مثقف الدولة ـ مراد ليمام

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

citadelleلقد كان للمثقف العربي من صفاء الفكر و نقاء الضمير ما جعله يتماهى مع صفات الأنبياء . و يكفي أن نتذكر ما يبذله البعض من جهد و عناء سواء في الوقت الحاضر أو الماضي . ٳذ يحاول هؤلاء الوصول بالمجتمعات العربية  إلى الغاية القصوى ؛ أي مملكة الغايات ليبلغ الإنسان العربي الفردوس المفقود ، بمطابقة السماء للأرض حيث تضمحل السنوات الضوئية الفاصلة بينهما . لكن و بمقدار ما يحاول هؤلاء جر السماء إلى الأرض ، فإن البعض الآخر يسعى بلا هوادة إلى تعميق الفجوة بينهما ، لتحل لعنة التدمير و الإبادة انطلاقا من فئة نصبت نفسها راعية السماء على الأرض .
فما تناقلته الأقاويل عن لعنة الأقوام البائدة ، لما شاع فيها من صنوف الممارسات اللاأخلاقية – لا نغالي إن قلنا – قد بدأت في الحلول بالمجتمعات العربية . فالتشدق بمواصفات الحداثة تحت جلباب الشيخ ، و فقدان الجذر الوتدي للمجتمع العربي أفقدا الذات العربية القدرة على تخطيط الإجابات الواعدة للوصول إلى المثل الأعلى .
فكيف حال مثقف الدولة دون بلوغ المجتمعات العربية فردوسها المفقود   ؟
مثقف الدولة  أكبر مخترع عندما يتعلق الأمر بتقنيع مصالحه الخاصة ، و ذلك  بزيادة نسبة المدخول التصوري الذي يوهم من خلاله خدمة الصالح العام . و بتعبير أدق ، لا يكف عن اتخاد نفسه بالمعنى النرجسي موضوعا ،مدعيا التكلم عن الآخرين بالنيابة ، متقمصا دور النبي المؤيد بشكل خفي من طرف الدولة .

