراه كان سيحدث لو ترجمت هذه الأجناس الأدبية إلى العربية؟ لو قدم المترجمون العرب أوديب وآغا ممنون وأنتيغونا للقارئ العربي، ألم يكن السياق التاريخي للمسرح كله قد تغير؟ ألم يكن ذلك قد حرض الأديب العربي على المحاكاة ومن ثم الإبداع في مضماره؟‏
نحن هنا لا نملك الجواب القاطع؛ إلا أن استعراضاً بسيطاً لتأثير العربية في الآداب الأخرى يعطينا أكثر من مؤشر ودليل. فمن الثابت أن الفرس، رغم حضارتهم التي امتدت ألف عام قبل الإسلام، لم يكونوا يعرفون الشعر، ربما كانوا يعرفون الغناء والنشيد، لكن الشعر والقصيدة والنظم كفن قائم بذاته لم يكن له وجود في عالمهم، تؤكد لنا ذلك المفاخرات التي كانت تجري في بلاط كسرى أنوشروان بين أعيان العرب والفرس. أولئك يفخرون بأشعارهم وهؤلاء بحكمهم. لكن ما إن جاء الإسلام وبسط العرب سيطرتهم على بلاد فارس وباتت اللغة العربية هي لغة الدين والدولة حتى بدأ الفرس يحاكون القصيدة العربية وينظمون الشعر، الأمر الذي انتهى أخيراً إلى ظهور الشاهنامة، أطول الملاحم الشعرية، وإلى بروز شعراء احتلوا مكانة رفيعة حتى غدا بعضهم، كعمر الخيام وسعدي وحافظ، من الشعراء العالميين المعدودين.‏
إذاً، حقق التواصل الثقافي بين العرب والفرس، عبر التأثر المباشر والترجمة، تطوير جنس أدبي هام هو الشعر الذي احتل لديهم بعد ذاك مكانة لا تقل رفعة عن مكانته في الأدب العربي. والفرس هنا لم ينقلوا عن العرب تعلقهم بالشعر وولعهم به وحسب، بل نقلوا طرقهم وأساليبهم في التعبير كما نقلوا قواعد النظم وأسسه، بل نقلوا الكثير من مفردات ومصطلحات هذا الجنس الأدبي.‏
تلك هي الحال أيضاً بالنسبة إلى اللغة التركية التي تأثرت شعوبها باللغة العربية وآدابها، كما أخذت عنها، مثلما فعل الفرس أنفسهم، الحرف الذي تكتب به. كذلك كان شأن اللغة الأوردية التي تأثرت كل التأثر باللغة العربية وجنسها الأدبي الرئيسي: الشعر. فالمسلمون الذين سيطروا حقبة طويلة من الزمن على شمالي الهند وأواسطها وشرقيها لم يأخذوا من العرب دينهم وحسب بل أخذوا أيضاً الكثير من المفردات العربية، وطوروا الأجناس الأدبية العربية وخاصة الشعر الذي ما يزال تأثرهم به واضحاً لكل ذي عين حتى اليوم، سواء من حيث المفردات المستخدمة في هذا المجال مثل: نظم، قصيدة، مشاعرة، قوال، مثنوي، غزل، مرثية، مسدس، مقدمة، رباعي، قوالي، مجلس... إلخ أم من حيث الموضوعات التي كان يتناولها الشعر.‏
فشعراء الأوردية كانوا ينظمون القصيدة وفق طراز القصيدة العربية التي ساهمت مساهمة أساسية في تطوير الشعر الأوردي، وكانوا يستخدمون مصطلحاتها ذاتها. فكلمة مثنوي تعني كتابة الشعر كل بيتين اثنين بقافية واحدة، ورباعي تعني كتابته أربعة أبيات أربعة أبيات، ومن هنا أيضاً رباعيات الخيام في الشعر الفارسي الذي، كما سبق ذكرنا، كان يستخدم المفردات العربية في هذا المجال أيضاً، والغزلية هي القصيدة المكرسة للتشبيب بالحبيبة وذكر محاسنها وبث لواعج الشوق إليها، أما «المشاعرة» فهي اجتماع عدد من الشعراء لدى الأمير أو السلطان وإلقاؤهم القصائد على نحو تنافسي لمعرفة الأشعر منهم... وهكذا بقية الكلمات التي كانت تستخدم بمعناها العربي تماماً.‏
