العزوف السياسي... إلى أين؟ ـ المختار شعالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

mokhtar-cheaali   يعتبر العزوف السياسي أحد الاختلالات العميقة التي تعيق تطور وتقوية النظام السياسي سواء علي مستوي الانتماء للأحزاب السياسية أو الاهتمام بالشأن السياسي أو المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية. باعتبار أن المشاركة السياسية - نقيض العزوف السياسي- تشكل إحدى الركائز التي تنبني عليها الديمقراطية القوية التي تستند إلى إرادة الشعب، كونها تعبيرا عن التجاوب والتفاعل مع العرض السياسي. وعلى هذا الأساس فإنها تمنح النظام السياسي القائم القوة والمصداقية وبالتالي الاستقرار.

     غير أنه في أوساطنا السياسية فإن الحديث المتداول حول مفهوم العزوف السياسي يكتنفه كثير من الالتباس والغموض: هل يعني عدم التجاوب مع العرض السياسي القائم؟ أم عدم الاهتمام بالشؤون السياسية للبلاد؟ أم عدم الإقبال على صناديق الاقتراع بشكل واعي أو دون وعي؟ أم يتعلق الأمر بالعزوف المتعدد الذي يشمل كل هذه الصيغ من أنواع العزوف مجتمعة؟ وهل يمكن قياس كل جانب من هذه الأنواع؟ وهل نتوفر على أدوات للقياس (مثلا استطلاعات الرأي ذات مصداقية  valide) توفر لنا معطيات توضح لنا نسبة هذا العزوف أو ذاك؟ حيث يبدو من الضروري توضيح: عن إي عزوف نتحدث؟ ذلك أن لكل حادث حديث.
    يبدو أن العزوف الذي تهتم به أوساطنا السياسية هو العزوف عن الانتخابات، باعتباره المؤشر السهل الذي يمكن ضبطه والتحكم فيه، انطلاقا من الاعتقاد أن كل صيغ العزوف الأخرى يمكن أن تؤثر وتتجلى من خلال نسبة المشاركة في الانتخابات. في الأنظمة الديمقراطية المتقدمة يمكن اعتبار المشاركة في الانتخابات هي بالفعل مؤشر على المشاركة السياسية. غير أن في البلدان الهشة على المستوى الديمقراطي (مثل بلدنا) لا يمكن المجازفة بادعاء ذلك. إذ لا يمكن اعتبار كل الأصوات المعبر عنها في الانتخابات هي أصوات سياسية، حيث أن الكثير منها ينبني على اعتبارات قبلية أو دينية أو مؤدى عنها. في حين أن الصوت السياسي هو الذي يعبر عن اتجاه سياسي وموقف سياسي واختيار سياسي حر. والعزوف السياسي الذي يعنينا في هذا المقال هو تراجع هذا الصوت السياسي في الاستحقاقات الانتخابية.
    في الماضي، منذ الانتخابات الأولى في المغرب، كان هذا الصوت السياسي وازنا، لأن الصراع الدائر حينئذ كان صراعا سياسيا بالفعل بين القوى الوطنية التقدمية، التي كانت تدافع عن بناء ديمقراطية تسمح للشعب بالمشاركة في الحياة السياسية، في مقابل إرادة المخزن، الذي كان يسعى إلى ترسيخ  حكم مطلق مركزي. هكذا واجه النظام حينئذ  التوجه السياسي التقدمي بشتى الطرق: بدءا بتزوير الانتخابات الذي اعتبرت رسالة قوية مفادها أن لا إرادة فوق إرادة المخزن... مرورا بالتضييق على القوى التقدمية عبر القمع والاعتقالات والاغتيال أحيانا... ثم اللجوء إلى ردم قيم التضامن، والنضال، والانتماء، والاهتمام بالشأن العام، وإحباط الحماسة التي كانت سائدة حينئذ، عبر إبعاد الناس عن السياسة وتخويفهم، حيث كان يعتبر من يتعاط السياسة هو ضد الملك. وسعى النظام، في مقابل ذلك، إلى زرع قيم تنبني على المنفعة الشخصية الضيقة والانتهازية واللامبالاة والخنوع... كما تم الهجوم على الفكر التنويري والحداثي عبر البرامج التربوية، إذ عرفت شعبة الفلسفة انطلاقا من عقد السبعينات حصارا قويا. ويدل هذا الإجراء على إرادة في إخماد وتعطيل آليات النقد والتفكير العقلاني والميل إلى المساءلة... وفي مقابل ذلك سعى النظام إلى تجنيد الفكر المحافظ وإحياء التيارات المحافظة سيما تلك التي تتستر بالدين، وذلك في إطار استراتيجية وتوجهات "البترودولار" التي كانت تسعى إلى محاصرة التيارات اليسارية التي كانت تتسع رقعتها في العالم. ورغم كل ذلك ظلت الطبقة الوسطى، والطبقة العاملة، والطلبة، قلعة صامدة تآزر وتساند سياسيا القوى الحية في البلاد وخاصة الاتحاد الاشتراكي في معركته التي سماها "معركة النضال الديمقراطي".
