التنمية السياسية ـ رشيد اليملولي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Anfasse02127  يقصد بالتنمية السياسية مجمل القيم و التصورات و الأفكار و الاتجاهات ، التي تؤسس للنهضة و القطيعة مع عوائق و معيقات الارتداد ، في سبيل تأبيد و استدامة السلطوية و الميتافيزيقا ، و المطلق و داء التراث ، عبر التوسل بخطاب يمتح خصوصيته من مجال الفتنة و الرهاب من الاختلاف و من الأفق .
لذا ؛ يكتسي مفهوم التنمية السياسية بعدا حضاريا من خلال قدرته على تقديم بدائل الرقي و البناء ، بعيدا عن الصيغ و القوالب الجاهزة ، و استحضار القيمة الإشكالية للبناء و إعادة البناء ، انطلاقا من الهاجس و البعد التنموي ، الذي يرفض المحافظة و التقليد و المحاكاة ، و يستثمر البعد الخلاق للرصيد الحضاري لدى الشعوب التي حققت النقلة و الطفرة المرجوة .

    يتركز المستوى النوعي للرؤية السياسية على سمات و خصائص و مستوى تطور المجالات الأخرى ؛ إذ تبطن هذه الرؤية مضامين اجتماعية و اقتصادية و حقوقية و ثقافية و تربوية و إدارية [1] ، لذا ركزت نظريات التحديث و التنمية السياسية على أن التنمية متغير مستقل ، و الديمقراطية متغير تابع ، ذلك ما يفيد أن تحقق الديمقراطية يتأتى انطلاقا من شروط النمو الاقتصادي و التعليم و الصحة و الثقافة المدنية [2] ؛ بمعنى أن الديمقراطية السياسية مرهونة بالمشروع المجتمعي الذي يقف فيه مفهوم الإنسان مقياسا لنظام القيم و العقل و العمل و الإنتاج و المعرفة ، إنسان الحضارة و الثقافة و التمدن [3] ، بعيدا عن التوظيف الأداتي لمفهوم الديمقراطية ، أي إرجاءها أو تعطيلها تحت مبررات الخصوصية الدينية أو الثقافية ، عن طريق فتح هوامش ضيقة للحرية و المساواة ، أو ببناء أجيال ضعيفة الوعي ضحلة النضج [4] ، و هو ما صاغ التخلف باعتباره قاعدة القمع الاجتماعية التي تنتج أنظمة القمع ، و توطد قيم و مفاهيم و مؤسسات التخلف [5] .


أولت قيادات ما بعد الاستقلال غاية خاصة لإعداد و تنفيذ " مشاريع " تنموية اقتصادية و اجتماعية بهدف تطوير المجتمع ، و أصبحت الدولة المركزية وحدها مسؤولة عن اتجاهات و سرعة و كيفية التغير الاجتماعي [6] ، و قادت هذه العملية إلى تكلفة سياسية باهضة حيث كرست التسلط و احتكرت السياسة و السلطة بناء على اقتناعات طائفية أو عائلية أو سلالية ، همشت سائر التعبيرات السياسية الأخرى [7] ، و حولت السلطة السياسية و الدولة إلى أداة مضادة للشعب و إلى وسيلة لقمع حرياته و كبح طموحاته [8] ، و قعدت لقيم تربوية مفادها أن السياسة من اختصاص الحاكم باعتباره الراعي و الناس الرعية ، و هو السائس و الناس موضوع سياسته ، ليس من حق أحد أن يخوض في السياسة سرا أو علانية [9] ، و ليس من شك في أن الجانب السياسي في الحضارة الإسلامية كان أضعف جوانبها في الممارسة المؤسسية و الواقعية ، حيث كان يقف على طرفي نقيض مع المثال الإسلامي للمجتمع السياسي [10] ، بل و حتى في لحظات الانتقال السياسي ـ تغير الفاعلين ـ لم يواكب ذلك تغير أو تحسن في المسلكية و الأداء السياسي .

أجل هذا المسار مطلب الديمقراطية و عدها دون قضية التنمية ، إذ لا مشاحة في أن الديمقراطية شرط التقدم و ضمان استمراره ، و التقدم شرط ازدهار الديمقراطية و تطورها [11] .

