هل كان ينبغي إحراق كافكا - جورج باتاي- ترجمة: محمد هاشم عبد السلام

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس بعد انتهاء الحرب بفترة قصيرة، بدأت صحيفة  »العمل«  الشيوعية الأسبوعية تحقيقًا في موضوع مفاجئ لم يكن متوقعًا. هل ينبغي إحراق كافكا؟ تساءل المحررون. كان السؤال من أكثر الأسئلة التي ليست في محلها على الإطلاق نظرًا لأنه لم يكن مسبوقًا بأي شيء كان من المحتمل أن يمهد أو يؤدي إليه: هل ينبغي إحراق الكتب؟ أو، أي نوع من الكتب يجب أن يحرق؟ ومع ذلك ربما كان اختيار المحررين ماكرًا ودقيقًا. فمؤلف المحاكمة هو، كما يقولون، »واحد من أعظم عباقرة زماننا«. ومع ذلك أثبت عدد كبير من الردود أن الوضوح قد آتى ثماره. بالإضافة إلى ذلك، وحتى قبل أن تتم صياغة كل سؤال أو استنباطه، تلقى التحقيق إجابة حذفها المحررون من النشر - إجابة كافكا نفسه. لأنه على أية حال أثناء حياته، و إلى أن مات، كان كافكا قد تعذّب بالرغبة في أن يحرق كتبه.
 في رأيي أن كافكا ظلّ مترددًا حتى النهاية. في البداية، قام بتأليف كتبه، ويجب أن نتخيل فترة زمنية بين اليوم الذي يشرع فيه المرء في تأليف شيء ما واليوم الذي يقرر فيه إحراق ما قام بكتابته. علاوة على ذلك يبقى قراره ملتبسًا وغير حاسم: يمنح مهمة إحراق أعماله إلى صديقه الوحيد الذي أخبره بالفعل أنه لن يتمكن أبدًا من القيام بهذا. ومع ذلك، وقبل موته، عبّر بالفعل عن رغبة قاطعة في أن كل ما قد تركه وراءه يجب أن يلقى في النار. على كل حال، كان لفكرة إحراق كافكا، حتى لو لم تكن أكثر من تحريض، منطق بعينه لدى الشيوعيين. فتلك النيران المتخيلة تساهم في فهم واستيعاب كتبه. إنها كتب محكوم عليها أو مقدر لها أن تلتهمها النيران: إنها موجودة هناك، لكنها موجودة لكي تختفي، كما لو أنها بالفعل قد تم إهلاكها.
كافكا الأرض الموعودة والمجتمع الثوري: من المحتمل أن كافكا كان من بين جميع الكتاب هو الأكثر مكرًا: هو، على الأقل، لم يكن ساذجًا مخدوعًا أبدًا! في البداية، على عكس العديد من الكتاب العصريين، أراد أن يكون كاتبًا. أدرك أن الأدب، الأمر الذي كان يريده، قد أنكر عليه الرضا أو الاشباع الذي كان يتوقعه، إلا أنه لم يتوقف عن الكتابة أبدًا. حتى أننا لا نستطيع أن نقول أن الأدب قد أصابه بخيبة الأمل. لم يخيّب الأدب أمله - لم يخيب أمله، على أية حال، بالمقارنة بأهداف أخرى كانت ممكنة. كان الأدب، بالنسبة له، كالأرض المفقودة بالنسبة لموسى. »حقيقة أنه لم يتمكن من رؤية الأرض المفقودة إلا قبل موته مباشرة تبدو غير معقولة»، كتب كافكا عن موسى في يومياته، » المعنى الوحيد لهذه الرؤية أو النظرة الأخيرة هو إظهار إلى أية درجة تبدو حياة البشر ناقصة -  ناقصة، لأن هذا الجانب من الحياة ( توقع الأرض المفقودة ) يمكن أن يستمر بشكل غير محدد دون أي ظهور يدوم لأكثر من لحظة. لم يفشل موسى في الوصول إلى كنعان ليس لأن حياته كانت قصيرة جدًا، بل لأنه كان بشرًا».(١) لم يعد هذا مجرد شجب لتفاهة أو بطلان » منظور واحد للحياة»، بل لبطلان توهم كل المساعي والمحاولات، التي هي في نفس الوقت لا معنى لها: السعي ميؤوس منه إن آجلاً أو عاجلاً، مثل السمك في الماء. إنه مجرد نقطة في حركة الكون، مادمنا نتعامل مع حياة بشر.
هل هناك شيء أكثر تناقضًا من موقف الشيوعيين؟ الشيوعية هي فعل يعني الامتياز، فعل يغيّر العالم. الهدف في الشيوعية، وهو العالم بعد تغييره، واقع أو قائم في الزمن، في المستقبل، يتقدم ويسبق الوجود، أو النشاط الحالي، الذي له معنى فقط بقدر ما يقود نحو هذا الهدف: ضرورة تغيير العالم. لذلك، لا تثير الشيوعية مشكلة المبدأ. فالبشرية كلها جاهزة ومستعدة لأن تخضع اللحظة الحالية أو الوقت الراهن للقوة الإلزامية للهدف. لا أحد يشك في القيمة أو يرتاب في السلطان المطلق للفعل.
