بين الاصولية والرهان الحضاري - بنسالم حميش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
انفاسحول انتشار الحركات الأصولية في آسيا والشرق الأوسط والمغرب، تكثر القراءات التفسيرية وتتكامل أو تتنافى. ويسهم في هذه القراءات اختصاصيون، وحتى مؤلفون قليلو العلم والدراية في تاريخ الإسلام وثقافته؛ فعند عدد مهم منهم، وبينهم سياسيون، في بدء تلك الحركات كان التخلف الذي خلق دوامه المتواتر بؤر الفقر المتنامي، وبالتالي ركام الحزازات والتذمرات.
«إن البؤس واعظ سيئ»، كما قال فرانسوا ميتران عن المأساة الجزائرية، وهو الميسر لعودة العامل الديني القوية.. إن هذا العامل، في حالة الإسلام، لما يزل صالحا لشرائح المعوزين والمتروكين مصفاةً وصوتا للجهر بضيقهم والتعبير عن حاجياتهم ومطالبهم. وبعد تعيين مكمن الداء، سيتمثل الدواء في تزويد الحكم القائم بما يحتاجه من دعم اقتصادي ومالي لمغالبة المد الأصولي وتحجيمه. وهذا الاختيار، رغم بعض الصعوبات الظرفية، هو الذي ما زالت السلطات الفرنسية تراهن عليه في سياستها العربية، كما هو دأبها مع الجزائر وكذلك في لبنان حتى أثناء حرب اسرائيل عليه ومقاومة حزب الله لها.
تجاوزا للمنظور الاقتصادوي الضيق، هناك صنف آخر من التفسير يقدم ظاهرة الحركات الأصولية على أنها وليدة تلاشي العقيدة الشيوعية والأيديولوجيا المادية، كما دلل عليها بقوة سقوط جدار برلين وتصدع الاتحاد السوفياتي في أواخر القرن الماضي. غير أن مقاربة هنتنغتون، على علاتها، تمثل من وجهة نظرية بعض الفائدة من حيث إنها تبرز البعد الثقافي في الحركات الأصولية مشخصا على وجه التحديد في المطالبة الهويتية ومقاومة الأنموذج الحضاري الغربي الضاغط، وهما العنصران اللذان يأخذهما الباحث بعين الجد في بحثه، ويسعى إلى تشريحهما والاحاطة بهما علما حتى يتسنى له عرض أنجع السبل لاحتوائهما وتحييدهما. وهذا التوجه نفسه هو ما نجده مضمرا عند باحثين أوروبيين، وفرنسيين بالتخصيص، يمكن أن نذكر منهم الخبير جيل كيبل، الذي يفصح عن تصوره قائلا: «إن فرضيتي العملية هي أن خطاب تلك الحركات وممارستها تحملان معنى ودلالة ليسا نتاج اختلال للعقل أو تسخير لقوى مظلمة، بل الشهادة التي لا تعوض على أزمة عميقة لم تعد مقولاتنا الفكرية التقليدية تسمح بحل شفرتها». («ثأر الله»، باريس، 1991، ص26).


على الصعيد العربي ـ الإسلامي، يحق القول إن التيار الأصولي عموما قد حوّل لصالحه، إلى حد لافت ملحوظ، تنامي مشاعر الظلم والإهانة عند العرب منذ إنشاء دولة إسرائيل في 1948 وخلال مراحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي المضنية المديدة؛ ودولة إسرائيل (الضاربة بتسعين قرارا أمميا منذ قيامها عرض الحائط) وحاميتها أمريكا على كل الصعد (بما فيها إلى غاية اليوم استعمال الفيتو خمسين مرة في مجلس الأمن) كانت لهما اليد الطولى وثمرات الانتصارات العسكرية المتلاحقة، حتى إذا شنت إسرائيل حربها الوحشية على لبنان (12 يوليو ـ 13 اغسطس 2006) أخذ صرحها يصاب بشقوق وتصدعات على يد المقاومة اللبنانية مشخصة في حزب الله، فتنفست الشعوب العربية والإسلامية الصعداء واستعادت قدرا معتبرا من العزة والأمل.

إجمالا، عند كثير من الباحثين من تخصصات وأقطار شتى، تظهر الحركات الأصولية إذن كتعبير مسموع ودال عن ضخامة النكسات والإهانات والمرارات، من صنف ما ذكرنا وتذكي أواره سياسات القوة والهيمنة الغربية، تتقدمها سياسة الادارة الأمريكية الحالية بمحافظيها الجدد الغلاة وصقورها الحربويين العتاة.

