الترجمة الفلسفية إلى العربية ونحو فلسفة للترجمة - حسين الهنداوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس في الاهتمام الفلسفي المتخصص, وفي مرحلة متقدمة نسبيا من ممارسة البحث الدراسي او الاكاديمي, التقليدي يشعر بعض المشتغلين بالضيق من قيود وحدود هذا البحث فتراودهم المغامرة على تخطيه نحو نمط جديد من التأمل ينزع تدريجيا وتلقائيا, انما بقوة اكثر فاكثر وثوقا, الى التسامي التام والجذري على القواعد الاكاديمية ذاتها والميل الى اغواء <<الضياع>> في الهواء الطلق. وهي حالة او مرحلة يشعر فيها المرء بأمان طوعي مع نفسه وحدها دون العالم الخارجي, اذ تبدو اشبه بالوقوف على ضفاف نهر عذب وثر  في آن, يغوى لحظتها المتأمل تلقائيا بإدارة ظهره للموجودات الاخرى, متماهيا مع بهجة فطرية تجعله خلاقا بذاته, ولا أهمية عندئذ لصدقانية هذا الادراك او وهميته.
هذا <<الاغواء>> يقود في الفلسفة الى مرحلة متميزة في الكتابة هي <<المحاولة>>. وهذه كانت بين اغنى وأنشط مجالات الإبداع في فترات ازدهار سابقة لثقافتنا, الا اننا نلاحظ غيابها النسبي في مرحلتها الراهنة. فثمة قطيعة بين تلك الفترات وفترتها المعاصرة تتقلص تدريجيا بلا شك, بيد انها لن تزول مما يعني ان الانطلاق فيها غير ممكن الا على اساس تواصل مع المعطى الماضي (ولنقل ما قبل العثماني مؤقتا), انما على أساس جديد يتصل بالضرورة بالمنجز العالمي والغربي خاصة ويتفاعل معه لأن الفلسفة كونية بالطبع وبالطبيعة.
من هنا تأتي الأهمية الاستثنائية للترجمة الدقيقة لذلك المعطى العالمي الذي نأمل الاستفادة منه واللحاق به وربما تجاوزه. والحال ان الترجمات العربية للنصوص الفلسفية الغربية الكبرى مثلا لا تزال ضعيفة بشكل مثير برغم التلاقيات المتعاظمة بين الثقافات العالمية التي تحققت في العقود العشرة الماضية لأسباب عديدة معروفة في مقدمتها الثورة الكونية في مجال الاتصالات والمواصلات. والاخطر من ذلك ان بعض المفاهيم الفلسفية الجوهرية السائدة تتضاد مع الاصل المترجم, مما يجعل التأسيس عليها خاطئا منذ البدء مع كل ما يترتب على ذلك من أوهام ومغالطات. 
تناقضات الترجمة الفلسفية الى العربية
فعلى سبيل المثال, قادتني نزوة في مرة سابقة الى تأمل مفهوم الذات لدى ديكارت, فوجدت نفسي ازعم ان عبارة <<انا افكر اذن انا موجود>>, هذه الصياغة العربية المعتمدة من قبل الجميع كما يبدو, مضطربة قطعا  وعقيمة, كترجمة لما يعرف بـ <<الكوجيتو>> الديكارتي.
فـ (Sum Cogito Ergo( , لا يمكن بأي حال من الاحوال ان تعني, بنظرنا المتواضع, مجرد <<انا افكر اذن انا موجود>>. بل تعني, حرفيا, (افكر اذن أنا). او كما نقترح <<افكر اذن ذات  أنا>>.
لا ريب, اننا نكن تقديرا عظيما للمترجم العربي الاول الذي أقدم على ترجمة <<الكوجيتو>>, لكن, لا ريب ايضا, في انه خان ديكارت في مكان ما منها والا بربكم, ما معنى هذا اللغو: <<انا افكر اذن انا موجود>>!. والحال, ان ديكارت نفسه عندما اشرف-او قام- على ترجمتها من اللاتينية, لغة الكتابة في اوروبا في عصره, الى الفرنسية, لغته, جعلها je pense donc je suis ولم يجعلها je pense donc j’existe.  ولو عاش الرجل, نتخيل, حتى هذا القرن وعرف كيف اصبحت الكوجيتو في لغة الضاد, لقتله الأسى جزعا.
لان مقايضة الكوجيتو ب- <<انا افكر اذن انا موجود>> يمثل طعنة نجلاء لروح الفلسفة الديكارتية, هذه الفلسفة التي لم يكن يشغلها شاغل الا البرهنة على ان الانسان, والانسان موجود بداهة, هو, ولأنه يفكر, ذات حرة, قائمة بذاتها وسامية, أي البرهنة على <<انني>> -(وليس <<انا>> لأن الجملة الاسمية فضفاضة بحكم البنية)- عقل, وبصفتي عقلا أحوز على يقين قاطع بامتلاكي -نعم امتلاكي- <<انا>> او <<ذاتا>> ثبت وجودي ام لم يثبت, أي دون ادنى حاجة لي ان اعرف فيما اذا كنت موجودا حسيا ام لا. بعبارة اخرى, ان الانسان موجود بالنسبة لديكارت, والحيوان موجود, والنبات موجود, والفكرة موجودة. فهذه يقائن لا ينكرها الا مازح او معتوه. لكن الانسان وحده الذي يتميز عن كافة <<الموجودات>>, وذلك لأنه وحده الذي يستطيع ان يتذهن. ولأنه كذلك فهو يمتلك بالضرورة ماهية مختلفة, اسمى واشرف, مقرونة بوجوده الحسي, ممثلة ب- <<انا>>, او <<ذات>>, بسلبها او نفيها او تأجيلها او ترميزها او جهلها, لا يعود الانسان انسانا, انما يصبح <<شيئا>> آخر موجودا وحسب.
وهنا ينبغي ان نموضع روح ودينامية الشك الديكارتي كمنهج. وعلى هذا الانجاز تحديدا استحقت الديكارتية مكانتها الريادية في تاريخ الفلسفة لتصبح, زمنيا, لحظة فاصلة بين عصر وسيط محوره الحط من قيمة الذات الانسانية, كفردية وحقيقية وملموسة في وجودها الموضوعي, عصره رمزه الأفخم فتاوى ابن تيميه وابن ميمون وابن الاكويني ومحاكم تفتيش وأصوليات من كل الالوان, وبين عصر محوره اعلاء تلك القيمة وان نظريا حتى هذه الساعة.
