ملامح التنمية الأمنية ـ رشيد اليملولي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 فشا الميل في التجربة الحضارية الإسلامية عموما ، بأن المدخل الأمني يعد البوابة الضامنة لتنمية و حماية البلاد ، و لا غرو أن هذا الفهم قد أبد التغلب و الفكر و الفعل العصبوي ، و أمدهما بسياج شرعي أباح لهما وحدهما  إنتاج مفاهيم الحقل السياسي و الثقافي و الاجتماعي ، لدرجة تقعيد الجانب العسكري وحده باعتباره الدلالة و الدعامة الوحيدة للأمن القومي ، و إذا كان هذا الفهم يكتسي بعض الوجاهة من خلال ربطه بالمصلحة الوطنية ، عن طريق حماية وحدة و سيادة و استقلال و استقرار الدولة ،فإنه يركز قسرا على النطاق دون المفهوم ؛ إذ هو نقطة التقاء و تفاعل السياسة الداخلية و الخارجية و أداة للربط بينهما ، و قد يتعداها إلى موقع و موضع و جغرافية الدولة السياسية ، و مدى قدرتها على تعبئة مواردها الاقتصادية و المالية و تحويلها إلى فلسفة خاصة بها [1] ،في وقت لا زال مفهوم الأمن أسير مفارقة لا نميز فيها بين الأمن القومي و أمن السلطة الحاكمة أو السلالة المسيطرة ، هذا التصور القاصر غير ذي معنى إن نحن استحضرنا أن الأمن الخارجي للدولة أضحى من اختصاص المنتظم الدولي و القوى الإقليمية الفاعلة [2] .
   إن الربط بين الأمن و الخوف و الخطر ، يحيل على مفهوم واسع لا قيود عليه ، يتم بموجبها حصره في الدفاع عن الذات بحمولتها الغريزية ، و ليس بمضمون الوعي لعل عنصر الردع الوقائي أحد خطوطها الاستراتيجية التي تجعل العملية الأمنية عملية مركبة بامتياز [3] ، لا ينفصل فيها الاهتمام بالمسألة التنموية عن قضية الأمن القومي ، الذي يشكل الجانب العسكري منه بعدا من أبعاد هذه الأمة ، إذ أن تحقيقه لن يتم دون الاستناد إلى قاعدة أمنية قوية في مستوياتها السياسية و الاقتصادية المتداخلة [4] .


إن الناظر للتجربة الأمنية للعالم العربي ؛ يلاحظ أن العديد من العروش السياسية قامت على انقلابات عسكرية بشكل دفعها إلى تذكية حماس الإنفاق العسكري المهول [5] ، و قد زاد هذا الإنفاق خلال الفترة 1980ـ 1985 بنحو 22% ، بينما لم يتطور الناتج الداخلي المحلي إلى بحوالي 0.8% [6] ، و تأخذ هذه الأرقام منحنى تصاعديا بعد 1985 ، حيث تجاوز الإنفاق 1000 مليار دولار ، ممثلا بذلك حوالي نصف ما أنفقته الدول الأوربية الأعضاء في الناتو و ثلاثة أضعاف الإنفاق العسكري في إيران و تركيا و إثيوبيا و اسرائيل ، كما يمثل تقريبا الإنفاق العسكري لكل من قارتي افريقيا و أمريكا الجنوبية [7] ، هذه الأرقام مرشحة للارتفاع في ظل تصاعد وثيرة الصراع و الحرب بالوكالة في سوريا و اليمن و العراق و ليبيا ، فوفقا لمعهد ستوكهولم لدراسات السلام ؛ جاءت السعودية في المرتبة من حيث الإنفاق العسكري سنة 2013 ب67 مليار دولار ، تليها الإمارات ب19 مليار دولار ، و الجزائر ب 10.4 مليار دولار ، و اللافت للانتباه أن حجم الإنفاق العسكري بالنسبة للمغرب قد ارتفع سنة 2015 ليصل إلى 2.3056 مليار دولار ، و نتيجة لحمأة الصراع الدولي و الحرب على الإرهاب ، مع ما يوازيها من خلافات عربية التي شكلت القاعدة العامة ، و تحولت إلى خصومة شاملة في مختلف الاتجاهات و الميادين ، فقد جاء في تقرير صادر عن صندوق