    أفصح زمن الانتقال السياسي الذي عبرت عنه الحركات الاجتماعية و السياسية فيما سمي بالربيع الديمقراطي عن الحاجة إلى ثقافة ديمقراطية ، بعد أن تأكد أن ميلادها لا يتحقق بمجرد إسقاط نظام سياسي ، ما دامت البنية الثقافية و الاجتماعية النابذة لهذا المشروع المجتمعي ، ما تزال تمثل واقعا كابحا يجثم بظله على مختلف مجالات الاجتماع السياسي [12] ، و أبان أن إمكانات إسقاط نظام سياسي " أسهل " من بناء نظام ديمقراطي ، و أفرزت هذه اللحظة كذلك نزوعا نحو مأسسة التسلط و ترسيخ العنف ، مستفيدة أساسا من النسيج الاجتماعي الهش و النقص الحاد في الوعي بقيم المواطنة و الاندماج ضمن فلسفة الاختلاف المكونة للبنية الاجتماعية الوطني ، إذ تشير معطيات الحراك الراهن إلى استمرار هيمنة النسق نفسه ، و تجديد و تجدير أساليبه و " قيمه " الخاصة ، بعناوين تحرير الشعوب و نشر الديمقراطية  و العدالة و الحرية ، و لا شك أن الايديولوجيا المهيمنة تعمل على حماية النسق و ضمان استمراريته ، و طبيعي أن تروم من وراء ذلك ضمان مصلحة الفئة المهيمنة ، و إقناع الفئة المهيمن عليها بالقبول و الانصياع [13] ، يفضي كل ذلك إلى تكريس ديمقراطية منغلقة في أحسن الأحوال ، ديمقراطية مسمومة تضيف الدولة و السلطة الدائرة في فلكها إلى قائمة الدول الفاشلة تنمويا و سياسيا [14] ، و إعادة إنتاج الإعاقة و الإسهام في تقعيد التقليدانية و توظيفها في إعادة الإنتاج الاجتماعي و في سير الدولة و مؤسساتها و في اشتغال نظام إضفاء المشروعية [15] .

   لا غرو ، أن عملية التغيير الساعية إلى بناء الديمقراطية لا يمكن أن تتم إلا بالطرق السلمية و المدنية [16] ، و التي يلعب فيها العامل الذاتي دورا حاسما و موجها من خلال الوعي و الإرادة و التنظيم ، و يؤمن فيها بالتشكل و النمو و التطور وفق ما تقتضيه هذه العملية من إيمان بقيمة التراكم و النسبية التي لا تمارس السحر على الواقع الاجتماعي ، بقدر ما تقدم إمكانات النقد و تعرية اشتغال المطلق و تمركز المتعالي و تمأسس الأسطورة [17] ، كل ذلك بغاية نسج مقومات الفكر الاختلافي ، و إدماج مكوناته في الثقافة المحلية إلى جانب التسامح حتى يتسنى تقديم إرهاصات المجتمع الديمقراطي و الحقوقي [18] ، الذي يقتضي فتح الفضاء العمومي على قيم الصفح و التسامح و العفو و الغفران و الرحمة ، و التي تعد قيما مثلى لتحرير الإنسان من جراحات الذاكرة و محن التاريخ و إهانات الذات الناتجة عن الطغيان و الاستبداد [19].

   يقوم العبور من التفكك و التسلط إلى النهضة و التنمية السياسية ضرورة على تثوير العمران السياسي ، باجتراح الأدوات المناسبة و الناجعة لتدبير التعدد ، و ما ينجم عنه من اختلاف و تباين و تناقض في الرأي و السلوك [20] ، و لن يتحقق هذا الهدف إلا بالإصلاح الديمقراطي لمؤسسات الدولة ، و الذي يعد مدخلا أساس لإنجاز أشكال التحديث الأخرى اجتماعيا و دينيا و تربويا [21] ، بغاية تحصين الدولة و المجتمع عن طريق ضمان توسيع دائرة الحريات و تأصيل القيم المرتبطة بها في الفكر و الممارسة على صعيد البنية السياسية و الثقافية [22] .

