الدخول الثقافي الجديد ـ هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse110111كل الدول وكل الأمم تتقدم بثقافتها وفكرها، تساهم في العالمية بما جاد به فلاسفتها وعلماؤها ومفكروها، قبل سياسييها ورجال دبلوماسيتها، لهذا فإن كل أمر للنجاح مشروط سلفا بالانطلاق من الثقافة ليس كترف غالبا ما يتذيَّلُ قائمة رغباتنا، وإنما كسلاح للوقوف عند نقط ضعفنا، عند حاجياتنا، وعند أسباب جمودنا، الثقافة ثقافتان، ثقافة تضرب في جذور الماضي من خلال مجموع الأنشطة المعتمدة من طرف الأفراد، والمتعلقة بنمط عيشهم من مأكل وملبس وأعراف ومعمار وهي التي يمكن أن نطلق عليها اسم: الثقافة الاعتباطية، أما على جانب آخر فيمكننا الحديث على الثقافة الثانية وهي الموسومة بالثقافة العالِمة أو الثقافة المعرفية، والمحددة بالتدقيق في مظاهر جمة من قبيل البحث العلمي، والتربية والتكوين، إضافة إلى الصناعة الفنية والإبداعية بشتى أنواعها، لهذا فكل خلط بين الثقافتين هو بمثابة تغريد خارج السرب.
    لكل أمة اليوم ثقافتها الخاصة التي تعمل على تكريسها لناشئتها المحلية، كما تعمل أيضا على تصديرها إلى باقي الأمم، والثقافة هي الأخرى تحتكم بشكل أو بشكل آخر لمنطق الطبيعة الأول، حيث الثقافة القوية تأكل الثقافة الضعيفة، بل إن العالم اليوم بات يعيش حرب الثقافات فيما بين الدول، لدرجة حديثنا على الاستعمار الثقافي أو قل على الاستلاب الثقافي، قد يحدث ذلك باسم العولمة، كما قد يحدث باسم الغزو الثقافي من خلال فكرة الإغراء، لكن الهدف واحد يكمن في انقضاض كل ثقافة على الثقافة الأخرى.
 

   ما الثقافة التي استطعنا أن نكرسها محليا؟ وما الثقافة التي نعمل على تسويقها للتعريف بموروثنا وتاريخنا؟ قد يأخذ هذا السؤال وجها آخرا عندما نتوجه إلى مغربي في الشارع نسأله على خاصياتنا الثقافية، حيث ستكون النسبة الطاغية من الناس غير قادرة على تقديم جواب مناسب، في حين أن الواقفين على الشأن الثقافي بالمغرب يكادون أنفسهم غير قادرين بتاتا على استيعاب معنى الثقافة ودوره الكبير في تحريك عجلة البلد نحو الأمام، والبيِّنُ على ذلك هو الوزن الذي تحظى به وزارة الثقافة أمام باقي الوزارات، سواء من خلال الميزانية المعتمدة أو من خلال التقزيم الإعلامي الذي ينتصر لوزارات على حساب أخرى، ومنه وانطلاقا من هاته المظاهر فإن رجل الشارع كما المسؤول لن يجدا نفسيهما قادران على تعريف سديد للثقافة، وعليه وبطريقة ساخرة جدا نسوق ثقافتنا ـ كنتيجة لما تم ذكره ـ أو نحصرها فقط في الشاي والجلباب والطربوش الأحمر والنقش بالحناء ومواسم "التبوريدة"... وهي أمور تثير السخرية أكثر مما تجذب الآخر، فما بالك باحتلاله ثقافيا مثلما احتلنا هو الآخر على هذا المستوى.
