الإسلام السياسي والنيوليبرالية أو: كيف تتسّللُ العدمية النيوليبرالية متنكّرة في ثوب الهوية؟ ـ محمد عادل مطيمط

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse26035إن السؤال الأهم الذي يجب أن يطرح حول الإسلام السياسي اليوم هو السؤال عن دوره المضاعف الذي يقوم به انسجاما مع استفحال الهيمنة النيو-ليبراليةNéolibéralisme  على العالم. ففي الوقت الذي يقدم فيه هذا التيار نفسه على أنه تيار للمقاومة ومواجهة العولمة، يكشف التحليل المعمّق عن خاصيّات له أساسية مساهمة في تغلغل سيطرة النسق النيوليبرالي على العالم بشكل عام وعلى الشعوب المسلمة بشكل خاص. وتتمثل هذه الخاصيات في نزوعه نحو محو الخصوصيات الثقافية للشعوب من جهة، وفي ارتكازه من جهة أخرى على تصوّر للإنسان يجعل منه مجرّد تابع لنظام الجماعة الهُلامية المرتكزة على منطق التعبئة الشاملة وعلى تجريد الفرد من استقلاليته (وذلك هو جوهر الكليانيةTotalitarisme ، انظر مثلا: Hannah Arendt, Les Origines du totalitarisme,1951، وبصفة خاصة تحليلها لتجربة "تعطّل القدرة على إثبات الذات"Désolation   باعتبارها السمة الجوهرية لكلّ نظام كلياني).

تيّار غريب عن منطق اللعبة السياسية:
 ليس من العسير على المهتمّ بهذه المسألة أن يكتشف تعارض هذا التصوّر للإنسان والمجتمع مع مبادئ التنوير التقليدية التي تضع حرية الفرد واستقلاليته منطلقا أساسيا لكل ممارسة أخلاقية أو سياسية والتي شكلت القاعدة النظرية للديمقراطية الليبرالية المعاصرة (انظر إجابة "كانط" عن السؤال: "ما هي الأنوار؟" أو "إعلان حقوق الإنسان والمواطنة" لسنة 1792)، بل وأن يكتشف تعارضه مع مفهوم الهويّة كما بلورته النظريات المناهضة للتنوير منذ بداية القرن الثامن عشر والتي تندرج ضمن ما يعرف بالحداثة الأخرىL’Autre-Modernité  أو الحداثة المضادّة للتنوير. لا بل إنّه فضلا عن تعارضه هذا مع مشروعي الحداثة التنويرية (العقلانية) والحداثة الأخرى (الهووية)، سيكون من العسير، خلافا لما يتصوره البعض اليوم (د. "جميل حمداوي"، الإســـــلام وما بعــــد الحداثــــــةPostmodernité ، صحيفة المثقف، العدد 3840، 2017، مثلا)، إيجاد المبررات الكافية لربط هذه الإيديولوجية بمسار التجاوز مابعد-الحداثي للحداثة. 

