ما بعد الديمقراطية ـ إيمانويل طود ـ تقديم و تعليق: د. حميد لشهب

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

7041339-handprintيستهل الكاتب إيمانويل طود Emmanuel Todd مؤلفه بانتقاد لاذع لساركوزي و أسلوبه في الحكم و سلوكه اليومي العادي، مؤكدا على اختلاط اللعبة السياسية بفرنسا و عدم إمكانية التمييز بين اليمين و اليسار و هيمنة المصلحة الخاصة، و خاصة المادية منها، على حساب الوفاء للحزب أو لمبادئ أيديولوجية و سياسية بعينها. و يعبر هذا في العمق في نظره على النهاية الفعلية للأيدلوجيا: "إن زمن ساركوزي هو حقبة غريبة انفجرت فيها  الإتفاقات السياسية و اختفت فيها العادات الأيديولوجية و سقطت الكرامة في غيبوبة ...  فاستقطاب اشتراكيون كإريك بيسون، جون بيير جويي، برنارد كوشنير و جون ماري بوكل أو شخصيات تعد على اليسار كفضيلة عمارة و مارتين هيرش كانت بمثابة صاعقة بالنسبة للحزب الإشتراكي"[1] .
و إذا كان ساركوزي، على حد تعبير الكاتب، يمثل نموذج السياسي اليميني الذي يعمل جاهدا من أجل انحلال الأيديولوجية السياسية، فإن "سيجولين روايال" تمثل نفس الشيء في القطب الإشتراكي: "لا يجب تصور سيجولين روايال و نيكولا ساركوزي في معزل عن بعضهما البعض: إنهما يشكلان مترادفينْ tandem، أي يجران العربة معا الواحد بعد الآخر. لا يعتبران في نظر المؤرخ و السوسيولوجي إلا أعراض إضافية لحالة فراغ أيديولوجي عام و للصعود القوي لقوى سلبية ضد الديمقراطية"[2].


ينطلق الكاتب من أطروحة مفادها أن انتخاب ساركوزي كرئيس رغم سوء أخلاقه العامة و دنو مستواه الثقافي يعبر في العمق عن المستوى العام الذي وصلت إليه فرنسا أخلاقيا و ثقافيا[3]. و على الرغم من أن هذا التعميم غير موضوعي و مغالى فيه، فإنه يتضمن الكثير من الصواب، على اعتبار أنه يمثل الوجه الأسود للمجتمع الفرنسي و مستوى اللامعنى و اللامبالات الذي وصل إليه توريث شرعي لثورة غيرت جذريا ليس فقط فرنسا، بل أوروبا و العالم معها. و التشخيص الموضوعي الذي ينجح فيه "طود" هو تأكيده على الأزمة العميقة التي وصل إليها المجتمع الفرنسي: " إن مجتمعنا في أزمة و مهدد بأن ينتهي الأمر فيه إلى المزيد السوء في اتجاه الفقر و اللامساوات و العنف و التقهقر الثقافي"[4]، بل أكثر من هذا فإنه يؤكد على أن فرنسا مريضة: "إن المجتمع الأحمق هو الذي يقدر اعتبار رئيس أحمق إنسان عاديا. لا يجب لأي نقد و لو كان أقصى ما يكون أو يعمينا عن أنفسنا بذاتها. إن هذا الرئيس هو الحجة على أن فرنسا مريضة"[5].

و بما أن كل تشخيص ينطلق من ملاحظة مجموعة من الأعراض غير العادية في الشخص أو في مجتمع ما، فإن طود ركز تحليله على خمسة أعراض رئيسية، تشكل على العموم أزمة فرنسا حاليا.
ـ تفكك الفكر الذي يقود إلى الفراغ الأيديولوجي و الديني في فرنسا.
ـ الضعف الفكري الناتج عن كساد التربية المؤسساتية بما فيها المدرسة، و هو كساد يعري عن أزمة حقيقة للديمقراطية.
ـ العنف و هو الذي يعبر عن البعد السلبي للديمقراطية.
ـ حب المال كظاهرة سلوكية و نتائجه على مصير الإقتصاد عالميا.
ـ التزعزع الوجداني و العائلي، حيث يكمن انحراف أنثروبولوجي طويل، سبب على المدى الطويل أيضا انحرافا سياسيا و اجتماعيا.
تشكل هذه الأعراض في نظره، و هناك أعراض أخرى من طبيعة الحال، أزمة النموذج الديمقراطي الفرنسي، و هي أزمة تهدد حسب طود استمرارية هذه الديمقراطية و إمكانية القضاء عليها دون رجعة، إذا لم يعمل المرء على تدارك الموقف و حث السير في طريق إصلاح ما يمكن إصلاحه قبل فوات الأوان.