يروم السعي نحو النمو و التقدم و التحديث إشراك كافة المكونات المعبرة عن النسيج الاجتماعي في مجمل مراحل البناء من صياغة الخيارات إلى الإنجاز مرورا بالتقييم [23] ، و إتاحة شروط الإبداع بتوفير الفضاء الأمثل لممارسة النقد الخلاق ، و خلق المثل الثقافية و الأخلاقية و العلمية الداعمة للثروة بالمعنى المادي و الرمزي [24] ، في هذا السياق يستوجب النظر إلى فعاليات المنظمات غير الحكومية بوصفها مدخلا هاما لتعلم الديمقراطية و تنمية و ترشيد المشاركة السياسية و الاجتماعية بين أفراد المجتمع [25] ، عن طريق توسيع القاعدة الاجتماعية المناصرة لقيم المشروع المدني بمراجعة محتوى التعليم و منهاج التربية ، لا الاكتفاء فقط بنشره و تعميمه ، هذا التفكير يفضي إلى إقامة التوازن بين حق الأفراد و حق الأوطان ، و التمييز بين نقد الدولة و الدفاع عن نظامها ، و عقلنة ممارسة سلطتها ، و بين السعي لنقضها من الأساس [26] ، حتى و إن توفرت الضمانات الدستورية ، فهي غير كافية للحفاظ عن الحق و الواجب ، و إتاحة سبل امتلاك الفضاء العمومي ، و حماية المجتمع المدني من أي تحريف [27] ؛ إذ تكاد تجمع أدبيات التنمية على أن نمو و ازدهار العمل غير الحكومي هو بمثابة المقياس الدال على مدى نضج العلاقات الاجتماعية و عقلانيتها ، و مؤشر معبر عن درجة تعانق السياسة بالمجتمع ، بل إن نضجه ـ المجتمع ـ يعطل لجوء الدولة للقهر ، و يحول دون تغيير السلطة بوسائل عنيفة ، و يجعل التغيير الاجتماعي مشروط بتغيير ثقافي و ذهني و نفسي طويل الأمد [28] .

   أبانت تجربة المغرب في الانفتاح على المجتمع المدني عن مفارقة ثقافية و سياسية تتجلى في درجة الإحراج السياسي و ليس الاقتناع الموضوعي ؛ حيث أن التجربة المشخصة و الحياة الفعلية تنبئ عن استمرار التأجيل و البطء في إنزال و إقرار الحداثة السياسية و مستلزماتها الثقافية و المعرفية ، إذ يجري تبيئة و تشييد المجتمع المدني خارج المجال السياسي و المدني و ضدا عليه ، و داخل النفوذ و القالب المخزني في أبهى تجليات التقليدانية ، وإن كانت الهرولة وراء تبني العديد من الاتفاقيات الدولية و المشاريع القطرية ، فهي موجهة أساسا لتسويق الصورة في المنتظم الدولي و تكريس خطاب الاستهلاك الداخلي ، حيث لم تتحول السلطة بعد إلى ملك عمومي خاضع للتدافع السياسي الحر و المشروع في المجال العمومي المشترك بعيدا عن كل مظاهر الاحتكار الاستبدادي و الاستئتار الفئوي و الفردي [29] ، الشيء الذي أهلها لاحتكار ما يمكن تسميته " حقيقة السلطة " [30] ، في إطار من قبضة الدولة الصارمة التي أفضت و بشكل لافت إلى " دولنة " المجتمع برمته و في جميع مجالاته [31] ، و أفقدت التعددية السياسية ( التفريخ السياسي أكثر تحديدا ) دورها في صياغة مقومات الحياة السياسية الدالة على التنوع ، و حولتها إلى تعددية حسابية عاجزة عن تجاوز القبلية و التحيزات و الولاءات العشائرية ، و بل و أمعنت في تهميش الرأي المخالف و المعارضة الحقيقية ، و ابتلعت المجتمع المدني و حاصرته في العديد من المشاريع بهدف شل حركته [32] ، و يكفي أن نورد في هذا الصدد تقرير معهد ليغانتوم البريطاني للدلالة على الحصيلة الهزيلة ، فقد أوضح أنه على الرغم من أن المغرب يعد بلدا آمنا بالمقارنة مع بلدان شمال افريقيا ، إلا أنه في التصنيف جاء بعد تونس التي تعاني من تراجع أمنها و اقتصادها ، حيث أكد على تراجع الحكامة و سيادة القانون و الديمقراطية إلى جانب تراجع الرأسمال الاجتماعي [33] .

