في معنى الانتماء إلى اليسار(*) ـ عبدالعالي نجاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

اليساريرى جيل دولوز أن عدم انخراطه في الحزب الشيوعي، إبان تحرير فرنسا من الحكم النازي، جاء نتيجة اشتغاله الكبير بالقضايا الفكرية وكذا عدم اهتمامه بالاجتماعات واللقاءات الحزبية؛ اجتماعات ولقاءات حيث "يسود الكلام إلى ما لانهاية". ويتمثل الانتماء إلى الحزب الشيوعي آنذاك في عقد لقاءات الخلايا السياسية باستمرار، حيث كرس جيل من المناضلين معظم أوقاتهم لتعبئة المواطنين قصد التوقيع على "نداء ستوكهولم"(1)، في حين كان من الأفيد للكثير من المؤرخين الشيوعيين البارزين تكريس مجهوداتهم الفكرية قصد إنجاز أطروحات علمية يستفيد منها لا محالة الحزب الشيوعي، بالإضافة إلى بيع جريدة "الإنسانية"(2) لسان الحزب الشيوعي الفرنسي.

 

وتتمثل القضايا التي طرحها الحزب الشيوعي الفرنسي، يضيف دولوز، في النقاشات حول ستالين وفظاعاته التي كان يعرفها الجميع. لقد اكتشف الفلاسفة الجدد أن الثورة البولشيفية قد زاغت عن مسارها مع ستالين، ويعد ذلك الاكتشاف، في نظر دولوز، مضحكا وفي غاية الحمق. و حديثا، يتم اكتشاف بأن الثورة الجزائرية قد زاغت عن مسارها من خلال قتل الطلبة. لكن من يعتقد فعلا في نجاح الثورة، وتحقيق أهدافها. لقد قام الإنجليز أيضا بثورتهم، وقتلوا ملكهم، فحصلوا بالمقابل على كرومويل(3). وتعد الرومانسية الإنجليزية تأملا عميقا في أسباب إخفاق الثورة. إنهم لم ينتظروا غلوكسمان(4) قصد التفكير في أسباب إخفاق الثورة الستالينية، لأنهم يعرفونها مسبقا. وقد قام أيضا الأمريكيون بثورتهم الحقيقية، وذلك من خلال طرح أمة جديدة وشعب جديد يتجاوزان الأمم والشعوب، مثل ما طرح ماركس مفهوم البروليتاريا. ويعتمد الأمريكيون في ثورتهم على الهجرة الأممية، مثل ما اعتمد الماركسيون على البروليتاريا الأممية. وجهان للصراع الطبقي. ويعد ذلك جد ثوري. إنها أمريكا جفرسون(5) وتوروس(6) وميلفل(7)، أمريكا الثورية التي تعلن قدوم الإنسان الجديد. وقد انتهت بالفشل. تنتهي كل الثورات بالفشل، ويعلم الجميع ذلك، لكن يتم التظاهر بإعادة اكتشافه.

ويكتشف فوري(8) بأن الثورة الفرنسية قد فشلت، فأنجبت نابليون. كما أعطت الثورة الإنجليزية كرومويل، والثورة الأمريكية ريغان(9). ونتواجد بذلك أمام وضعية غامضة، حيث إن فشل الثورات لا يحول دون جعل الناس ثوريين. يتم الخلط بين شيئين مختلفين مطلقا... الوضعيات التي من خلالها المخرج الوحيد بالنسبة للإنسان هو أن يصير ثوريا. نهاية: إنه غموض الصيرورة والتاريخ. يتحدث المؤرخون عن مستقبل الثورة والثورات، ويتقصون الأحداث منذ بدايتها قصد تبيان أن القادم كان سيئا، وأن الأسوء كان موجودا منذ البداية؛ لكن المشكل الحقيقي يتمثل في معرفة كيف ولماذا يصير الناس ثوريين. ومن البديهي أن تدخل أمريكا الجنوبية في صيرورة ثورية، وكذا فلسطين.

إن نجاح الثورة لا يعني نهايتها، بل يعني الدخول من جديد في صيرورات ثورية جديدة. وتعبر مسألة وجود الأشخاص في وضعيات الاضطهاد والقمع عن الصيرورة الثورية الفعلية، حيث ليس في الإمكان فعل شيء ما. كما أن الحديث عن الأمور السيئة التي ستحدث في ما بعد، لا يعني الحديث عن نفس الشيء. كأنما يتم الحديث بلغتين مختلفتين البتة: مستقبل التاريخ والصيرورة الراهنة للأشخاص.