الفراغ الروحي
يعتبر عام 1791 حاسما في تاريخ المسيحية في فرنسا. ففي هذه السنة ظهرت الملامح الأولى للخارطة الدينية ـ المسيحية الفرنسية بشكل ملفت للنظر. و هي خارطة حددت البنية السياسية لهذا البلد و أثرت فيها على امتداد قرنين من الزمن إلى الآن. و من المعلوم أن الشرخ في الكنيسة الفرنسية قد حدث سنة 1790 عندما طولب رجال الدين بالإلتحاق بالثورة. من طبيعة الحال كان منهم من قبل و آخرون رفضوا، ومثّل الرافضون فيما بعد ثكنات أحزاب اليمين. ففي الوقت الذي تحررت فيه مناطق فرنسية بأكملها من جبروت الكنيسة، ظلت أخرى وفية لها: "وجدت فرنسا المحررة من المسيحية في وسط البلاد في حوض باريس الذي امتد على عمود من منطقة الأردين إلى بوردو، و هو عمود يجب أن نضيف له القسط الأوفر من الواجهة المطلة على البحر الأبيض المتوسط. و تكونت فرنسا التي بقيت وفية للكنيسة من مجموعة من المناطق الهامشية في الغرب و الشمال و الشرق و في massif central و الجنوب الشرقي"[6]. و لم تفرض الثورة التفريق بين الدين و الدولة في فرنسا إلا عام 1905، كرد فعل على "الخطر" الذي مثله لها الدين و المناطق التي حافظت على المسيحية. انتهى الأمر إذن "بهزيمة" الكنيسة النهائي عام 1965 على عهد الباب بول السادس، و هي هزيمة شملت مجموع الدول الأوروبية. و منذ ذلك الوقت و فرنسا تعيش على إيقاع الأزمة الكنسية، و هذا شيء عادي إذا استحضرنا إلى الذهن تشجيع الناخب المسيحي الذي كان قد اختار عام 1790 الخضوع للثورة الجمهورية للحزب الإشتراكي، بينما استمر اليمين المسيحي في الإختفاء و الضعف إلى أن "احتضر" عام 2002 بعد تأسيس UMP. ما يلفت النظر في نظر طود هو بداية انحلال الشيوعية الفرنسية بعد وقت قصير من انهيار الممارسة الدينية في فرنسا: "مر كل شيء كما لو أن الحزب الشيوعي الفرنسي و الكنيسة شكلا ثنائية و كما لو أن الستالينية لم يكن في وسعها العيش بعد اختفاء الشطر السلبي الآخر لهذه الثنائية"[7] و ظهور الجبة الوطنية FN، و هو ظهور لا يعزى فقط لحضور المهاجرين، بل أيضا إلى نوع من "السؤم" السياسي عند الإنسان الفرنسي العادي من الأحزاب سواء اليمينية أو اليسارية. و يرجع سبب هذا في نظر طود إلى كون: "الجبهة الوطنية قد احتفظت، بالنظر إلى جغرافية ناخبيها، بشيء من البنية الدينية للنظام السياسي"[8]. و يتضح هذا السؤم في سلوك الناخبين الذين أصبحوا يسلكون كأفراد ليست لهم أية اعتقادات لا سياسية و لا دينية راسخة: "لم يعد هناك أي اعتقاد جماعي راسخ باستطاعته بناء و تنظيم الحياة السياسية"[9].
ما يميز الحالة الراهنة للسياسة الفرنسية، في اعتقاد طود، هو خيانة الإشتراكيين لكل مبادئهم اليسارية و سقوطهم الفعلي في أحضان ليبرالية رأسمالية أتت على الأخضر و اليابس للأيديولوجية الإشتراكية و دجنت شخصيات اشتراكية للأمس القريب كباسكال لامي، الذي "وهبه المرء" منصب مدير المنظمة العالمية للتجارة و دومينيك شتراوس خان الذي أصبح على رأس منظمة النقد الدولي. و خيانة المبادئ لا تقتصر على الإشتراكيين فقط، لكنها تشمل "الدوغوليين" كذلك. فإذا كان الإشتراكيون خانوا الطبقة العاملة، فإن الغوليين خانوا الأمة حسب طود.

أدى اختفاء الكنيسة، التي اقترحت على المستوى النفسي حلا لإشكالية الإشكاليات الوجودية للإنسان، يعني الموت، إلى نوع من الفراغ و اللامعنى الوجودي، لأن الإنسان المتحرر من قيود الدين و بالخصوص الإنسان الملحد في حاجة إلى "عدو" بدونه تصبح الحياة دون مذاق و تٌفتح أبواب العدم و الموت في وجه الفرد. و في بحر التسابق لإيجاد معنى جديد للحياة و بموت فكرة الفردوس الذي كان الدين يعد به، يٌعد الفردوس الأرضي الذي و عد به اليمين و اليسار على حد سواء مفقود كذلك. لم يبق أمام الإنسان إلا محاولة العثور على معنى جديد للحياة: المال/ الجنس/ العنف، أي ما كان الدين سابقا يراقبه، تماما كما وقع للفكر القديم قبل 2000 عام، عندما أفل نجم الإعتقاد في الآلهة الوثنية و كان من الضروري إيجاد معنى أرضي للحياة. لكن هذه المحاولة لم تنجح، بل سقط إنسان تلك الأزمنة السحيقة في متاهات اللاعقلي للحياة الأزلية أو في المسيحية.