يظلّ كل ذلك تحفظ لا معنى له: نقول لأنفسنا إن الفعل لم يمنع أي شخص من العيش أبدًا... لهذا ليس لدى عالم الفعل أي اهتمام آخر بخلاف هدفه. تختلف الأهداف وفقًا للنية، لكن تنوعها، وحتى تعارضها، كان دائمًا ما يحتفظ بمكان للملائمة الفردية. الإنسان المشوه فقط، هو مجنون تقريبًا، هو الذي يرفض هدفًا من أجل أي شيء آخر بخلاف هدف لا يزال أكثر صلاحية. يشير نفسه كافكا ضمنًا إلى أن موسى كان فقط هدفًا للازدراء لأنه كان يجب عليه أن يموت وفقًا للنبوءة بمجرد أن يصل إلى هدفه. لكنه يضيف، منطقيًا، أن السبب الأساسي لهزيمته تلك كان «حياته البشرية». الهدف مؤجل في الزمن والزمن محدود: هذا بمفرده يقود كافكا إلى النظر إلى الهدف في ذاته كنوع من الشرك أو الطعم المغري. هذا متناقض جدًا، ومتعارض بشدة مع العقلية الشيوعية (وليس فقط مع الإيمان السياسي الذي لا يضع في الاعتبار شيئا غير الثورة) - حتى أننا يجب أن نفحص موقف كافكا بكثير من العناية.
صبيانية كافكا التامة:
المهمة ليست سهلة وعلى وجه الإطلاق. كلما قرر كافكا التعبير عن أفكاره ( في يومياته أو في ملاحظاته المتنوعة )، نراه يصنع فخًا في كل كلمة. قام بتشييد صروح محفوفة بالمخاطر لم تتمتع فيها الكلمات بأي ترتيب منطقي بل ببساطة جاءت مكومة فوق بعضها البعض كما لو كانت موجودة هناك فقط لأجل الإصابة بالذهول والارتباك، كما لو كانت عنوانًا على المؤلف نفسه الذي يبدو أنه لم يتعب أبدًا من الانتقال من الدهشة إلى الارتباك.
ما ليس باستطاعتنا القيام به هو أن نعزو أو ننسب معنى دقيقًا وصادقًا إلى مؤلفات كافكا الأدبية. نرى بشكل متكرر شيئًا ما ليس موجودًا هناك، أو، في أحسن الأحوال، نرى شيئًا ما موجودًا هناك لكننا لا نستطيع سوى التلميح إليه ليس أكثر(٢). ومع ذلك يمكننا أن نتابع ونتعقب اتجاهًا عامًا في هذه المتاهة التي تصبح واضحة لنا فقط عندما نعثر على مخرج منها. أعتقد فيما يتعلق بتلك النقطة، أننا يمكننا ببساطة أن نقول أن أعمال كافكا تكشف عن موقف طفولي تمامًا.
أعتقد أن ضعف العالم الذي نعيش فيه راجع إلى اعتبارنا الطفولة عالمًا أو مجالاً منعزلاً حيث، على الرغم من أنه ليس غريبًا عنا، يبقى خارجنا ويظلّ غير قادر على توضيح أو تصوير حقيقته - أي ما هو حقًا في الواقع - طريقته الخاصة. كذلك أيضًا وبنفس هذا التعسف، لا أحد ينظر إلى الخطأ كتمثيل أو تصوير للحقيقة. إنه «طفولي» أو «ليس جديًا» الاثنان قضيتان بمعنى واحد. ومع ذلك نحن جميعًا طفوليين - تمامًا، دون مواربة أو تحفظ، و، ينبغي حتى أن نضيف، طفوليين بأكثر الطرق إثارة للدهشة والذهول. لهذا السبب (الطفولية) تظهر البشرية في حالتها الوليدة أو الناشئة، أي طبيعتها الأساسية. بمعنى أن الحيوان ليس طفوليًا، لكن الإنسان الصغير يقوم بربط - أحيانًا حتى عن طريق العاطفة - المعاني الموحاة إليه من جانب الأشخاص الكبار مع بعض الأحاسيس الأخرى التي لا يستطيع أن يربطها بأي شيء. مثل هذا العالم الذي التصقنا به والذي بمجرد أن يُسكرنا ببراءته - عالم حيث كل شيء مرفوض مؤقتًا، حتى يصبح شيئًا داخل نظام الكبار.
ترك كافكا ما أسماه ناشره «خطوط عريضة لسيرة ذاتية»(٣). تشير شذرات بمفردها إلى طفولته وإلى سمة واحدة خاصة. «ستجد أنه من المستحيل أن تقنع صبيًا مستغرقًا في قراءة قصة مدهشة بأنه يجب عليه أن يذهب إلى السرير لينام، إذا كنت تحاول ذلك عن طريق إثباتك له أن هذا في صالحه». يمضي كافكا إلى ما هو أبعد من هذا فيقول: « أهم شيء فيما يتعلق بكل هذا أنني وسّعت من مدى الإدانة، التي كانت كمية القراءة المبالغ فيها قد جلبتها لي، بحيث صار هذا المدى يشمل إخفاقي سرًا في أداء واجبي، ولذلك وصلت الإدانة إلى أكثر النتائج إحباطًا». يصر المؤلف البالغ على حقيقة تلك الإدانة التي تم توجهها ضد الأذواق التي تشكلت منها «خصائص ومميزات الطفل». تقييد نظام الطفل إما أن يجعله « يكره الكبار الذين يضطهدونه» أو يعتبر الخصائص والمميزات التي هو يدافع عنها تافهة لا معنى لها. « إذا أخفيت إحدى خصائصي »، كتب كافكا، » سأنتهي بكراهيتي لنفسي أو أقداري، واعتبار نفسي كريهًا أو ملعونًا».