وتعد مسألة طرح ماهية حقوق الإنسان تجريدا خالصا، وبالتالي خواء. ويتماثل ذلك مع الحديث عن الرغبة التي لا تتمثل في بناء موضوع ما، والقول: "إنني أرغب هذا". يتم التواجد بالأحرى داخل وضعيات. كما تعد أحداث 68 التي وقعت في فرنسا بمثابة انبعاث الصيرورة. إنها ليست أحداثا خيالية، بل إنها الواقعي الذي ظهر فجأة؛ فاعلون اجتماعيون داخل واقعهم. أحداث استثنائية وصيرورة حتمية، حيث يعتقد دولوز كثيرا في الاختلاف بين التاريخ والصيرورة. تشكل هذه الأحداث "صيرورة ثورية بدون مستقبل ثوري". وتعد هذه الظواهر الصيرورة الخالصة والمجال الجد خاص الذي بداخله يتواجد بداخله الفاعل الاجتماعي. فما هي الصيرورة بالضبط؟ على أية حال، إن أحداث ماي 68 تعد انبعاث الصيرورة.

فما هو اليسار؟ يعتقد جيل دولوز في عدم وجود حكومات يسارية، مما لا يعني عدم وجود إختلاف بين الحكومات. إن غاية ما يأمل الإنسان حكومة تستجيب لبعض المطالب اليسارية. ويمكن تحديد اليسار من خلال طريقتين:

أولا، يتعلق الأمر بمسألة الإدراك. فعدم الانتماء إلى اليسار يشبه العنوان البريدي، حيث ينطلق الشخص من المنزل الذي يقطن به إلى الشارع الذي يتواجد به، ثم المدينة التي يسكن بداخلها، فالبلد الذي ينتمي إليه، ثم البلدان الأخرى... وبما أن الشخص يعد محظوظا ويعيش في بلد ثري، فإنه يتساءل حول إمكانية استمرار الوضعية القائمة. ويعد الانتماء إلى اليسار إدراكا معاكسا، حيث يصبح الياباني يساريا بحكم إدراكه للقضايا الدولية بداية. ويعد ذلك ظاهرة مرتبطة أشد الارتباط بمسألة الإدراك، حيث يتم إدراك بادئ الأمر الأفق، ويتم في الأفق إدراك عدم إمكانية استمرار الوضعية الراهنة. إن الملايير من الأشخاص يموتون جوعا، وأن تحديد النسل ليس سوى محاولة للحفاظ على امتيازات أوربا. ويعني الانتماء إلى اليسار معرفة أن مشاكل العالم الثالث لا تقل أهمية من مشاكل المجتمعات الغربية.

وثانيا، يعني الانتماء إلى اليسار مشكل مسار، أي عدم التوقف عن التحول إلى أقلية. لا يمكن لليسار بما هو يسار أن يكون أغلبية، وذلك لسبب بسيط متمثل في كون الأغلبية تتطلبن نموذجا(10). في المجتمعات الغربية، يتمثل نموذج كل أغلبية في إنسان راشد وذكر ومواطن المدن. بينما، تعد الأغلبية بالطبع المجموعة التي، في لحظة معينة، تحقق هذا النموذج، بمعنى الصورة المعبرة عن إنسان راشد وذكر ومواطن المدن. إن الأغلبية نموذج فارغ. وتتعرف الأكثرية من الأشخاص على نفسها ببساطة في هذا النموذج الفارغ، لكن النموذج فارغ في ذاته. كما تعد كل مسارات الفئات الاجتماعية مسارات أقليات. ويشكل اليسار مجموع تحولات مسارات أقليات، حيث يمكن القول بأن الأغلبية هي لاشيء، وأن الأقلية هي الجميع، والتي بداخلها تحدث ظواهر المسارات.

الهوامش:
(*) Gilles Deleuze : Qu’est-ce qu’être de gauche ? Entretien de CLAIRE PARNET.
http://www.oeuvresouvertes.net/spip.php?article910
(1) Appel de Stockholm.
(2) L'Humanité.
(3) Oliver Cromwell.
(4) André Glucksmann.
(5) Thomas Jefferson.
(6) Tauros.
(7) Herman Melville.
(8) Furet.
(9) Ronald Reagan.
(10) Un étalon.