لكن غياب البعد الميتافيزيقي/الديني كضمانة للحياة لم يؤثر سلبيا، حسب مؤشرات كثيرة، على حياة الناس إلا نسبيا، كما يقول طود. بفضل وجود ضمانات أرضية مؤسساتية كالضمان الإجتماعي، الذي يضمن حدا ماديا أدنى لكي يعيش الإنسان و لا يسقط في اللاعقلاني أو التشدد الديني الخطير كما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، حيث غياب الضمان الإجتماعي كما هو معمول به في مجموع الدول الأوروبية تقريبا.
أكان المرء واعيا بذلك أم لا، فإن هناك أزمة دينية تجتاح مجموع أوروبا حاليا في نظر طود. فالتركيز السلبي للعشر سنوات الأخيرة على الإسلام في الغرب عموما من طرف النخبة السياسية و الثقافية لا يمكن فهمه حتى و لو استحضرنا تجربة سابقة عليها ـ في فرنسا بالخصوص ـ، أي حركات ضد العرب في ثمانينات القرن السابق، حتى و لو كانت هذه الحركات قد قيدت من طرف أحزاب يمينية لاستقطاب الطبقات الشعبية في عز أزمة اقتصادية و استفحال العٌطالة و الحضور القوي للعامل العربي. ما يميز الحملات المعادية للإسلام الحالية هي أنها لم تعد حكرا على جزء كبير من الطبقات الشعبية، بل أصبحت نقطة اهتمام مجموعة من المفكرين و الصحافيين سواء أكانوا من الصفوة السياسية و الإقتصادية أو مما سميناه "النخبة الشعبية"[10]. و لم يعد هذا الهجوم محصورا على بلد غربي بعينه، بل تعداه ليشمل كل هذه البلدان تقريبا. و الواقع أن أطروحة صدام الحضارات هي تنظير إمبريالي لموازين القوى و تأكيد على تفوق أمريكا و الغرب عموما على باقي الأمم و بالخصوص ضد العالم الإسلامي و الصين. يتعلق الأمر إذن، حسب طود، بنوع جديد من النرجسية الثقافية الغربية و هي تعبير واضح إلى حدود بعيدة عن الفراغ الروحي للغرب. إضافة إلى هذا فإن هناك نوع من التصعيد النفسي للغرب حاليا، الذي يرفض مواجهة أزماته على اختلاف أنواعها، مشيرا بالأصابع إلى أزمات العالم الإسلامي الناتجة عن مروره بمرحلة انتقالية حيث أصبحت الأمية شبه عامة فيه و حيث غياب أي توجيه أيديولوجي و ديني واضح، و الذي يُنتج بدوره القلق و البلبلة الإجتماعية، بل و حتى العنف في صفوفه. أكثر من هذا فالإسلام كدين، في رأي طود، يعرف هو بدوره أزمة، لأن الإعتقاد فيه يتدهور رويدا رويدا بطريقة غير عيانية، و ما تكثيف الممارسة الدينية في بعض الدول المسلمة إلا عربونا على نجاعة مفعول تأثير الحداثة، التي تبدأ بمثل هذه الدوخة الدينية لتنتهي بتحجيم هذا الأخير إلى حدوده الطبيعية كديكور ثقافي باستطاعته تقديم بعض الخدمات الإجتماعية المعينة و المحدودة. و إذا كان الكثير من المسلمين يهابون العلمانية، بل لم يكونوا يعيرون لها اهتماما يذكر في ربع القرن الماضي، لأنها كانت منشغلة بالمسيحية، فإنهم قد وجدوا أنفسهم، بعدما انتصرت الائكية، وجها لوجه أمام هذه الأخيرة. من هذا المنطلق، فإن الإسلام كدين هو كبش الفداء الذي تقدمه اللائكية أو كما يقول طود: "في أوروبا بداية الألفية الثالثة، يصبح (أي الإسلام) أضحية لحالتنا الميتافيزيقية المزرية، لصعوبة عيشنا دون إلاه مع تأكيدنا على أن حداثتنا هي الحداثة الوحيدة الممكنة و الصالحة"[11] .

قبل أطروحة صراع أو صدام الحضارات روجMarcel Gauchet  ابتداء من عام 1985 في الأوساط الثقافية الفرنسية فكرة لا تقل عداوة عن الإسلام، مفادها أن هذا الأخير لا يمكنه التعالي على نفسه كما فعلت المسيحية مثلا و التطور في إطار عقلاني ـ لائيكي. خلاصة القول في هذا الإطار هو أن العداوة التي يواجهها الإسلام من طرف الغرب، كما يؤكد على ذلك طود، هي تعبير واضح على الكساد الروحي و الأيديولوجي للغرب و هي تصعيد لجملة من النقائص التي يعيشها على دين مغاير للدين الذي راج في الغرب لمدة قرون طويلة.