لن تواجه قارئ «المحاكمة»  أو «القلعة» أية صعوبة في إدراك أو تمييز الجو الرومانسي لمؤلفات كافكا. عندما كان أكبر سنًا، كانت جريمة القراءة قد تبعتها جريمة الكتابة. عندما جاء كافكا إلى الأدب، الناس المحيطين به، وقبل أي شخص والده، لم يقل استهجانهم له عما كان عليه عندما ضبطوه يقرأ. وبالمثل كان كافكا يائسًا. كما قال ميشيل كاروجيز بشكل صحيح: « ما استاء منه إلى حد كبيرة كان الاستهتار أو الخفة التي كانت معها أعمق انشغالاته محل اعتبار...» كتب كافكا واصفًا مشهدًا كان فيه احتقار عائلته واضحًا بقسوة قائلاً: « بقيت ساكنًا ومائلاً إلى صف عائلتي كما كنت أفعل فيما مضى، لكنني في الحقيقة تم طردي من المجتمع بضربة واحدة».(٤)
مساندة الوضع الطفولي:
الشيء الغريب عن كافكا أنه أراد أن يكون مفهومًا من جانب والده وأن يجعله يمتثل لطفولية ما قرأه، وما كتبه، فيما بعد. لم يكن يريد من والده أن يطرده من المجتمع البالغ، الذي كان وحده غير قابل للتلف أو التخريب، أنه الشيء الحقيقي الذي، منذ الطفولة، قد تعرف عليه كملمح شخصي أساسي. بالنسبة له، كان والده شكلاً للسلطة التي كان اهتمامها منحصرًا في قيم الفعل المؤثر. وكان والده رمزًا لسيادة الهدف، والذي يقوم بإخضاع الحياة الحالية له، والذي احترمه معظم البالغين. عاش كافكا ككل كاتب حقيقي، بطريقة طفولية تحت سلطة هدفه، كمقابل للرغبة الحالية. عرّض نفسه على نحو لا يمكن إنكاره لعذاب العمل المكتبي، ومع ذلك لم يكن يشكو من حظه العاثر، ولا من الناس الذين أجبروه على العمل. كان يشعر دائمًا بأنه مستبعد ومقصي من المجتمع الذي قام باستخدامه، لكنه نظر إلى نفس الشيء الحقيقي الذي كان، بشكل أساسي، معبرًا عن نفسه نظر إليه باعتباره تفاهة وطفولية. كان رد والده واضحًا بعدم فهمه لعالم الفعل. في عام 1919 كتب كافكا لوالده خطابًا(٥)، لحسن الحظ، بلا شك، أنه لم يرسله أبدًا، ولا يوجد لدينا منه سوى شذرات فقط. قال:
كنت طفلاً مرتعبًا، لكنني كنت، مثل جميع الأطفال، عنيدًا. أفسدتني أمي بالتأكيد، ومع ذلك لا يمكنني أن أتصور أنني كنت طفلاً صعب السيطرة عليه تمامًا، أو أن كلمة طيبة، أو تربيته على يدي، أو نظرة طيبة، لم يكن من الممكن عن طريقها الحصول على كل ما تريده مني. يمكنك فقط أن تعامل طفلاً وفقًا لطبيعتك الخالصة، وهو ما يعني استخدام القوة والعنف... ارتقيت أنت إلى مثل هذا الوضع العالي بمجهودك، عن طريقك قوتك الخاصة، لأنه كان لديك إيمانًا بلا حدود بآرائك... بدأت التلعثم في حضورك... عندما كنت أقف أمامك كنت أفقد كل ثقتي بنفسي وأفترض، عوضًا عن ذلك، إحساسًا مطلقًا بالذنب. كان مع هذا الإحساس المطلق بالذنب المترسخ في الذهن أنني كتبت ذات مرة لأحد الأشخاص(٦) « أنه يخشى أن يبجله العار في حياته وبعد موته...» كل شيء كتبته كان عنك. ما الذي كان عساي أن أفعله سكب الأنات والعبرات بشكل متدفق وهو ما كنت غير قادر على تحريره وإطلاق عنانه في وجودك؟ كل شيء كان ارتحالاً بعيدًا عنك، وكنت أتطوع راغبًا فأطيل الابتعاد عنك قدر ما استطعت.
أراد كافكا أن يعنون مجمل أعماله بـ «محاولة للهرب من العالم الأبوي»(٧). ومع ذلك لم يكن هناك خطأ فيما يتعلق بهذا العالم الأبوي: لم يرغب كافكا في الهرب منه فعلاً. ما كان يرغب فيه بالفعل هو العيش داخل حدود العالم الأبوي - لكن كمنبوذ. كان أصلاً يعرف أنه قد تم طرده. لا يمكننا أن نقول أنه كان مطرودًا بواسطة الآخرين أو بواسطة نفسه. لقد تصرف بمثل هذه الطريقة ببساطة كي يكون مكروهًا من جانب اهتمامات عالم الصناعة والتجارة: أراد ان يبقى داخل حدود أو ضمن نطاق صبيانية الحلم.
اختلف الهروب الذي حلم به أساسًا عن الشكل التقليدي للهروب الأدبي في أنه قد فشل - كان عليه أن يفشل وأراد أن يفشل. ما يفتقر إليه الهروب الشائع - وبالافتقار إليه يكون مقيدًا بحل وسط، «بالنفاق» - هو الإحساس العميق بالذنب، بانتهاك القانون الذي لا يمكن تخريبه أو إتلافه، بوضوح إدراك الذات بلا شفقة. الإنسان الذي يهرب في الأدب هو الدعيّ الذي يعرف أنه يسلي نفسه. إنه ليس حرًا بعد - ليس حرًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، حيث تكون الحرية التحرر من القيود. وهو لكي يكون حرًا، يجب أن يتم الاعتراف به على أنه كذلك من جانب المجتمع المهيمن.