لنلق اذن هذه ال- <<انا افكر اذن انا موجود>> في البحر. فديكارت لم يشك لحظة في كونه موجودا ويفكر. وكل ما اراد ان يثبته هو  انه كموجود ويفكر كذات, لا تحتاج الى قوة اسمى, خارجها تمنحها سبب وجودها ثم تسحبه منها متى تشاء. وعندما نقول هذا فاننا نضع امامنا الآن المادة الاولى من تأملات ديكارت الميتافيزيقية الثالثة حيث يقول لنا هذا الفيلسوف, الموجود قبل واثناء وبعد ان يفكر, انني, والترجمة على ذمتنا, <<لو اعمد الآن الى اغماض عيوني واغلاق مسامعي وتعطيل كافة حواسي, ولو امسح من ذهني كل صور الاشياء الجسمية, او على الاقل لصعوبة ذلك, اعاملها كما لو كانت وهمية وباطلة, عندئذ سأجد نفسي مخاطبا ذاتي وحدها, متأملا داخليتي, مزدادا معرفة وألفة بهما اكثر فاكثر>>.
ودون الدخول هنا في تلافيف الفلسفة الديكارتية حول الذات, نستطيع القول ان الانسان بالنسبة لها ليس مجرد عقل وضع بتصرفه وجود معين, انما هو وجود حي وعاقل يمتلك ذاتا. وهذه الذات تعرف نفسها مباشرة كموجودة حتى دون وساطة للحواس والانفعالات. وديكارت هنا يتجاوز المفاهيم الارسطية ويحطمها. فلقد كان ارسطو يحب ان يقول ان الانسان حيوان عاقل وان النفس لا يمكن ان تعرف نفسها مباشرة, انما تتعرف عليها عبر الانعكاسات فقط. فالعين ترى كل شيء لكنها لا تستطيع ان ترى نفسها الا عبر الانعكاس في المرآة. كذلك الروح لا تتعرف على نفسها الا عبر النتائج التي تولدها. كلام فارغ هذا سيقول ديكارت مساجلا: ليست العين هي التي ترى نفسها في المرآة فهي لا ترى حتى المرآة, انما العقل -بذاته المستقلة- هو الذي يدرك وحده المرآة والعين ونفسه والوجود واللاوجود.
بلا شك ان صيغة <<انا افكر اذن موجود>> تحمل جزءا جوهريا من الحقيقة التي ينطلق منها الكوجيتو الديكارتي. لكن هذا الجزء ليس الا نقطة انطلاق ولا فضل لديكارت فيه بشيء, لانه معروف قبله بزمن طويل. فمنذ طلائع التأسيس الفلسفي في سومر وبابل ومصر والاعتراف بسمو الذات الانسانية في وجودها الموضوعي يعبر عن نفسه بصيغة  او بأخرى. ان العجالة الشديدة هنا تحرمنا من الاستعانة بالنصوص السومرية والبابلية والمصرية المليئة بالأمثلة. لكننا نصادف دائما فيها هذا المفهوم الذي يؤكد خصوصية الوجود الانساني وسموه بفضل ملكة التذهن.
فصورة الآلهة في الفكرين العراقي والمصري القديمين هي بشكل او بآخر استنساخ لصورة الانسان, وإن كانت الضرورة تفرض على المفكر قلب الاولويات, وجعل الانسان مخلوقا على صورة الالهة, من أجل صياغة منظومته لتفسير الوجود بكونيته الشاملة. ففي احد النصوص السومرية هكذا نستمع الى انليل وهو يأمر الآلهة بخلق الانسان:
<<خذي حفنة من طين من فوق مياه الاعماق
واجعلي الصناع الآلهيين يعجنون الطين ويكثفونه
ثم قومي انت بتكوين شكله واعضائه
وسنعلق عليه صورة الآلهة
على انه الانسان>>
وهو نص لاشك في ان <<العهد القديم>> استلهمه عن قرب حين يقول في سفر التكوين (الاصحاح الاول 26-27-28):
<<قال الرب نعمل الانسان على صورتنا كشبهنا
فخلق الرب الانسان على صورته
على صورة الرب الانسان خلقه..>>
وفكرة <<الله يعلق صورته على الانسان>> نجدها في العديد من النصوص البابلية والفينيقية, كما نجد لها موازيات في النصوص المصرية حث يقول احدها ان الانسان هو صورة  لله <<انطلقت من جسده>>. ولا يمكن ان نغلق هذه الفقرة دون الاشارة الى ان المتفلسف العراقي القديم لم يلبث ان طور هذا المبدأ بشكل ألمعي عندما قلب اتجاه التماهي بين الآلهة والانسان الملموس, كما في  فكرة طبيعة جلجامش <<الذي ثلثاه اله وثلثه الآخر بشر>>, وكما لو ان الانسان صار ضجرا من قدرية ان آلهته هي التي تتكرم عليه بمنحه صورتها, نجده تطلع هو نفسه بنفسه عبر مغامرة جلجامش الى ركوب سلم السماء توقا الى الارتقاء الى منزلة الآلهة. وهو ارتقاء فلسفي المضمون في الجوهر.
صفوة القول, ودون الخوض في تفاصيل تطور معركة الذات, من سومر الى ديكارت, لانتزاع الاعتراف والمعرفة بها, نستطيع التيقن من ان مفهوم <<انا افكر اذن انا موجود>> يجد أصوله في اقدم ازمنة التفلسف.
حتى فكرة <<انا افكر اذن انا ذات>> يمكن ان نعثر عليها قبل ديكارت لا سيما لدى ابن سينا فيما هو معروف بنظرية <<الرجل الطائر في الفراغ>> حيث نجد ابن سينا في <<الشفاء>> وفي نصوص اخرى يقترح على الواحد منا: ان يتصور ذهنيا انه خلق دفعة واحدة وخلق كاملا لكنه حجب بصره عن مشاهدة الموجودات الخارجية وان يتوهم بانه خلق يهوي في فراغ او خلاء حيث لا مقومة تحس بها وحيث اطرافه متباعدة فلا تلاق ولا تماس بينها ثم يتساءل: هل يثبت وجود ذاته? الجواب نعم لأن طرح السؤال عن ذاته يكفي لذاته اثبات انها موجودة وهذا عبر الفكر (السؤال) وليس عبر جسمانيتها. فالذات عندئذ تكون <<قد غفلت عن كل شيء الا عن ثبوت انيتها>>. اي لا حاجة له لأن يثبت لذاته بانه موجود جسميا كي يثبت بانه موجود كذات, فلا شرط لوجود الـ <<انا>> سوى ذاتها.