وإذا ما ألقينا نظرة على الموضوعات التي كان الشعر الفارسي أو التركي أو الأوردي يتناولها؛ فإننا سنجد أنه كان يحاكي الشعر العربي في معظم مناحيه بل إن الموضوعات التي يتناولها الشعر العربي انتقلت بذاتها ودونما تحريف إلى هذه اللغات. لنلق نظرة معاً على هذه الأبيات من قصيدة لبهادور شاه الثاني، آخر حاكم مغولي مسلم لسلطنة دلهي (توفي سنة 1862م) إنه يقول:‏
جثة المجنون المحزنة أبكت الظباء‏
«هذا المتوحش مسجى هنا، لتزهر الصحراء ثانية»‏
الصحراء تضج بالحديث عن حبنا‏
حب ليلى والمجنون الذي يعامل بازدراء‏
إنه مجنون ليلى هنا، ذلك المجنون الذي ترجمت قصته إلى اللغة الأوردية وانتشرت في كل مكان إلى درجة أن سلطان دلهي نفسه حاكاها واعتبر نفسه شبيهاً في حبه لحبيبته بقيس بن الملوح الذي جن غراماً بليلاه.‏
لم يكن الغزل هو الموضوع الوحيد الذي طوره الشعر العربي في اللغات الأخرى التي تأثرت تأثراً مباشراً به؛ بل كان هنالك أيضاً الشعر الصوفي وشعر المديح والرثاء، فالمرثية في اللغة الأوردية، مثلاً، كانت موضوعاً خاصاً متميزاً انتقل كما هو من اللغة العربية. إذ أن «المرثية» هي القصيدة التي ينظمها الشاعر، من الوسط الشيعي خاصة، في ذكرى عاشوراء كي يرثي فيها الحسين وآل البيت الذين استشهدوا في كربلاء وكثيراً ما تتكرر فيها الكلمات العربية كما هي... «يا حسين... يا سبط النبي... يا حفيد الرسول... إلخ».‏
أدب الحكاية:‏
لعل كتاب «ألف ليلة وليلة»، الذي لا يعرف أحد من كتبه أو تاريخ كتابته، من أشهر الكتب في الآداب العالمية جمعاء وأكثرها حظوة في الترجمة والتداول والانتشار. لقد ترجم هذا الكتاب إلى معظم اللغات الأوربية، ومع اكتشاف الطباعة وانتشار الكتاب المطبوع كانت ألف ليلة وليلة من أوائل الكتب التي ترجمت وطبعت ولاقت رواجاً لا مثيل له في أوربا... من هذا الكتاب ذاعت قصص علاء الدين والمصباح السحري، حكايات هارون الرشيد وبذخه، السندباد ورحلاته العجيبة وكذلك قصص الجن والغيلان. ويجمع المتتبعون والمطلعون على أن ألف ليلة وليلة من أكثر الكتب تأثيراً في الآداب العالمية، فهذا الكتاب الذي ترجم إلى الألمانية والإيطالية والإسبانية والفرنسية والإنكليزية ترجمات عدة وطبع طبعات كثيرة إما باسم «ليال عربية» أو «ألف ليلة وليلة» إلى آخر ما هنالك من أسماء، كثيراً ما أثار خيال الكتّاب ودفعهم إلى تقليده ومحاكاته، الأمر الذي أدى في معظم هذه الآداب إلى وجود جنس أدبي شبيه به هو أدب الحكاية...‏
بوكاكشيو في إيطاليا عصر النهضة كتب مقلداً ألف ليلة وليلة... تشوسر في بريطانيا كتب كتابه «رحلات كانتربري» مقلداً بوكاكشيو ناقلاً عنه، وبالتالي عن ألف ليلة وليلة. «كانديد» فولتير إنما كتبها متأثراً بأجواء ألف ليلة وليلة. وفي الرابع من أيلول عام 1587 نشر الألماني جان سبايز (صاحب دار للطباعة) مؤلفاً لكاتب مجهول الهوية يحمل عنوان «قصة الدكتور جان فاوست» لاقى إقبالاً جماهيرياً منقطع النظير حيث تناقلت الألسن مغامرات فاوست لكن بعد أن قرنتها بقصص ألف ليلة وليلة التي كانت قد ترجمت إلى اللغة الألمانية، والتي ساهمت في تطوير أدب الحكاية كجنس أدبي على الصعيد العالمي.‏