في عالم الإقطاع النمساوي القديم، كان المجتمع الوحيد الذي يعترف بالشاب اليهودي لأسباب أخرى غير الترفع الأدبي، كان عالم الأعمال الخاص بوالده. العالم الذي كانت سلطة والد كافكا مؤكدة فيه بشكل قاطع، رمزًا إلى قوة منافسة العمل الذي لا يتنازل لأجل نزوة والذي، رغم أنه تسامح مع، بل وأجاز، حب الطفولية لكن ضمن حدود معينة، أدان الطفولية كمبدأ، وحصرها في نطاق الطفولة. هذا يجعلنا نتطرق إلى تطرف كافكا. أراد أن يكون الاعتراف به من جانب السلطة أقل ما يمكن، وهو الأمر الذي كان مقررًا داخله مع عدم الاستسلام أو التنازل فيه مطلقًا. لكن، في نفس الوقت، لم يعتزم أبدًا قهر هذه السلطة والإطاحة بها أو حتى معارضتها. لم يكن يريد معارضة الأب الذي جرده حتى من إمكانية العيش. هو، من جانبه، لم يرغب أبدًا في أن يكون بالغًا أو أبًا. جاهد طوال حياته بطريقته الخاصة، وباستخدام كامل لجميع حقوقه لدخول مجتمع أبيه - لكنه ما كان يقبل هذا الدخول إلاّ بشرط واحد - أن يظل الطفل المستهتر غير المسؤول الذي كان عليه.
كان يواصل هذا الصراع اليائس في صرامة. لم يكن لديه أي أمل أبدًا: كان مخرجه الوحيد أن يدخل إلى عالم أبيه عن طريق الموت، بمعنى أن يتجاهل كل ميزاته، ونزواته وطفوليته. هو نفسه صاغ ذلك الحل - تكرر بشكل ثابت في رواياته - في 1917: » سوف أثق في الموت »، يقول، » بقايا إيمان. عودة إلى الأب. يوم الصلح العظيم(٨)«. كان الطريق الوحيد بالنسبة له لكي يصبح أبًا هو أن يتزوج، لكنه تجنب هذا رغم الأسباب والفرص الممتازة التي سنحت له كي يتزوج: فسخ خطبته مرتين. وعاش  »منعزلاً عن الأجيال السابقة»، و« لم يتمكن أبدًا من أن يوجه جيله بنفسه(٩)«.
« العقبة الرئيسية في طريق زواجي»، كتب في خطابه إلى أبيه، » هي قناعتي النهائية بأنه، لتأمين وجود عائلة، و، قبل كل شيء، توجيهها، يحتاج المرء إلى سمات أعرف أنك تمتلكها...(٠١) «. بعبارة أخرى، يجب أن يكون المرء ما أنت عليه ويخون ما أنا عليه.
كان بإمكان كافكا أن يختار بين فضائح النزوة والأهواء الصبيانية لكن الحريصة والمتعقلة وبين الفكاهة السلطوية. فالاثنان، لا يهتمان بشيء، ولا يخضعان شيئًا لسعادة موعودة، أو للبحث عن هذه السعادة، التي هي متوقعة كمكافأة على الفاعلية الشاقة والسلطة الرجولية. كان لديه الاختيار: وقد أثبت هذا. كان يعرف، إن لم يكن كيف ينكر نفسه ويفقد نفسه في آلية عمل لا يحظى بالتقدير، كيف يؤديه بإخلاص. اختار النزوة غير المقيدة لأبطاله، طفوليتهم ولا مبالاتهم، سلوكهم المشين والأكاذيب الواضحة. باختصار، أراد عالمًا غير منطقي يهرب من التصنيف وليوفر الوجود الوحيد المتاح إلى الحد الذي يستدعى فيه الموت.
كان يرغب في هذا بشكل نهائي وبعناد، رافضًا تمكين القيمة الخاصة بسلطان اختياره من أية فرصة للتنكر أو ارتداء الأقنعة. لم ينحرف أو يحد بسبب طلبه امتيازًا بالأهمية لشيء ليس لديه مؤهلات رفعته. هل النزوات المخولة من جانب القانون والسلطة أكثر من تلك المكفولة لحيوانات برية في حديقة حيوان؟ شعر أن الصدق، أي صحة النزوة وأصالتها، يتطلب المرض والاضطراب. الامتيازات، كما قال موريس بلانشو(١١)، متعلقة بالفعل، « ليس لدى الفن ( النزوة) أي امتيازات في مقابل الفعل». العالم بالضرورة ملك لهؤلاء الذين تم تخصيص أرض ميعاد لهم والذين، إذا اقتضت الحاجة، يتحدون بكل قواهم ويجاهدون للحصول عليها. لم يكن للقوة الصامتة واليائسة لكافكا أن تحاكم أو تتشكك في السلطة التي أنكرت عليه العيش، وأن تتجنب الخطأ الشائع للتنافس تحت ضغط السلطة.
وهو إذا فاز، وبعد أن كان يرفض القمع والقيد ذات مرة، سوف يصبح أمام نفسه وأمام الغير، مثل هؤلاء الذين حارب ذات يوم ضدهم والذين قيدوه. الصبيانية، والانطلاق أو التحرر، والنزوة غير المحسوبة، كلها أمور لا يمكن أن تبقي على انتصارهم. يمكن أن تتواجد الحياة المتحررة  فقط بشرط ألاّ ينبغي عليها أن تفترض في القوة، التي هي فعل، أولوية للمستقبل على اللحظة الحالية، أولوية الأرض الموعودة. من الصعب ألاّ تكافح لتدمير عدو قاس، ذلك يعني تقديم حياة المرء هبة للموت. إن نجاة المرء دون أن يخون نفسه تتطلب كفاحًا قاسيًا، وصارمًا، ومعذبًا: هذه هي الفرصة الوحيدة لتأكيد نقاء الهذيان الصافي الذي لا يرتبط أو يتقيد بالمنطق أبدًا ولا يمكنه أن يتناسب مع آلية الفعل أبدًا - وذلك هو النقاء الذي يجر أبطاله إلى مستنقع الذنب المتنامي. هل هناك من هو أكثر طفولية أو أكثر تنافرًا مع المكان في صمت من  »ك«  في «القلعة» أو «جوزيف ك» في «المحاكمة»؟ هذه الشخصية المزدوجة،  »نفس الشيء في كلا الكتابين، عدوانية بشكل عنيد، وبشكل غير عقلاني، وبشكل غير محسوب، وتضيع بسبب نزوة، بسبب عناد الإنسان الأعمى. إنه ينتظر كل شيء من كرم أو جود السلطات القاسية. إنه يتصرف مثل أجرأ فاجر في الغرفة العمومية للحانة ( وما هو أسوأ، في الحانة الخاصة بالسلطات )، وفي وسط المدرسة، وفي وجود محاميه... وفي محكمة العدل العليا(12) «.