النقد العربي و المؤسسة العربية للاستثمار أن الإنفاق الدفاعي العربي يشكل أكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي في معظم الدول العربية ، قدر إجمالي الإنفاق العسكري للدول العربية مجتمعة بنحو 680 مليار دولار خلال الفترة ما بين 2000ـ 2002، أي بمعدل 75 مليار سنويا ، هذا التصاعد في السباق نحو السلاح و الصراعات البينية ، يقابله التوسل بالاختراق الأمني الخارجي ( حرب الخليج الأولى و الثانية و الحرب على الإرهاب حاليا )الذي يؤكد عمق الاختلال الأمني [8]  ، و الذي لا زال أسير الإنفاق خارج أي ضوابط تنموية [9]
  يميز ماكس فيبر بين نوعين من السلطة ؛ سلطة حداثية و تتمثل في الديمقراطية ، و سلطة تقليدية و لها وجهان ، كاريزماتي و تتأسس على قداسة الشخص ، و سلطة شمولية [10] ، تجسد ذاتها بالجمع بين مقومات القوة ـ العنف المادي و الرمزي منه ، إلا أن السائد في المسار التاريخي للدولة في المغرب هو الطابع العنيف أو ما يسميه العروي باليد الثقيلة للمخزن ، و لا أدل على ذلك من قصة طغيان الأشخاص و الأجهزة الأمنية في المغرب حسب ما تعكسه الذاكرة الوطنية في ملمحها الثقافي المعروف بكتابات الاعتقال السياسي [11] ، أو ما تمثله سنوات الرصاص الدالة على القمع و الترهيب و التسلط ، بغرض إنتاج و صناعة الأجساد الطيعة الانضباطية و الخنوعة ، دون الانضباط لأي قواعد أخلاقية أو قانونية [12] ، و قد ارتبطت هذه الأجهزة في تمثل المغاربة بإنتاج اقتصاد الخوف عوض الأمن ؛ إذ كانت السلطة تلعب دور المدعي و الشرطي و القاضي و السجان في آن معا ، بشكل تحول معه النظام السياسي عبر عقود إلى أكبر رمز لتهديد أمن المواطن المغربي من خلال ملاحقته و مراقبته من قبل أجهزة أمن النظام ، و لعل الانفجارات الدموية الكبرى محفورة في التاريخ الوطني منها الدار البيضاء مارس 1965 ، و يونيو 1981 ، و جل المدن المغربية سنة 1984 ، و فاس في دجنبر 1991، الإضافة إلى عملية قصف الريف ، و التي عرت على الواجهة " الديمقراطية " ، و التحكم المطلق للملك الراحل الحسن الثاني ، الذي كان يعد الأمن مجاله الخاص [13] ، يساعده في ذلك أوفقير في مرحلة أولى و الدليمي والبصري في مرحلة ثانية ، بحيث يمكننا أن نصنف الفاعلين في مستويات متعددة ، الأدنى منها يضم القائمين على مباشرة التعذيب ، يليهم الرؤساء الذين يصدرون الأوامر بالتنفيذ ، ثم المؤسسة الأمنية التي تصنع أولئك و هؤلاء ، و أخيرا النظام السياسي الذي يتبنى العملية برمتها ، و يقر بها منهجا ضروريا و صالحا للحفاظ على قوته و نفوذه [14] ، هذه الأجهزة مسؤولة عن 598 حالة وفاة على أقل تقدير ما بين 1956 ـ 1999 حسب هيئة الإنصاف و المصالحة ، علما أن القانون الجنائي المغربي حتى قبل تعديله ظل لا يوجب فقط على الموظفين العموميين ووكلاء السلطة و الأعوان و الرؤساء التبليغ بارتكاب الجنايات أو محاولة ارتكابها ، و إنما يعاقب على عدم القيام بهذا الواجب ، فالثابت في هذه الحالة أن موظفي و أعوان الأجهزة الأمنية و الاستخباراتية و الدركية و العسكرية لم يبلغوا عن القضايا الإجرامية و إنما قاموا بتنفيذها [15] ، و لعل الشهيد المهدي بنبركة و سعيدة المنبهي أكبر الدلائل المعبرة عن القمع الذي طال القوى الحية .