من الديمقراطية إلى الحكم المطلق
حال الديمقراطية، فيما يرى طود، ليس على ما يرام حاليا في البلدان التي طورت هذا النظام في الحكم منذ قرون كفرنسا و أنجلترا و و.م.أ. و يعتبر حال فرنسا أسوء بكثير، إذا أخذ المرء بعين الإعتبار الجنوح عن التصويت منذ 1995 و الحضور القوي لليمين المتطرف. و يمكن للمرء أن يلاحظ منذ 2002 لعبا خطيرا في الحضيرة السياسية الفرنسية بين الناخب و المنتخب دون معرفة من يتحكم في اللعبة بينهما. و من الأمثلة على النموذج الجديد للديمقراطية الفرنسية هناك إشكالية رفض الدستور الأوروبي في شهر فبراير 2008، و قرار مجلس النواب بغرفتيه بعد ذلك التصويت له. فبعد ما طولب الشعب بالإدلاء برأيه في قضية مصيرية تهمه، يأتي الممثلون له و يلغون اختياره. يظهر إذن، حسب الكاتب، بأن هناك تشنج في العلاقة بين الحاكم و المحكوم، بين الديمقراطية و حكم الفرد الواحد. بل أكثر من هذا فإن هناك نوع من فرض الفهم التوكيفيلي Toqueville للديمقراطية التي كان يعتبرها نسقا مغلقا في و على ذاته، يمتلك منطقا داخليا أتى من حيث لا ندري. و لهذا السبب لابد من قبولها كما هي، بمساوئها و محاسنها. و يرجع سبب هذا الإهتمام الجديد بتوكوفيل إلى بعض أطروحاته البسيطة حول الديمقراطية من بينها أطروحة "المساوات" الخطيرة على الحرية. أصبح توكوفيل، بعد الإشهار الرائع الذي قام به له رايمون أرون صورة طوطيمية في الأوساط الأكاديمية الفرنسية، و منها تلك التي تنتمي للطبقات الشعبية، و لا مجال للمقارنة هنا بن النخبة المثقفة البورجوازية التي دافعت عن الماركسية و النخب الجديدة.
كانت الديمقراطية مقرونة إلى عهود قريبة بالتعلم و كان الدور المناط بالمدرسة "كآلة" لصنع المساوات بين أفراد الشعب جد واضح و غير قابل للمناقشة. نمت الديمقراطية بالفعل عندما حوربت الأمية عن طريق المدرسة و عندما أصبح تعلم القراءة و الكتابة غير محصور على طبقة دون غيرها. أصبح الشعور بأن هناك نوع من المساوات الإجتماعية، بغض النظر عن الفروق الإجتماعية، و بهذا يمكن القول بتحفظ كبير بأن تعلم القراءة و الكتابة هو ميلاد مبدأ ديمقراطي يتمثل في المساوات. و الواقع هو أننا نتعلم القراءة و الكتابة لأن ذلك يصلح لشيء ما: لقراءة نص أدبي أو ديني مثلا أو لتشغيل آلة ما. لا نتعلم لكي نصبح متساوون مع الآخرين أو لنصبح "أفردا ديمقراطيين"، لكن لنصبح أفرادا مكونون فكريا.  لم تكن الديمقراطية السياسية سببا لتعميم التعليم، بل نتيجة لهذا الأخير. و بفضل التعليم استطاعت الثورات أن تنجح في فرنسا و أنجلترا و روسيا و الصين و إيران. و قد كانت "ثورة 68" نتيجة هذا، جزئيا على الأقل. و لتأكيد هذه الأطروحة تاريخيا، يمكن ذكر نموذج الديمقراطية الأثينية التي ظهرت في وسط كانت فيه القراءة و الكتابة شائعة بعدما طور اليونان القدماء أبجدية خاصة، سمحت لهم بتطوير فن الكتابة.

سمح محو الأمية للفرد، في منظور طود، ليس فقط بفرض شخصيته وإمكانية تأمل ذاته، بل و أيضا سبب في أنواع قلق جديدة ساعدت على تفشي ظاهرة الإنتحار و تناول الكحول و أدت إلى أمراض نفسية مختلفة. و هذا يعني بأن التطور الشخصي الذي نتج عن محو الأمية ظل في مرحلة بدائية، و لن يمر إلى المرحلة النقدية، و هذا ما يلاحظ في قبول الأفراد للأيديولوجيات التبسيطية و البسيطة للواقع، المتضمنة في النصوص السياسية و الدينية على اختلافها و تصارعها و تسابقها على مصالحها الخاصة.
إذا تأملنا ثورة 68 مع طود، فإنه يمكن أن نستنتج معه بأنها لم تكن بالضرورة بمثابة ظهور جديد لليسار و رفض للأوضاع القائمة كما ذهب إلى ذلك بعض المحللين، لكنها كانت في العمق تعبيرا وفيا عن وضع بقي في الظل، يكمن في ظهور اللامساوات الناتج عن النظام التربوي. كان الحصول على شهادة الباكالوريا صعبا والمرور إلى المرحلة الثانوية و الجامعية محصورا على طبقات بعينها. و بهذا يمكن اعتبار ثورة 68 بمثابة امتحان لدمقرطة التعليم الثانوي و الجامعي، في فرنسا على الأقل.

أصبح الحصول على شهادة الباكالوريا و متابعة الدراسة الجامعية لمن يريد ذلك كحق مشروع تقريبا، بل أصبح العمل في الكثير من الدول الغربية بمبدأ الكوطا في الحصول و تسليم الباكالوريا جاري العمل. لكننا نلاحظ منذ عقد من الزمن تقريبا أفواجا من الطلبة ممن لم يحصلوا على أي دبلوم، و بذلك يمكن التأكيد على أن نظام التعليم الذي كان يراد منه الوصول إلى المساوات، أصبح "معملا" لإنتاج اللامساوات المجتمعية. بالمقابل، فإن هناك الكثير من أبناء الطبقات الشعبية ممن استطاعوا الحصول على شهادات جامعية عالية، و بهذا تَكَوَّنت ما سميناه سابقا ب"النخبة الشعبية". و النتيجة هو أن احتدام المنافسة بين الشباب في التعليم العالي، شكل مشكلا لأبناء الأعيان.