تحول الأب في «الحكم» إلى موضع احتقار من قبل الابن، لكنه متأكد دائمًا من أن عمق، واستنزاف، وقدرية، الخراب الإلزامي أو اللاإرادي لسلطته سوف ينال عقوبته. الرجل الذي يشيع الفوضى أطلق كلاب صيده دون أن يجد مكانًا للاختباء، وسيكون هو نفسه ضحيتها الأولى، يتمزق إربًا في الظلام. هذا، بلا شك، مصير كل ذلك الانفلات البشري. تنجو التحررية إمّا بإنكار نفسها (فحتى أدنى حسبان على المستوى الأرضي: تبقى فقط التبعية أو الخنوع، وأولوية الشيء موضع الحساب على الوجود)، وإمّا في اللحظة الدائمة للموت. والموت هو الوسيلة الوحيدة لتحاشي التنازل عن الانعتاق والتحررية، ليس هنا أي خنوع ذليل في الموت، فلا شيء هناك في الموت.
عالم فرانز كافكا البهيج:
لا يستحضر كافكا أو يستدعي حياة متحررة منطلقة: على العكس، الحياة التي يستحضرها منحرفة حتى في أكثر لحظات نزواتها، حزينة بشكل متواصل. الشبق في المحاكمة أو القلعة شبق دون حب، رغبة أو قوة، شبق جاف غير ممتع ينبغي على المرء أن يهرب منه بأي ثمن. لكن كل شيء يصبح مثيرًا للحيرة. في 1922 (13) دوّن كافكا في يومياته: كلما كنت راضيًا أريد أن أكون غير راض وأبحث عن عدم الرضا بجميع وسائل الوقت والانتقال المتاحة لي: ثم أرغب في العودة. لذلك كنت دائمًا غير راض، حتى بعدم رضاي. غريب أنه مع ذلك التنظيم الكافي كان ينبغي على بعض الحقيقة أن تنتج عن هذا الوضع السخيف. بدأ تدهوري العقلي كلعبة طفولية، على الرغم من أنه كان على نحو لا يمكن إنكاره لعبة طفولية متعمدة. على سبيل المثال، تظاهرت بأن لديّ تقلصات عصبية. رحت أمضي هنا وهناك ويدي متصالبة خلف رأسي، شيء طفولي مقيت وكريه، لكنه كان ناجحًا. نفس الشيء انطبق على تطوير كتابتي، التطوير الذي أصبح، للأسف، فيما بعد متعثرًا حتى التوقف. لو كانت صناعة البؤس ممكنة، فإن طريقة ذلك تكون هكذا.
لكن في مكان آخر نعثر على شذرة غير مؤرخة(14): » لا أمل في النصر، لا أستمتع بالصراع من أجل الصراع ذاته، بإمكاني فقط الاستمتاع به لأنه كل ما يمكنني أن أفعله. الكفاح في حد ذاته يملؤني بالبهجة التي هي بالفعل أكثر مما أستطيع الاستمتاع به فعلاً، أكثر مما يمكنني أن أعطي، وربما سأنتهي بالإذعان ليس للصراع بل للبهجة».
أراد أن يكون بائسًا لرضاه الذاتي: كان الجزء الأكثر سرية في هذا البؤس هو الشكل الشديد من البهجة الذي كان قد تكلم عن الموت في سبيله. » أمال رأسه جانبًا، كاشفًا عن حنجرته حيث يغلي جرح في اللحم المحترق والدم اللذين يفوران، لقد تسبب فيه وميض البرق، الذي لا يزال مستمرًا».(15) ليس هناك شك في أن الوميض المبهر - الوميض الدائم - له مغزى أكبر من الكآبة التي سبقته. الفقرة التالية الرائعة نجدها في يوميات كافكا 1917:( 16)
لم أتمكن أبدًا من أن أفهم أنه كان ممكنًا لأي شخص تقريبًا أن يكتب مستهدفًا الألم لأجل الألم. على سبيل المثال، بإمكاني في بؤسي الخاص، برأسي التي لا تزال تحترق بفعل البؤس، أن أجلس وأكتب لشخص ما: أنا بائس. بإمكاني أن أمضي حتى إلى ما هو أبعد من ذلك، في زخارف وتعبيرات بلاغية مختلفة، وفقًا لقدراتي، التي تبدو أنها لا تتشابه في شيء مع بؤسي، بوسعي أن أرتجل في هذا الموضوع، بطريقة بسيطة، على نحو بلاغي طباقي، أو بأوركسترات كاملة من تداعيات المعاني والخواطر والأفكار. وهذه ليست كذبة، إنها لا تخفف أو تُسكّن الألم: إنها قوة مغالى فيها مصحوبة بالفضيلة في لحظة من اللحظات عندما يستنفد الألم كل طاقتي بشكل ملحوظ، إلى أقصى أعماق كياني، المستمر في الانسلاخ. ما هي هذه المغالاة؟
دعونا نهتم بهذا السؤال: ما هي هذه المغالاة؟ من بين جميع قصص كافكا قلة منها ممتعة بنفس قدر إمتاع «الحكم». نقرأ في يومياته في 23 سبتمبر 1912:( 17)
كتبت هذه القصة على نحو متصل في ليلة ٢٢و 23 ، من العاشرة مساء إلى السادسة صباحًا. تمكنت بصعوبة شديدة من سحب ساقيّ من تحت المنضدة، فقد صارتا متيبستين جدًا. المجهود الرهيب والابتهاج لرؤية القصة تتطور أمامي - كيف شققت طريقي عبر المياه. مرات عديدة، أثناء الليل، كنت أقوم بتحميل وزني كله على مؤخرتي. كيف يمكن أن يقال كل شيء، كيف، تتوارد كل فكرة على ذهني، حتى أكثر الأفكار غرابة، لينتظرها حريق كبير كي تختفي وتبعث من جديد.