   تقوم نظرية الديمقراطية أولا و التنمية ثانيا على نوعية النظام السياسي ، ليس بصورته المؤسساتية فقط ، و إنما بتصنيفه العامل المتحكم في مستوى الأداء الاقتصادي و الاجتماعي ، الذي يجعله دائما مستعدا للاستجابة لحاجة الجماعات الاجتماعية ، إضافة إلى خصائص أخرى من أهمها المساءلة و تدفق المعلومات و الشفافية و الملاءمة [34] ، فحسب تقرير التنمية البشرية لسنة 2002 ؛ نجاح التنمية هو قضية سياسية و اقتصادية حيث أن التقليص المستدام للفقر ، يتطلب التأسيس لحكم ديمقراطي مرسخ في كل مستويات المجتمع [35] ، إلا أن التأكيد سرعان ما يخبو خاصة في بلدان " التحول " ، و التي رغم الشعارات المرفوعة لم تحقق تحسنا كبيرا في مؤشرات الحوكمة ، و هي السيطرة على الفساد و فعالية الحكومة و إبداء الرأي و المساءلة ، ذلك ما ينطبق على كل من مصر و الأردن و المغرب و تونس و اليمن [36] ، فعلى مستوى المغرب تشير المعطيات إلى مزيد من التراجع في المجال الحقوقي و السياسي منها ارتفاع حالات الاعتقال السياسي سنة 2014 و التي وصلت إلى 251 حالة [37] ، و إلى حدود اللحظة لم تنفذ الأرضية المواطنة للنهوض بثقافة حقوق الإنسان التي أعلنت عنها الدولة رسميا سنة 2008[38] ، بالإضافة إلى عدم مكافحة الإفلات من العقاب ، و ترشيد الحكامة الأمنية ، و قد تصل بعض المؤشرات إلى حالات سريالية ، حيث لا تتوفر مثلا 12 جهة على جهاز الفحص بالصدى ، كما أن جهة كلميم ـ السمارة لا تتوفر على مختبر للتحليلات الطبية [39] .

    خضع المجال السياسي رغم " التحديث " الذي طاله من ثقل الموروث العصبوي و سياسة التغلب ، و التفاوت في مستوى مشاركة الجماعات الاجتماعية في السلطة ، إلى منطق في التفكير و الممارسة مفارق ؛ حيث أن الخيار لازال قائما بين الفتنة و الاستبداد و ليس بين الحرية و الاستبداد ، حسب ما يشي السياق الذي رافق " طحن " بائع السمك بالحسيمة ، لدرجة أصبح الدفاع عن العقل في نظر البعض هو عين الخروج عن الشرعية السياسية و الدينية ، و تأويل هذا القول سياسيا ، لا يعني سوى الاستبداد و أساسه شعار " طاعة الإمامة واجبة " [40] ، و هذا ما يدل أن الفاعل السياسي و المدني السلطوي ، قد نجح في التعبير عن عوزه و مقدرته و براعته و حنكته و حصافته في فبركة مجال عمومي هش و مسموم من خلال إشاعة مقولة الفتنة بوصفها أيقونة تلازم كل تمرد أو احتجاج ، مهما كان وجيها ، و هذا ما يعد امتدادا لردم و تدمير ثقافة الاختلاف و عسكرتها ، و خنق المثقف الحالم منذ اغتيال المهدي بن بركة [41] ، و تصوير المحتج سياسيا و كأنه عدو ديني عبر إلصاق صفة الفتنة به ، ذلك ما يحيل أن الدولة استعانت من جديد بمقومات التقليد و النخب المرتبطة به، قد يفسر ذلك بخطر الارتداد ، و التراجع عن المكتسبات التي راكمها المجتمع الحقوقي و السياسي على السواء ، و يؤدي إلى مزيد من تنصل الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية كما حصل في ملفات صندوق المقاصة ، و صندوق التقاعد و التوظيف بالتعاقد ، و الاقتطاعات ، كل ذلك يجري أمام فاعل سياسي لم يتمكن بعد من استنبات مقتضيات المواطنة و النفح عنها ، و ترسيخ القيم النضالية و الذود عنها بعقلنة الصراع و تدبير مستلزماته ، إلا أن اللافت هو فرملة أطياف الضغط السلمية ، و تحويلها إلى عدو سياسي و الالتفاف على مطالبها ، في ظل تنامي " سطوة" الملكية على كل المبادرات الداعمة لامتدادها الاجتماعي و مشروعيتها السياسية ، باحتكار سلط الامتداد الرمزي و المادي ، في وقت لا يعير الفاعل السياسي أي اهتمام لعامل الزمن سواء من خلال صراعاته الفارغة [42] ، أو في تشكيل جبهات موازية و خط نضالي و طني من أجل ترسيخ قيم التنمية و العدالة الاجتماعية .