    لا يختلف اثنان أننا نعاني اليوم من معضلة الفقر الثقافي، حيث بتنا قبلة وتربة خصبة لاعتناق أفكار غريبة عنا جدا، كما بتنا مستهلكين لثقافات بذيئة تؤثر على إرادتنا وتقتل فينا حس الوعي مقابل تكريس حس الترف الزائف، قد يبدو الأمر سهلا جدا بيد أنه ينخرنا على نحو كبير ومن حيث لا ندري، والدليل على ذلك هو نقاشات شبابنا الذين هم عماد المستقبل في الجامعات كما في الثانويات، وفي المدارس العليا كما المعاهد، والحال أن هناك جملة من العوامل المتسببة في هذا الشأن، من قبيل التعتيم الإعلامي بأنواعه، فلنعد مثلا لبرامجنا التلفزية كي نحصي عدد البرامج الثقافية منها، ولنعد للبرامج التي تستضيف ما يعتقد أنهم نجوم كي نحصي عدد المثقفين منهم، طبعا لن نجد أحدا على غرار القنوات الكبرى التي تعطي مكانة لمثقفيها، ذات يوم سألت قسما أدبيا في التعليم الثانوي التأهيلي عن مدى إلمامهم بالأدب المغرب، فكانت النتيجة صادمة إذ لا أحد أعطاني ولو اسما واحدا لأديب مغربي، دون الحديث على أعماله طبعا، عندها تيقنت أن الدولة التي تقدم نموذجا لهؤلاء التلاميذ، هي نفس الدولة التي ستكون منبعا للفكر المتطرف بشتى تلاوينه، وهي نفس الدولة أيضا التي باتت مستعمرة ثقافيا من طرف الفكر الوهابي والثقافة التركية من خلال مسلسلاتها التافهة، حيث سيسترسل التلميذ في إعطائك أسماء أبطال تلك المسلسلات وعلاقاتهم الغرامية وهلم جرا.
    سنكون أكثر واقعية على صعيد آخر، عندما سنسأل القائمين على الشأن الثقافي عن برنامجهم السنوي لهذا الموسم، مع ضرورة تقييم علمي وعملي للسنة الفارطة كي لا نسقط في نفس معضلاتها، ربما سنترك هذا السؤال إلى معرض آخر، بما أن له حديثا ذا شجون، عائدين إلى الأسباب المساهمة في انحطاطنا الثقافي المزمن، فإذا كانت لسياستنا كبير مسؤولية على ذلك ناهيك عن إعلامنا، فإن للمدرسة هي الأخرى كبير نصيب في هذا الشأن، حيث لم تبرمج وزارة التربية الوطنية لحد الساعة حصصا للقراءة الحرة، ومقررات حية تربي فينا الحس الخلاق، معوضة إياها بمقررات تقتطف نصوصها مما جادت به كتابات المشارقة، كأن لا كتاب لدينا ولا مفكرين من طينة المشرق مما يدل بطبيعة الحال على استلابنا وعلى كوننا أمة لا زالت مستلبة ثقافيا.
    إن أكبر خدمة يمكن أن نسديها للشأن الثقافي بالمغرب، هي ضرورة الوعي بمكانته، حيث كل العصور المزدهرة وعلى مر الأزمان لم يكن وراء نجاحها سوى مثقفيها ومفكريها، فلماذا لم نفكر مثلا في إنشاء مركز ثقافي مغربي في دول المعمور على غرار المراكز الثقافية المتواجدة بين ظهرانينا؟ نعرف من خلاله بثقافتنا المتنوعة الضاربة في جذور التاريخ ابتداء من الوندال والإغريق والرومان وصولا إلى اليوم، ولماذا لا نشجع ناشئتنا على القراءة منذ الصغر تفاديا للنسبة المخيفة التي باتت لصيقة بنا؟ آنذاك وآنذاك فقط سنعرف أن الثقافة هي المبتدأ والمنتهى، عندها وبدل التسويق لبرامج تافهة ولمقررات أكثر فقرا، سنكون قد بنينا جيلا قادرا على تحقيق النهضة المغربية بسواعد العلم والإرادة وليس بالعقول المتحجرة الغائبة تماما على حب النجاح والأمل.