فلا هو بالإيديولوجية العقلانية القابلة بحقوق الإنسان الكونية، ولا هو بالإيديولوجية القومية الهووية التي تقرّ مبدأ الخصوصية الثقافية للوطن أو الأمة في مقابل كونية العقل والحق الطبيعي، ولا هو كذلك بالرؤية المنفتحة على التعدد الثقافي والقابلة بمبدأ المثاقفة المابعد-حداثي. أي أنه بوجه ما يتحرك خارج كلّ مسارات الحداثة، خارج العقل وخارج التاريخ في آن معا. وذلك هو ما يفسّر حالة الارتباك التي يتسم بها خطاب الحركات "السياسية" الإسلامية التي اختارت تجربة الانخراط في المشهد السياسي والتي تبذل اليوم قصارى جهدها لإيجاد موقع لها في المشهد السياسي العربي وللعثور على عنوان إيديولوجي يمكنها من التسلّل بصيغة ما إلى فضاء سياسي لا يتحمّل وجود تيّارات غريبة عن روح العصر، تيّارات مُربكة للمشهد السياسي إلى حدّ ينذر بانهيار الحياة السياسية بمعناها الديمقراطي الليبرالي ( تجارب الانهيار السياسي في الصومال، غزة، أفغانستان، السودان، العراق، ليبيا...). فما موقع شيخ يدعو إلى تطبيق الحدود وقطع الأيدي في الفضاء السياسي المعاصر؟ في هذا السياق يلاحظ الأستاذ "أحمد عصيد" مثلا أنّ الإسلاميين بمختلف مللهم ونحلهم يعانون " من عقدة الدولة الوطنية الحديثة، حيث لا يجدون في مرجعيتهم الفكرية والدينية ما يسندها، فبما أنهم منغمسون في الفقه التراثي الذي يحدّد مرجعيتهم في النظر والعمل، فإن هذا الفقه بُني كله على وجوب قيام الخلافة والولاء للدين، وعلى تدبير شؤون "جماعة المسلمين" في "دار الإسلام"، وهي كلها أمور لم تعد موجودة" (أحمد عصيد، الإسلام السياسي وعقدة الدولة الوطنية، مقال منشور على موقع "إسلام مغربي" بتاريخ 23 جويلية 2016 ).  النتيجة المرعبة لهذا التّيه الإيديولوجي، ولهذه الغربة عن روح العصر السياسية هي تصادم مع منطق اللعبة السياسية ينتهي إما بانهيارها وقيام كليانية إسلاموية تعطّل الديناميكية السياسية نهائيا (إيران، غزة، السودان...) أو بالانفجار الشامل الذي تعقبه الحرب الأهلية وتمزق المجتمعات ( الصومال، سوريا، أفغانستان...)
 
-  النيوليبرالية ومعاداة الحداثة بكلّ مساراتها:

النيوليبرالية التي ننظر هنا في علاقتها بالإسلام السياسي، والتي أنهت، أو قل هي بصدد إنهاء عقود من سيطرة الديمقراطية الليبرالية التقليدية (Démocratie Libérale)، تمثل في حدّ ذاتها انحرافا خطيرا في صلب هذا النظام الذي وجد نفسه يتحوّل من نظام سياسي يدافع عن قيم التنوير والحرية إلى نسق اقتصادي يرتكز على التحكم في الكتل الجماهيرية وعلى تحويل الفضاء المدني إلى فضاء تهيمن عليه المنظومة العمياء لمصالح الشركات الاقتصادية الكبرى (انظر: "بيار بورديو" « L’Essence du Néolibéralisme », Le Monde Diplomatique, mars, 1998  أو أيضا: Manuella Cadelli, « Le Néolibéralisme est un fascisme », Le Soir, 3 mars 2016). ولقد أدّى هذا التقاطع الغريب بين النيوليبرالية وتلك السمة التي لم تكن في السابق ترتبط إلاّ بالنزعات القومية الفاشية والنازية (تجارب الحداثة المضادة للتنوير) أو بالاشتراكية الستالينية (الوجه الآخر للحداثة العقلانية التنويرية إلى جانب الديمقراطية الليبرالية) إلى لبس كبير نتجت عنه تأويلات متشعّبة ومواقف إيديولوجية متعارضة (التناقض بين مقاربات الكليانية، اتهام التنوير مع "أدورنو"Adorno ... الخ). إذ كيف يعقل أن تسقط الليبرالية هي الأخرى، والحال أنها الوريث الشرعي للأنوار الفرانكو-كانطية، في المستنقع الكلياني، لتصدق عليها التهمة نفسها التي لحقت بالفاشية والنازية والاشتراكية الستالينية؟ ولكن تلك هي الحقيقة اليوم: فنحن أمام مشهد لم تعد فيه الليبرالية نظاما سياسيا ينبني على استقلالية "السياسي" بالنظر إلى "الاقتصادي" ولا كذلك على استقلالية الفرد وحماية المسافة بينه وبين الدولة، بل أضحت نسقا اقتصاديّا متغوّلا يقلّص بشكل كبير من حجم المجالين في آن معا: مجال "السياسي" ومجال الحرية الفردية. في هذا النسق، يفقد كلّ من السياسي والأخلاقي منزلتيهما التقليدية ليصبح الاقتصاد هو محور الحياة الاجتماعية والسياسية، وهو ما تعتبره "مانويلا غاديلي" تأكيدا للجوهر الفاشي للنيوليبرالية...