أما النتيجة الفكرية و السياسية لكل هذا فإنها جد صعبة حسب تقييم طود. فإذا كان مفكر و سياسي الأمس يخاطب مجموعات بشرية أمية أو على الأكثر تعرف شيئا من الكتابة و القراءة، فإن الأمر أصبح أكثر تعقيدا، لأن "النخبة الشعبية" الجامعية فرضت سلوكا ثقافيا جديدا، لم يعد يسمح للمفكر فيه العيش في أبراجه بعيدا عن مُخاطبيه. و هذا يعني بأن قاعدة الأكاديميين قد توسعت أكثر و أصبح اللقاء بين أفرادها ممكنا، و بالتالي أصبحت تنتج "الثقافة" و تستهلكها في محيطها الخاص. بنت إذن أبراجها الخاصة و دخلت عن وعي أو دون وعي غرفة من الزجاج المقوى مبتعدة عن هموم الشعب. و النتيجة هي ظهور صراع من نوع جديد بين الفآت الإجتماعية العريضة و "النخبة الشعبية". و قد يكون هذا شرح أولي لانزلاق القاعدة إلى حافة اليمين المتطرف. هناك إذن نوع من النرجسية تقود إلى ثقافة منحطة، لأنها لم تهتم بمشاكل الإنسان، بل فقط بمحيطها الثقافي الضيق. و هنا بالضبط نلمس مفارقة كبيرة: هناك تراجع للثقافة ناتج عن ارتفاع عدد المكونين جامعيا.

هناك إذن تكسير/انشقاق/شرخ في أهرام الأيديولوجيات التقليدية، ابتداء من الستينات للقرن الماضي، و لم يكن ماي 68 إلا بداية صيرورة هدم الأيديولوجيات، و هي صيرورة يتضح أن بداية نهايتها قد حلت حاليا. و من المؤشرات الواضحة على هذا هناك تفتت الكثير من المعايير الأخلاقية القديمة، سواء أكانت سياسية أو دينية. فالوظيفة أو العمل المزاول من طرف الشخص هو الذي أصبح يحدد هويته. و ظهور "السياسة" كوظيفة هو شيء جديد على الإطلاق و "السياسي" لم يعد يرى أي حرج في اعتبار نفسه موظف و لا يقلقه عدم الإهتمام بالأفكار التي عليه الدفاع عنها بقدر ما يهمه الربح المادي من مهنته. و في ظل هذه المتاهات الجديدة أطلت علينا صحافة جديدة لم تعد مرتبطة هي الأخرى بأفكار و ثقافات و أيديولوجيات، بقدر ما هي مرتبطة بكسب الرزق و الإكتساب و أصبح المرور فيها من جريدة يمينية إلى أخرى يسارية أو العكس أو المرور من جريدة حزبية إلى أخرى دون توجه سياسي أو العكس كذلك، أمر لا يشكل أي مشكل لا أخلاقي و لا سياسي و لا مهني.

هناك مرور غرور "النخبة الشعبية" بنفسها و ب: "ثقافتها" من هذه الأوساط إلى أوساط اجتماعية أخرى و على الخصوص إلى الأحزاب السياسية على اختلاف أنواعها و ألوانها، على الرغم من وجود لون واحد و لربما وحيد، تسبح فيه كل هذه الألوان الحزبية. أصبح "المناضل" في الأحزاب اليسارية مثلا  يُقاس بدرجة تعلمه و ليس بتضحياته لأفكاره و استماتته للدفاع عنها. هناك إذن انزلاق واضح للعيان في ثقافة الأحزاب اليسارية في علاقتها مع مناضليها. كان المناضل قديما يساهم في عيش الحزب في جماعة و كان يعيش حياة الجماعة في الحزب. أما "المناضل" الحالي، فإنه يأتي للحزب للمشاركة، لكن يأتي قبل كل شيء للتعبير عن نفسه و محاولة فرضها و تأكيد ذاته و بالخصوص ليفسح عن نرجسيته، ضانا أنه يمتلك فكرا خلاقا و بأن أفكاره ستحرك الأشياء إلى الأمام، بل أكثر من هذا لا يرى أي حرج في طلب تعويض عن خدماته للحزب، و قد ينفر من هذا الأخير ليذهب إلى آخر إذا لم تتحقق له هذه النرجسية المادية و المعنوية. و للإشارة فإن منطق "النرجسية الثقافية" منغمس حتى العظام في الوصف أكثر منه في الشرح، لذا طغى على الكثير من مثقفي هذه الطينة مبدأ الوصف على مبدأ الشرح، لأن الأول لا يتطلب إلا ثقافة عامة مبعثرة و الثاني يتطلب معرفة دقيقة بالأشياء المشروحة و التعمق فيها.

