الطاعة في الفكر السياسي الإسلامي - بشرى الشقوري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسقراءة في كتاب "سراج الملوك"
إن كتاب "سراج الملوك" لأبي بكر الطرطوشي[1] لا يقل أهمية وقيمة عن المؤلفات السياسية التي اشتهرت في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي والتي توثق لمرحلة تاريخية حاسمة من مراحل تطور ذلك الفكر، ولأنها من ناحية أخرى تعكس وجها أساسيا وواضحا من أوجهه، ثم إنها تقدم أنموذجا فريدا من النماذج التي تكشف عن العلاقة الجدلية القائمة بين الوجود المجتمعي السياسي للمفكر أو الفقيه وبين التنظير السياسي لذلك الوجود.
وإذا كان الهدف من وراء هذه الكتابات هو معرفة الصلة الوطيدة بين الفكر والوجود المجتمعي الذي أفرز ذلك الفكر، فإن المنهج التبريري والدفاعي[2] الذي كتب به التاريخ الإسلامي، وعلى الأخص الجزء السياسي منه يظل، في الأغلب الأعم، عائقا حقيقيا يقف في وجه هذه المعرفة؛ إذ من الصعب الوقوف على المرامي البعيدة والدلالات المضمرة لمثل تلك الأدبيات دون استحضار للبعد التاريخي، وعلى وجه التحديد تاريخ المرحلة التي كانت تؤطر الوعي السياسي لرجل العلم، وتحدد سقف تفكيره وتنظيره.
وللوقوف على طبيعة الكتابة السياسية، وخاصة في القرنيين الرابع والخامس الهجريين، اللذين بلغ فيهما التأليف في السياسة الشرعية ذروته، ينبغي على الباحث أن يتجاوز جانب الاهتمام بتتبع الدقائق الفقهية والتفريعات الجزئية والاختلافات المذهبية، وكل ما لا يساعد على الوقوف الحقيقي على المرامي البعيدة لتلك الكتابات ولمقاصدها الخفية...إلى اعتبار مثل تلك الكتابات مشاريع سياسية ذات دلالات سياسية وأبعاد تنظيرية، وذلك انطلاقا من التفصيلات الفقهية والتشريعات القانونية العملية.
لا بد إذن، من الانتباه إلى دلالة المشروع السياسي الذي كان يتغياه الطرطوشي عند تأليفه لكتابه "سراج الملوك"، وإلى الأهداف التي كان يرمي إصابتها بذلك المشروع، وإن كان هذا العمل لا يتأتى لنا إلا بمحاولة ربط هذا الإنتاج النظري بمجموعة من العناصر الفاعلة، وبالأخص الوجود المجتمعي الذي ساهم في بلورته، والفضاء الفكري الذي كان المفكر المالكي يتقلب فيه.
كيف يمكن لنا أن نقرأ الكتاب قراءة مستنيرة تكشف لنا عن طبيعة العلاقة الكامنة بين الفكر السياسي وبين الواقع المجتمعي الذي أطر ذلك الفكر؟ وبعبارة أدق كيف كان الطرطوشي ينظر إلى الدولة السلطانية؟ وما هي طبيعة الطاعة التي نظر لها؟ وماذا عن محدداتها؟


وبالتالي هل يمكن لنا أن نسجل نوعا من التنازلات عن الخيارات المبدئية لهذا السبب أو ذاك؟ وهل نلمس من خلال ذلك كله نوعا من ازدواجية الولاء لدى الفقيه المالكي بين القيم والمبادئ النظرية التي كان يؤمن بها، وبين الواقع المجتمعي الذي يعايشه ويريد أن يتكيف معه؟ كما رامت بعض الدراسات إثباته!
أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح في هذا الصدد. وللأسف إن مثل هذه الأسئلة لم تحظ باهتمام كبير من طرف الدارسين والباحثين بالرغم من أن هذا الكتاب قد حظي بدراسات لا بأس بها من الناحية الفقهية والتاريخية. ومع أنني لست أدعي أنني أملك الإجابات النهائية لجملة تلك الأسئلة في هذه المقالة المتواضعة، إلا أنني سأحاول أن أبرز بعض الملاحظات الأولية حولها.. وستكون إشكالية الطاعة القضية المحورية التي سيدور حولها هذا الحديث، والتي من خلال الوقوف عند بعض دلالاتها الخفية ومقاصدها البعيدة سينكشف الغطاء عن بعض الإشكالات والقضايا التي طرحناها سالفا؛ سيما وأن مسألة الطاعة السياسية في فكرنا وفقهنا السياسي تعد إشكالية محورية ومعقد، وهو الأمر الذي يفسر الاختلاف الحاصل بين وجهات نظر كثير من المنظرين الفقهاء وتشعب مناحيهم، وبالأخص مع توالي الأحداث التاريخية وتشابكها، وبروز تشكلات سياسية معقدة، وبداية الانحراف شيئا فشيئا عن المرجعية المعيارية للممارسة السياسية المعتبرة شرعية. فكيف تناول الطرطوشي هذه الإشكالية، وكيف عالجها؟ وما هي الاعتبارات الآنية والبعيدة التي كانت تتحكم في تنظيره واجتهاده؟
كتاب سراج الملوك[3]:
"سراج الملوك" هو محاولة في فلسفة السياسة، يشتمل على مسائل السياسية الشرعية، وقضايا الحكم في الإسلام، وفلسفة الاجتماع البشري، وتحديد شرائط السياسة، ورسم هرم السلطة، وأركان الدولة، وسياسة الرئاسة، وعلاقة الراعي بالرعية، وعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الأمم. ومحتوى الكتاب يؤكده الطرطوشي بنفسه، إذ يقول عن كتابه: "سراج الملوك والخلفاء ومنهاج الولاة والأمراء وتدبير الملك والدول، مقتضب من  كتاب الله تعالى العزيز، وأخبار الأنبياء عليهم السلام، وسياسات ملوك العرب والعجم والروم والفرس والهند والسندهند ومستحسن أخلاقهم وأخبارهم ونوادر كتابهم وتواقيع رؤساهم"[4].
هذا العمل يقوم في الأغلب الأعم على الجمع والرصد، وقلما يهتم بالتحليل والاستنتاج، ومن ثم فهو لا يرقى إلى مستوى صياغة نظرية سياسية متكاملة؛ متعلقة بمسألة السلطان والدولة السلطانية، وإنما فقط ترسم بعض ملامحها الأساسية والجوهرية كما أومأ إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته. ومع ذلك، وإذا استثنينا الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية" وغيره من كتبه في السياسة الشرعية، يمكننا أن نعتبر الطرطوشي من الفقهاء السباقين إلى بحث وتبويب موضوعات القانون العام، وعلى وجه الخصوص القواعد الدستورية للسلطة والسلطان. ففي "سراج الملوك" قواعد ملزمة لتحديد السلطة وضبطها لكي تنهج تصرفاتها نهجا دستوريا مسؤولا، وأنه كلما ابتعدت الدولة والرعية عن التمسك به والالتزام بمقتضياته كانت النتيجة تضعضع الدولة وسقوطها واختلال موازينها.
وإذا كان الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" قد أشار إلى أن الفقهاء المسلمين لم يميزوا بين موضوعات القانون الخاص وبين موضوعات القانون العام في بحوثهم ودراساتهم فإن الطرطوشي في مقدمة مؤلفه أوضح وميز بين موضوعات القانونين بقوله: أما بعد فإنني لما نظرت في سير الأمم الماضية والملوك الخالية وما وضعوه من السياسات في تدبير الدول والتزموه من القوانين في حفظ النحل فوجدت ذلك على نوعين أحكاما وسياسات.. فاصطلاح "الأحكام" عنده يتضمن: الحلال والحرام والبيوع والأنكحة والطلاق والإجارات ونحوها من موضوعات القانون الخاص. أما اصطلاح "السياسات" فيشمل موضوعات القانون العام .. ومن ذلك الأسس النظرية التي تنبني عليها أركان الدولة، ونظام الملك وكل ما يتعلق به من التزامات[5].