فتحت ادعاء خدمة الصالح العام يحاول المثقف احتكار مساحة القول داخل الفضاء الثقافي ، بشكل يحتل فيه وضعا يدفعه إلى تحسين دخله و فرض مبدأ التراتب الخاص و الأنسب لإنتاجه . ضمن هذا المنظور ، يتوهم مثقف الدولة  أنه محرك الدمى بفعل وضعية الغفلة التي مكنته من ربط مبادئ منتوجه الفكري بالمشكلات التي يلاقيها بدعوى خدمة التجربة المشتركة .
إن تسليمه بالبداهة الظنية القائلة بكونه حرا في التنسيق على نحو زائف إجابات يخدم بها مصالحه بمبرر خدمة قضايا عمومية ،يحجب عنه الوعي بأن الدولة هي التي أوجدته على ما هو عليه ، وأن شهادة الإقرار بمصداقية منتوجه الفكري لا تسلم له إلا في اللحظة التي تجعل منه ممثلا لشرعيتها . ٳذ تحدد قيمة منتوجه الفكري عبر سلالم تؤشر على مدى صلاحيته في ممارسة سلطتها ، انطلاقا من درجة عليا من الإخفاء .
فالمثقف يجهل التحديد الفيبري ( ماكس فيبر ) بين حكم القيمة و الرجوع إلى القيمة. ففي اللحظة التي يعتبر فيها نفسه متواطئا مع الدولة ، فإنه ينسى إخضاع المقام الذي يشغله للمساءلة النقدية نفسها التي أخضع لها خطاباته المبتكرة في تعالقها بمصالحه و مصالح الدولة . إذ تبقى هذه الأخيرة الإطار القوي المكلف بالتنظيم الشكلي للوجود المشترك ، بشكل يتيح لها إمكانية منحها لنفسها القوانين و التشريعات بطريقة سيادية من جهة ، كما يمكنها من حجب ميكانيزمات العبودية تحت غطاء العدالة القانونية التي تعني تمتع الأفراد – و المثقف ضمنهم طبعا – بالحقوق دون أية  إمكانية للمشاركة في سن القوانين السيادية من جهة أخرى . فالموقع الذي أوجدته للمثقف تجعله مكرها – دون الوعي بذلك – على العمل من أجل رعاية القوانين السيادية ، متطابقا مع المثل الأعلى للمثقف الذي صنعته . حيث يوفر لنفسه كل الصفات الخاصة لزيادة قيمته في سوق مثقف الدولة .
كما أن الدولة تنشأ وهم الاعتقاد في مشروعية المنتوج الفكري لمثقفها عن طريق سلطة تكوين المعطى و سلطة التأثير في المجتمع بالتصرف في قلب تمثلات الواقع . فما تصبو إليه هو  واقع جديد يكون فيه مثقفها شاهد إتباث لما لا أصل له ، أي أن منتوجه يأتي بواقع مخالف لصورة الواقع الحقيقي مع الادعاء بطلب قبوله و التسليم به . ولعل الهدف الحقيقي لا يتمثل في الوصول مباشرة إلى الواقع الوهمي ، و لكن بجعل ذاك المثقف يدل عليه ، و الذي يقتضي معناه الإتيان بغير المألوف أو المعهود مع الإيهام بالحق و الصدق .
من هذه المنطلقات التحديدية ، نعاين سعي الدولة  تحديد مرجعية لها انطلاقا من تغييب الواقع الفعلي . ولعل ما يطرح إمكانية ذلك هو العلاقة المبتكرة بين دور الدولة في ذاك الواقع الوهمي و بين دور المثقف في نسج خيوط نفس الواقع في أذهان الأفراد . فبحث الدولة عن أسس جديدة لشرعيتها جعلها تخلق الوهم في الأذهان عن طريق الكيفية التي يظهر بها المثقف ذلك . فصناعة الوهم عن طريق مثقفها هو تجل لواقع وهمي يظهره - المثقف - بنفس القدر الذي يحجب فيه الحقيقة .
فتلاشي الحدود الفاصلة  بين الأخلاقي و اللاأخلاقي هو المقصد الأساسي للدولة ،يلعب فيه مثقفها دور المعيار المعتمد لهدم خيرية السلوك من عدمه .فلقد أصبح الجهل و الفقر و النفاق ... إجراءات توليدية لواقع وهمي تعم فيه ثقافة الفساد . كما أصبحت مؤسسات الدولة تكرس ظاهرة الفساد على أنها حالة طبيعية و جبلية تساهم في تيسير تمتع الأفراد بحقوقهم . بل أضحى السلوك الفاسد المثل الأعلى للفضيلة المحددة ،و أن ممارسته جزء لا يتجزأ من الحق الطبيعي لكل فرد. و النتيجة هي مظاهر السلوك داخل مجتمعاتنا العربية التي تبدو للعيان أنها تنضبط للمعتقدات الأخلاقية . غير أن التقصي العميق لدوافعها يبرز بجلاء أنها مجرد تمظهرات لجدل خادع ، الأمر الذي يثبت مرة تلوى الأخرى أنها تخدم المصالح الخاصة لفئات معينة . فهذه الأخيرة ، تحمل الناس إلى التصديق – عن طريق المثقف – بدعواها . فكم من مرة لاحظنا انخداع أفراد المجتمعات العربية وهم يبررون سلوكات و أفعال الكثير من المؤسسات في بلداننا العربية ،غارقين في وحل الوهم نتيجة تعطيل دور العقل في التمييز بين الصدق و الكذب .
فدفع الناس ﺇلى الإحساس بالعجز و القصور الذاتي عن استخدام العقل جعل الدولة تتخذ من مثقفها مرشدا لأهل المدينة . إذ تعمل بواسطته على تقسيم الأموال و الطيبات خالقة وهم العناية بالجماعة و صلاح أمرها . فإن سالم أفرادها و أقروا بشرعيتها عادت لتسلبهم و لتفتك بهم ، ثم لتجعلهم منشغلين في تحصيل القوت اليومي يتقاتلون فيما بينهم .
تجذر الإشارة أخيرا ، أننا لا نوافق سيادة الاعتقاد القائل بأن الدولة جهاز جهنمي . و بتعبير أدق ؛ لا ينبغي التسليم بأن الدولة تسكنها الإرادة الشيطانية بحيث تبقى هي المسؤول الأول و الأخير عن كل ما يحصل في مجتمعاتنا العربية ، بل هناك عوامل داخلية مرتبطة بالمكونات النفسية و الوجدانية للإنسان العربي الذي أصبح ينقاد بسهولة مغيبا فعالية العقل و آليات الوعي مكتفيا بالركون إلى عقيدة الغيب التي تقود الغيبوبة .