أفيون الشعوب : "الموت لكرة القدم" - أمبرتو إيكو – ت : المصطفى السهلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاستقديم : تستأثر الرياضة بشكل عام، وكرة القدم على وجه الخصوص، باهتمام عدد كبير من الناس، حتى قال عنها ماو تسي تونغ ذات يوم:"ينبغي الاهتمام بهذه الرياضة التي تجمع حولها كل هذه الملايين من الناس" .غير أن الناقد الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو  UMBERTO ECOيعتبرها ،على العكس، طريقة ماكرة لإلهاء الناس عن الحياة الاجتماعية والسياسية.وفي الاستجواب التالي الذي أجرته معه مجلة  GLOBEيعرض إيكو آراءه ويحدد موقفه.وما تتميز به هذه الآراء وهذا الموقف من جرأة في الطرح وعمق في التحليل ، يسترعي الانتباه ويفتح شهية النقاش.
                                                                                        المترجم.

*المجلة : يبدو أنكم تؤيدون فكرة أن كرة القدم –أفيون الشعوب- على غرار المقولة الروسية، تسبب وفاة عدد من الأفراد الممتازين،تاركة الإنسانية ،بذلك، تتابع سيرها مع أفراد جدد.
 إيكو:أنا متفق ،فعلا، مع المستقبليين الإيطاليين (في بداية القرن( حين قالوا :" الحرب هي وحدها الكفيلة بتنظيف العالم"،لكن،شرط أن يشارك فيها المتطوعون وحدهم.غير أنها:للأسف، تجر إليها الضحايا،فتصبح، أخلاقيا، دون مستوى العروض الرياضية، لذلك يعجبني سباق الدراجات النارية فوق الهضاب والجرف، والنزول الجنوني بالمظلات، وتسلق الجبال الشاهقة، هكذا لا يموت إلا من أوتي هذه الكبرياء في جسده. فأنا إذن أوافق على كل نشاط جسمي يؤدي إلى وفاة "الأبطال" شرط أن يكون ذلك باختيارهم. إن الأرض ضيقة جدا، فيجب أن  تترك لنا نحن الذين نملك رؤية بسيطة للحياة. ومجمل القول، فالرياضة في حد ذاتها، لا تقل احتراما عن الحب، لا أنتقد إلا العروض المغرية، حتى وإن كانت أحيانا مثيرة، والحالة هذه، أن الرياضة كما تمارس اليوم، ليست غير ذلك. بعض الكائنات الوحشية (كأخصياء كنيسة سيكستين( "صنعت" لتصبح ابطالا بلا روح، تحيط بها جماهير مبتهجة تتفرج عليها لترى كيف "تحرك أجسادها" يتعلق الأمر هنا بنوع من الإستبداد المعنوي الذي يفرض على الأغلبية نسيان جسدها، لتعجب بجسد أقلية.
 
*المجلة : أليس هناك شيء من الحسد في حديثك؟
 إيكو: عندما أرى زوجين متحابين فانني طبعا أشعر ببعض الحسد، وأستطيع مع ذلك أن "أنتقم" لنفسي عندما أفعل مثلهما. ولكن لماذا أحسد شخصا يعرف كيف يرفع مائتي كيلوغرام؟ لكل واحد تخصصه، أنا اؤلف كتبا... ولكن يمكن ان يشعر أولئك الذين تغريهم الرياضات بشيء من الحسد.
 
*المجلة :هل أصبحت المنافسة الرياضية إذن وسيلة لتجميد الحركة؟
إيكو:اذا كنا ،حتى الآن، قد تحدثنا عن "الرياضة المربعة"التي تمارس عليها المضاربات والمساومات والاستهلاك القسري ، فإنه الآن ينبغي الحديث عن "الرياضة المكعبة"،بمعنى أن هناك :"الرياضيين" الذين يمارسون الرياضة ، و"المشاهدين" الذين يشاهدون الرياضة، وأخيرا الملايين من الذين لم يحضروا المباراة، ولكنهم يتحدثون عنها ،مبددين بذلك طاقات، كان يجدر بهم توظيفها في مناقشة مشاكل المجتمع: كيفية إدارة الاقتصاد، أو محاربة الإرهاب.إنها حقا طريقة ماكرة لصرف الناس عن الحياة الاجتماعية والسياسية.
 
*المجلة : هذه"الثرثرةالرياضية" هل هي وسيلة تستعملها السلطة لحجب الرهانات السوسيو- سياسية؟
إيكو: كمنذ فوكو لم نعد نؤمن بسلطة مركزية يمثلها شخص ذو شاربين ونطارتين يصمم ويخطط، ولكن نؤمن بنوع من التوازن الاجتماعي العام.وحتى إن كان من بين قياصرة الرومان من يقدم عروضا رياضية للشعب عندما يريدون تحقيق بعض التوازنات الاجتماعية،فإنه لم يبق في المجتمع المعاصر من يقول"غدا سنخطط..."ليست هناك مؤامرة ؛فالمجتمع يحقق توازنه رغم تشجيع ملايين الأشخاص للحديث عن  "الرياضة" شرط ألا يتحدثوا في أمور أخرى . وتلك مسألة مريحة..إن المجتمع كان دائما في حاجة إلى إيجاد قنوات أخرى توجه إليها الطاقات السياسية. وحتى إذا ادعينا الرغبة في إشراك الجميع في الحياة العامة، فإن ذلك،في الحقيقة، سيكون مزعجا، مع وجود أربعة ملايير من البشر.وهكذا، فالطاقات التي من المفروض أن تكون سياسية، وجهت بالأحرى نحو الرياضة.
 