قصص الحيوان:‏
كان لألف ليلة وليلة تأثيرها في الآداب العالمية، كذلك كان لكليلة ودمنة، التي ترجمت هي الأخرى وانتشرت قصصها الممتعة الدائرة على لسان الحيوان، تأثيرها الخاص الذي يبدو واضحاً في أكثر من أدب من الآداب الأوربية على شكل قصص أبطالها حيوانات ومكان حدوثها الغابة، ولعل أشهر ما كتب في هذا المجال «خرافات لافونتين» في القرن السابع عشر، وهي القصص التي ذاع صيتها في الأدب الفرنسي وسحرت القراء في ذلك الحين وما تزال تسحرهم حتى اليوم.‏
أدب الرحلات:‏
هذا الجنس الأدبي الذي تطور في اللغة العربية كل التطور لاقى صدى حسناً في الآداب الأخرى، وترك بصماته على نحو واضح عليها. فرحلات ابن بطوطة عرفتها الآداب الأجنبية ولا سيما الإسبانية والإيطالية وانعكست لدى بوكاكشيو في الأدب الإيطالي وتشوسر وجون بنيان في الأدب الإنكليزي وغوته في الأدب الألماني وسرفانتس في الأدب الإسباني، بل تؤكد الأبحاث الأخيرة أن «دون كيشوت» إنما هو كتاب رحلات أخذه سرفانتس عن مخطوطة عربية وجدت في إحدى المكتبات العربية التي ظلت في الأندلس بعد رحيل العرب عنها. كذلك تؤكد الأبحاث الأخيرة أن دانتي كان قد اطلع على قصة المعراج العربية وعلى رسالة الغفران للمعري قبل أن يكتب «كوميدياه الإلهية»، هنا لا بد من أن نذكر شيئاً مما قاله الغربيون أنفسهم في مسألة المعري ودانتي. فميغيل بالا سيوس مستشرق كان يعيش في البرازيل، وهو من أكبر من بحثوا في قضية النقل وأغزرهم مادة يقول في كتابه «اللباب والقشور» حين يتناول حياة دانتي:‏
تلقى دانتي علوم عصره في مسقط رأسه فلورنسة وكان معلمه برونو لاتيني الذي درس في طليطلة لما كان سفيراً لفلورنسة في بلاط ألفونسو. في هذا البلاط ترجمت كتب عربية كثيرة إلى اللاتينية والإسبانية ثم ألف كتابه إلى تزورو (الخزينة). بعد مطالعتي الكتاب أكبرت جهد المؤلف في موضوع المعري ودانتي وصرت ميالاً إلى القول بلا تردد: «إن دانتي أخذ عن المعري أموراً كثيرة...» وفي كتاب «اللباب والقشور» هذا الكثير من المقارنات التفصيلية بين ما ورد في رسالة الغفران والملهاة الإيطالية.‏
لا يقول مؤرخو دانتي إنه تعلم العربية، لكننا نراه يستشهد بالغزالي (رأيت اسم الغزالي عشرات المرات في كتاب نثري لدانتي اسمه «آل كتفيتو») ونراه يأخذ وصف الحيوانات من الجاحظ والقزويني ووصف الأفلاك للفرغاني.‏
كذلك يقول «دنكونا» في كتابه (السابقون):‏
«دانتي مثل البحر الواسع تمده الروافد، فمن الروافد العظمى القرآن وحديث المعراج النبوي ورسالة الغفران للمعري ورواية محيي الدين بن عربي الإلهية وكتاب إحياء علوم الدين للغزالي. كل هذه المصادر كانت معروفة في أوربة قبل مولد دانتي، وقصة المعراج كانت شائعة في إيطالية وإسبانية بين المتأدبين والعامة أيضاً» فأخذ دانتي ما استهواه وطبقه على ما يريد ذكره(1). الأمر الذي يبين بوضوح إلى أيّ مدى ساهم أدب الرحلات العربي في تطوير هذا الجنس الأدبي في الآداب الأخرى.‏