قد يدين ضعف الفاعل السياسي إلى افتقاره لمقومات العمل في استقلال عن الارتباط بالدولة ( التمويل ) ، و قد يرتد إلى السياسة الإعلامية المتبعة في العالم العربي التي تنتمي قلبا و قالبا لأجهزة الرأي الواحد ، الذي يسمع و يرى دون أن ينتقد ،خاصة و أن هذه الأنظمة من عادتها عدم تشجيع الرأي المخالف و المشاركة المطلوبة هي التأييد ، ما قد يعني تصفية المعارضة السياسية ، و استئصال عوامل المقاومة ، من خلال تأبيد صورة النظام و خيرية السلطة ، عن طريق البرامج المعدة لهذا الغرض ، و هي من أشكال الأقصاء الرمزي القائمة على فرض وقائع متخيلة على الواقع ، و اسئصال كل صيغ المنافسة بغية الاستئثار بالواقع و الإمساك بخيوطه و تلابيبه ، غير أن إلغاء الدور النوعي للمعارضة ، جعلها تبحث عن أشكال أخرى ، استعاضت عنها من أجل تجاوز التهميش ، و أرست ثقافة وسائل الإعلام الجماهيرية التي أضحت رائدة في عملية " التربية " و التثقيف و صناعة الرأي العام [43] ، حسب ما تجسده في المغرب حركة 20 فبراير ، ومجمل الحركات المؤطرة سوسيولوجيا ببراديغم الحكرة و الكرامة و العدالة ، و لعل قضايا " الزفت " المغشوش ، و طحن محسن فكري ، و قائد الدروة وميدلت ، و "مي" فتيحة ، أكبر الرموز الاحتجاجية الدالة على قدرة الميديولوجيا بتعبير ريجيس دوبريه ، على سحب البساط و المشروعية من الإعلام الرسمي ، و الاستعاضة عن التأطير الحزبي و النقابي بالشبكة التواصلية للعالم الأزرق ؛ فقد دلت الاختبارات السمعية البصرية أن استيعاب الفرد للمعلومات تزداد بنسبة 35% عند استخدام الصوت و الصورة و في وقت واحد ، و أن مدة الاحتفاظ بهذه المعلومات تطول في الذاكرة عنذئذ بنسبة 55%[44] ، لذلك لا تدخر وسائل الإعلام السلطوية في تعميم أحكام و تمثلات و أقنومات خفية تخدم ايديولوجيا سياسية محكمة البناء ، و هو ما يتجلى في متابعة كل صغيرة و كبيرة ترتبط بالمؤسسة الملكية في المغرب ، و الترويج لصورة ملك الفقراء ، و "مشاريع " المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ، و لا تأل جهدا في تقزيم الخبر المهم أو تعظيم الخبر الصغير [45] ، و تلوذ بالصمت حيال القضايا الساخنة و الهامش الاجتماعي و القضايا الإشكالية و التنموية ، و ذلك ما يجعل من الايديولوجية الإعلامية الراهنة ايديولوجية ظرفية تفتقر إلى معايير عميقة لا تتماشى مع استمرار غنى الأفكار و تنوعها [46] .