كان بالأحرى بنا أن ننتظر من توسع قاعدة النخبة المثقفة أن يمر التطور الإجتماعي إلى مستوى أعلى و أن تهتم هذه الفيالق المثقفة من مفكرين و فلاسفة بالشأن العام و بالمدينة "الفاضلة"، لكن الواقع يظهر بأن الأمر يتعلق بمجموعة كبيرة من الأشخاص النرجسيين، الواثقين بأنفسهم، المهتمين بذواتهم، البعيدين عن الدين و الأيديولوجيات، الشغوفون برشاقتهم الجسمية و الجنسية و المادية المحضة. و من ساعده الحظ أو ما تبقى من ركام مبادئ أيديولوجية بعينها، يعتقد بأنه يكفي لكي نغير أن يكتب المفكر مقالة أو حتى كتاب متعلق بظاهرة أو بمشكل ما، يعني كما سبقت الإشارة إلى ذلك، الوصف قبل الشرح. و تؤدي النرجسية الفردية "للنخبة الشعبية" إلى نرجسية جماعية لها، ترفض مسؤولياتها أمام الجماهير الشعبية، بل ترفض حتى هذه الأخيرة، قاحمة إياها في اقتصاد السوق، و هو اقتصاد في غير صالحها مادام اهتمامه الرئيسي هو الربح المادي و لو على حساب الكرامة الإنسانية.

الملاحظ هو أن رد فعل الطبقات الشعبية هو اللامبالات و رفض المثقف. لم يعد للمفكر و للجامعي عموما أي اهتمام يذكر عند الطبقات الشعبية التي وجدت مشاكل جديدة و انغمست في حياتها الخاصة و أصبح المرء يلاحظ نوعا من التمييز الإجتماعي الواضح بين فئات المجتمع. و العنصر الوحيد الذي بقي لتلحيم هذه الطبقات فيما بينها بما في ذلك فأة المثقفين هي وسائل الإعلام و بالخصوص المرئية منها. و هو عنصر رهين بمناسبات بعينها كمباريات كأس العالم لكرة القدم إذا قدر للفريق الوطني التأهل و عدم إقصائه في الدور الأول.
إذن، بقدر ما ابتعد المفكر عن الشعب، بقدر ما ابتعد هذا الأخير عنه، لينغمس الجميع في نرجسية جماعية، قد تصبح إذا ما استمر الأمر هكذا إنطواء Autisme جماعيا، مبتعدين بخطى حثيثة عن التفكير و الإهتمام بالشأن العام.

الفرنسيون و المساواة
إذا التجأ المرء إلى الأنثروبولوجيا لفهم الأسس الواعية و اللاواعية لفهم الفرنسيين للمساوات، فإن ذلك، حسب طود، قد يسمح بفهم الإختلالات الحالية و بالأخص في النظام الأسري. فتنوع الأنسقة البدوية الذي يحكم البنيات الأسرية الفرنسية، المبني على قيم مختلفة و في بعض الأحيان متقابلة، يمكن أن يفسر تعدد مداخل فهم مبدأ الديمقراطية الفرنسية.

بالمقارنة مع أنجلترا مثلا، نجد بأن حرية الفرد داخل العائلة الإنجليزية كانت تحضى باهتمام كبير في القرن السابع عشر[12]. في المقابل، نجد في فرنسا في نفس الفترة، بأن العائلة كانت مبنية على فكرة المساوات بين البنين و البنات فيما يتعلق بالإرث. أما في ألمانيا، فإن الطابع السلطوي هو الذي كان طاغيا في البنية الأسرية، ففي ألمانيا كانت العائلة تمرر خيراتها لابنها الأصغر في غالب الأحيان، الذي يبقى تحت سيطرة والديه مدى حياتهما. و وصل الحد مداه في هذا البلد في القرن التاسع عشر عندما فرضت معايير تربوية جد صارمة، و يرجع بعض الباحثين ظهور النازية في ألمانيا إلى هذا الأمر.  نظر إلى الأيديولوجيا النازية كاستقلال و تحرر من جبروت العائلة. و يعتقد أن فكرة اللامساوات بين الإخوة في نفس العائلة قد سهل بالفعل قبول أيديولوجيات عرقية مركزية، تؤكد على اللامساوات بين الشعوب و الأمم و الأفراد. و مزج عنصر السيطرة و المساوات في البنية الأسرية في روسيا، بحيث أن النموذج المثالي للعائلة في روسيا في القرن 19 كان يشرك الأب و أبنائه المتزوجون لأجيال طوال. و عندما يموت الأب أو يقترب من ذلك، كانت خيرات العائلة تقتسم بين الأطفال الذكور دون مراعاة للإناث، اللائي كن تتبادلن بين العائلات. و عندما انحل هذا النموذج الأسري، الذي كان أكثر إدماجا و أقل قهرا، انهارت ممالك "التسار"، و ظهر نظام حكم مطلق جديد كتعويض عن العائلة.