ب ـ أثر الترجمة في تطوير الأجناس الأدبية في اللغة العربية:‏
مع يقظة العرب الحديثة تنبه المثقفون والمفكرون العرب إلى البون الشاسع الذي يفصل أمتهم عن الركب الحضاري كما أدركوا أن استمرار تبعيتهم للسلطان العثماني إنما يعني استمرار عنصر الانحطاط الذي ترك بصماته واضحة على كل جانب من جوانب الحياة العربية سواء على الصعيد الاقتصادي أم الاجتماعي أم الثقافي. ولعل تفشي الأمية وسيطرة الجهل كانا من أوضح الآثار التي تركها ذلك العصر. هذا العامل إضافة إلى عوامل أخرى دفعت المتنورين العرب إلى التحرك لتشكيل الجمعيات والاتحادات والأحزاب التي تطالب باستقلال العرب وفصلهم عن الإمبراطورية العثمانية، كما دفعهم إلى عقد المؤتمرات وإقامة الصِّلات مع أنصار الحرية والديمقراطية في العالم... فبدأ بذلك نوع من الاحتكاك المباشر مع البلدان الأكثر تقدماً، راح يتزايد شيئاً فشيئاً إلى أن بات العرب مركز استقطاب لكل متنور راغب في العلم والثقافة، وتشكل ما يمكن أن ندعوه بحركة تعلم وتنور ربما كانت توازي حركة التحرر والاستقلال وتماشيها جنباً إلى جنب.‏
مع هذا التوجه نحو الغرب المتنور وتنامي حركة العلم والتعلم ومجيء قوى الاستعمار البريطاني والفرنسي للحلول محل الاستعمار العثماني، دخل الكتاب الأجنبي البلاد العربية كما دخلتها المناهج التعليمية وكتب المدارس، وبدأت بذلك حركة نقل وترجمة بدا فيها الجيل الطليعي حينذاك متعطشاً للنهل من معين المعارف والآداب الإنسانية الذي لا ينضب. وهكذا بدأت حركة الترجمة تتسع مقدمة للقارئ العربي روائع الأدب العالمي الكلاسيكي وأمهات الكتب الفكرية والفلسفية، فترجمت الفلسفة اليونانية وقدم أرسطو وسقراط وأفلاطون بحلة جديدة تماماً كما ترجمت أهم الأعمال في الأدب الفرنسي فقدم هوغو وموليير وفولتير وجان جاك روسو وبلزاك... الأمر نفسه تم بالنسبة إلى فلسفة نيتشه وهيغل وإلى أعمال شكسبير واللورد بايرون، شيلي ووردزوورث، كيتز وكولريج، وكذلك وولتر سكوت، جورج برنارد شو، ديكنز، ثم جاء الأدب الروسي وقدمت روائع الكتب منه: الأخوة كرامازوف لدستويفسكي، الحرب والسلم لتولستوي، غوغول، تشيخوف، بوشكين، غوركي... إلخ في تلك المرحلة لمعت أسماء بارزة في دنيا الترجمة ربما كان من ألمعها أحمد حسن الزيات الذي ترجم «آلام فرتر» و«رفائيل»، وأحمد زكي الذي ترجم «غادة الكاميليا»، ومصطفى لطفي المنفلوطي الذي قدم أعمالاً كثيرة ما تزال حتى اليوم ركناً أساسياً من أركان المكتبة العربية «كالشاعر»، «تحت ظلال الزيزفون»، «العبرات»... إلخ بل حتى الشاعر الكبير حافظ إبراهيم قدم من الأدب الفرنسي رائعة فيكتور هوغو «البؤساء»، ومن الجدير بالذكر هنا أن الترجمة في هذه المرحلة كانت تقوم أحياناً على مرحلتين: المرحلة الأولى هي النقل غير المباشر الذي يقوم به أحد الملمين باللغة المنقول عنها، ثم المرحلة الثانية حين يأتي الأديب العربي المتمكن فيصوغ الترجمة من جديد بأسلوب سليم وبيان عربي مشرق.‏
