لا جدوى للسياسة في غياب بصمة المثقف فيها ـ د.عبد الحكيم درقاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

8516259 orig  لا غرو أن العمل السياسي لا يكون له معنى إذا لم يضع المثقف بصمته فيه، لأن الثقافة هي الضامن الأساسي لطهر السياسة و عفتها. و إذا انفصلت السياسة عن أصلها الثقافي و الفكري و الأخلاقي، طغى ـ لا محالة ـ على من يمارسها النفع الذاتي و الاقتصار على خدمة الأجندة الإيديولوجية الحزبية، خاصة إذا كانت عقلية السياسي رهينة لما تقرره القيادة الحزبية، ومُنْصَاعَة لـ (نظرية القطيع) التي تعمل المنظمة السياسية على ترسيخها.
    إن ما يعيب سياسة العصر الحاضر أنها موسومة بالسمات التالية:
-    إنها سياسة ارتجالية غير محددة المعالم، غوغائية، يتصارع فيها الجميع (الأغلبية) ضد الجميع (المعارضة).
-    إنها سياسة الاتكالية و اللامبالاة، فهي سياسة يعتمد فيها السياسي على الآخرين سواء كان هذا الأخر هو الحزب أو الحكومة....
-    إنها سياسة جامدة يسودها تكرار البرامج و اجترارها و ينقصها الإبداع و التجديد.
-    إنها سياسة ركب سفينتها العامة و الخاصة، فأراد البعض الاستسقاء من الأعلى و أحتاج الآخرون إلى خرق السفينة حتى لا يمروا على من فوقهم، فغرقت السفينة و طفقوا يلقون اللوم على بغضهم البعض.
-    إنها سياسة ـ في غالبها ـ تتناقض فيها الأقوال مع الأفعال و تستفحل فيها ظاهرة (الكلام الكبير) ـ على حد تعبير طارق حجي ـ. لهذه الظاهرة جعل البعض يصفنا بأننا (حضارة كلامية) أو (حضارة حنجرية) أو مع التطور العلمي (حضارة ميكروفونية). فما يقال في (الخطابات السياسية) لا يقابله أي شيء محدد في (الواقع المادي).
  فكل ما أصاب الواقع السياسي من عبث في المواقف و فساد في الرؤى و التوجهات، مَرَدّه غياب المثقف عن المشهد السياسي و غيابه هذا سببه أمرين اثنين:
ـ

الأول: المثقف غير مقبول في أرض السياسي، لأنه مصدر إزعاج يتدخل في برامجه بالتقرير تارة و بالنقد تارة أخرى، فالسياسي لا يقبل(حشورية)المثقف.
  فالعمل السياسي قائم على فرض الرؤى و الأفكار و تمرير ما تقرره القيادات السياسوية، إنها الطاعة و الانضباط لعقيدة الحزب.
  أما المثقف فهو مجبول على الحرية، حرية النقد، حرية الفكر، حرية الموقف ...لا يدعن لنظرية القطيع. و قد عد صلاح بوسريف: المثقف صاحب أفكار، و صاحب مشروع ثقافي، كما يستوعب الفكر،أو يسعى لفهم ما يجري حوله من خطابات، فهو يستوعب السياسة، بوضعها في سياق فكري أَوْسَع، و يجعل السياسة تُنْصِت للثقافة أو للفكر و ليس العكس. كما أنه ليس مُقيما في السياسة، فهو عابر فيها وفق ما أشار إليه ماكس فيبر في كتابه"العالِم السياسي"، أو يذهب للسياسة لخدمة الفكر.
ـ الثاني: مغادرة المثقف للعمل السياسي، بعدما تَبَيّن له أن خطاباته لا يسمع لها داخل الحزب،   و ربما خشي على نفسه تصنيفه في لائحة (المثقفين العضويين) الذين يعملون وفق توجيهات إيديولوجية معينة.
  في هذا الصدد  يعتبر المفكر الايطالي انطونيو غرامشي أن المثقف ليس تابعا و لا معنيا بما يقوله غيره، فهو (مثقف جماعي)(مثقف يخرج من سديم السياسة بمعناها الحرفي و يدخل إليها من خلال وعي ثقافي و فكري أشمل و أوسع، و هو يضع يده في عجين السياسة، أو يسعى برأيه في مَا لَهُ علاقة بالشأن العام).
  عموما، فالسياسي يعمل على إِبْعاد المثقف لأن الفرق بين الاثنين يكمن في منهجية التفكير، فحين تصير الإيديولوجيا معتقدا راسخا غير قابل للنقاش عند السياسي، فهي عند المثقف صناعة عقلية بشرية قابلة للآخذ و الرد و الانتقادات.
  فحاجتنا اليوم إلى وجود أحزاب تعيد تحيين مرجعياتها و تحدث انقلابا على أفكارها و مفاهيمها التاريخانية، التي كانت صالحة في زمن غير زماننا.
  و ما أحوجنا إلى مشاركة المثقف في إنتاج المفاهيم و في تدبير و تسيير الشأن العام. و تكون بين الطرفين ـ المثقف و السياسي ـ علاقة تكامل لا علاقة صراع أو تبعية، بحيث يمكن حَبْك نوع من الاستقلالية على مستوى الأفكار و الطموحات، لأن المثقف يمتاز بنظرة البعد الاستراتيجي بينما السياسي ينظر للمستقبل القريب. فلا بد من مصالحة آنية بين الطرفين لتجاوز الجمود الثقافي و الانحطاط السياسي. لأن فصل الثقافة على السياسة يضر بها كثيرا.


                                           د عبد الحكيم درقاوي
                                                 المغرب