ولا شك بالنسبة لنا من ان كوجيتو ديكارت مدين بجوهره وروحه لابن سينا.
لن نذهب ابعد من ذلك لاثبات اضطرابية ترجمة الكوجيتو لديكارت الى العربية. ومع ذلك يظل غريبا ان نتباهى بهذه الترجمة لحد الآن. ربما نجد طواعية الف عذر للمترجم الاول الذي اقترحها, لكن لماذا الركود عليها وكل تاريخ الفلسفة الغربية اللاحق لديكارت يفرض نبذها? ونكتفي هنا ببعض اضاءات هيغل الذي يدفع الكوجيتو الديكارتي الى اقصى حدوده عندما يعطي اهمية مطلقة لفكرة ان اعرف انني موجود ك- <<انا>>. فهذه الفكرة لا تعني بانني موجود كعقل وكذات انك ايضا كحر, أي كذات حرة. لأن الاقتصار على الاعتراف بي كعقل فقط, او كذات فقط, يعني انني بصفتي هذه مجرد <<مشروع>> غير محقق: <<انا حر في ذاتي ولذاتي, ولست موجودا الا بقدر معرفتي بوجودي كحر>>.
والادهى ان صيغة <<انا افكر اذن انا موجود>>, يمكن ان تذهب في الاتجاه المضاد للبشارة التي اطلقها المفكر السومري والمصري في الازمنة القديمة وابن سينا وديكارت وهيغل في الازمنة المتأخرة, ولعل هذا ما يفسر قبول الايديولوجيا بها كجزء من اثاث البيت, بل واستخدامها في نفي الذات التي جهد ديكارت لاعلائها واطلقها هيغل من كل اسر.
ان الاعتراف بي كموجود وحسب يعني بالضرورة ان علي واجبات وحسب, وانني رأس بين رؤوس الرعية وحسب, وهذا يسمح, وسمح اصلا لدموي بائد لا يعرف ايضا بانه ذات ان يرسل نصف مليون انسان منا الى المحرقة, بل ووجد <<فلاسفة>> يطلفحون بعظمته و <<انسانيته>>. اما عندما اعرف بانني موجود كذات فان فكرة الحقوق هي التي تحضر.
ان هذه الفكرة البسيطة ليست كذلك بالفعل, اذ يؤكد تاريخ <<الذات>> ان الايديولوجيات هي عدوها الاول والاشرس, حيث عملت دائما على سحقها باسم <<ذات>> وهمية, تسمى القبيلة مرة او الامة او الشعب او الوطن او التاريخ او الانسانية مرة اخرى. وحتى داخل تاريخ الفلسفة تسلل بعض انبياء الايديولوجيا ليوقفوا تقدم الذات وتحجيمها وتهميشها وقتل شفافيتها ورحيقها.
مفهوم واحد بمصطلحات شتى
الاغتراب والاستلاب والانسلاب هي أدلة على نموذج آخر من مشاكل الترجمة الفلسفية لدينا. فهذه مفردات جميلة ومتميزة ومموسقة, وتشي بجهد صامت ومضن في نحت كل منها, الا انها تكاد تتماهى في الذهن من جهة الدلالة, الى درجة تسمح بالاستفهام عن ضرورة وجودها ما دامت لا تثير في الثقافة العربية, سوى الارتباك. وقد لا نبالغ اذا قلنا ان تلك الدلالة ذاتها لا تبدو واضحة تماما بعد, حيث نجدها في غاية التشتت والتناقض احيانا مما جعلها عرضة للتوظيف الاعتباطي لا في المجال الادبي او الفني حسب انما في المجال الفلسفي ايضا. ولعل امتداد توظيفها الى استعمالات مجانية غالبا من قبل النقاد ومعظم الصحفيين وغيرهم من الكتبة زاد على هذا الاضطراب اضطرابا لا سيما في المهجر حيث صارت هذه المفردات توحي احيانا او ترتبط بالحنين الى الاوطان واحضان الامهات او بدوائر الاقامة والضمان الصحي او حتى بمنظر قوافل البدو لرحالة.
ونسجل من الآن ان البحث عن تحديدات دقيقة للحالات المتعددة التي يتلبسها ذلك المعنى العام يستوجب اضافة مفردة رابعة, نقترح ان تكون <<الانغراب>> لكن ماهو هذا المعنى العام?
انه ال- (Alienation) (من الاصل اللاتيني Alientio) ولنترجمها مؤقتا ب <<التغرب>> (رغم بعض الاشكاليات المؤجلة). وهي حالة ذهنية يتحد فيها الشيء وضده في آن, وتعبر عن <<مفارقة -لامفارقة>>, او <<قطيعة- لاقطيعة>>, بين الذاتي والموضوعي, او, بشكل ادق, بين ال <<انا>> وبين جزء منها اصبح خارجيا او غريبا او مستقلا عنها (قطيعة) من جهة واصبح ايضا في علاقة خصومة او نفي او تضاد معها (لاقطيعة) من جهة اخرى. وهذا الجزء <<المفارق-اللامفارق>> قد يأخذ في الذهن هيئة وثن مادي او كينونة مجردة او معادلة محسوسة او انطباع غامض, وبالتالي فان العلاقة معه تظل دائما علاقة <<تغرب>> حيال آخر. الا ان ماهية العقلنة التي تضفيها على هذه العلاقة ليست دائما هي هي, انما تتراوح ما بين التوافق المطلق والنفور المطلق وبينهما التوافق النسبي والنفور النسبي.
وباختصار شديد سنحاول ان نبين ما هي الحيثيات الدالة على كل حالة من الحالات الاربع وتميزها عن غيرها في اطار المعنى العام الذي ذكرناه اعلاه لل-<<تغرب>>.
الحالة الأولى (الاغتراب):
تبدو هذه الحالة كالشكل الابسط والاكثر شيوعا والايسر فهما بين اشكال التغرب الاخرى. ماهيته تنازل يقدم عليه الذاتي لصالح الموضوعي, عن جزء منه إراديا, في تموضع امامه في علاقة نفي خارجية وارادية بمعنى الحفاظ, نظريا في الاقل, على امكانية الغائها في لحظة او اخرى عبر العودة الواعية والارادية ايضا على ذلك التنازل. ويمكن تلمس هذا المفهوم عبر نماذج عديدة تتباين في مستويات التعقيد الا انها تظل جوهريا ضمن نفس الماهية.