من الأسماء الأخرى التي لمعت في ميدان الترجمة هناك محمد عوض الذي ترجم فاوست، محمد لطفي جمعة الذي ترجم (الأمير) لماكيافيلي، دريني خشبة الذي ترجم التراجيديا اليونانية، عنبر سلام الخالدي التي ترجمت الملاحم اليونانية، وفيلكس فارس الذي ترجم «هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه، أحمد أمين، طه حسين، عبد الرحمن بدوي، يوسف كرم، أحمد فارس الشدياق، إبراهيم اليازجي، ناصيف اليازجي، بطرس البستاني، وديع البستاني، محمد كرد علي، أكرم زعيتر، زكي نجيب محمود، لطفي السيد، وكذلك أمين يوسف غراب وملحم كرم اللذان كانا في وقت من الأوقات عماد حركة الترجمة في بيروت، وحنا خباز الذي ترجم «جمهورية أفلاطون» وسعيد القضماني الذي ترجم أندريه موروا، كما كان من المترجمين الناشطين في دمشق ليان ديراني، ومن الأسماء المعروفة في فلسطين هناك: زيد الكيلاني، إميل توما، خيري حماد... وقد قدموا الكثير من الأعمال للقارئ العربي.‏
بلغت حركة الترجمة ذروتها في الخمسينات وبداية الستينات من القرن العشرين، إذ باتت هناك دور نشر متخصصة بالترجمة تقريباً تحمل على عاتقها مهمة تقديم مدارس أدبية وفلسفية بعينها. كما هو شأن الوجودية التي نشرت معظم أعمال كتابها وفلاسفتها في ذلك الحين إلى درجة بدت وكأنها ستطغى على كل مذهب ومدرسة أخرى، فقد ملأت السوق أعمال جان بول سارتر، سيمون دي بوفوار، كامو... إلخ.‏
ازدهار هذه الحركة إضافة إلى الاحتكاك المباشر الذي تمثل في الطلاب الدارسين في الخارج والبعثات والمغتربين الذي كانوا يعيشون في بلاد المهجر، يتعلمون لغتها ويقرؤون آدابها... كل ذلك أدى إلى جعل الترجمة الركن الأساسي للمكتبة العربية وإلى إحداث تغيرات أساسية في صورة الأدب العربي انعكست على شكل أجناس أدبية جديدة كل الجدة أحياناً وإلى تعديلات وتطويرات لأجناس أدبية أخرى موجودة من قبل، في أحيان أخرى.‏
الشعر:‏
على صعيد الشعر، بدأت في الأربعينات من هذا القرن حركة هزت مملكة الشعر العربي تلك التي كانت راسخة الأركان منذ قرون طويلة إلى درجة لم يكن باستطاعة أحد أن يقاربها أو يجرؤ على مس ملكوتها المقدس. دعيت هذه الحركة بحركة الشعر الحديث وقادها كبار الأعلام من شعراء العصر الحديث... أولئك الذين أعلنوا التمرد على بحور الخليل وأوزانه ضاربين عرض الحائط بالرتابة والتقليد واعدين القارئ العربي بفتوحات جديدة في عالم الشعر قوامها الإبداع والتجديد لا الاتباع والتقليد... وهكذا، مع نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، صلاح عبد الصبور، عبد الباسط الصوفي، فوزي المعلوف، ثم أدونيس، الحاوي، عبد الوهاب البياتي، أحمد عبد المعطي حجازي... بدأت معركة لم ينطفئ أوارها حتى اليوم. معركة هدفها القضاء على العرش الذي كان الشعر العمودي يتبوؤه وإحلال القصيدة الحديثة التي تعتمد التفعيلة لا البحر محلها.‏