يقول كاروجيز:(18)
هذه الحكاية الجديدة تصور قصة شاب يتشاجر مع أبيه حول وجود أحد الأصدقاء وتنتهي بالانتحار. في أسطر قليلة، قصيرة بقدر امتداد وصف الشجار، نعرف كيف يقتل الشاب نفسه:
أسرع مندفعًا إلى الخارج عبر الباب وعبر خطوط الترام، انطلق بصورة لا تقاوم نحو المياه. تعلق بالحاجز كما يتشبث رجل المجاعة بطعامه. قفز فوق حاجز الأمان، مثل الرياضي المتمرس الذي كان هو عليه في شبابه، مصدر فخر والديه. أمسك نفسه للحظة بقبضة واهنة، مشاهدًا الحافلة تمر بين القضبان، سوف يغطي الهدير الذي صدر عنها بسهولة على صوت سقوطه، بكى بضعف: » والديّ الأعزاء، لقد أحببتكما دائمًا»، ثم يترك نفسه يسقط. في اللحظة التي كان المرور فيها على الجسر شديد الصخب كل معنى الكلمة.
ميشيل كاروجيز محق في إصراره على القيمة الشعرية للعبارة السابقة. كافكا نفسه أعطى تفسيرًا آخر إلى التقي الورع ماركس برود: «هل تعرف، ما الذي تعنيه العبارة الأخيرة؟» سأل، » فكرت بينما كنت أكتبها في عملية قذف عنيف».(19) هل هذا » التصريح غير العادي» يعطينا لمحة عن » خلفية جنسية شبقية؟«  هل تعني أنه »في عملية الكتابة هناك نوع من تعويض الهزيمة أمام الأب وفشل حلم الحياة المرسلة؟»(20) لا أعرف، لكن في ضوء هذا » التصريح» تعبر العبارة عن سيادة البهجة، الزلة أو السقطة الأرقى للكائن في ذلك العدم الذي يتألف من أنوات الآخرين.
تأتي الحقيقة المجردة للموت بمثابة تعويض عن سيادة البهجة.(21) العذاب يسبق البهجة، مثل الوعي الخاص بحتمية القضية، كما لو كان بالفعل إدراكا للحظة سكر، لما سيكون عليه دوار الخلاص - أو الموت. لكن البؤس ليس عقوبة على وجه الحصر. كان لموت جورج بيندمان عند كافكا، قرينه، معنى يدل على السعادة: أطالت الحتمية التطوعية المغالاة التي أثارتها، لكنها محت العذاب بمنح الأب حبًا واضحًا، واحترامًا واضحًا. لم تكن هناك طريقة أخرى للتوفيق بين تبجيل عميق مع نقص متعمد للتبجيل. هذا هو ثمن الانعتاق: إنه يملك الحق في الموت فقط: حيث ليست ثمة إمكانية للفعل بالمرة، ولا المطالبة بامتيازات متعلقة بالفعل وحده، لذلك الفعل الذي لا يمنح الحرية بشكل أصيل بسبب تلك الصفة أو الخاصية العبودية الذليلة المتأصلة في أي سعي خلف النتائج، لذلك الفعل الذي هو تابع وخاضع دائمًا. هل هناك أي شيء غير متوقع في هذا التواطؤ بين الموت والمتعة؟ المتعة - تلك التي تسبب السرور بلا حساب، رغم وجود حساب - لأنها تلك الصفة المميزة أو شعار الكائن المتحرر المتسيد، يترصدها الموت كعقوبة عليها، بالإضافة إلى أنه وسيلتها أيضًا.
هذا هو كل ما يمكن قوله. الإشراق أو الابتهاج ليس نتاج لحظات شبق. إذا كان الشبق هناك، فهو موجود لضمان وجود الفوضى، مثل نوبات التظاهر بنوبات التشنج العصبي التي أراد كافكا عن طريقها «صناعة البؤس». فقط التعاسة المتزايدة وأسلوب الحياة المتعذر تبريره تمامًا يرتبان ضرورة الكفاح وهذا العذاب الذي يمسك بنا من حلقنا، والذي بدونه لن توجد لا المغالاة ولا الفضيلة. البؤس والإثم بالفعل يشكلان في حد ذاتهما كفاحًا. الكفاح، الذي معناه الأعمق هو الطهارة، ليس معتمدًا على النتائج. إذا افتقر إلى العذاب، لن يكون الكفاح هو » كل ما بإمكاني أن أفعله». فقط عندما يكون كافكا في حالة من البؤس، وبسبب ذلك، يمتلئ كافكا » بالبهجة التي هي أكثر مما بإمكانه(هو) أن يستمتع به فعلاً، أكثر مما بإمكانه (هو) أن يعطي». ثم إن البهجة تكون شديدة جدًا لدرجة أنها تنبع من ذاتها وليس من الكفاح، لدرجة أنه يترقب الموت.