النموذج الاول تعبر عنه مشاعر التغرب التي تربط الذاتي مع الموضوعي الذي اصبح <<آخر>>, اي اصبح مستقلا عن ارادته بعد ان كان جزءا منها ولو خارجيا. فمثلا مشاعرنا امام وطن تعطيه كل مساحة قلبك وتراه يقفل ابوابه بوجهك, بيت تركت فيه كل ذكريات حياتك وتراه قد اصبح في عهدة غيرك, عشيقة فصلتك عنها ظروف قاهرة وتجدها مستغرقة في قبلة مع آخر.
النموذج الثاني تعبر عنه مشاعر التغرب في العلاقة بين المتصوف كالحلاج كذات تتطلع الى الاتحاد بالمطلق وبين جسده كموضوع, حيث لا القطيعة ممكنة ولا الارتياح مع الجسد <<مقبرة الروح>> يرتجى.
النموذج الثالث لاهوتي بحت تعبر عنه مشاعر التغرب في العلاقة بين <<يسوع ابن الله>> كما في اللاهوت المسيحي, وبين جلاديه ومعذبيه الذين ذهبوا الى حد صلبه بينما هو قادم من السماء لا لشيء الا لانقاذهم والتضحية من اجلهم.
النموذج الرابع تعبر عنه مشاعر التغرب في العلاقة بين الذات والموضوع مطروحة كضرورة نافية, كما هو الحال في مشاعر الملائكة حيال الامر الالهي بالسجود للانسان آدم: <<واذا قال ربك اني جاعل في الارض خليفة, قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء>> كما جاء في الآية القرآنية الكريمة. ويمكننا ان نتخيل مشاعر الملائكة في تلك اللحظة الحاسمة من سماع الامر الالهي. وحده ابليس يفلت من المشاعر هذه لانه <<أبى واستكبر>> الا انه يقع بالمقابل في <<تغرب>> اشد مع الماهية الإلهية التي كان في علاقة طاعة مطلقة معها من قبل.
اننا نقترح ان نطلق على هذا النوع من التغرب الذي تتضمنه النماذج اعلاه اسم <<الاغتراب>> لانه فعل ارادي وخارجي كتنازل تقدم عليه الذات لضمان الحصول على مقابل يمتصه وهو ضرب من اعتراف ضروري للموضوع بالذات وان سلبا.
الحالة الثانية (الانغراب)
تبدو هذه الحالة على نقيض من السابقة من حيث ان علاقة التغرب ارادية واعية الا انها ليست نافية بل ايجابية جوهريا. ففعل <<التنازل>> يأخذ هنا شكل ضرورة عقلانية خلاقة وضامنة يعبر عنها مفهوم <<العقد الاجتماعي>> عند هوبز وروسو خاصة. وهذا الاخير بالتحديد هو من اعطى هذا المفهوم استخدامه الدقيق والواسع اما ماهية مضمونه فيمكن تلمسه في حيثيات الضرورة التي يقتضيها الانتقال من <<حالة الطبيعة>> الى <<حالة المجتمع>> كما معروف. ففي مؤلفه <<ليفياتان>> يقترح هوبز لتحقيق هذا الانتقال, نمطا من العلاقة بين الفرد وبقية الافراد تقوم على اساس خاص هو نوع من التعاقد طرحه كما يلي: <<أتنازل>> عن حقي الطبيعي بحكم نفسي بنفسي الى شخص او مجلس وأوكل له استعمال ذلك الحق نيابة عني شريطة ان <<تتنازل>> انت ايضا عن حقك الطبيعي المماثل وانت توكله الى نفس الشخص او المجلس. وهكذا تصبح كل افعال المجلس مشروعة باعتبارها <<افعالنا>> ويصبح هذا الشخص او المجلس, المنتفع من هذه التنازلات المشتركة عن الحق الطبيعي <<صاحب السيادة>> او <<السلطان>> الوحيد.
بالطبع لا يتحدث هوبز هنا مباشرة عن مشاعر تغرب او معاناتها, بيد انها تظل مطروحة ضمنا في هذا <<التنازل>> عن الحق الطبيعي الذي يملكه الانسان في حكم نفسه بنفسه. ففي اعماق هذه المقايضة, مقايضة الحق الطبيعي والحرية الاصلية بالسلم المدني والحياة الاجتماعية العامة, هناك تضحية اكيدة بجزء من الارادة الاولى التي هي جزء من الكيان البدئي للفرد. وهذه التضحية تخلق بحد ذاتها علاقة تغرب بين الفرد, صائرا عضوا في المجتمع فاقدا الحرية الاولى والحق الطبيعي, وبين ذاته هو نفسه في حالتها البدئية. والمحنة لا تتوقف عند هذا الحد, انما تتفاقم كلما اصبحت العودة على هذا القرار, قرار التنازل, لاغية او مكلفة, وتتفاقم اكثر عندما يفضي الامر الى فشل تلك المقايضة, اي حصول انقلاب عليها من الطرف الآخر مادام ليس هناك ما يضمن عدم انقلاب السلطان او صاحب السيادة على التزاماته المتضمنة في العقد المعقود.
روسو لا يغير من واقع المحنة هذه بجعله محور العقد الاجتماعي تنازلا لا لشخص او لمجلس, انما لارادة عامة معنوية او نظرية محضة, هي سيادة القانون, اي سيادة ارادة الشراكة والاتحاد, <<حيث كل واحد يتحد مع الكل ولا يتحد مع اي احد بشكل خاص>>. انه بلا شك تطور كبير فيما يخص نظرية التنظيم السياسي للمجتمع, الا ان مشاعر التغرب هي هي وكذلك العلاقة المتمخضة عنه بين الذاتي والموضوعي, نظرا لأن الحرية الاصلية تنقلب الى ضدها لتصبح طاعة, ولأن الحق الطبيعي جرى التنازل عنه تماما.
اننا نحترم القوانين, نعجب بها, نشرب السم من اجلها كما فعل سقراط, لكننا لا يمكن ان نحبها ابدا سارقة حريتنا الاصلية والميتة القلب هذه. هذه بكلمة مشاعر الانغراب التي نعنيها هنا.
الحالة الثالثة (الانسلاب)
يمكن ان تعتبر هذه الحالة في تضاد مع الحالتين السابقتين من حيث ان علاقة <<التغرب>> بين الذات والموضوع ليست ارادية, بمعنى ان مصدرها ليست الارادة الذاتية انما ارادة خارجية يتوهمها الوعي الذي يعبر عن نفسه هنا كشعور بالمأساة لأن التنازل عن الحق الطبيعي والحرية الاصلية لا يقابله اعتراف ولو سلبي, كما في الحالة الاولى, ولا اعتراف يتضمنه العقد كما في الحالة الثانية.