    الآن، وفي العهد الجديد، رغم أن الإرادة الملكية ما فتئت تؤكد على القناعة التي ترى أن  تحقيق التنمية عبر دمقرطة المجتمع وتحديثه وانفتاحه على الحياة السياسية، يتطلب تقوية هياكل الوساطة والتأطير السياسي ودمقرطتها وتنظيفها من الفساد لإعادة الثقة في العمل السياسي وتوسيع المشاركة السياسية. ورغم ذلك فإن ما نلاحظه على أرض الواقع يؤكد استمرار استفحال ظاهرة العزوف السياسي لعدة أسباب: أهمها انعكاسات الإرث الثقيل الذي تراكم عبر سنوات طويلة، إذ أضحى بنيات راسخة سواء على مستوى القيم أو على المستوى الثقافي بمفهومه الأنتربولوجي (السلوك، الفعل، التفكير...) أو على مستوى بنيات انتخابية (شناقة، سماسرة ، وسطاء ...) التي تتحكم في كل ذلك القوى المحافظة اليمينية المحلية والوطنية. إذ استمرت هذه القوى - عبر الفعل وليس عبر الخطاب لأن الفعل هو الذي يؤثر في الواقع ويراه الناس- في إفساد العملية السياسية عبر توظيف النفوذ المالي والقبلي والديني وتزكية الزبونية والانتهازية والتجاوب مع الأطماع الشخصية الضيقة وترسيخها. الهدف من كل ذلك، الحصول علي أكبر نسبة من الأصوات تمكن قيادة هذه الأحزاب من تعزيز مواقعها في مراتب السلطة للتحكم في الأمور، وعرقلة أي خطوات إصلاحية على الأرض.
      ينبغي التذكير أن جلب الناس إلى صناديق الاقتراع بدافع المصلحة الشخصية، أو بدافع اعتبارات قبلية أو دينية أو عبر شراء الذمم، من أجل رفع نسبة المشاركة في الانتخابات، بغية منح صفة الشرعية الديمقراطية على المشهد السياسي، هو في واقع الحال اعتقاد واهم. ذلك أن هذه الأصوات غير السياسية لا يمكن اعتمادها في دعم العمل السياسي ومنح المشهد السياسي الشرعية الديمقراطية، كونها لا تقوم لا على جزاء ولا عقاب sanction ولا على مواقف سياسية بناء على الأداء السياسي، بل فقط تخضع لإغراءات وإتاوات متعددة. إن الأصوات السياسية التي تعبر عن آراء سياسية هي التي تمنح النظام السياسي الفعالية والمصداقية والشرعية الديمقراطية وبالتالي الاستقرار والاستمرارية.
    في الختام لابد من طرح سؤال يتعلق بالمآل: هل يمكن توقع تحسين نسبة المشاركة السياسية في المستقبل المنظور وإعادة الثقة في العمل السياسي؟ يصعب ادعاء ذلك. لأن الأحزاب المحافظة واليمينية لا تستطيع الاستمرار في الوجود والحياة دون تلك "الكائنات الانتخابية" التي تعتمد النفوذ المالي والديني والقبلي، وبالتالي ستستمر في الاعتماد على تلك الأصوات غير السياسية. إضافة إلى ذلك فإن الأحزاب التقدمية التي كانت تجلب  الأصوات السياسية ستلجأ بدورها إلى تلك "الكائنات الانتخابية"، كما قامت بذلك في بعض الدوائر سابقا، للحفاظ على مقاعد برلمانية تمكن  قيادتها من نيل بعض المناصب الوزارية عبر تحالفات سياسية مضحكة/مبكية مثلما هو قائم الآن في هذه الأغلبية الحكومية. وإذا ما تحقق ذلك - وأرجح هذا التوقع - ستتجه الأمور نحو إقبار الصوت السياسي، ومن تم إقبار الصراع السياسي، ويتحول الصراع إلى مجرد تدافع عن مواقع في السلطة. وبذلك تضيع أحلام جميلة حملها في الماضي شباب (وأنا منهم) وقادة سياسيون تقدميون كبار في مرحلة ‹‹معركة النضال الديمقراطي››، حيث دفع الكثير منهم ثمنا غاليا في سبيل تلك الأحلام، التي تمثلت أساسا في بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي وحداثي عقلاني يسمح بالتنافس السياسي النظيف والشريف.