إن التحدي القائم اليوم أكثر من ذي قبل أمام الفرقاء السياسيين والاجتماعيين في العالم الاسلامي ليكمن أساسا في التنافس البناء على ترقية ثقافة الحكمة والتحضر وتمنيعها، وبالتالي على فك كل ارتباط بالخطابات التنابذية الدميمة وبالأفعال العدمية العنيفة. وإذا كانت الجزائر حتى أيامنا هاته ما زالت دون تحقيق هذه الغاية، فلأنها بعد أن فكك شخصيتها الثقافية ليل الاستعمار المديد وأعطبها، لم تقدر على تضميد جراحها وبرئها طوال العقود الخمسة وزيادة المتعاقبة على استقلالها. وهذا ما دفع بالجزائريين إلى الطعن في المادة الخامسة من قانون فبراير 2005، التي تسجل للاستعمار الفرنسي دوره الايجابي، وصادق عليها البرلمان بغرفتيه، فلم تسحب إلا بتدخل من الرئيس جاك شيراك، مستندا إلى المجلس الدستوري؛ وبعد ذلك أتت تصريحات قوية للرئيس بوتفليقة، منها حول تعليق التوقيع على معاهدة الصداقة الفرنسية ـ الجزائرية، ومنها اعتباره الاستعمار الفرنسي حركة إبادة جماعية ضد هوية الجزائر وثقافتها.. وفعلا فالصدام، الذي ما زال يخوضه إلى حد ما الإخوة ـ الأعداء في هذا البلد المغاربي، يعكس صورة هوية وطنية أزّمها تاريخ طويل من التبخيس الثقافي، علاوة على تراكم قاس للكسور والحيوف. إنها حالة احتقان وتمزق لما تزل تسري في الجسم الجزائري، وتعطل طاقاته التواصلية والتفاهمية، وتحكم بالتالي بالعجز والقصور على مبادرات الوفاق الوطني (كما أقره الرئيس بوتفليقة) أو من قبل ذلك خطة سان ـ اغيديو الموضوعة في يناير 1995 بروما من طرف مجموع الأحزاب المعارضة الممثلة، بما فيها جبهة الانقاذ الإسلامي.

أما في المغرب الذي عرف كتونس ماضيا استعماريا أقل هولا وعنفا، وتلقى بالتالي شروخا في شخصيته الهويتية أقل خطورة وغورا مما كان عليه الأمر في الجزائر، فيظهر، حسب الدراسات والأبحاث المتخصصة، أن الحركات الأصولية، وقد نشأت خلال السبعينيات، تتجه في مجملها نحو مواقف توافقية، مقدمة الدعوة إلى تخليق المجتمع والحياة السياسية. ويحسن بالطبع استقبال توجهها هذا إيجابيا شريطة تخليها المعلن والفعلي عن خوصصة الدين واستغلاله وعملها في إطار المشروعية والسلم الاجتماعي، وذلك حتى يتسنى تمكينها من الاندماج الديمقراطي في المجتمع المدني وحتى السياسي. وهذا يفترض قبليا أن الديمقراطية، كتعاقد ومؤسسة، قد اكتسبت مقومات واقع وظيفي، ملزم ومعاش. والديمقراطية بدورها لا يمكنها أن تؤدي عملها الإدماجي السلمي كاملا إلا باستنادها إلى قطب الرحى في كل تطور، ألا وهو النمو الاقتصادي المتواتر ذو الثمرات الحسنة النشر والتوزيع. وهكذا تكتمل دائرة النمو الشامل، الذي يختص بهذه الصفة لكونه جامعا لاحما ممدّنا، وبمقدوره بالتأكيد، ولو بتأنّ، أن يتجاوز التعارض الديني/العلماني، ويحيد ممثلي الغل والاستئصال، ويخلق شروط انتعاش دولة التسيير والتيسير والمجتمع المدني المتقدم، القوي والمؤثر، وبالتالي المنفتح على التنافس الديمقراطي بين الأفكار وعلى كل الفعاليات والديناميات الساعية إلى اجتثاث أسباب التخلف وخدمة مصالح الأوطان والناس.

إن تحقيق تلك النقلة الكبرى يفرض على فاعليها اليوم الأخذ بأسباب العقلنة والترشيد المستمدة من الذات التاريخية أولاً، ومن نظم الإنتاج والتسيير التي كان بمقدور هذه الذات أن تنالها بالسبق والاستحقاق لو لم تعقها عن ذلك عوامل انتكاس وتصدّع داخلية، إضافة إلى عوامل انطلاق التفوق الأوروبي منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر، ومن حيث ان هذه النهضة الأوروبية استلهمت التراث اليوناني لصالحها وأن الرأسمالية، كما أظهر ماكس فيبر، مدينة في نشأتها وانتشارها إلى البروتستنتية بالشيء الكثير، وأيضا من حيث إن تطور الاقتصاد في بعض أقطار آسيا حاضرا تلقى زخمه المعنوي التحفيزي من الكونفوشية، حسبما بيّن ميكو موريشما، فإن من الجائز والممكن ـ كما يُستفاد إلى حد دال من تجارب أندونيسيا وماليزيا مثلا ـ أن يكون للإسلام الثقافي والقيمي ولفلسفته الاجتهادية العملية دور نوعي مخصوص في خلق شروط إحداث «المعجزة» الاقتصادية المرجوة والتقدم العلمي الفكري المنشود، وذلك كله في سياق وجوب كسب الرهان الحضاري والتنمية البشرية الكلية وبروز القطر ـ القدوة أو التجمع ـ المنارة. وفي هذا السياق وحده، كدينامية مبدعة وصيرورة تأثيلية كمّية وكيفية، تتلاشى الصدوع والتوترات المعيقة، وتتجاذب العقول والذهنيات إيجابيا نحو الأفيد والأجمل والأرقى، فترى الأصولي الحق قادرا على استيعاب الوعي التاريخي ومميزا بين الحي والميت في نصوص الأثر والقول التراثي؛ كما ترى الحداثي متخذا موقف النقد بإزاء كل تغريب إن كانت محصلته الاستلاب والولاء التبعي وفقدان الاعتبار الذاتي وطاقات المنافسة والمبادرة والخلق.