حيوية الطفل السعيدة تستعاد
في تجسيد الموت لهيمنة الحرية:
تبين واحدة من قطع كافكا، Kinder auf der Landstrasse ، مظهرًا متناقضًا من حيويته السعيدة. ومثلما هو الحال في كل اللحظات الأخرى الموصوفة في أعماله، لا شيء متصل ومرتبط بصلابة وقوة بالنظام الراسخ أو العلاقات القابلة للتحديد والتعريف. هناك دائمًا نفس ذلك التمزق الذي لا شكل له، أحيانًا بشكل بطيء وأحيانًا أخرى بشكل سريع، والذي يحدث للضباب الرقيق بفعل الريح. لم يتخذ له هدفًا واضحًا، مقصودًا بشكل علني، يعطي مغزى لغياب الحد الذي يحكم الانعتاق بسلبية شديدة. عندما كان طفلاً انضم كافكا إلى مجموعة من رفاق اللعب:
ركضنا ورؤوسنا إلى أسفل خلال المساء. النهار، والليل، لم يعد لهما وجود. كانت أزرار معاطفنا تصطك مثل الأسنان، جرينا واحدًا في أثر الآخر، وأفواهنا مشتعلة مثل الحيوانات الاستوائية. نتبختر ونثب إلى أعلى، مثل الفرسان المدرعين في الحروب القديمة، قاد أحدنا الآخر إلى نهاية الحارة القصيرة وإلى أعلى حيث الطريق العام. قفز الأشخاص الذين انفصلوا إلى المصرف، لكنهم اختفوا بصعوبة في ظلام الجسر ثم ظهروا مرة ثانية على الطريق عند أطراف الحقول، غير مبالين بنا مثل الغرباء ...
هذا «التعارض» ( بالضبط مثلما الشمس هي المضاد للضباب الذي لا يُخترق، وللحقيقة المحجوبة أيضًا ) قد يساعدنا على أن نفهم العمل المحزن ظاهريًا لكافكا. الزخم الساحق في طفولته، البكاء المصاحب للبهجة، أصبح فيما بعد مشبعًا بالموت. كان الموت بمفرده متسعًا بقدر كاف، مخفيًا جيدًا وبشكل كاف عن « فعل - ملاحقة - الهدف » في الإثارة السرية لمرح كافكا الشيطاني. بعبارة أخرى، وجد كافكا في قبول الموت، داخل حدود الموت، والخضوع للهدف، وجد أن موقف الانعتاق الذي لا يستهدف شيئًا، ولا يرغب في شيء، يستأنف، في لمح البصر، امتلاءه وطيشه. عندما قفز بيندمان فوق الحاجز كان الدافع هو ذاك الذي لطفولة متشرد. موقف الانعتاقية مدان، إنه بائس بقدر محاولته الفرار من الموت، لكن، بالضبط عندما يموت موقف الانعتاقية هذا، يسبح الشعور بطيش الطفولة مرة ثانية في بحر الحرية العديمة الجدوى. والعيش، الذي كان غير قابل للانتقاص أو الاختزال، رفض ما منحه الموت. يستسلم الموت وحده للسلطة الكاملة للفعل، لكنه لا يعاني منها.
تبرير العداء الشيوعي:
يمكننا أن نميز في أعمال كافكا جانبًا أو مظهرًا اجتماعيًا، جانبًا جنسيًا وجانبًا أسريًا، وأخيرًا جانبًا دينيًا. لكن مثل هذه التقسيمات تبدو زائدة وغير ضرورية نوعًا ما بالنسبة لي: حاولت حتى الآن تقديم وجهة نظر في كل هذه الجوانب معًا. الشخصية الاجتماعية في قصص كافكا يمكن بلا شك استيعابها في السياق العام للنص فقط. يمكنك أن ترى «ملحمة العاطلين عن العمل»، أو أن ترى « اليهود المضطهدين» في ( القلعة )، « ملحمة المدعى عليه في عصر البيروقراطية» في ( المحاكمة )، ومقارنة مثل هذه الحكايات أو الوساوس الاستحواذية مع عالم رووست شديد التركيز والكثافة إلاّ أن هذا لا يشكل تبريرًا على الإطلاق. بل ويستدعي كاروجيز، الذي فعل ذلك، لتحليل العداء الشيوعي، وهو يقول لنا إنه الممكن أن يكون الدفاع عن كافكا سهلاً، « ضد كل اتهام يوجه إليه بمعاداته للثورة إذا أراد أحدنا أن يقول عنه، كالآخرين، أنه حصر نفسه في تصوير أو وصف جحيم الرأسمالية».(٢٢) و« إذا بدا موقف كافكا كريهًا جدًا للعديد جدًا من الثوريين»، يضيف، « فهذا ليس لأنه يهاجم بوضوح وصراحة البيروقراطية البرجوازية والعدل البرجوازي - الهجوم الذي من الممكن أن يتفقوا معه فيه - لكن لأنه هاجم جميع أنواع البيروقراطية والعدل الزائف».(23) هل أراد كافكا انتقاد مؤسسات بعينها كان ينبغي علينا استبدالها بأخرى، أقل قسوة ووحشية؟ يكتب كاروجيز ثانية: « هل يُحذر من الثورة؟ أم ليس هناك أكثر من تشجيعه لها. إنه فقط يؤكد انهيار الإنسان: ويمكن لكل قارئ أن يستخلص أحكامًا من وجهة نظره. وكيف لا يستطيع المرء التمرد على السلطة الكريهة التي تمنع مسّاح الأراضي من العمل؟ »، أنا أعتقد، من ناحية أخرى، أن فكرة الثورة نفسها يتم طردها عن عمد من  »القلعة«. يعرف كاروجيز هذا، ويقول أكثر من ذلك قليلاً:(24) « النقد الوحيد الذي يمكن أن يوجهه المرء إلى كافكا هو التشكك الذي ينظر به إلى كل محاولة ثورية، لأنه ينطلق من المشاكل التي ليست بمشاكل سياسية، بل مشاكل إنسانية وأيضًا ما بعد ثورية وبصورة أبدية ». لكن التحدث عن التشكك وإعطاء مشاكل كافكا مغزى فيما يتعلق بالكلمات والأفعال الإنسانية السياسية، لا ينجح بدرجة كافية لصالح أي من الجانبين.