  تتكون منظومة الأجهزة الأمنية بالأساس من المديرية العامة للأمن الوطني و الدرك الملكي ، و المكتب الثاني و الخامس ( مخابرات عسكرية ) و الكاب 1 الذي تحول منذ 1973 إلى جهاز مراقبة التراب الوطني " الديستي " ( مخابرات مدنية داخلية ) ، و جهاز المديرية العامة للدراسات و المستندات " لادجيد " أي المخابرات الخارجية ، هذا الجهاز لا يخضع لأي رقابة سواء من الحكومة أو البرلمان ، و تبقى " لادجيد " خاضعة لسلطة القصر مباشرة ؛ بحيث لا يمكن للحكومة أو البرلمان مساءلة الأجهزة الأمنية ، و التي لم يحضر أي مسؤول منها للقيام بتصريح أو الجواب على أسئلة النواب في المجال الأمني [16] ، الأكثر من هذا أن وزارة الداخلية كانت تصنف باعتبارها وزارة فوق العادة و فوق كل الوزراء على امتداد أكثر من عقدين ، حسب ما تجسده مقولة " أم الوزارات " ، و ذلك بحكم إدارتها للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني ، و لعل تصرفات وزيرها السابق ادريس البصري أكبر معبر عن طبيعتها ، يضاف إلى ذلك أن الميزانية المخصصة للأجهزة الأمنية غير قابلة للنقاش خاصة " لا دجيد " ، و التي تقدر حسب ولد القابلة ب100 مليار سنتيم [17] .

  إن استمرار اشتغال الأجهزة الأمنية بالنسق نفسه ، يحيل على الاعتقاد بضلوع الثقافة المخزنية في ترسيخ معيقات الانتقال و تأبيدها [18] ، لأن الإجراءات العقابية أو ما يسميه فوكو بالتكنولجيا السياسية للجسد ، لا تعمل على ضبط الجسم و التحكم فيه عن طريق العقاب ، و إنما تعمل على التأثير في العقل و إخضاعه ؛ فالجسد ليس إلا مدخلا يسهم في السيطرة على العقل مصدر الحركة و الحراك [19]، كما أن المستهدف من التعذيب ليس إرساء قواعد العدل و الإنصاف ، و إنما تثبيت السلطة و إدامة وجودها بالقوة ، و التلويح بالتعذيب تجاه من تسول له نفسه الخروج عن ربقتها [20] ، و تصنيف " المجرمين " حسب عرفها يتقدمهم المجرم السياسي باعتبارها مجرما ممتازا في الخطورة ، فهو الخائن و عدو الوطن ( ألم يسقط  ادريس البصري الجنسية عن المناضل اليساري ابراهام السرفاتي و حسبه برازيليا ؟) ، لا سيما في ظل التداخل بين مفهومي الوطنية و السلطة و التمازج بينهما .

   إذا كانت توصيات هيئة الإنصاف  و المصالحة تصب في اتجاه القطع مع الأمن ـ  القوة ، فإن الضرورة تقتضي الإقرار الفعلي لدولة الحق و القانون ، التي تعد  الضمانة الأساس و المرجعية الكبرى لصياغة نظام سياسي متصالح مع ذاته و تاريخه ، و منفتح بأفقه نحو المستقبل ، أي الارتقاء بالماضي من وضعية الميراث الثقيل الذي يكرس العبودية ، إلى مرتبة المرجع الروحي للحرية و منابع التشريع للمستقبل [21] ، من أجل بناء توافقات تاريخية أكثر عدلا ، تسمح بتوسيع فضاء العمل السياسي و ترسيخ آليات الممارسة الديمقراطية [22] ، فلم تعد السلطة في الثقافة الأمنية المعاصرة وسيلة للحكم ، بقدر ما أضحت وسيلة لتحقيق التنمية و الرقي بكل أشكالها الثقافية الاقتصادية [23] ، و لن يتأتى ذلك حسب هيئة الإنصاف و المصالحة إلا بترشيد و مراقبة السياسات و الممارسات الأمنية ، و توسيع اختصاصات البرلمان في المساءلة و الاستماع المباشر لجل القطاعات الأمنية في العدل و الأمن ، و جل المسؤولين المباشرين عن أجهزة الأمن و عمليات الردع وطنيا و إقليميا و محليا [24] فالديمقراطية ليست صناديق اقتراع و تصويت وتسويق إعلاني للحق في التصويت ، و إنما هي قبل كل شيء ثقافة الحق و القانون و التنظيم وفق مبدأ أسمى اسمه الدستور .