لتلمس هذا المفهوم بوضوح ينبغي الذهاب الى مايسميه هيغل ب <<الوعي الشقي>> الذي يحد تحققه الاعلى في مشاعر العبد ازاء السيد التي تستبطنها الذات عن نفسها ازاء موضوعها. وهذا الموضوع قد يبدو مجرد صورة او فكرة كالاله او قوى الطبيعة او الشيطان او ارواح الاجداد او ماشابه, نفترض وجودها كقوة ذات تاريخ متموضعة خارج الافراد وكذلك العلاقة معها, فالطاعة تأخذ مكان الحرية هنا بلا أي مقابل والخوف من السيد هو الذي يهيمن فيه وبالتالي فان نفي الذات هو الغائية العليا للوعي ذاته.
في هذه الحالة من <<التغرب>> هناك ثلاثة عناصر متميزة تؤلف الصورة ويدركها الوعي, وهي اولا <<السيد>> الذي يأخذ ماهية قوة حرة بشكل مطلق ومفارقة غريبة مطروحة خارج الانسان الذي لا يعرف عنها شيئا سوى انها <<الروح>>. وثانيا الانسان وهذا غير معترف بوجوده الا كعرض محض وسلبي بذاته, وهناك ثالثا الغائية الكونية لهذا الوعي التي هي ليست الا الغاء اي حق طبيعي او حرية اصلية للذات الانسانية وتجريدها من اي قيمة باستثناء قيمتها كعبد.
الانسلاب اذن هو هذه المشاعر اللاواعية والقدرية المتأتية من تغربين اثنين ينتجهما هذا <<الوعي الشقي>> معا وهما تغرب في العلاقة مع المطلق الذي لا يعترف للذات الا بالعبودية والخضوع ودائما دون مقابل سوى متعة العبودية والخضوع, وهناك التغرب في العلاقة مع <<باقي البشر>> اي مع كل ذات اخرى غير مشمولة او غير راغبة بتلك المتعة. ان فكرة الديانة اليهودية عن العلاقة مع يهوه, الرب, هي المثلى في الدلالة على هذا النوع من الوعي, حيث تجد الذات فيه نفسها من جهة مغمورة بمشاعر عبودية مطلقة بمواجهة <<الرب>> نافية كل قيمة فيها كحرة وموضوعية وغير نائلة بالمقابل اي تعويض في حياته الفعلية او في حياة موعودة اخرى نظرا لان هذه الديانة لا تعد بشيء من هذا القبيل اذ لا حياة اخرى بعد هذه في نظرها. اما من الجهة الاخرى فانها ترى نفسها في تغرب مغلق وتناقض مطلق مع باقي البشر بسبب مبدأ <<الشعب المختار>> الذي جعله الوعي هذا <<امتياز ولادة>> كما لو انه هنا ايضا يدفع التغرب الى اقصى درجاته ويدفع المصادرة الى ابعد حدودها.
الحالة الرابعة (الاستلاب)
هذه الحالة لا إرادية ايضا الا أنها واعية, ماهيتها مصادرة من نوع آخر كليا, اذ لا تنفذها الذات انما تنتجها شروط الحياة الفعلية من مرحلة او اخرى من مراحل تطورها. وكما هو واضح فان هذا المفهوم يجد تعبيره الأعمق في التعريف الخاص الذي وضعه ماركس في مخطوطات 1844. والتغرب هنا يخص نمط الانتاج الرأسمالي تحديدا. انه حالة الوعي او المشاعر التي تعكس جوهر العلاقة المتمخضة بين المنتج كذات ونتاج قوة عمله كموضوع.
فنتاج قوة عمله هذا هو ليس في الواقع سوى الرأسمال, لكن هذا سرعان ما يتحول هو ذاته الى قوة خارجية غاشمة وضاغطة على المنتج نفسه كما لو انها غريبة عليه ومستقلة عنه. وهذا الاستلاب يذهب ابعد فأبعد بموازاة تطور النظام الرأسمالي وتوطد اركان علاقاته الخاصة وقيمه المميزة والاستغلال الاجتماعي الناتج عنه. فكلما توطد هذا النظام كلما زاد الاستغلال, وكلما اضطر المنتج الى بيع قوة عمله كلما تحول ناتج قوة العمل هذه نفسها, الى وثن مضاد اكثر فاكثر تجريدا وهيمنة. هكذا, وتتويجا لهذه السيرورة, فان منتج السلعة سيجد نفسه وقد تحول الى سلعة هو ايضا وكلما ازدادت قدرته على انتاج السلع كلما تدنت قيمته واستلب كذات وكحر وكانسان بل حتى كمنتج ما دامت العلاقة التي تربطه مع منتجات قوة علمه تتحول الى محض تناقض ونفي. ولئن نكتفي بهذا القدر من التوضيح, ذلك لأن هذه الحالة الاخيرة من التغرب هي الاكثر شيوعا الآن وهناك كتابات كثيرة حولها لا يخلو بعضها من شتى انواع الخلط كما نزعم في نهاية هذه المداخلة الموجزة جدا والتي لم تطمح في الواقع سوى اقتراح بعض الحدود داخل هذا الموضوع الاستثنائي التعقيد.
نحو فلسفة للترجمة
وعود على بدء نقول, ان الترجمة هي الفعل الثقافي الأكثر تعرضا للظلم في الثقافات جميعا. بلا شك ان الاشادة بدورها وحاسميته في النهوض الثقافي تجده في كل مكان, لكنها دائما اشادة انشائية فضفاضة, وأحيانا زائفة, تماما كذلك الذي يحظى به الجندي المجهول: الكل يعترف بدوره الاستثنائي في صنع الانتصارات والفتوحات والكل ينساه كما لو كان مجرد شبح عندما تحين ساعة تقسيم الغنائم.
وكعادتها في حب  الافراط,  فان الثقافة العربية الراهنة تدفع الظلم الملحق بالترجمة والمترجم الى اقصى درجاته. فليس نادرا ان تجد الكثيرين منا ينظرون للترجمة باستصغار واستهانة كما لو كانت عملة مزورة, أو باهتة. كما ليس استثناء بيننا هؤلاء الذين يرون في المترجم مجرد كاتب متطفل يخفي خلف فعل الترجمة افتقاره للعبقرية وفشله كمبدع. واجمالا فانه المنتج الثقافي الاكثر عرضة للنقد والتعنيف من لدن طباخي الصحافة وانصاف الادباء والمتدربين على النقد في الجرائد والمجلات العربية الكثيرة التي - لحسن الحظ - لا تغري احدا بقراءتها, أو حيازتها عندما يمتلك كامل قواه العقلية والذوقية., هذا الظلم يتضاعف ويدهش عندما نكتشف بان تعريف الترجمة والمترجم هو من الغموض في اللغة العربية الى درجة يبدو معها عديم المعنى.