يمكن القول، إذا رجعنا إلى فرنسا، بأن نجاح "الجبهة الشعبية FN" يعود إلى إعادة ظهور موضوع اللامساوات بكل قوة في الساحة السياسية. فالبسطاء و الضعفاء من الشعب الفرنسي، و عوض اختيار الحزب الشيوعي  للدفاع عن مصالحهم، و وعيا بكون الأقوياء في المجتمع و السياسة هم سبب عذابهم، فضلوا اختيار كبش فداء لسوء حالهم، و لم يجدوا أحسن من المهاجر، و العربي منه بالخصوص. و يمكن اعتباراختيار الجبهة الشعبية في الإنتخابات كنوع من المقاومة ضد "النخبة"، التي لم تنجح في التسيير المعقول لمصالح الشعب باختياراتها الإقتصادية و السياسية. و بهذا دخلت السياسة في فرنسا حلبة العنصرية من بابه الواسع.

يعتبر المرء مفهوم العرق race بمثابة مفهوم يفرق، لكنه مفهوم يلحم و يجمع كذلك و ما التاريخ الفتي للولايات المتحدة الأمريكية إلا مثال على ذلك. فقد جمع هذا المفهوم بين المهاجرين البيض الأوائل إلى أمريكا، على الرغم مما تعرض له الإيطاليون في أول الأمر من تمييز، لأنه كان من الصعب قبولهم كبيض، تماما كما تعرض له الصينيون و اليابانيون في نفس الفترة، قبل الإعتراف بهم كغير سود. و إذا كان المرء يعتبر بأن العنصرية هي عيب للديمقراطية، فإن الصحيح هو أن هذه الأخيرة عي أساس الديمقراطية، لأنها تعتبر في هذا النظام مبدء إقصائيا و إدماجيا في نفس الوقت. لا داعي للتذكير بأن العنصرية رافقت ميلاد الديمقراطية الغربية منذ اليونان، التي لم تكن تعترف لأحد بحق المواطنة إلا إذا كان ينحدر من والدين أثينيين قحيين. و حتى و إن اختفت العنصرية في التجارب الديمقراطية الغربية المعاصرة بعد انتهاء الأبرتايد في إفريقيا الجنوبية، فإن الواقع أننا نجدها حية في التجربة الإسرائيلية. فالثقافة اليهودية ليست ثقافة مساوات في أساسها العائلي، و مثال الإرث في التوراث شاهد على ذلك بتفضيله الرجال عن النساء. أما على المستوى السياسي، فإن النظام الإسرائيلي أقرب إلى النظام الأمريكي أو الإنجليزي البدائي، و أكثر منه إلى النظام الأثيني القديم. فقد كان اليونانيون يعيشون بفضل الحرب من أجل الثقافة، تماما كما هو الشأن لإسرائيل مع العرب.
تخلط العولمة الإقتصادية بطريقة منظمة المواجهة الإقتصادية و التهديد الإقتصادي و عوض ضمان السلام فإنها تشعل فتائل الحروب الإقتصادية بين الشعوب.

السؤال المطروح على الشعوب المستوردة لليد العاملة هو: ضد من يجب المقاومة، ضد العمال الأجانب المهاجرين أم ضد الحكام و أصحاب القرار في الدول المصنعة الغنية. هناك أمثلة من التاريخ القريب تؤكد بما فيه الكفاية بأن المجتمعات "الغنية"، عندما تكون تجتاز أوضاع اقتصادية صعبة، يكون لها الإختيار بين المواجهة السوسيو ـ اقتصادية أو اختيار كبش فداء إثني، عرقي أو ديني، و هذا ما وقع مثلا عام 1929، عندما غطست ألمانيا في النازية، آخذة اليهود ككبش فداء و معتبرة كل العالم الخارجي تهديدا لها، أو السقوط في اللامعنى و اللاعقلي.

يعاني الإنسان الغربي للأربعين سنة الأخيرة من نقصان في الأنا الأعلى. من الصعب عليه التفكير و الفعل على النمط الجماعي. هناك مرور واضع منذ السبعينات للقرن الماضي من الفردانية إلى النرجسية، فالأولى كانت عقيدة مشتركة و أيديولوجية قوة، أما الثانية فإنها تعبر عن حالة تشتت Atomatisation ليست لها أية علاقة بأية عقيدة أو مذهب doctrine أو أي مشروع اجتماعي و لا أية رغبة للعمل المشترك. و يدعم الشعور النرجسي بنظام التأمين بكل أشكاله وهو نطام يضمن للفرد حدا أدنى من الأمان المادي المضمون من طرف الدولة. و لا يمكن الإعتماد على هذا الركام الهائل من النرجسيات المغلوب على أمرها من أجل بناء معارضة سياسية ضد الأوضاع المزرية القائمة، لأنها مازالت تتمتع بالقليل من "الشحم و الدقيق"، المتمثل في المساعدات الإجتماعية للأنظمة الرأسمالية الأوروبية لفيالق المعطلين عن العمل و عن التفكير في الحلول الجماعية.

يظهر بأن المشكل الإقتصادي قد وصل إلى الطريق المسدود. ففي الوقت الذي يؤكد فيه الكثير من منظري الليبرالية الجديدة بأن التبادل الحر ضروري، و لربما قدرا، ترى فيه الشعوب آلة متوحشة تطحن كل ما وصل بين فكيها بما في ذلك مناصب الشغل و الأجور، مؤدية بذلك إلى صيرورة تقهقر و تشنج في العلاقات الإجتماعية. و الكارثة الحقيقية بالنسبة للديمقراطية لا تكمن بالضرورة في التقابل بين الجماهير و النخبة، بل في الوضوح الكافي للأوضاع بالنسبة للجماهير و النخبة على حد سواء، بل للوضوح الكافي للأوضاع بالنسبة للجماهير و تعامي النخبة، بل و حتى عدم أخذها بعين الإعتبار للأوضاع الحقيقية للجماهير.