الوازع السياسي من ضرورات قيام الاجتماع الإنساني
إن إقامة السلطان أو الوازع السياسي في الأرض، في فلسفة الطرطوشي السياسية، يعد ضرورة من ضرورات قيام المجتمع البشري. ومضمون هذه الرؤية عنده تقوم على أساس تلك الحاجات البشرية الاضطرارية إلى الاجتماع وإلى وازع سياسي يسوسهم ويدير شؤونهم وفق السنن الكونية، وبمقتضى التشريع الإلهي، باعتبار هذا الأخير خطابا تعبديا يلزم إقامة وازع سياسي تنتظم به شعائر الدين ومقومات الحياة وتجمع العباد. ضمن هذه الرؤية رغب الطرطوشي في إقامة السلطان والدعاء له بالصلاح وبذل النصح له وطاعة أمره، لأن: في صلاحه صلاح العباد والبلاد، وفي فساده فساد العباد والبلاد.. ولا يتمنى زوال السلطان إلا جاهل مغرور"[6].
ودلالة "السياسة العامة" عند الطرطوشي هو "إقامة الميزان بالقسط الذي شرعه الله تعالى وركوب سبيل العدل والحق الذي قامت به السموات والأرض، وإظهار شرائع الدين ونصر المظلوم والأخذ على يد الظالم وكف يد القوي عن الضعيف ومراعاة الفقراء والمساكين وملاحظة ذوي الخصاصة والمستضعفين.." فإذا ما تضعضعت قواعد الملوك و"انتقض عليهم من أطراف ممالكهم أو ظهر عليهم عدو أو باغ فتنة.." ينبغي أن "يعلموا بأنهم قد أخلوا بشيء من الشروط الأربع في النصر" الإلهي لهم، وعليهم أن "يلجأوا إلى الله تعالى ويستجنوا من سوء أقداره بإصلاح ما بينهم وبينه سبحانه.."حتى تستقيم السياسة العامة ويصلح أمرها"[7].
إن إقامة السلطان في الأرض هي حكمة إلهية، وإرادة اقتضاها الحق جل وعلا في عباده، لذلك فالطرطوشي يصفها بالمنة العظيمة، والنعمة الجزيلة لإقامة الدين، وحفظ النزاعات بين البشر وصيانة القيم، والمواثيق والعقود الاجتماعية.. وقد علل إقامة السلطان في الأرض بأن الله جبل الخلق على حب الانتصاف، وعدم الإنصاف، ومثلهم بلا سلطان، مثل الحوت في الماء يبتلع الكبير الصغير، فمتى لم يكن لهم سلطان قاهر، لم ينتظم لهم أمر، ولم يستقر لهم معاش، ولم يتهنوا بالحياة"[8] .
الطاعة السياسية طاعة مطلقة
إذا كانت الطاعة- والولاء أبرز مظهر من مظاهرها- أهم واجبات الرعية نحو حاكمها، فإن هذه الطاعة في "سراج الملوك" ترتفع إلى مستوى الفرض أو الواجب؛ فـ"طاعة السلطان فرض على الرعية، طاعة السلطان مقرونة بطاعة الله تعالى" تجعل منها "ملاك الدنيا وقيام السنة وحبل الله المتين وجنته الواقية وكنانته العالية". وحيث إن هذه الطاعة التي قد أنيط بها هذا المفهوم، فلن تكون في جوهرها إلا مطلقة غير مقيدة بشرط ولا استثناء، إذ "من إجلال الله، إجلال السلطان، عادلا كان أو جائرا، الطاعة تؤلف شمل الدين وتنظم أمر المسلمين"[9] . وهذا الإقرار اللامشروط بوجوب الطاعة على المحكومين، يعني من جهة أخرى سلب حق الرعية في ممارسة حقها الطبيعي في الاعتراض، فليس لها "أن تعترض على الأئمة في تدبيرها، وإن سولت لها أنفسها، بل عليها الانقياد وعلى الأئمة الاجتهاد."[10] فالنصيحة التي يقدمها الطرطوشي تتمثل في ضرورة الخضوع لعمل السلطان بعد أن قدم له ملتمسا تبريريا.