*المجلة: إذا كانت الرياضة قد استقطبت كل الاهتمامات، فهل أصبحت لها سلطة على المجتمع؟
إيكو: لو حدث ذات يوم أن شخصا استولى على ملعب، فعلاوة على ردود الفعل المباشرة التي سيثيرها الحدث، فإن العالم كله سيعلن استنكاره: الكنيسة والدولة والصينيون والفوضويون... كلهم سينددون بالمجرم.هناك إذن منطقة عميقة من الإحساس الجمعي لا يجوز أن تمس،إما عن اعتقاد أو عن ديماغوجية. هناك بنية اجتماعية لا يمكن تفكيك لحمتها دون الإخلال بمبدإ الترابط في الحياة، وبالتالي بحقيقة الوجود الإنساني على وجه الأرض.إن الرياضة هي الإنسان، وإن الرياضة هي المجتمع.
 
*المجلة : هل هي إذن شيء مقدس؟ لو رأى سكان كوكب آخر هذا الحشد من الجماهيرالمتحمسة في الميادين، هل يعتقدون أنهم يقيمون قداسا بغير آلهة؟
إيكو: في 1958 كتبت نصا (لم يترجم إلى الفرنسية( وصفت فيه بالضبط المجتمع المعاصر، لا كما يراه واحد من سكان كوكب آخر، بل كما يراه أنثروبولوجي من غينيا الجديدة. وبما أنه لم يستطع الدخول إلى الملعب المكتظ،، فقد كان يحكم على مجرى اللعب من خلال ما كان يسمعه. فكر أنه في حضرة طقوس تؤدى  وفق عادات  آكلي اللحوم البشرية، ويذبح فيها أحد عشر شخصا.هذا الأنثروبولوجي قرأ كذلك ق وائم اليانصيب الرياضي كما لو كانت وصفات من لحوم اللاعبين.إن شخصا قادما من المريخ سيفكر، في غالب الظن، بالطريقة ذاتها...ومع ذلك، فقد رأيت أحيانا خلال كأس العالم عروضا جيدة.. ولكن ما يغيظني حقا هو النفاق.فعندما قتل الهوليكانس القادمون من ليفربول عددا من الأشخاص في ملعب "هيزل"في بروكسيل، فإن الذين كانوا يصرخون"ياللمصيبة"هم الذين شجعوا هؤلاء المشاغبين على التصرف بتلك الطريقة.لنأخذ المسألة بجد، ولنفعل مثل "الأزتيك" الذين كانوا يقدمون عند نهاية كل مباراة،عميد الفريق قربانا للآلهة...العبوا مباراتكم، وإذا حدثت مذبحة بين الجمهور فأنتم المسؤولون عن ذلك.ولكن إذا انتهت البطولة،ينبغي إعدام ممول الألعاب، تكريما للآلهة.إنني أرفض أن يستمر تشجيع التهتك الذهني، بينما يتم، في نفاق،الاحتجاج ضد الهوليكانس:هؤلاء الوحوش الذين قتلوا أبرياء.غير أن هؤلاء"الوحوش"هم "نتاج" الصحافة الرياضية والتلفزيون.
 
*المجلة:تماما،دون سخرية،هل يمكن اعتبار الألعاب الأولمبية مجرد عرض وهمي، محض مشاهدة تلفزية؟
 إيكو: بالتأكيد.مثل غزو القمر، في العمق لسنا متأكدين أن الأمريكيين قد نزلوا على سطح القمر، نحن نعلم فقط أن التلفزة روت القصة... كذلك ماهو الدليل الذي تملكونه على أن الألعاب الأولمبية كانت تقام فعلا في اليونان القديمة؟ ألأن الشعراء تحدثوا عنها؟ لكن كانت الألعاب الأولمبية توجد كحدث اجتماعي كبير، تماما ليتاح لتلفزة ذلك العصر- أي بيندر- الحديث عنها. إن مانعرفه عنها لايأتينا إلا من أثر شعراء تلك المرحلة وفنانيها.وإذا لم يوجد كأس العالم إطلاقا؟ أنا أمزح، طبعا، كان مالارمي يقول: "وجد الكون ليكون موضوع كتاب.." ولنقل: "وجدت الرياضة لتكون موضوع برنامج تلفزيوني." ليس ضروريا أن يكون هذا هو موضوعنا. إنها الإشكالية الأزلية للعلاقة الموجودة بين التمثيل والواقع.لكننا هنا، نوشك أن نتيه في الفلسفة ذات المستوى العالي.
 
تعريب: المصطفى السهلي : مفتش تربوي للتعليم الثانوي سابقا.
عن مجلةGLOBE – ع. 58 – يونيو 91 – ص ص 84/85