الإسلاميون: بين وهم المقاومة ووهم الانخراط في منطق الديمقراطية:

ولكن ما هو موقع الإسلام السياسي من ذلك؟ ما علاقة الإسلام السياسي بالانحراف النيوليبرالي للحداثة التنويرية؟ وهل لصعود الإسلام السياسي حاليا علاقة بتراجع الديمقراطية الليبرالية وتزايد النفوذ النيوليبرالي في الغرب؟

ألم يُطرح هذا الإسلام السياسي باعتباره قوّة مقاومة في مواجهة هذا النسق المتعولم (العادل خضر، أزمة المسلم الأخير ونهاية التّديّن، منشورات دار الجمل، بيروت، الطبعة الأولى، 2016) ؟ ألا يصوّر الإسلاميون أنفسهم على أنهم تجذير لهويّة تاريخية وعلى أنهم عودة إلى الأصل حماية للأمّة من الغزو الثقافي الغربي؟ في هذا الاتجاه يذهب "سمير أمين" هو الآخر معتبرا الإسلام السياسي قوة مواجهة للغرب الكولنيالي: "ظهور الحركات التي تنتسب للإسلام هو في واقع الأمر التعبير عن التمرد العنيف ضد النتائج السلبية للرأسمالية القائمة فعلاً، وضد الحداثة غير المكتملة والمشوهة والمضللة التي تصاحبها. إنه تمرد مشروع تماماً ضد نظام لا يقدم للشعوب المعنية أية مصلحة على الإطلاق." (سمير أمين،  الإسلام السياسي: الوجه الآخر للرأسمالية المتوحشة، الحوار المتمدّن، 27/10/2016). غير ان ذلك لا ينسجم مع ما يثبته "سمير أمين" في نفس السياق من أن دبلوماسية القوى الرأسمالية تعمل اليوم على فرض الإسلام السياسي على العالم المسلم[1].

 وفي المقابل، وفي إطار مسعى بعض فصائل الإسلام السياسي إلى الاندماج في المنظومات السياسية لأقطارها (المغرب، مصر، تونس...)، ومثلما ترتفع أصوات متعددة في مراكز القوة النيوليبرالية (أمريكا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا...) لمساعدتها على ذلك ولدفع الدول إلى القبول بالإسلام السياسي جزءا من اللعبة السياسية (انظر تصريحات السياسي الفرنسي "آلان جوبي"A. Juppé  في القاهرة، مارس 2011 ، او في جريدة Le Parisien 27 أوت 2011 [2])، هل يمكننا أن نتصور إمكانية حقيقية للتقارب بين الإسلام السياسي والديمقراطية الليبرالية؟ ولكن كيف يمكن للإسلام السياسي أن يتفق مع مبادئ الديمقراطية دون أن يتنازل نهائيا عن مفاهيمه ومقولاته الأساسية؟

وبعبارة أخرى، ما هو موقع الإسلام السياسي من كل ذلك، هل هو مثلما يدّعي قوة مقاومة هووية ضد العولمة النيوليبرالية يمكن أخذها على أنها حداثة مضادة للحداثة التنويرية (مع ما يفترضه ذلك من عدم وجود قوى سياسية غربية – نيوليبرالية - تسانده باستماتة خلافا لما نرى اليوم)، أم أنه (مثلما يدّعي أيضا !!) قادر فعلا على أن يتصالح مع المبادئ الإنسانية للديمقراطية الليبرالية؟