<<نقل النص من لغة الى اخرى>> تقول بعض القواميس المعجمية, اما احدثها او يزعم هكذا, الذي يصدره الدكتور اللبناني خليل الجر منذ 3791 بعنوان <<المعجم العربي الحديث>> (عن دار لاروس الفرنسية), فقد كفا المؤمنين شر القتال مشكورا, ففي هذا المعجم الذي يضم 00535 كلمة معرفة, لم نجد, بعد البحث, اي اثر لكلمتي <<الترجمة>> و<<المترجم>>, كما لم نجد حتى فعل <<ترجم>> بين الافعال. وعندما بحثنا عن الفعل الثلاثي الاصل <<رجم>> فوجدناه يعني <<التكلم بالظن>>!
مأساة الترجمة كاملة اذن في ثقافتنا العربية الراهنة التي تتوهم أنها في ذروة النهضة, بينما لغتها لا تزال عاجزة عن النهوض بالمحمولات الفكرية. واذا تركنا اللغة وبحثنا في ميدان الفكر والثقافة فإنها هنا أيضا لا نجد ما يغري بالنظر. فالدراسات الفكرية حول الترجمة من والى اللغة العربية معدومة, صغيرة كانت أم كبيرة, وباستثناء بعض الافكار العامة فاننا لا نجد مترجما كتب عن تجربته أو نظر حولها. ولا نظن اننا نبالغ اذا قلنا ان المترجم عندنا لا يعرف ماهيته بالتحديد هل هو مبدع ام حرفي, او لا هذا ولا ذاك, ام بين هذا وذاك, كما لا يعرف ماله وما عليه. فلا الغائية واضحة ولا المسؤولية محددة, ولا الحرية مقننة ولا المعايير التي يحتكم لها موجودة. وحدها المزاجية الذاتية, في لحظة أو اخرى, هي التي تتحكم به. وتحكم كهذا يظل عشوائيا حتى اذا كان في ذروة النبل كما هو الامر غالبا. وقد اد ى هذا الحال الى تبديد جهود كبيرة وثمينة بلا معنى. فها نحن نجد, في الفلسفة مثلا, أن القسم الاعظم من النصوص الكبرى غير مترجم الى العربية, ومن جانب آخر فان الكثير من المؤلفات المترجمة تستحق بلا تردد ان توضع في متحف المهملات بما فيها الكثير من الرائج تجاريا او الموقع من قبل أسماء لامعة. وذلك اما لعشوائيتها او لنواقص جسيمة فيها او لاضطرابها وعدم وضوحها واحيانا تناقضها مع النص الاصلي.
علاوة على ذلك اننا لا نجد اليوم ميدانا مفتوحا لتطفل كتاب العرائض وتلاميذ اللغة الاجنبية كما هو الأمر في ميدان الترجمة, والحال ان فعل الترجمة هو من الافعال السامية والشاقة في كل ثقافة, أو هكذا يجب ان تكون. الشيء الذي يقودنا الى الاستنتاج ان ثمة خللا كبيرا في ثقافتنا الراهنة ذاتها. إننا نرى في الواقع, أن تشتت وفضفاضية فعالية الترجمة وشبه عقمها في الثقافة العربية الراهنة, يعكس بالضرورة حالة هذه الثقافة ذاتها وما يطبعها من تشتت وفضفاضية وفقدان هدف وتبعية مقنع ة. فالترجمة التي تنبت في تربة ثقافية جدباء كهذه, لا بد ان تحمل خصائصها بشكل او بآخر, ولا تشذ عن ذلك الا استثناء. وفي ثقافة استهلاكية انشائية بترو - دولارية متطبعة على الكبت الذاتي لا يمكن ان تزدهر الا ترجمة استهلاكية انشائية بترو - دولارية متطبعة على الخمول هي الاخرى, فهذه النزعة البطنية الاستهلاكية اضافة الى انعدام الحرية وطغيان الذاتية المفرطة للمثقف العربي هي الاسباب المركزية التي جعلت الترجمة الصحفية سيدة الساحة لدينا, وليس - قطعا - الترجمة الفكرية.
ودخولا في عمق الموضوع, نقول إن الترجمة, ومنذ أزمنة تفلت من الذاكرة, عرفت تضاربا في الاحكام حولها. فبسبب طبيعتها المزدوجة كفعل نصف تقني- نصف ابداعي تراوحت التقييمات حولها بين رافض لإدخالها في صنف الابداع البحت وبين مؤيد, ولو بتردد, لهذا الادخال. وبين هذا وذاك ظهر ثالث ينظر لها كإبداع في نقل الابداع, أو إبداع في ظل الابداع, او ابداع شبحي او ثانوي. هذا التضارب في تقييم الترجمة متولد في الاصل من خصوصيتها الجوهرية التي تميزها عن غيرها من ضروب الابداع الثقافي وتميز, بالتالي, المترجم عن نظرائه من منتجي الفعل الثقافي. ونقصد بهذه الخصوصية تركب الترجمة داخليا من عنصرين متناقضين وكل منهما ضروري, يقفان في اساس وجودها وهما الخلق والمهنية.
الاول يغري المترجم بان يكون حرا بشكل تام في رسم العلاقة بين حيوية الفكرة الاصلية موضع الترجمة وبين حيوية اللغة التي تستقبله مترجما لها. فهذا الاغراء يذهب أحيانا الى درجة تخويل المترجم حق التصرف بالفكرة الاصل وباللغة المتقبلة حتى اذا اقتضى الامر تفجيرهما معا او احديهما هيكليا على اساس ان المترجم هو, هنا, السيد المطلق في تأسيس صيغة العلاقة المذكورة وفرض السلوكية النموذجية الظاهرية على كل من الفكرة واللغة المستقبلة دون المساس بروحيتهما الاصلية.
أما العنصر الثاني فيأخذ مسارا معكوسا بمعنى انه يفرض على المترجم ان يتحول الى عبد تابع لكل من الفكرة واللغة يخضع لجبرياتهما ويسهر على حماية ومراعاة خصوصيات واستعدادات كل منهما. وهكذا, فإذا افترضنا توفر الكفاءة التقنية, الذهنية واللغوية, لدى المترجم (لأن عدم توفرها يلغي عنه هذه الصفة) فان درجة نجاحه في ايجاد الموازنة النموذجية بين لحظتي حريته وعبوديته حيال كل من الفكرة واللغة المستقبلة باعتبارهما طرفي فعل الترجمة, هي المعيار الوحيد الذي نميز بمقتضاه بين مترجم سيء وآخر جيد.