وموضوع الطاعة عنده دائر بين الترغيب في الطاعة والتحذير من المعصية، ف "ما مشى قوم إلى سلطان ليذلوه إلا أذلهم الله قبل أن يموتوا"[11]، وهو ما يعني أن أي نقض لتلك الطاعة سيؤدي إلى هدم أركان الدولة ووحدة الأمة، وفتح باب الفتنة "وجور ستين سنة خير من هرج ساعة"[12]. وستكون الطبيعة وظواهرها وتناقضاتها المختلفة، المرآة المقعرة التي سيحاول الطرطوشي أن يستوحي منها جملة من المفاهيم والدلالات لترسيخ هذا المفهوم للطاعة. فالطاعة السياسية في سياق التنظير لمشكلة السلطة يجب أن تكون من جنس الطاعة للطبيعة، في ضرورتها وطواعيتها واستمرارها، بحيث سيكون من المستحيل الفصل بين مفاهيم الطبيعة والضرورة والطاعة من جهة، وبين القانون والدولة والسلطان من جهة أخرى[13]. وهكذا نجد أن مفهوم الطاعة في فلسفة الطرطوشي ينشطر إلى ثلاثة حدود متداخلة[14]، وهي: مفهوم السلطان، والطبيعة، والصبر.
السلطان ضرورة وجودية:
إن مفهوم رجل السلطة (الملك، أو السلطان) ضرورة وجودية ليس فقط لأنه مالك لـ"زمام الأمور... والقطب الذي عليه مدار الدنيا"[15]، بل أيضا لأنه -أي السلطان- نظام الوجود، ومعدن المعرفة، ولأجل إثبات هذه "الحاجة" للسلطان؛ كضرورة وجودية، انتشرت تلك الحكمة التي تؤكد "أن الله يزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن"؛ أي أن فعل السلطان كفعل "الضرورة" التي تقتضي بالضرورة الطاعة والخضوع دون قيد أو شرط، ثم إيجاد مبرر منطقي لذلك عن طريق التأويل.. من أجل ذلك احتل السلطان موقع القطب ومنزلة المحور في المجتمع والحياة؛ فبدونه يختل نظام الحياة كلها كما يختل نظام الكون بدون التدبير الإلهي، "فمتى لم يكن لهم سلطان قاهر، لم ينتظم لهم أمر ولم يستقم لهم معاش ولم يتهنوا بالحياة"[16]. فالحاكم هو رأس الهرم التدبيري لأن "الملك بمنزلة رجل؛ فرأسه أنت، وقلبه وزيرك، ورجلاه رعيتك ويداه أعوانك وروحه عدلك، وما بقي جسد بلا روح"[17]، وبمثابة الروح من الجسد الذي بدونه لا وجود أو استمرارية للجسد" فمنزلة السلطان من الرعية بمنزلة الروح من الجسد فإذا اصفرت الروح من الكدر سرت إلى الجوارح سليمة."[18]
ولا غرابة إذا وجدنا، بعد ما سبق، أن الطرطوشي يستخدم مفهوم السلطان بمعنى النظام، حيث يقول: "لولا أن الله تعالى أقام السلطان في الأرض يدفع القوي عن الضعيف وينصف المظلوم عن الظالم لأهلك القوي الضعيف وتواثب الخلق بعضهم على بعض فلا ينتظم لهم حال ولا يستقر لهم قرار فتفسد الأرض ومن عليها" وهكذا إذا كان السلطان بمعنى النظام، فهناك إحساس عميق بمخاطر نقيض السلطان وهو الفوضى، "فإذا اختل أمر دخل الفساد على الجميع، ولو جعل ظلم السلطان حولا في كفة ثم جعل فساد الرعية وتظالمهم وهرجهم ساعة واحدة إذا اختل أمر السلطان في كفة كان هرج ساعة أعظم وأرجح من ظلم السلطان حولا. وكيف لا وفي زوال السلطان أو ضعف شوكته سوق أهل الشر ومكسب الأجناد ونفاق أهل العيارة" [19]، وهو المعنى الذي عبر عنه ابن خلدون في مقدمته: " الفوضى مفسدة ومهلكة للعمران"[20].
التماهي بين إرادة الله وإرادة السلطان
إن غاية وجود السلطان هو الإنسان؛ إذ "أن الإنسان أعز جواهر الدنيا وأعلاها قدرا وأشرفها منزلة وبالسلطان صلاح الإنسان، إذا فهو أعز إعلاق الدنيا وأعمقها بركة... وليس فوق السلطان العادل منزلة إلا نبي مرسل أو ملك مقرب... وليس لله في الأرض سلطان إلا وقد أخذ عليه شرائط العدل ومواثيق الإنصاف وشرائع الإحسان. وكما أنه ليس فوق رتبة السلطان الشرير الجائر رتبة لشرير لأن شره يعم، كما أن خير الأول يعم"[21]. فنحن هنا أمام معادلة تقريبية توازي بين مرتبة السلطان مرتبة الأنبياء والرسل فـ "السلطان في الأرض هو خلافة النبوة في إصلاح الخلائق"[22].