إلا أن هذه الرغبة على الأقل في التجربة المغربية ، لم تصمد أمام تنامي الخطر الإرهابي ، و تصاعد وتيرة الاحتجاجات ؛ حيث إن أحداث 11 سبتمبر 2001 ، و 16 ماي 2003، و مارس 2004، أعادت ضرورة هيكلة الأجهزة الأمنية و الاستخباراتية بشكل يمكنها من تجويد حربها الاستباقية ، و الحد من الخطر المحتمل ، هذا الهاجس يبطن تخوفا كبيرا من استثمار الخطر الخارجي و الداخلي باعتباره وسيلة للتضييق على الحريات و الشطط في استعمال السلطة ، يندرج في هذا الإطار قانون 03.03 الخاص بالإرهاب ، و الذي تم التصديق عليه في أجواء ما بعد الضربة الإرهابية في مدة و جيزة ليتم نشره بعد ذلك في الجريدة الرسمية بسرعة قياسية ، و إن واجه معارضة من قبل الحركة الحقوقية [25] ، و مما قد يبرر هذا التخوف ما أورده تقرير " ديك مارتي " عن تورط الأجهزة الأمنية المغربية في تعذيب متهمين أثناء الاستنطاق ، بتكليف من المخابرات الأمريكية [26] .

   إن الحرب على الخلايا الإرهابية و تفكيكها ، عادة ما تمت خارج الجهاز التنفيذي ، بالرغم من أن الخطاب الرسمي يعهد بهذه المهمة لرئيس الجهاز التنفيذي ، و هو ما يفتح الباب على مصراعيه للتأويلات الأمنية خارج الضمانات الحقوقية و الإنسانية ، بل إن وجود عدو خارجي ( الإرهاب ) ، يفرض الهتاف بصوت واحد ضده و الدعاء له في معركته المقدسة مهما كانت طبيعة التجاوزات ، و هذا ما يجعل من التنصيص القانوني و الدستوري مجرد حسن نيات ، لا ترقى إلى الثقافة الأمنية و الحكامة المرتبطة بها .

تفهم على هذا الأساس توصية هيئة الإنصاف و المصالحة ، الخاصة بترشيد الحكامة الأمنية بتوضيح المسؤولية الحكومية عن عمليات الأمن و ضمان الشفافية و تحديد المسؤوليات بصددها ، و تقوية الرقابة البرلمانية على الأداء الأمني و أجهزته و مسؤوليته ، و توضيح إطار و شروط  استعمال القوة [27] ، هذا دون نكران المنجزات المحققة على أرض الواقع ، ذلك أن المؤسسة العسكرية و أجهزة المخابرات منفلتة من وصاية و مسؤولية الحكومات المتعاقبة ، بل هي إلى اليوم خارج دائرة المراقبة الفعلية للمؤسسة التشريعية على خلاف باقي القطاعات ، و ذلك بدءا من احتكار المعلومة و مرورا بضبط التحولات الاجتماعية ، و انتهاء بترويض الفعل السياسي ، و موقعته كتابع للقرار الأمني [28] ، و إذا كانت الوثيقة الدستورية لسنة 2011 قد جاءت استجابة لامتصاص الحراك الاحتجاجي ، فإن اللافت أن هذه الوثيقة مبنية أمنيا على نزعة غير دستورية ، ما دامت الشرعية العسكرية تتم بعيدا عن نطاق السلطة التشريعية و التنفيذية و القضائية [29] ، و إذا كان التنصيص دستوريا على المجلس الأعلى للأمن ( الفصل 54 و ظهير 23 فبراير ) يندرج في إطار تحديث الجهاز الأمني ، و تفاعله مع التطور في طبيعة و نوعية الجريمة و التحدي المرتبط بتوجيه السياسات الأمنية و إعادة هيكلتها ، بما يتماشى و السياسة الأمنية الرادعة و الاستباقية ، فإن هذا التحديث لم يلامس جوهر العملية الأمنية التي لم تنفك عن العتاد و الخبرات العسكرية ، و ظلت " الحداثة " الأمنية في دور و فلسفة و وظيفة المؤسسة العسكرية بعيدة عن أي اعتبار [30] ، إذ أن وجود هذا الجهاز قد يشي ببداية تأسيس مفهوم الأمن القومي المغربي ، إلا أن هذا الأمل سرعان ما يخبو إذا علمنا أن المراجع الاستراتيجية للمغرب تقع خارج حدوده و اهتمامه ، فإطلاله على بعض النقط المفصلية على مستوى الملاحة و التجارة الدوليين ، لا يعني سيطرته عليها ، إضافة إلى منطقة الساحل الملتهبة إرهابيا ، و اجتزاء جزء من ترابه من طرف إسبانيا ، و الطموحات الاستراتيجية الجزائرية المتنامية ، تجعل المغرب وحدة أمنية غير محصنة ، لذلك العسكرة المفرطة و الإنفاق المتنامي عليها ، ليست ضمانا للأمن و الأمان ، و ليست تعبيرا عن الأمن القومي في أي بلد من البلدان .