-   كونية الحقوق وكونية الهيمنة:
إسلام سياسي أم إسلام نيو-ليبرالي؟

إن العلاقات المتينة اليوم بين حركات الإسلام السياسي والغرب (رغم كل اللغط الدائر حول مقاومة الغرب للتطرف الديني وحول مقاومة الإسلاميين للغزو الغربي) لا تعبّر عن مصالحة بين الإسلام والديمقراطية الليبرالية مثلما يتراءى للبعض ومثلما يظهر عن بعد من خلال أنشطة بعض المنظمات المحلية والعالمية التي تأخذ على عاتقها انجاز المهمة المستحيلة للتقريب بينه وبين الديمقراطية الليبرالية ( أنشطة المركز الأمريكي لدراسة الإسلام والديمقراطية CSID مثلا)، بل هي تعكس التحالف بين الإسلام السياسي والنظام الاقتصادي النيو-ليبرالي المعولم. أما الأطراف السياسية الأوروبية والأمريكية الداعية إلى استيعاب الإسلام السياسي في لعبة الديمقراطية في بلدان "الشرق الأوسط الجديد" فليست في حقيقتها أصواتا ديمقراطية ليبرالية ترغب بصدق في نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان في المجتمعات المسلمة، بل هي تعبّر عن مصالح المنظومة الجديدة لرأس المال المعولم، أي عن مصالح رأس المال المنحرف عن حاضنته الديمقراطية التنويرية التقليدية والمتحوّل إلى منظومة مصالح اقتصادية لا تهمها كثيرا حقوق البشر ولا خصوصياتهم التاريخية (الدور الذي يقوم به رجل الأعمال الأمريكي "جورج سوروس" Georges Soros في تمويل المنظمات المدنية التي ساهمت في زعزعة الأنظمة وتسهيل صعود حركات الإسلام السياسي). ثمة هنا خدعة كبرى تعمل وسائل الدعاية الغربية على إخفائها وراء بهرج الأنشطة المدنية الموحية بصدق النوايا وبالرغبة في دمقرطة المجتمعات. ثم إن هذا التحالف ليس مجرد تقاطع مصالح مرحلي مثلما يظن أولئك الذين يعتبرون أن الغرب قد استخدم الإسلام السياسي لمواجهة المد الشيوعي في أفغانستان ثمّ تخلّى عنه. فالأسس النظرية والإيديولوجية العميقة لكل من الإسلام السياسي والنيوليبرالية تدلّ على أن الأمر يتعلق بحلف استراتيجي ينبني على تشابه عميق بين تصوّري كليهما للمجتمع و لمنزلة الفرد فيه.

فتأييد الغرب النيوليبرالي للإسلام السياسي كما تشهد على ذلك الحركة الحثيثة للحكومات والمنظمات الأوروبية والأمريكية منذ انطلاق ما أسمته هذه الجهات نفسها بالربيع العربي، ليس تأييدا لحركات سياسية ستساعد على إرساء مجتمعات ديمقراطية (إذ سيكون من الأفضل عندئذ أن يتعامل هذا الغرب مع تيارات تتبنى بوضوح  مبادئ الديمقراطية الليبرالية وليس مع تيارات الإسلام السياسي المعادية جوهريا للديمقراطية!) بل هو تأييد لما به يسهل على الاقتصاد النيوليبرالي اختراق هذه المجتمعات والسيطرة عليها عبر إضعاف هياكل الدولة أوّلا وتدجين الأفراد إيديولوجيا في المستوى الثاني. لا يمكن لشعار التوافق بين الديمقراطية الليبرالية والإسلام السياسي أن يصمد لان الهوّة سحيقة بين الأسس الإيديولوجية لكلّ منهما. فالديمقراطية الليبرالية ترتكز بشكل أساسي على احترام حرية الفرد واستقلاليته الفكرية والأخلاقية في حين أن الإسلام السياسي يرتكز على منطق الانتماء التام للجماعةCommunauté ، ذلك المنطق الذي يصوغه "حسن البنا" موجها خطابه إلى من ينخرط في الجماعة قائلا له: "أن تعتبر نفسك دائما جنديا في الثكنة تنتظر الأوامر" (حسن البنا، الرسائل، رسالة التعاليم، واجبات الأخ العامل). أين هو المواطن-الفرد المؤسس للمجتمع الديمقراطي في منظومة الجماعة  الإسلامية؟ إن التعارض الجذري بين "الجماعة" و"المجتمع الديمقراطي" يجعل محاولة إثبات استقلالية الفرد داخل الجماعة أو محاولة توليد تصوّر للمواطنة في ظلّ الجماعة محاولة عبثية ومحكوما عليها بالفشل منذ البداية، اللهم إلا إذا كان لمفاهيم "الفرد" و"المواطن" و"الجماعة" دلالات أخرى غير التي تحددت عبر قرون من التفكير الفلسفي والأخلاقي والسياسي.