 ومن ثم فإن وجود السلطان في الأرض، حسب الطرطوشي، حكمة لله تعالى عظيمة ونعمة على العباد جزيلة. ومن الحكم في إقامة السلطان أنه حجج الله على وجوده سبحانه ومن علاماته على توحيده؛ لأنه كما لا يمكن استقامة أمر العالم واعتداله بغير مدبر ينفرد بتدبيره، كذلك لا يتوهم وجوده وترتيبه وما فيه من الحكمة ودقائق الصنعة بغير خالق خلقه وعالم أتقنه وحكيم دبره. وكما لا يستقيم سلطانان في بلد واحد لا يستقيم إلهان للعالم"؛ فـ"العالم بأسره في سلطان الله كالبلد في يد سلطان الأرض"[23] ويلاحظ نوع من الاستنجاد بمفهوم الإله حيث يرمي إلى حفر مقصد أساسي في ذاكرة "لاوعي" المحكومين، ألا وهو استحالة مواجهة الآخرين لقدرة السلطان ما دامت هذه القدرة هي الإله والطبيعة.
العدل والعقل: قوام للملك وثبات للدول.
إن العدل هو "قوام الملك ودوام الدول، وأس كل مملكة سواء كانت نبوية أو صلاحية" [24]  وهو ميزان الله في الأرض الذي به يؤخذ للضعيف من القوي وللمحق من المبطل، وليس موضع الميزان بين الرعية فقط بل بين السلطان والرعية أيضا، فمن أزال ميزان الله الذي وضعه من القيام بالقسط فقد تعرض لسخط الله. فـ "أفضل الأزمنة أزمنة أئمة العدل"[25] و"الزمان وعاء لأهله"[26]، وقد سمع زياد رجلا يذم الزمان، فقال: لو كان يدري ما الزمان لعاقبته، إن الزمان هو السلطان. وقال معاوية لابن الكوى: صف لي الزمان؟ فقال أنت الزمان إن تصلح يصلح وإن تفسد يفسد" [27].
وزمان العدل ينقسم إلى قسمين: "قسم إلهي جاءت به الرسل والأنبياء... والثاني ما يشبه العدل وهو السياسة الاصطلاحية التي هرم عليها الكبير ونشأ عليها الصغير، وبعيد أن يبقى سلطان أو تستقيم رعية، في حال إيمان أو كفر، بلا عدل قائم، ولا ترتيب للأمور ثابت، ولذلك ما لا يجوز ولا يمكن"[28].
لكن لا بد أن نلحظ أن في هذا المعيار أو المقياس "العدل" يستتر معنى آخر للدين هو "الصلاح"، وهو معنى ذو وظيفة اجتماعية مادية تختلف عن الوظيفة الميتافيزيقية والروحية التي يحققها الإيمان للفرد أو الجماعة، بل إن الإيمان، بالمعيار الذي أورده  الطرطوشي ، وهو صحيح على كل حال، لا يتجلى أو يستقيم إلا من خلال الصلاح، أي من طريق مواصلة أو تصحيح الوظيفة الاجتماعية للدين الحنيف[29]. وهو نفس المعنى الذي أكد عليه ابن قتيبة قبله بأن صلاح الدين بصلاح الزمان، وصلاح الزمان بصلاح السلطان، وصلاح السلطان بالإرشاد وحسن التبصر.