لقد كان لتواتر الاحتجاجات التي وصل عددها عام 2012 إلى 17186 احتجاج بشكل يزيد ب 25 مرة على عدد الاحتجاجات التي وقعت سنة 2005 ، و التي لم تتجاوز 700 احتجاج [31] ، دور أساس في تعرية السلطة العميقة للمخزن ؛ ففي ظل التطور المسترسل للحركات الاحتجاجية ستنفجر واقعة إجبار مسؤول قضائي مواطنا على تقبيل حذائه في فبراير 2013 بمدينة ميدلت ، بل و تستمر ظاهرة إحراق الذات مع " مي " فتيحة بائعة البغرير القنيطرية ، احتجاجا على حكرة أعوان رجال السلطة ، و إحراق فتاة بن جرير لنفسها بعد تعامل السلطة الأرعن معها قضيتها ، بالإضافة إلى باشا تادلة ( صهر ادريس البصري ) الذي كانت سلطته تمتد خارج مكتبه ، مرورا بالتدخلات العنيفة في حق الأساتذة المتدربين لعل أشهرها " مجزرة انزكان " ، وصولا إلى طحن محسن فكري بائع السمك في الحسيمة في أكتوبر 2016 ، كل هذه المؤشرات تدفع إلى الاعتقاد ـ بالرغم من طابعها المعزول ـ بتحديث آلية القهر أكثر من الحكامة المنصوص عليها و الموصى بها من طرف الهيئات الوطنية و الدولية ، مما زاد من ارتفاع منسوب التذمر الشعبي سيما بين صفوف الطبقات المقهورة اقتصاديا و اجتماعيا ، و أبان عن اختلال بنيوي في المنظومة الثقافية و الحقوقية بالخصوص داخل الأجهزة الأمنية ، في وقت استطاع هذا الجهاز أن يؤكد على علو كعبه في ملاحقة الخلايا الإرهابية حسب ما تجسده حالة عبد الرحمان اباعود ، التي استطاعت فيها الأجهزة الأمنية المغربية أن تقدم الإضافة اللازمة لنظيرتها الفرنسية ، كما استطاعت تفكيك خلايا إرهابية منذ هجمات باريس الدامية ، بشكل دفع معهد " ستراجيك فوركاستينغ " أن ينوه بقوة و كفاءة الأجهزة الأمنية في تقريره الصادر في 20 أكتوبر 2016 ، و أن يحتل المغرب مرتبة مهمة فيما يخص الأمن و السلامة الشخصية ( المرتبة 44 ) حسب معهد ليغاتوم البريطاني [32] ، و استطاع المغرب على المستوى الإقليمي إفشال جهود الجزائر الرامية إلى عزله عن الصحراء من خلال إقامة تنسيق مع دول الساحل و الصحراء ، و ذلك لاعتبارات الصراع السياسي عبر " اتفاق الجزائر " ، الغرض منه ممارسة هيمنة عسكرية على دول المنطقة ، وممارسة الضغط السياسي على الاتحاد الأوربي و فرنسا و الولايات المتحدة الأمريكية ، لفك شفرة تعاونهم الاستراتيجي مع المغرب ، و تحييد دعمهم للمغرب في قضية الصحراء .