بناء على كل ذلك ؛ المؤسسة الإعلامية وحد سوسيولوجية على غرار الأسرة و المدرسة و المقاولة و الإدارة و منظمات المجتمع المدني ، تضطلع بوظيفة الإخبار و التبليغ و التثقيف ثم التربية و التنشئة و التوجيه و التحسيس و التعبئة [47] ، عن طريق إعداد و تنفيذ و إدارة البرامج التواصلية ذات البعد المجتمعي ، بالالتزام بالقضايا الاجتماعية و الإنسانية ، و الإسهام في تحقيق التنمية الشاملة ، و إشاعة ثقافة المنفعة العامة [48] ، هذه الوظيفة المنوطة بوسائل الإعلام لا تنفصل عن المشروع الساعي إلى بناء ذاته وفق ما تقتضيه أدبيات التنمية المعاصرة ، و ليس ثقافة التوظيف و تسويق النماذج الهشة ، يتأكد ذلك إن نحن استحضرنا أن التحدي الإعلامي الذي يواجه المجتمعات العربية ؛ حيث تنبئ الصورة الإعلامية المرسومة على الساحة الدولية بغياب الأمن الإعلامي ، فأهم وكالات الأنباء العالمية المستحوذة على المشهد العالمي هي خارج المجال العربي [49] ، و هو ما يضطرها إلى استيراد ما بين 40% إلى 60% من برامجها من شركات الإنتاج العالمية [50] ، مع العلم أن 33% من حجم التبادل التجاري العالمي يقوم على تجارة المعلومات [51] ، إضافة إلى أن 80% من الأنباء و المعلومات التي توزع في الوطن العربي نابعة من وكالات الأنباء العالمية [52] ، مرد ذلك أن الإعلام العربي و منه المغربي مسكون بهاجس الخطابة و اليديولوجيا ، و يعاني من ضعف في الأداء و الاستثمار [53] ، و على الرغم من الطفرة الكمية و التنوع الذي يسم المشهد الإعلامي بكل نزعاته الايديولوجية و اختلافاته التعبيرية ، لازال بعيدا عن تجسيد حقيقة السلطة الرابعة ، و لم يرق بعد إلى ممارسة الرقابة الفكرية و الموضوعية على السلطات الأخرى [54] ، فحتى الحملات الانتخابية التي تعرضها وسائل الإعلام المغربية منها بالخصوص توهم المواطن بإمكانية الاختيار الحق ، بينما لا تمثل الفروق بين البدائل الموجودة اختلافا حقيقيا ، إذ إن مضمون الخطاب الإعلامي و السياسي معا ، لا يتعامل مع قضايا الشعب و اهتماماته بالشكل المطلوب ، إذ جرى في الانتخابات التشريعية الأخيرة 2016، تسويق صراعات وهمية بين فرقاء سياسيين لم يستطيعوا تقديم الإضافة اللازمة ، أكثر من ذلك ثم بسط المظلومية و الطهرانية من خلال الدموع ، بوصفها قيم دالة و قادرة على استدرار التعاطف أكثر من الاقتناع ، وتم تداول التنابز بالألقاب و الصفات الفارغة من أي محتوى أو تعاقد ، و إظهار البراءة و التحلل من ثقافة المسؤولية .

أمام هذه الصورة الهلامية و بناء على غياب سياسة إعلامية تكفل الأمن الإعلامي ، استدارت العديد من شرائح المجتمعات العربية نحو وسائل الإعلام الجديدة ( وسائل التواصل الاجتماعي ) ، بهدف الحصول على المعلومة و تشييد شبكة تواصلية ، أدت إلى زيادة منسوب الوعي السياسي لدى الشباب خاصة في تمثل الفروق الشاسعة في المستويات المعيشية و بحجم الفساد و الظلم [55] ، تعكس ذلك العديد من الوثائق المسربة منها " ويكيليكس " ووثائق " بنما " على المستوى الدولي ، ووثائق خدام الدولة على المستوى الداخلي ، بحيث استقت العديد من فئات الشباب تصوراتها و أفكارها من هذه الشبكة ، ووسعت من دائرة حنقها على السلطات الحاكمة حسب ما تجسده على سبيل المثال واقعة العفو الملكي عن مغتصب الأطفال الإسباني " دانييل كالفان " سنة 2013 ، و الذي اغتصب 11 طفلا تتراوح أعمارهم بين 3 و 6 سنوات ن بحيث استطاعت قوى الشباب في العالم الأزرق ، أن تدفع النظام إلى اتخاذ إجراءات أعادت الأمور إلى نصابها ، كما استطاعت هذه الشبكة أن تتفاعل مع العديد من القضايا التي تزعمتها الحركة الاحتجاجية بدءا بحركة 20 فبراير ووصولا إلى قضية محسن فكري بائع السمك في الحسيمة في خريف 2016.