-   الإبادة الثقافيةLe génocide culturel   أو: الإسلام السياسي ضد الحداثة الأخرى أيضا:

ومما يعمّق التشابه بين الإيديولوجيا النيوليبرالية والإيديولوجيا الإسلامية ذلك الاتفاق بينهما على محو الخصوصيات الثقافية باعتبارها عقبة أمام بسط الهيمنة، ونزوعهما معا نحو ضرب من الكونية ما فوق التاريخية. بهذا الوجه، وخلافا لما نعتقد للوهلة الأولى، ستجد النيوليبرالية في الإسلام السياسي ضالتها وحيلتها في دفعها للعقبات الثقافية التي تعترضها في طريق توسعها.  فلا ينخرط الإسلام السياسي مثلما يقدم نفسه، بل ومثلما تصوره الدعاية النيوليبرالية نفسها، في خندق الدفاع عن الهوية والخصوصية الحضارية ولا كذلك في خندق المواجهة الوطنية (المقاومة) مع النموذج النيوليبرالي المتعولم. إنه لا يمثل إيديولوجيا تحركها "حداثة أخرى" مثل التي دافع عنها تيار معاداة الأنوارLes Anti-Lumières  الأوروبي منذ بداية القرن الثامن عشر وصولا إلى الحرب الباردة ("فيكو"G. Vico ، "هاردر"Herder ، "بورك"E. Burke  و"تان"Taine ....). فالخصوصيات الثقافية مزعجة بالنسبة إليه وهي تلعب دائما دورا مقوّيا للوطنية وللعَلمانية Sécularité في الدول والمجتمعات المستهدفة. (تاريخيا، كانت حركة العلمنة في أوروبا مرتبطة بانفصال الدول الوطنية عن السلطة الروحية/الدنيوية المركزية للبابا لتلتقي العلمنة في النهاية مع اللائيكية في المشروع الوطني التنويري الفرنسي.). لا نستغرب في ضوء ذلك أن يرفع اللاّئيكيون في تونس أو مصر شعارات الهويّة الفرعونية أو القومية التونسية في مقاومتهم للمدّ الإسلامي النيوليبرالي: هنا تتحالف مسارات الحداثة، على تناقضها (التنوير والهويّة المعادية للتنوير)، ضدّ الحلف النيوليبرالي الإسلامي.

ويقود ذلك إلى كون تعارض الإسلام السياسي مع مبادئ الديمقراطية الليبرالية أولا ومع الخصوصيات الثقافية للشعوب ثانيا، يجعل منه وسيلة مثلى لتجسيد مشروع العولمة النيوليبرالية المعادي للحداثة التنويرية وللحداثة الأخرى في الوقت نفسه. فالعولمة النيوليبرالية لا تقبل بالإبقاء على علوية المبادئ التنويرية التي تتيح للأفراد-المواطنين مقاومة سطوة النسق نقابيا وسياسيا، ولا تقبل بالهويات المغلقة التي تعرقل نشر قيم الاستهلاك والمجتمع المعلّب من جهة أخرى. فلا نستغرب ذلك التلازم بين صعود الإسلاميين إلى السلطة وتنامي الخطاب المعادي للحرية الفردية والداعي إلى تطبيق الحدود والتزام منطق الجماعة من جهة، وتعمّق سياسات الانفتاح الاقتصادي وما يلزمه من تراجع لدور السلطة السياسية المركزية من جهة ثانية. يتماهى هنا النزوعان: النزوع إلى تعليب الأفراد (إفقار إنسانيتهم المتجسدة في حريتهم ومواطنتهم) والنزوع إلى إفقار التنوع الثقافي العالمي. يا له من عالم بشع تبشرنا به النيوليبرالية الزاحفة !