العقل نوعان: غريزي ومكتسب
مثلما يحتاج السلطان إلى العلم للتواصل مع الحياة ومواكبتها، فإنه محتاج أيضا إلى العقل لانتظام شؤون الملك "ومعرفة ما لم يكن بما قد كان". وفي نظر الطرطوشي، فإن العقل نوعان: "العقل الغريزي" و"العقل المكتسب"، وهذا الأخير "هو نتيجة العقل الغريزي وهو ثقابة المعرفة، وإصابة الفكرة وليس له حد ينتهي إليه لأنه ينمو إذا استعمل وينقص إذا أهمل.." فنماؤه من "أحد وجهين: إما أن يقارنه من مبدأ النشوء ذكاء وحسن فطنة.." أو "بطول ممارسة الأمور وكثرة التجارب ومرور العبر وتصدت لأسماعهم أنواع الأخبار وآثار الغير."[30] وقد "اختلف الناس في العقل المكتسب إذا تناهى وزاد في الإنسان هل يكون فضيلة؟ فقال معظم العقلاء: إنه فضيلة لأنه إذا كان مجموع آحاد، وللآحاد فضائل فلا شك أن كثرة الفضائل فضيلة. وأما الشيء المحدود تكون الزيادة فيه نقصا" إلا في "المحدود كالتهور في الشجاعة والتبذير في الكرم. وأما "الزيادة في العقل المكتسب فزيادة علم بالأمور وحسن إصابة بالظنون ومعرفة ما لم يكن بما قد كان"[31].
 بهذا الإحكام العقلي لضرورة السلطان وبهذا التشابه الضروري مع نظام الطبيعة تحولت المقولة السياسية إلى أيديولوجيا ذات مستند فلسفي وعمق عقائدي ديني تماهي بين وجود السلطان، مجرد وجوده، وبين استمرار الدين وبقاء الملة[32].
مقاربة مفهوم السلطان بعنف الطبيعة
جرت عادة مثل هذه الأدبيات أن تضع مقابلة أو تناظر بين مفهوم السلطان
-الملك أو رجل السلطة- وبين معنى العنف، الذي يشكل بعدا أساسيا في مفهوم السلطان. وستكون الطبيعة الفضاء الرحب الذي سيتم الاستعانة ببعض صورها، خاصة ما يتعلق منها بمظاهر عنف الطبيعة، باعتبارها أكثر الصور دلالة في المخيال الإنساني على القوة والبطش وضرورة الخضوع لها رغم تناقضات أحوالها، كما كانت القصدية المبتغاة من ذلك تقديم النصيحة بالتزام الطاعة والتحذير من الخروج عليها، فكثرت في الأدبيات الإسلامية "آداب الطاعة ومحاذيرها".
وهكذا وعند بحثه في فصل "القضاة والولاة إذا عدلوا" يتطرق الطرطوشي إلى السبب الرئيس لإقامة السلطة القضائية بواجبها من دفع القوي الضعيف، وإنصاف المظلوم من الظالم ليستقر المجتمع ويسود النظام العام، وإلا فإن الفساد يعم الأرض ومن عليها.. ثم يقارن بين منافع السلطان ومضاره من جهة، وبين مظاهر الطبيعة وسلبياتها من جهة أخرى، كالرياح والأمطار والشتاء والصيف والليل والنهار.. وعليه، فالسلطان مثل "الرياح التي يرسلها تعالى نشرا بين يدي رحمته فيسوق بها السحاب ويجعلها لقاحا للثمرات.. وقد تضر بكثير من الناس في برهم وبحرهم، وتخلص إلى أنفسهم فيشكرها الشاكرون، وقد يتأذى بها كثير من الناس.. ومثاله أيضا مثال الشتاء والصيف الذي جعل الله حرهما وبردهما صلاحا للحرث والنسل ونتاجا للحب والثمر.. ومثاله أيضا مثال الليل الذي يسكن فيه الناس، ويستوحشه الفقراء منهم، ويتحرك فيه أهل الدعارة والفساد واللصوص. ومثاله أيضا مثال النهار الذي جعله الله ضياء ونشورا واكتسابا وانتشارا وقد تكون فيه الحروب والغارات والتعب والنصب .." وهكذا كل جسيم من أمور الدنيا، يكون ضرره خاصا ونفعه عاما، فهو نعمة عامة، وكل شيء يكون نفعه خاصا فهو بلاء عام، فلو كانت نعم الدنيا صفوا من غير كدر، وميسورها من غير معسور لكانت الدنيا هي الجنة التي لا نصب فيها ولا تعب." [33]
 
التزام الصبر كمنقذ من الفتن