لا يمكن لأية ديمقراطية حقيقية الإستغناء عن نخبها. و يمكن القول بأن ما يميز الديمقراطية عن الشعبية populisme هو قبول الشعب بضرورة نخب يثيق بها. و يقدم لنا تاريخ الديمقراطيات شواهد على ظهور نخب في الفترات الحرجة، تعبر عن تطلعات مجموع الشعب، و عندما تتخلى النخب عن الشعب و تسمح لنفسها بالتمتع بما حرمته هي نفسها منه، فإن حكم الفرد الواحد و الشعبية يظهران. و يقود هذا إلى توسيع الهوة بين الجماهير و النخب، و غياب التواصل بينهما، و هذا ما أدى بالفردانية أن تصبح نرجسية و تأخذ أبعادا لم يسبق أن لوحظت في التاريخ الطويل للبشرية. أصبح العزل استراتيجية سياسية واعية أو غير واعية، فكل مهنة و كل مدينة و كل فرد أصبح كرة معزولة منغمسة في مشاكلها و ملذاتها و عذاباتها و لا تعتبر النخبة السياسية و الإعلامية إلا مجموعة منعزلين مقوقعة على ذاتها من بين مجموعات أخرى، ليست أصلح و لا أطلح من الأخريات، بل فقط الأكثر حضورا في الساحة العمومية. أصبحت هذه الفئة غير مطاقة، لأنها لم تعد ـ تماما كنبلاء 1789 في فرنسا ـ تبرر امتيازاتها الكثيرة بالخدمات التي تقدمها للشعب.
ظل النَاخِبُ، كما كان منذ القدم في الديمقراطيات، الهم الأساسي للمُنْتَخَبِ، ليس خدمته، بل استغلاله عن طريق ميكانيزمات لا حصر لها و منها بالخصوص الإستحواذ على وسائل الإعلام بكل أنواعها، و استقطاب و استئجار الصحفيين، لتظليل الرأي العام و التعتيم على مصالحه.

بعد هذه الإطلالة المركزة جدا على هذا الكتاب القيم، يبقى السؤال العالق هو: أية نتيجة لمحاولة "استيراد" النموذج الديقراطي الغربي من طرف النخب السياسية العربية عموما و المغربية بالخصوص؟ بأية استراتيجيات أيديولوجية و سياسية دخلت الأحزاب السياسية ذات التوجه الإسلامي أو المتأسلم، المنتخبة من طرف الشعوب العربية في تونس و مصر و المغرب، حلبة اللعبة الديمقراطية؟ أتعتبر النماذج الديمقراطية الغربية الحالية، بكل تلويناتها و خصوصياتها، نموذجا لأصحاب السلطة في العالم العربي، أم هناك إمكانيات لبناء نماذج مغايرة، مادام مثال مبدأ الديمقراطية يحمل في طياته مقوم الإختلاف و التعددية؟ و قد يكون السؤال الجذري الذي يمكن طرحه في نهاية هذه القراءة هو: ألم تصل النماذج الديمقراطية الغربية ذاتها إلى نوع خطير من "الطوطاليرية" الكولونيانية و لم تتعد إلى حد الآن عتبة العقلية الإستعمارية التوسعية، عاملة بذلك ضد مبدأ حقوق الإنسان و حق الكل في العيش في سلام و رفاهية مادية و اجتماعية و نفسية للجميع؟ ألا نلاحظ أعراض ما وصفه الكاتب في مؤلفه هذا في مجتمعاتنا العربية، حيث تقاد "الثورات" دون توجهات أيديولوجية واضحة و دون تخطيط مسبق للأهداف التي تتوخى الوصول إليها، باستثناء المطالبة بـ "الديمقراطية" و "المساوات" و "الحق في العمل" إلخ و دون أن تحدد مضمون هذه المطالب و أي نوع من الديمقراطية المتوخات؟ ألم تكن جل "حركات الغضب" العربية الأخيرة تعبيرا صارخا على الشرخ الحاصل بين الشعوب و نخبها؟ و كيف يمكن أن نشرح "احتواء" نخب جديدة عن طريق "انتخابات نزيهة" و تجردها من كل مبادئها الأيديولوجية و استعدادها للغطس في أتون ديموقراطيات مزيفة بتزكية من الغرب، السابح بدوره في ديموقراطية دائخة تدور في حلقة تاريخية مغلقة، دون أن تستطيع تطوير نماذجها الديقراقية المحلية، بل بالضغط على الشعوب الأخرى لتفصل نماذجها الديموقراطية من نفس الثوب الذي تستعمله في خياطة نماذجها؟

[1]  ص 13 و 14.
[2]  ص 15.
 [3] ص 16.
[4]  ص 17.
[5]  نفس ص.
[6]  ص 22 .
[7]  25.
[8]  ص 26.
[9]  ص 26.
[10]  انظر مقالنا
[11]  ص 39.
[12]  ص 98.