من استعراض أسماء الشعراء الذين كتبوا القصيدة الحديثة أول ما كتبوها نرى أنهم كانوا قد اطلعوا على آداب الغرب، إما من خلال دراستهم في الخارج أو احتكاكهم المباشر كأدباء المهجر أو من خلال الترجمة. والحقيقة أنه خلال تلك الفترة كانت قد ترجمت الكثير من الأعمال الشعرية لكبار الشعراء الإنكليز والأمريكيين، الروس والفرنسيين. إذ قدم للقارئ العربي وولت ويتمان، عزرا باوند، إليوت، ييتس، بودلير، بوشكين... ومما لا شك فيه أن ترجمات هؤلاء الشعراء قد تركت آثارها الكبيرة على المتلقي العربي الذي كان عصر الانحطاط قد هوى به إلى الدرك الأسفل من الفن الشعري، فغدا في معظمه مقلداً أجوف فارغاً يدور أكثر الأحيان في حلقة مفرغة لا منفذ لها.‏
وإذا كان المجال هنا لا يسمح لنا بتتبع حركة الشعر الحديث وتطورها، ذلك التطور الذي أخذ مسارات وتفرعات جديدة ربما لم ترد في ذهن بدر شاكر السياب أو نازك الملائكة حين بدأ تمردهما على الشعر العمودي، إلا أنه من المؤكد أن الشعر العمودي تلقى ضربات موجعة خلال العقود الثلاثة الأخيرة على نحو خاص، كما اضطر لأخذ موقع الدفاع في أكثر الأحيان، وإلى مراجعة حساباته، بل إن كثيراً من الشعراء الذين كانوا يكتبونه تحولوا عنه إلى الشعر الحديث أو مزجوا بين الاثنين، كما نرى لدى سليمان العيسى أو نزار قباني أو محمود درويش. لقد ثبت شعر التفعيلة قدميه في معركته مع الشعر العمودي، كما أثبت أن حتمية التطور تقتضي وجوده، ومماشاة ركب الحضارة تتطلب استمراره... فالأمر نفسه حدث في الشعر الإنكليزي والفرنسي والألماني من قبل... ولا شك في أن اطلاع شعرائنا الحديثين على حركة التجديد هذه هي التي كانت العامل الأساسي في تشجيعهم على تجديد الشعر العربي، وإلى السير في هذا الاتجاه إلى أقصى مدى بحيث نشأت القصيدة النثرية التي لا علاقة لها بالشعر الذي كان يعرفه الأدب العربي، لكأنما هي جنس أدبي جديد.‏
القصة القصيرة:‏
يجمع النقاد والثقاة على أن أدبنا العربي لم يكن يعرف القصة القصيرة بمعناها الحديث. صحيح أن بطون الكتب ملأى بالأخبار التي ترد على شكل قصص، ملأى بالحكايات والمقامات... لكن هذه كلها شيء والقصة القصيرة، كفن قائم بذاته، شيء آخر.‏
لكن مع حركة الترجمة الحديثة ونقل الآداب الغربية إلى اللغة العربية، تلك الحركة التي بدأت في مصر ثم تطورت في لبنان والعراق وسوريا... نقلت، فيما نقلت، قصصاً قصيرة سحرت الكاتب العربي وفتحت عينيه على فن جديد، فن رشيق بديع جذاب.‏
لقد ترجمت أعمال غي دي موباسان، كما ترجم سومرست موم وأوسكار وايلد، كالدويل، غوغول، تشيخوف وغيرهم وغيرهم، وقد ترك ذلك آثاره مباشرة على حركة التأليف الحديثة، إذ سرعان ما ظهر كتّاب مجلون في ميدان القصة القصيرة ربما كان ألمعهم وأهمهم محمود تيمور، يحيى حقي، مواهب الكيالي، علي خلقي، الميلودي شغموم، بن جلون... إلخ ثم طوروا هذا الفن إلى درجة أصبح بإمكاننا اليوم أن نقول: إن هناك فناً أدبياً قائماً بذاته هو فن القصة القصيرة.‏
إن المكتبات العربية اليوم ملأى بالمجموعات القصصية التي تؤكد أن هذا الفن الذي لمعت في سمائه أسماء كتاب بات بعضهم ذا شهرة عالمية اليوم كيوسف إدريس، سعيد حورانية، عبد الرحمن الفاسي، زكريا تامر، إنما هو ابن العصر الحديث الذي ساهمت ترجمة الآداب الأجنبية مساهمة جدية وأساسية في نشوئه.‏
المسرح:‏