ضمن هذه الصيرورة المنطقية يدعو الطرطوشي - في تصنيفه السياسي- إلى الطاعة الشرعية، ويثبط الناس عن الخروج ويرشدهم إلى المسلك السياسي النبوي في حال جور السلطان وحلول الفتن.. وقد خص لهذا الغرض أكثر من باب من كتابه؛ كالباب الأربعين "فيما يجب على الرعية إذا جار السلطان" والباب الثاني والثلاثين "في معرفة الصبر وجميل عواقبه".. فسلطة رجل السياسة في مثل اتساع سلطة الطبيعة القاهرة، وحيث وجب الصبر على أذى هذه الطبيعة وجب بالمثل طاعة السلطان، والصبر على أذاه اعتبارا لما ينطوي عليه عمل السلطان دائما من تداخل المضمرة والمنفعة.. وخاصة ما يمثله هذا الرمز من معاني الوحدة والتماسك والحفاظ على الذات. لذلك عندما يقارن بين منافع السلطان ومضاره من جهة، وبين مظاهر الطبيعة بإيجابياتها وسلبياتها من جهة يستخرج حكما مفاده أن كل جسيم من أمور الدنيا يكون ضرره خاصا ونفعه عاما فهو نعمة عامة، وهذه النعمة ليست إلا نعمة الاستقرار والوحدة، وكل شيء يكون نفعه خاصا فهو بلاء عام. ومن ثم فليس من حق المحكومين الخروج على السلطان الجائر، ما دامت كفة المصالح تترجح على كفة المفاسد بوجود ذلك السلطان، محتجا بأن : "الملوك اليوم ليسوا مثل الملوك الذين مضوا، فعليه أن يعلم أن الرعية أيضا- في رأي الطرطوشي- ليسوا كمن مضى من الرعية، ولست بأن تذم أميرك إذا رأيت آثار من مضى منهم فأولى من أن يذمك أميرك، إذا نظر آثار من مضى من الرعية، فإذا جار السلطان فعليك الصبر وعليه الوزر" [34].
وبناء على هذه الرؤية المقاصدية لم يبق أمام الفقيه خيار سوى الدعوة إلى الاستمساك بالصبر على أذى رجل السلطة، "فإذا جار عليك السلطان، فعليك الصبر وعليه الوزر.."[35] بل إن الصبر لا يقتضي فقط كف اللسان، بل والجوارح أيضا عن نقده وفضحه أو الدعاء عليه بقلة التوفيق "لأن من قلة توفيقه ظلمه لك، فإن استجيب دعاؤك فيه زاد ظلمه لك"[36]. وغاية ما يمكن أن يقدم له جملة من النصائح فـ "إن تبذل له النصيحة وتخصه بصالح دعائها فإن في صلاحه صلاح العباد والبلاد وفي فساده فساد العباد والبلاد"[37] وبذلك لم يعد من موقف يبديه الرعية من رجل السلطة، عادلا كان أو جائرا، سوى الطاعة والصبر كوسيلتين يتحقق بهما المقصد الأسمى ألا وهو الحفاظ على تماسك الأمة، ودرء مفاسد الفتن وعواقبها الوخيمة.
استنتاج:
ضمن هذه المعطيات التي سقناها، وخاصة ما تعلق منها بطبيعة المعالجة السياسية لإشكالية الطاعة السياسية في المنظومة الفكرية السياسية، تبدو لنا تلك القفزة النوعية التي حققها التنظير الفقهي في معالجة المسألة السياسية، حيث إن الفقيه أو رجل العلم لم يظل حبيسا لمفاهيم نظرية-مبدئية، عديمة الصلة بالواقع السياسي الجديد، بل كان شديد الصلة بواقعه حيث تعامل مع هذا الواقع، وسخر كل إمكانياته وآلياته الاجتهادية قصد استيعابه وتطويقه. فكان العمل الفقهي وهو يواكب جملة من المتغيرات يتجه شطر التنظير للواقع السياسي الفعلي قصد استيعابه وتصحيحه, حفاظا على تماسك الأمة.. فهو موقف سياسي يحكمه منطق الضرورة، وفكرة المقاصد ، وميزان الترجيح بين المصالح والمفاسد. ضمن هذا الإطار فقط يمكن أن نفهم ذلك التمييز الذي قدمه الطرطوشي بين الدولة الروحية الملتزمة بالعدل المطلق؛ هذه الدولة التي يعتبرها دولة مثالية لاوجود لها على أرضية الواقع، وبين الاتجاه الواقعي لتنظيم الدولة، الملتزمة بالعدل النسبي.