 لذلك ، يقاس الأمن الإعلامي بإشراك كافة الحساسيات النقدية و الثقافية ، و توسيع مشاركتها بناء على مشروعية أفكارها ، و ليس بناء على موقفها و موقعها السياسي و العقائدي ، و خلاف ذلك يؤسس لسياسة التهميش الشديدة الارتباط بنظام الشرعية السياسية و الاجتماعية ، و تأجيل مطلب التنمية السياسية .
 ـ جاد الكريم الجباعي ، أفكار أولية في الديمقراطية ، مجلة الوحدة ، س4، ع 46/ 47، 1988، ص  165 .[1]
 ـ رضوان بروسي ، جدلية العلاقة بين الديمقراطية و التنمية ، مجلة المستقبل العربي ، ع 409، مارس 2013، ص 17.[2]
 ـ جاد الكريم الجباعي ، أفكار أولية في الديمقراطية ، ص 167.[3]
 ـ فهمي جدعان ، نحن و الديمقراطية ، عالم الفكر ، ع 29 ، يناير ـ مارس 2001، ص 158.[4]
 ـ ناجي علوش ، خطرات حول أزمة الفكر السياسي العربي ، مجلة الوحدة ، س 4 ، ع 46ـ 47 ، 1988، ص 211.[5]
 ـ مصطفى عمر التير ، دور المثقف في تحديث المجتمع العربي ، مجلة الوحدة ، س 6 ، ع 66، 1990 ، ص 42.[6]
 ـ مركز دراسات الوحدة العربية ، المشروع النهضوي العربي ، مجلة النهضة ، ع 11 ، شتاء ـ ربيع ، 2016 ،ص 190.[7]
 ـ فهمي جدعان ، المرجع السابق ، ص 144.[8]
 ـ نحيل على مجمل المنتوج الخاص بالآداب السلطانية .[9]
 ـ محمد جابر الأنصاري ، التأزم السياسي عند العرب ، ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، 1995، ص 9.[10]
 ـ جاد الكريم الجباعي ، المرجع السابق ، ص 164.[11]
 ـ نبيل فازيو ، الديمقراطية في الفكر الفلسفي المغربي ، مجلة النهضة ، ع11، شتاء ـ ربيع 2016، 2016 ، ص 93.[12]
 ـ ادريس هاني ، الايديولوجيا بين الحقيقة  و الزيف ، مجلة عالم الفكر ، يناير ـ مارس ، الكويت 2008، ص 231.[13]
 ـ رضوان بروسي ، المرجع السابق ، ص 51.[14]
 ـ أحمد الحارثي ، تأملات حول المؤسسة الملكية المغربية ، مجلة نوافذ ، ع 24 ، أكتوبر 2004، ص 13 .[15]
 ـ عبد الإله بلقزيز ، الديمقراطية و الحرب الأهلية ، مجلة النهضة ، ع11 ، شتاء ـ ربيع 2016 ، ص 77.[16]
 ـ عبد اللطيف الخمسي ، في ضرورة فلسفة الاختلاف ، مجلة الأزمنة الحديثة ، ع 11 ، شتاء 2015 ، ص 82.[17]
 ـ يوسف زرنين ، من فتنة إلى أخرى ، الأصول و الامتدادات ، مجلة النهضة ، ع 11، شتاء ـربيع 2016 ، ص 19.[18]
 ـ زهير الخويلدي ، الذاكرة السردية بين الزمان التاريخي و عدالة النسيان ، مجلة الأزمنة الحديثة ، ع 11، شتاء 2015، ص 21.[19]
 ـ نور الدين العوفي ، اشتدي أزمة تنفرجي ، مجلة النهضة ،  ع 11، شتاء ـ ربيع 2016 ، ص 4 .[20]
 ـ سعيد بوبيل ، المشروع المدني بالمغرب : المحددات و الممكنات ، مجلة الأزمنة الحديثة ، ع 11، شتاء 2015، ص 51ـ 52. [21]
 ـ جاد الكريم الجباعي ، المرجع السابق ، ص 165.[22]
 ـ نور الدين العوفي ، المرجع السابق ، ص 7 .[23]
 ـ محمد شيا ، الثقافة العربية و التحولات العالمية الراهنة ، مجلة شؤون عربية ، ع 75، 1993 ، ص 99 .[24]