على الرغم من أن هناك بعض الدراسات التي تؤكد أن العرب عرفوا المسرح ومارسوه وخبروه وأن هناك بعض الظواهر المسرحية التي تدل على اهتمام العرب بالمسرح كالتمثيليات التي تجري في الأعراس كراكوز وعِيِواظ وما شابه، إلا أن المسرح كجنس أدبي قائم بذاته لم يكن معروفاً لدى العرب.‏
هنا أيضاً قامت الترجمة بدور أساسي في خلق هذا الفن وتطويره، إذ كان المسرح اليوناني ومن ثم الفرنسي والإنكليزي من أول الميادين التي استقطبت اهتمام المترجمين العرب، وهكذا ترجم يورويبيدس، سوفوكليس، كما ترجم شكسبير وبرنارد شو، موليير وسارتر، غوته وتشيخوف، وفاضت المكتبة العربية بالمسرحية الملهاة والمسرحية المأساة وكذلك بالدراما الطويلة والقصيرة، فكان نتاج ذلك كله حركة تأليف مسرحية بدأت في الثلاثينيات من هذا القرن، شعراً ونثراً كما نرى لدى أحمد شوقي وتوفيق الحكيم وداود قسطنطين الخوري، ثم تطورت حتى أصبحت جنساً أدبياً مكتمل الأطر يضاهي نظيره في الآداب العالمية وله كتابه الذين لا يكتبون سوى المسرحية كما نرى لدى ألفريد فرج، أحمد دياب، عدنان مردم بك، سعد الله ونوس...إلخ.‏
الرواية:‏
شأنها شأن القصة القصيرة والمسرحية، لم يكن العرب يعرفون الرواية. صحيح أن هناك حكايات طويلة وقصصاً عن الزير المهلهل وحمزة البهلوان وتغريبة بني هلال... إلا أن الرواية بالمعنى الحديث للكلمة، لم تظهر إلا مع بداية يقظة العرب الحديثة حين بدأ احتكاك المثقفين بالآداب الغربية احتكاكاً مباشراً أو عن طريق الترجمة، فالرواية الأولى التي سجلت في تاريخ الأدب العربي إنما هي رواية زينب للدكتور محمد حسين هيكل الذي نعلم أنه درس في الخارج واطلع على الأدبين الإنكليزي والفرنسي وتأثر بهما ولا شك.‏
لكن مع تنامي حركة الترجمة وتقديم هذه الحركة للأعمال الروائية الكبرى من الآداب العالمية كالبؤساء، الحرب والسلم، قصة مدينتين، جين آير، آنا كرنينا، الأم، الأحمر والأسود، بدأ التأثير يؤتي أكله وبدأت حركة التأليف تظهر روايات عربية أثبتت موجوديتها في مصر أولاً ثم العراق فسورية فلبنان فالسودان فالمغرب العربي.‏
إن نظرة واحدة نلقيها اليوم على المكتبة العربية لكافية لأن تبين لنا مدى التقدم الذي حققه هذا الفن كجنس أدبي قائم بذاته. فالأسماء التي لمعت في مضمار الرواية كثيرة ولعل ألمعها جرجي زيدان، يوسف السباعي، إحسان عبد القدوس، نجيب محفوظ، محمد عبد الحليم عبد الله، وكلهم بدؤوا منذ وقت مبكر بكتابة الرواية وتفرغوا لها، ثم تابعت الحركة أسماء أخرى قدمت الكثير في هذا المجال منها على سبيل المثال لا الحصر: شكيب الجابري، صدقي إسماعيل، كوليت خوري، سهيل إدريس، إميل حبيبي، عبد الرحمن منيف، الطيب صالح، رشيد بو جدرة، حنا مينه، هاني الراهب، حيدر حيدر... إلخ.‏
وإذا كان هذا الجنس الأدبي جديداً على الأدب العربي إلا أن من الواضح أنه رسخ أقدامه جيداً وأنه يعد بالكثير في المستقبل، ففي كل يوم هناك في عالم الرواية جديد يبشر بأنه سيكون لهذا الجنس الأدبي الدور الكبير الذي يؤديه في الآداب الأخرى، مما يؤكد أهمية الترجمة البالغة ودورها الأساسي في تطوير الأجناس الأدبية.‏
(1) مجلة الثقافة الأسبوعية ـ ص 10 ـ العدد 40، 24/10/87.