المترجم السيء هو عندئذ ذلك الذي ينحاز لاحدى اللحظتين على حساب الاخرى مهما كان هذا الانحياز ضئيلا, اي انه ذلك الذي لا يفلح ان يكون حرا مطلقا وعبدا مطلقا في نفس الوقت لكل من طرفي العلاقة. اما المترجم الجيد فهو الذي يفلح بتحقيق ذلك. وهذا يستحق صفة المبدع بلا جدال برأينا. فكيف تبدو هاتان اللحظتان, اي الحرية والعبودية على التالي؟
تبدو الحرية على الصعيد العملي البحت, خلال ثلاث سيرورات مختلفة يترتب على المترجم المبدع انجازها معا وانجاز كل منها حتى لحظتها الاخيرة وفق منهجية صارمة, لان إهمال, أو اغفال, أو عدم اكمال اي منها يترك مضاعفاته السلبية على مجمل العملية الابداعية. وهذه السيرورات الثلاث تتسلسل متوالية كما يلي:
تحرير الفكرة من براثن لغتها الاصلية وتنقيتها من كل الشوائب التي ألحقتها أو قد ألحقتها بها تلك اللغة التي ينبغي ان تقذف كالعلبة الفارغة في لحظة الترجمة الابداعية وعدم الاحتفاظ من اللغة الاصلية وروحيتها الا بذلك الجزء الصغير الذي اختاره المبدع الاصلي كروحيته الاسلوبية. فبدون هذا التحرير للفكرة من براثن اللغة الاصلية تقع الفكرة المترجمة في سجن مزدوج: سجن اللغة الاصلية وسجن اللغة المستقبلة, لان المترجم عندئذ يكون قد ترجم الفكرة وقيودها في نفس الوقت. ولذلك تجد ان أتعس الترجمات هي الحرفية القاموسية, سيدة الساحة في الثقافة العربية الراهنة, تليها في التعاسة تلك التي تزعم المحافظة على الأسلوب الأصلي للنص في صيغته المترجمة كما لو ان اللغات ذات اسرار وتواريخ واحدة. السيرورة الثانية, موازية, وتتمثل في تحرير اللغة المستقبلة من قوة العادة لديها, ورتاباتها الاقليمية أو التاريخية وذلك عبر استفزاز كل مفردة فيها للوقوف على قدميها حاملة قلبها بيدها لاستقبال الفكرة المترجمة. فالحالة اللغوية التي تستقبل النص المترجم ينبغي ان تكون حالة اكثر تمردا وشبابا من تلك التي يتقمصها النص المحلي. لهذا نجد, تاريخيا وفي كل الثقافات, ان الترجمة كانت عامل ثراء وتجديد, حاسما وأساسيا في لغات تلك الثقافات ومنها العربية طبعا.
السيرورة الثالثة هي تلك التي يتم في خضمها احلال الفكرة في الهيكل الجديد الذي تعرضه اللغة المستقبلة واحلال مفاهيم الاولى في مفردات الثانية. انها مسك الختام في فعل الترجمة كابداع. وهنا كما في العمليتين السابقتين فان دور المترجم هو دور القائد الشعبي المحرر اذا جاز القول. هذه السيرورات الثلاث تتم في نفس اللحظة ربما لكن بشكل مستقل للواحدة منها عن الاخرى. وفي كل واحدة منها يمتلك المترجم مطلق الحرية في اتخاذ القرار وفي اصدار الاوامر والنواهي. والعجز او التردد في كل منها من استخدام الحرية بشكل كامل ينعكس سلبا على النتيجة.
اذا انتقلنا الآن الى الجانب الآخر من فعل الترجمة, اي جانب لزومية عبودية المترجم لجبريات كل من الفكرة الاصلية واللغة المستقبلة, فاننا ندخل في الجانب الاكثر تقنية ومهنية. فالمترجم هنا كالحداد او النجار لا اكثر ولا اقل, مأخوذ بانشاء بنية لفظية هي توليفة تتعايش فيها حيويتان متصارعتان: حيوية الفكرة وحيوية المفردات الجديدة, بنية يعتمد النجاح والفشل في الابداع فيها, جماليا ووظيفيا, على الزاوية التي يتخذها المترجم في تموضعه كعبد امام كل من الحيويتين المذكورتين. فاظهار العبودية للفكرة اكثر من العبودية للغة ينتج فعلا يتغلب الوظيفي (المعنى) فيه على الجمالي (الهيكل). في حين ان العبودية الفائضة للغة على حساب العبودية للفكرة ينتج فعلا تطغى فيه الهرطقة الانشائية على الفعل المنتج.