 غير أننا بالنظر عن قرب في هذه المواجهة بين الإسلام السياسي والحداثة التنويرية من جهة ثم بينه وبين الحداثة المعادية للتنوير من جهة ثانية، نلاحظ انه على الأقلّ يتقاطع مع الأولى في نزوعه إلى الكونية ومع الثانية في نزوعه إلى إلغاء الحرية الفردية أو مبدأ الاستقلالية (كانط (Kant الذي يكفل للفرد حريته. ولكنه يطلب الكونية دون حقوق الإنسان، ويطلب إخضاع الفرد للجماعة دون القبول بمبدأ الخصوصية الثقافية أو الوطنية. إنه الجماعة الهلامية أو المجرّدة التي لا تتميّز مفارقيّا بأية فرادة ثقافية أو تاريخية، فضلا عن إنكارها للمبادئ الكونية لحقوق البشر. وبعبارة أخرى، إنه نزعة كونية ترتكز على إذابة الفرد ضمن منظومة شاملة للسيطرة تمتد مساحة اشتغالها بقدر ما يمتد مجال انتشار العقيدة. وبذلك فهو لا يشكل جماعة عضوية Communauté organique  بالمعنى الدقيق للكلمة. اذ ينطبق مفهوم هذه الجماعة على الوطن أو الأمة وليس على الجماعة التي لا يجمع أفرادها شيئا سوى مبادئ دينية عامة ومشتركة. إنها لا تشكّل "كلاّ" معرّفاLe Tout  ومحددا بسياق ثقافي متميّز، بل هي "كلّ نكرة"Un Tout  يجمع بين مكونات تمّ "تذريرهاAtomisés " مسبقا عبر انتزاعها من كل سياق تاريخي حقيقي. هذا هو ما يتجلّى في تركيبة الجماعات الجهادية التي يتدفق أفرادها من كل مكان في العالم تاركين وراءهم ثقافاتهم وأوطانهم "الكافرة" للانخراط في صلب جماعة المؤمنين المتعولمة. غير أن الأوطان التي يعتبرونها كافرة هي التاريخ بكل ثقله وثرائه، أما جماعة المؤمنين المتعولمة والنكرةAnonyme  التي يسافرون إليها فهي العدمية المنذرة بنهاية التاريخ، أو قل هي نهاية التاريخ.

لم يقع الانتباه بالقدر الكافي إلى هذه السمة التي يختص بها مفهوم الجماعة Communauté   في خطاب الإسلام السياسي. يتجلّى ذلك مثلا في تصور "حسن البنا" مؤسس حركة الإخوان المسلمين  للوطن والوطنية في كتابه رسالة دعوتنا  حيث يقول: إن " وجه الخلاف بيننا وبينهم [يقصد دعاة الوطنية] هو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وطن عندنا له حرمته و قداسته وحبه والإخلاص له و الجهاد في سبيل خيره،  وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم .___ ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوى نفسها على حساب غيرها فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطر إسلامي ، وإنما نطلب القوة لنا جميعا ، ودعاة الوطنية المجردة لا يرون في ذلك بأسا، ومن هنا تتفكك الروابط وتضعف القوى ويضرب العدو بعضهم ببعض" (حسن البنّا، رسالة دعوتنا، فقرة 16: الوطنيّة).  ومن المفيد ملاحظة كيف يترجم هذا التصور نفسه في موقف تيارات الإسلام السياسي من الثقافة، موقف لا يتوقف عند استثمار منطق التحريم إزاء الكثير من منتجات الثقافة (الرسم والنحت والموسيقى ووو...) بل يشمل أيضا منطق التوحيد الداخلي للجماعة على صعيد الفكر والممارسة. وليس اللباس الموحد للمرأة الإسلامية – وليس المسلمة - (حجاب، نقاب، جلباب...) والتقليص الذي يصاحبه من الألوان الدالّة انثربولوجيًّا (انحلال اللباس في الحيادية اللونية للأبيض والأسود والرمادي)، إلا علامة من بين العلامات الدالة على هذه النزعة الشمولية وعلى أن تصفية الفروق الثقافية بين الأمم يمثل ممارسة حقيقية ترمي إلى توحيد الجماعة الهلامية الكونية على حساب الصيرورة التاريخية للتقاليد. ولسائل أن يسأل اليوم: ماذا بقي لغزّة من تاريخها الفلسطيني بعد عقود من سيطرة الايدولوجيا الإسلامية عليها؟ وماذا سيبقى لشعوب أخرى من ذاكرتها وحقيقتها لو أمكن للقوى النيوليبرالية العالمية أن تنجح في فرض إيديولوجية الجماعة الهلامية الإسلامية المعولمة؟  سيكون على الأدب أن يتكفّل بوصف هذا المشهد المخيف القادم...