 ـ علي الصاوي ، التنظيمات غير الحكومية و التحول الديمقراطي ، مجلة شؤون عربية ، ع 75، 1993، ص 101.[25]
 ـ سعيد بوبيل ، المرجع السابق ، ص 48 ـ 57 .[26]
 ـ محمد بن يعيش ، دور المجتمع المدني في إرساء دولة الحق و القانون ، مجلة الأزمنة الحديثة ، ع 11 ، شتاء 2015، ص 64ـ 67.[27]
 ـ علي الصاوي ، المرجع السابق ، ص 10.[28]
 ـ نبيل فازيو ، المرجع السابق ، ص 108.[29]
 ـ علي كريمي ، الملكية السائدة و الحاكمة ، مجلة نوافذ ، ع 24، أكتوبر 2004، ص 33.[30]
 ـ يحيى بن الوليد ، صور المثقف ، دفاتر وجهة نظر ، ط1 ، 2014، ص 7.[31]
 ـ سعيد بوبيل ، المرجع السابق ، ص 46.[32]
 ـ انظر تفاصيل التقرير في جريدة المساء ، عدد 3129 ، ليوم 5ـ 6 نونبر 2016 ، ص 1.[33]
 ـ رضوان بروسي ، المرجع السابق ، ص 19 .[34]
 ـ نفسه ، ص 24.[35]
 ـ عدنان مزارعي  و توخير مبرزوويف ، أربع سنوات بعد الربيع ، صندوق النقد الدولي ، مجلة التمويل و التنمية ، ع يونيو 2015، ص 56.[36]
 ـ انظر : التقرير السنوي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان ، 2014، الرباط في 30 يونيو 2014.[37]
 ـ نفسه .[38]
 ـ نفسه .[39]
 ـ عبد اللطيف الخمسي ، في ضرورة فلسفة الاختلاف ، ص 85.[40]
 ـ يحيى بن الوليد ، صور المثقف ، ص 91 .[41]
ـ نحيل على جملة الصراعات التي ميزت العلاقة بين العدالة و التنمية و الاستقلال في مرحلة معينة ، ثم بين العدالة و التنمية و الأصالة و[42]
   و المعاصرة في مرحلة ثانية ، و هي صراعات لا ترتبط بما ايديولوجي أو تنموي ، بل صراعات مجانية مجانية لبناء مجال سياسي بناء .
 ـ محمد راتب الحلاق ، أزمة التربية العربية و الأمن الثقافي العربي ، مجلة شؤون عربية ،ع 36 ، فبراير 1984، ص 41.[43]
 ـ سوزان أحمد يوسف القليني ، الاختراق الإعلامي الأجنبي في الوطن العربي ، مجلة شؤون عربية ، ع 70، يونيو1992، ص 71ـ 95.[44]
 ـ محمد شكري سلام ، ثورة الاتصال و الإعلام : من الايديولوجيا إلى الميديولوجيا ، مجلة عالم الفكر ، المجلد 32، الكويت 2003، ص 105.[45]
 ـ نفسه ، ص 92.[46]
 ـ بن صفية عبد اللطيف ، الإعلام المجتمعي : المفهوم و المرتكزات و الرهانات ، مجلة أبحاث ، ع 62ـ 61، 2015 ، ص 95[47]
 ـ نفسه ، ص 97 ـ 98 .[48]
 ـ تيسير أحمد أبو عرجة ، نحو وكالة أنباء عربية مركزية ، مجلة شؤون عربية ، ع 61، مارس 1990، ص 91[49]
  يذكر أن أهم وكالات الأنباء العالمية التي تسيطر على المشهد الإعلامي العالمي و هي وكالة الأنباء الفرنسية ، ورويترز البريطانية ، و الأسوشيدرس الأمريكية ، و اليونايتد برس الأمريكية ، ووكالة تاس الروسية .
 ـ نفسه ، ص 71.[50]
 ـ نفسه ، ص 81.[51]
 ـ ابراهيم إمام ، المواجهة العربية للاحتكارات الإعلامية الدولية ، مجلة المتقبل العربي ، س 3 ، ع 22، 1980 ، ص 46 .[52]
 ـ محمد شكري سلام ، المرج السابق ، ص 83 .[53]
 ـ نفسه ، ص 115.[54]
 ـ ديفيد بلوم ، شباب على المحك ، صندوق النقد الدولي ، مجلة التمويل و التنمية ، مارس 2012، ص 7.[55]