ان جبريات كل من الفكرة واللغة المستقبلة ليست واحدة في كل مكان وزمان, كما انها ليست متماثلة بالنسبة لجميع اللغات وجميع النصوص. فبموازاة  كل تطور لغوي (زمني - حضاري) ينبثق تطور في فهم الفكرة الواحدة, أو تراجع احيانا حسب الحالة. فنحن لا نفهم فكرة لكاتب أو لمفكر عربي قديم كما كان يفهمها ابناء عصره لان اللغة تقدمت, وعندما ننقلها الى لغتنا الحديثة فاننا نفهمها بشكل مغاير الى هذا الحد او ذاك عن مفهومها الاصلي. من جانب آخر ان الجبريات المذكورة تتضاءل الى درجة الصفر أو تقريبا, عند الترجمة من والى لغتين أو ثقافتين متماثلتين في الانتماء الحضاري في حين تزداد كما ونوعا عند الترجمة منهما او اليهما من والى اللغات الاخرى. فعلى سبيل المثال ان الصعوبة التي تواجه المترجم في نقل نص, اي نص, من الايطالية الى الفرنسية او بالعكس, ومن العربية الى  الفارسية او بالعكس ومن التركية الى البلغارية  هي صعوبة شبه معدومة. هذا على صعيد اللغة, اما على صعيد الافكار وموضوعات النصوص فيلاحظ ان جبرية النص الصحفي سهلة بما لا يقاس مقارنة مع جبرية النص الادبي. وهذه الاخيرة سهلة بما لا يقاس مقارنة مع مثيلتها في النص الفلسفي. فجبرية النص الصحفي شكلية او معدومة, وجبرية النص الادبي كبيرة جدا بلا شك الا انها خارجية اي أسلوبية وإنشائية عموما, في حين ان جبرية النص الفلسفي هي جبرية داخلية عميقة ووعرة رغم نعومتها او رقتها الظاهرية. وهذا التمايز يتأتى من درجة استعانة كل صنف من الاصناف الثلاثة بالعقل البحت لإنتاج تعبيراته الخاصة به. فالنص الصحفي هو كلام خبري سردي سطحي لا يحتاج الى توظيف أية أدوات تعبير من انتاج العقل البحت. والنص الادبي هو كلام تصويري إنشائي لا يستطيع انجاز غائيته التعبيرية إلا عبر الاستعانة بتمثلات, زمنية أو مكانية أو زمنية - مكانية, هي من انتاج الذهن وليس العقل البحت. ولا يغير من هذا كونها ذات طابع معتمد - خارجيا وظاهريا فقط - على استعمال كثيف لعناصر توحي بانها من انتاج العقل البحت في حين انها مستمدة, فقط من تجريد للطبيعة ومنقولة للذهن عبر الحواس والمشاعر. اما النص الفلسفي فهو كلام مفهومي يعتمد في تحقيق غائيته الخاصة على ادوات هي من انتاج العقل البحت حصرا وبشكل مستقل عن تأثيرات الذهن والحواس والمشاعر, فالفكرة الفلسفية تنزع بطبيعتها الى تجنب الادوات الخارجية التي توظفها الفكرة الصحفية والفكرة الادبية. لان الفكرة الفلسفية تبحث ليل نهار عن السمو على العناصر الزمانية والمكانية نظرا لان هذه العناصر تعكر الفكر البحت. انها هنا تشبه الى حد كبير الفكرة في العلوم البحتة. إلا انها تتجاوزها بالقدر الذي تظل فيه الفكرة العلمية, الى هذا الحد الصغير أو ذاك, اسيرة الحواس المادية المباشرة وخاضعة لمؤثرات يتدخل بها مناخ المختبر او نوعية الاجهزة او جدارة المعدات مهما كان هذا التدخل جزئيا. الرياضيات تفلت نسبيا من هذه المؤثرات مقتربة من الفلسفة ولذلك فهي تتباهى بإنها اكثر العلوم عظمة ورفعة, اي فلسفية.
الفكرة الفلسفية, استنتاجا, لا ترتاح ولا تطمئن إلا لقواها الداخلية وحيويتها الذاتية الخاصتين بها كفكرة وكعقل بحت. الا ان هذه الحيوية وتلك القوى الذاتية تجعلها تأبى الانكفاء على ذاتها. فهي تمور فيها, خالقة لديها توقا هائلا للبحث عن فضاءات ارحب وشموس اشمل. اذ ان الفكرة الفلسفية شمولية كونية بطبيعتها. وهذا التوق للخروج من الانحباس الذاتي يضطرها الى استعمال اداة خارجية واحدة, ليست من انتاج العقل البحت, هي اللغة. وهكذا فبفضل اللغة امتلكت الفكرة الفلسفية تاريخ فتوحات وتراكم خصيب وحضور كوني. فما هو الثمن الذي تدفعه مقابل ذلك?
هناك ثلاثة اصناف من الضرائب تتحملها الفكرة الفلسفية نتيجة استعمالها اللغة, تتمثل بما يلي:
- البعد الدلالي: ان حلول الفكرة الفلسفية في مجموعة من المفردات اللغوية يحبسها, بالضرورة في المحدودية الطبيعة للمدلولات المادية المباشرة لتلك المفردات. ولتخفيف وطأة هذا الحبس تضطر الفكرة الفلسفية الى بذل جهود استثنائية تحث عبرها اللغة على التطور والصعود الى مستوى الفكرة الفلسفية دلاليا. فابتداع المصطلحات والمعاني المجازية والتأويلية واضافة النعوت التوضيحية هي من نتائج الجهود. لكن هذه المنجزات تظل محدودة ولا تلبي الحاجة إلا جزئيا وجزئيا فقط, فمدلولات المفردات اللغوية تظل عاجزة عن الارتفاع الى مستوى المدلولات الخاصة بالفكرة الفلسفية. ومما يؤكد هذا الجانب ان الكثير جدا من جهد الفكر الفلسفي يذهب لحل هذه الاشكالية او ازالة ذاك اللبس المترتبين اساسا من اضطرار الفكرة الفلسفية الى الاستعانة باللغة.
- البعد الزماني: تعكس اللغة والمدلولات المباشرة لمفرداتها انتماء زمنيا ضروريا يتضارب مع نزوع الفكرة الفلسفية التلقائي للسمو على الزمنية. الشيء الذي يترتب عنه تغير مستمر في المدلول نتيجة للتغيرات المستمرة في الدال (إخضاع مضمون الفكرة لتطور مضمون المفردة) مما يؤدي الى اعطاء الفكرة الواحدة مضامين متباينة تباين الدلالات التي تأخذها المفردة المعبرة عنها في مختلف حلقات تاريخيتها.
- البعد المكاني: في هذا الجانب تتمثل أخطر الاضرار التي تلحق بالفكرة الفلسفية نتيجة استعانتها باللغة. وتتجسد هذه الاضرار في الهوية القومية التي تأخذها الفكرة رغما عنها, نظرا لان اللغة هي بالضرورة قومية الانتماء في حين ان الفكرة الفلسفية لا تستطيع ان تتخيل نفسها إلا كونية مطلقة في انتمائها اللامكاني. وقد ترتبت عن هذا الربط القسري, عبر اللغة, بين الفكرة والمكان تجزئة عرقية وجغرافية للفكرة الفلسفية تتناقض كليا مع طبيعتها الجوهرية, كما نجد ذلك في المخلوقات المشوهة التي تسمى بالمثالية الالمانية او المادية الفرنسية او ماشابه, التي ظهرت بموازاة ظهور الدولة القومية التي نجد تقليدا لها في مفهوم <<العقل العربي>> الفارغ المعنى. فالعقل والمادية والمثالية وماشابه توجد اما كونية انسانية مطلقة أولا توجد. وحتى ننهي هذا المقال الذي بدأ يغري بالاطالة, نشير الى ان هذه الضرائب الثلاث التي تدفعها الفكرة لمجرد علاقتها مع اللغة تصبح مضاعفة ومريرة عند الترجمة وذلك بالتحديد لان مبرر وجود اللغات هو الاختلاف الدلالي - الزماني - المكاني فيما بينها. والترجمة هي, في أحد وجوهها, ميدان تتصادم فيه اللغات فيما بينها فتتجدد عبر التخلص من جلدها القديم واستعادة روح التمرد والمغامرة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