وفقا لذلك هل نحن أمام ازدواجية الفعل الأمني ما بين نجاعته الخارجية و استقوائه على المجتمع داخليا و تزايد يده الثقيلة ؟ و هل نوافق القول بأن النظام المغربي حسب مولاي هشام العلوي لا زال أسير مفاهيمه المخزنية التي حدت من إقلاعه السياسي  و الاقتصادي ؟ و أن دستوره الجديد لا يرسخ دولة حديثة و لا يقدم فصلا حقيقا بين السلط ؟ [33] .

   تنبني الحكامة و التنمية الأمنية على العديد من المقومات التي بإمكانها فتح الفضاء العمومي على قيم الاختلاف و الإدارة الجماعية للقضايا و الرهانات المجتمعية ، بعيدا عن الفلسفة الراقية في إهدار الزمن و الإنسان ، و التي لا تركن إلى تسويق و ترويج خطاب التجارة النصية ( أي الاعتداد بعلو الوثيقة الدستورية و مضامينها ) ، دون ربط النص برحابة الواقع و حيوية القضايا الإنسانية ، ما دامت القوة لم تعد مرتبطة بالعامل العسكري ، و إنما تخطته إلى التعليم و التكنولوجيا و اعتماد المعلومة و النمو الاقتصادي ، و الذي يمكن أن يعاق بالمفهوم المغلوط للسلطة ، و الشطط في استعمالها خارج السقف الأخلاقي و القانوني ، يقابله الغلو في التحكم و الاستقواء النابع من عدم المحاسبة و الإفلات من العقاب ، و إذا كان المشروع الأمني ( 2013 ـ 2017) ، مقبل على تكوين رجال الأمن في مجال حقوق الإنسان بالتدرب على الحكامة الأمنية ، بما تقتضيه من ترسيخ حقوق اللاجئ و القانون الدولي و الإنساني ، فإن الأمر يتطلب تغيير مستوى و درجة النظر إلى العملية الاحتجاجية ، باعتبارها تعبيرا عن الممارسة الحقوقية داخل الدولة ، وليس بالضرورة تمردا عليها [34] ، فلا يعقل في هذا المستوى أن يتوزع الإضراب معنيان ، حق المضرب و المتظاهر الذي يرتكز على التشريعات و المواثيق الدولية ، و حق المؤسسات الأمنية التي تعمد إلى تأويلها الخاص و المبهم بإيعاز من غياب القانون التنظيمي للإضراب ، يضاف إلى ذلك ضرورة إيجاد الصيغ الكفيلة بالضمانات القانونية القادرة على رفع الشطط في استعمال السلطة ، و تنفيذ الأحكام الصادرة في مواجهة الإدارة أو الدولة المغربية بكل أجهزتها و هياكلها ، و بالمقابل تمكين القضاء من سلطه التي تحمي الحقوق و الحريات .

[1] ـ حسان محمد حسان ، دور التربية غير النظامية في تحقيق الأمن القومي ، مجلة شؤون عربية ، ع 70 ، يونيو 1992، ص 41.
[2] ـ عبد المنعم المشاط ، الأمن القومي العربي في المرحلة الراهنة ، مجلة شؤون عربية ، ع 70 ، يونيو 1992، ص 22.
[3] ـ رفعت لقوشة ، مقدمة في إشكالية الأمن القومي العربي ، مجلة شؤون عربية، ع 70 ، يونيو 1992، ص 7 ـ 8 .
[4] ـ عبد المعطي محمد عساف ، أزمة الأمن التنموي العربي ، مجلة شؤون عربية ، ع 61، أبريل 1991، ص 29ـ 30.
[5] ـ محمد عبد السلام ، رؤية العلم و التقنية في تنمية الأقطار العربية الإسلامية ، مجلة شؤون عربية ، ع 61، مارس 1990، ص 13. يورد
   الدارس بعض الأرقام الدالة على حجم الإنفاق العسكري خلال الفترة الممتدة ما بين 1980 ـ 1985، بالنسبة للشرق الأوسط خصص للدفاع 18.7% و 6.2% للتعليم ،و 2.6% للصحة من ناتجها الداخلي الإجمالي .
[6] ـ رفعت لقوشة ، المرجع السابق ، ص 10.
[7] ـ منعم العمار ، المتغيرات الدولية و مستقبل النظام العربي ، مجلة شؤون عربية ، ع 81، مارس 1995، ص 140.
[8] ـ نفسه ، ص 139 ـ 138.