بعيدًا عن حديث التنافر، نجد أن عداء الشيوعية مرتبط أساسًا بفهم معين لكافكا وأفكاره. سأمضي إلى ما هو أبعد من هذا، يرمز موقف كافكا تجاه سلطة أبيه إلى العداء نحو السلطة العامة التي تنشأ عن النشاط الفعال. النشاط الفعال، الذي ارتقي إلى الانضباط كنظام منطقي كذلك الذي للشيوعيين، والذي يتم تقديمه بوضوح كحل لكل مشكلة. ومع ذلك لا يستطيع أن يدين كلية، ولا أن يجيز عمليًا، موقف انعتاق فعلي ترتبط فيه اللحظات الحالية بتلك اللحظات التي تتلوها. هذه صعوبة بالنسبة لحزب يحترم العقل فقط ويرى القيم غير المنطقية المتمثلة في الترف، وعدم الجدوى والطفولية، على أنها توجد كأقنعة على وجه المصلحة الخاصة الشخصية. موقف الانعتاق الوحيد المسموح به من جانب الشيوعيين هو الذي للطفل، لكن في شكله الصغير. إنه ممنوح للأطفال الذين ليس بمقدورهم الوصول إلى أو تحقيق جدية البالغين. إذا أسبغ البالغ معنى كبيرًا على الطفولية، إذا كتب وهو يشعر أنه يثري قيمة الانعتاق، فليس لديه مكان على الإطلاق في المجتمع الشيوعي. في العالم الذي أقصيت فيه البورجوازية الفردية، لا يمكن الدفاع عن أو تفسير أو تبرير المرح الصبياني لكافكا البالغ. الشيوعية أساسًا هي الإنكار والنفي الكامل، والعكس الجذري لكل ما يرمز إليه كافكا.
لكن كافكا نفسه يوافق:
لم يكن هناك شيء يمكن لكافكا أن يؤكده، أو أن يتحدث باسمه. ما كان كافكا عليه، والذي لم يكن شيئًا، تواجد فقط إلى الحد الذي أدانه فيه النشاط الفعال. لم يكن هو شيئًا ما خلا دحض وتفنيد النشاط الفعال. كان هذا هو السبب الذي جعله ينحني أمام سلطة أنكرته، على الرغم من أن طريقته في الانحناء كانت أكثر عنفًا بكثير من الإصرار على الصياح. انحنى، وبينما كان ينحني، أحب ومات، وهو يقابل بين صمت الحب والموت ونظيره الذي لم يستطع أن يجعله يستسلم أبدًا، لأن العدم الذي لا يمكنه أن يستسلم أبدًا رغم الحب والموت، هو نفسه في منظور الانعتاق.(25)

الهوامش
١-Kafda, Tageviicher 1910-1932, Fischer Verlag 1951-Heinemann, 1948-9.
٢- لا يمكن أن أرد ردًا آخر على جوزيف جابل الذي أثار هذه  النظرية لي. ( في النقد، رقم 87، نوفمبر 1953 ). سيرك أوكلاهوما ليس كافيًا لنا لتقديم منظور تاريخي لأعمال كافكا.
٣-Frana Kafka, Hochzeitsvorberitungen auf dem Lande und andere Prosa uas dem Nachlass, Fischer Verlag, 1953
٤  -Michel Carrouges, Franza Kafka, Labergerir, 1949.
٥ -Kafka, Hochwtsvorbereitungen.
٦ - عن جوزيف ك، بطل المحاكمة، الذي كان بوضوح قرينًا للمؤلف.
٧ -Carrouges, po. cit.
٨ -F. Kafka, Tageviicher. My italics.
٩ -Carrouges, po. cit.
10 - Kafka, Hochwtsvorbereitungen.
١١-La Part du Feu, Gallimard, 1949
12- Carrouges, po. cit.
13- F. Kafka, Tageviicher
14-F. Kafka, Hochzeitsvorbreeitungen.
15-  مرجع سابق.
16-Kafka, Tagebucher.
٧١- مرجع سابق.
18-Carrouges, op.cit. 2
19- مرجع سابق.
20- مرجع سابق.
21- هنا أشعر أنني ينبغي أن أستشهد بقطعة صيغت لكتاب آخر: نحن على خطأ بتركيز انتباهنا بدرجة كبيرة على تحول الكائن من شكل إلى آخر. مرضنا هو معرفة الآخرين كما لو أنهم كانوا خارجنا، على الرغم من أنهم لا يقلون داخليًا عن أنفسنا. إذا تخيلنا الموت، نرى أن الفراغ الذي يتركه يستحوذ علينا بسبب قلقنا على أنفسنا، على الرغم من أن العالم مكون من امتلاءات. لكن الموت غير الحقيقي هو الذي يترك شعورًا بالفراغ، ويجذب، اهتمامنا في نفس الوقت كما يزعجنا، لأن هذا الفراغ متصل بامتلاء الكائن. العدم، أو الفراغ، أو الآخرين، على قدم المساواة تقريبًا كضروب من الامتلاء  غير الشخصي - الذي لا سبيل إلى الإحاطة به.
٢٢ -Carrouges, op.cit.
23- مرجع سابق.
24- مرجع سابق.
25- انظر فوق.