لم يبق للبشر إلا أن يقاوموا:

عندما يأتي رئيس أعتى قوة نيوليبرالية ليعلن انفتاحه على العالم الإسلامي وعن إنهاء المواجهة بينه وبين الغرب الليبرالي ("باراك حسين أوباما"، خطاب "البداية الجديدة" A New Beginning في جامعة القاهرة 4 جويلية 2009)، فهو لا يعلن بذلك عن انفتاحه (ما-بعد-حداثيا) على ثقافات الشعوب المسلمة المتنوعة تنوّع أشكال وألوان الفسيفساء، بل هو يعلن في كلام يتوارى متقنّعا وراء قيم الديمقراطية الليبرالية الإنسانية عن صفقة التحالف الاستراتيجي بين المنظومة النيوليبرالية العدمية والإسلام السياسي. ويعرف الجميع ما تلا ذلك من هبوب رياح ما يسمى بالربيع العربي التي هي ليست شيئا سوى محاولة تجسيم هذا التحالف على ارض الواقع. فهل يفلح هذا التحالف المدمّر في الإبادة الثقافية للشعوب وفي كبح إرهاصات الديمقراطية الكامنة فيها؟ سيكون على هذا التحالف أن يكسر شوكة الزخم الحداثيModerniste  ومابعد-الحداثيPost-moderniste  والحداثي الغيري Alter-moderniste  بل والهوويIdentitaire  أيضا الذي لا يزال صامدا صمودا ملحميّا في العالم وفي المنطقة. فلا تزال مسارات الحداثة مجتمعة تتفاعل فيما بينها لتشكيل عالم إنساني ولمواجهة العدمية النابعة من داخلها أو الناتجة عن نكوصها، ولكن سيأتي اليوم الذي يدرك فيه الجميع أن الإنسانية لا تتحمل ذلك وأن المكان الوحيد الذي يليق بمن يستهتر بحقوق البشر الكونية أو بالتاريخ الذي راكمه هؤلاء البشر ولا يزالون، هو مزبلة التاريخ.

[1]  " ودبلوماسية القوى السبع العظمى، وخاصة الدبلوماسية الأمريكية، تعرف جيداً ماذا تفعل عندما تؤيد الإسلام السياسي. فقد فعلت ذلك في أفغانستان، وأطلقت على الإسلاميين هناك إسم "المحاربين من أجل الحرية"! ضد الديكتاتورية الشيوعية الفظيعة، مع أن النظام الذي كان قائماً هناك، كان مجرد محاولة لإقامة نظام استبدادي مستنير حداثي وطني شعبي، كانت لديه الجرأة لفتح أبواب المدارس للبنات. وهي مستمرة في هذا التأييد من مصر الى العراق، لأنها تعلم أن الإسلام السياسي سيحقق -لها- إضعاف مقاومة الشعوب المعنية، وبالتالي تحويلها الى الكومبرادورية."

[2] « En Tunisie, en Egypte, en Syrie... ne stigmatisons pas a priori tous ceux qui se qualifient d'islamistes. Il y a des gens attachés à l'islam et en même temps prêts à accepter les règles de base de la démocratie. »