[9] ـ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي و المكتب الإقليمي للدول العربية تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2016، ص 30ـ31 خاصة الفصل 6
  و الي يعالج آثار الحروب و النزاع العنيف على الشباب .
[10] ـ حميد المصباحي ، السلطة و التسلط في العالم العربي ، مجلة نوافذ ، ع 19 ، ماي 2003، ص 45.
[11] ـ عثمان الزياني ، حفريات في الذات المغربية المقهورة ، مجلة وجهة نظر ، س 20 ، ع 62، خريف 2014، 29 .
[12] ـ نفسه ، ص 31.
[13] ـ عبد اللطيف حسني ، من مذكرات بعض القادة السياسيين المغاربة ، مجلة وجهة نظر ، س 20 ، ع 62،خريف 2014، ص 16ـ 17.
[14] ـ عثمان الزياني ، المرجع السابق ، ص 32.
[15] ـ ادريس ولد القابلة ، الأجهزة الأمنية في ظل ملكين ، الموقع الرسمي لديوان العرب ، على الرابط :
[16] ـ ادريس ولد القابلة ، المرجع السابق .
[17] ـ نفسه .
[18] ـ يؤكد الأمير مولاي هشام العلوي أن ارتباط الملكية بالمخزن يعد عائقا أمام التطور ، نقلا عن حسن مجدوبي ، لماذا فشلت الملكية تاريخيا ،
    مجلة وجهة نظر ، س 20 ، ع 62 ، خريف 2014 ، ص 11.
[19] ـ حسام السعد و رزان زيتونة ، دروب ما بعد المعتقل ، الموقع الالكتروني لمجلة مقاربات .
[20] ـ محمد حلمي عبد الوهاب ، الضحية و الجلاد : قراءة في بنى التعذيب و تقنياته ، على الرابط :
  www.alawan.org/spip.php؟ page = article§id=2057.
[21] ـ زهير الخويلدي ، الذاكرة السردية بين الزمان التاريخي و عدالة النسيان ، مجلة الأزمنة الحديثة ، ع 11، شتاء 2015، ص 10.
[22] ـ عثمان الزياني ، حفريات في الذات المغربية ، ص 30 .
[23] ـ حميد المصباحي ، السلطة و التسلط في العالم العربي ، ص 43.
[24] ـ أحمد الدرداري ، مفهوم الحكامة الأمنية : الدلالات و المقاربات و الأبعاد ، على الرابط :
[25] ـ حسن طارق ، إحسان الحافظي ، الإرهاب و القانون : التشريع الأمني المغربي لمكافحة الإرهاب ، مجلة دراسات عربية ، ع20، ماي 2016
   ص 12.
[26] ـ ادريس ولد القابلة ، المرجع السابق ، يذكر أن ديك مارتي سيناتور سويسري كلف بمهمة القيام بالبحث و التقصي بخصوص المعتقلات
   السرية المستعملة من طرف الأمريكيين خارج تراب الولايات المتحدة الأمريكية .
[27] ـ عبد العزيز النويضي ، مناهج و آليات تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف و المصالحة ، ص21، ضمن الموقع الخاص للمندوبية الوزارية المكلفة
    بحقوق الإنسان .
[28] ـ مصطفى الشافعي ، تفعيل التوصيات المتعلقة بالإصلاح الدستوري و السياسي ، ص35 ، ضمن الموقع الخاص للمندوبية الوزارية المكلفة
   بحقوق الإنسان .
[29] ـ محمد فال السباعي ، تطور شرعية التغلب في دساتير الدول الإسلامية ، مجلة أبحاث ، ع 61ـ 62 ، 2015، ص 121.
[30] ـ محمد فال السباعي ، المرجع السابق ، ص 115.
[31] ـ انظر جريدة أخبار اليوم ، ع 2128 ، ليوم السبت و الأحد 5ـ 6 / 11 / 2016 ، ص 11 .
[32] ـ انظر جريدة المساء ، ع 3129 ، السبت ـ الأحد 5ـ 6 / 11 / 2016 ، ص 1 .
[33] ـ حسن مجدوبي ، المرجع السابق ، ص 12ـ 13 .
[34] ـ حياة درعي ، تطور الحركات الاحتجاجية بالمغرب ، مجلة رهانات ، س 8 ، ع 31، 2015، ص 27.