وضمن هذه الرؤية أيضا يمكن أن نفهم نوعية الطاعة التي كان الفقيه المالكي ينظر لها، وألح على ضرورة التمسك والالتزام بها، تلك الطاعة التي لم تتجاوز بعدها السياسي، حيث ظل ذلك الولاء ولاء سياسيا لا دينيا، ومن ثم فإن الاعتراف الفقهي بالدولة التاريخية السلطانية لدى الطرطوشي وغيره من الفقهاء لا بد من وضعه في إطاره التاريخي، والوقوف على الحيثيات التاريخية التي صيغ في ضوئها هذا الاعتراف، لنستنتج بأن ذلك الاعتراف كان اعترافا ظرفيا استثنائيا مراعاة لمصلحة الجماعة ولمقتضيات الضرورة ولحالات الطوارئ.. وهو الأمر الذي جعلنا لا نرجح ما مالت إليه بعض الدراسات من كون هذا الاعتراف يندرج في إطار منطق التبرير وأسلوب التنازلات لصالح المؤسسة السلطانية.
 

[1] - من كبار علماء المالكية ترجم له الكثيرون –ابن خلكان في وفيات الأعيان- وأثنى عليه، وترجم له ابن فرحون في كتابه الديباج المذهب، وذكره الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ، ضمن كبار العلماء المتوفين سنة (520) ووصفه شيخ المالكية بالثغر، وترجم له الشيخ محمد محمد مخلوف، في شجرة النور الزكية، والزركلي في الأعلام وغيرهم، وكل هؤلاء جعلوه من كبار شيوخ المذهب المالكي.
[2]- وهذا المنهج الذي اعتمده الكتاب الإداريون لدى الدولة العباسية على الخصوص.
[3]- كتاب سراج الملوك لمحمد بن الوليد الطرطوشي، تحقيق جعفر البياتي، نشر: رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى، 1990م.
[4] - كتاب سراج الملوك، الباب 12/ 303
 - [5] انظر مقدمة المؤلف، ص 50.
[6] - كتاب سراج الملوك، الباب7/ ص 157
[7] - المصدر نفسه، الباب 3/135
[8] - المصدر نفسه الباب 7/ ص 156
[9] - سراج الملوك، الباب15/ 188- 189
[10] - المصدر نفسه
[11] - المصدر نفسه، ص 189
[12] - المصدر نفسه الباب7/157
[13] - الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في السلام، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، عبد المجيد الصغير، ص 98، دار المنتخب العربي، الطبعة الأولى: 1415هـ/1994م.
[14] - وربما كان هذا المعنى مستوحى من التراث الفارسي المترجم، أنظر تفصيل ذلك في: الفكر الأصولي،ص 286
[15] - العقد الفريد لابن عبد ربه ج1 /7
[16] - سراج الملوك، الباب7 /156.
[17] - - سراج الملوك، الباب11/169.
[18] - - سراج الملوك، الباب7 /157
[19] - المصدر نفسه 157
[20] - انظر مقدمة ابن خلدون، ص 166.
[21] - سراج الملوك، الباب 5/146.
[22] - المصدر نفسه، الباب 5/ 146.
[23] - المصدر نفسه الباب 7/ 156
[24] - سراج الملوك، الباب 11/ ص 169
[25] - المصدر نفسه
[26] - المصدر نفسه، الباب 10/ ص 344
[27] - المصدر نفسه، الباب 16/ 194
[28] - المصدر نفسه، الباب 11/ ص 170.
[29] -علي إسماعيل النصار، الوعي التاريخي لفكرة الدولة في التاريخ الإسلامي، ص 54. مجلة منبر الحوار، العدد 36، 1998م.
[30] - سراج الملوك، الباب 33/ ص 214.
[31] - المصدر نفسه
[32] - انظر د. وجيه قانصو، تكون الفكرة السياسية في الإسلام، ص، 31-32.
[33] - المصدر نفسه، الباب 8/ 160.
[34] - المصدر نفسه، الباب 40/ 344
[35] - المصدر نفسه
[36] - المصدر نفسه، الباب40/345
[37] - المصدر نفسه، الباب 7/157.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