من زمن الهيمنة إلى زمن الاعتراض : قراءة في الارتباط بين الدلالات المباشرة للتحولات الراهنة ومغازيها المتعالية ـ محمد عمر سعيد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

141025إن الذي يجعل الجماهير في حالة من التيه المستديم أمام ما يحصل من تحولات وعدم استقرار لا يعالج إلا بأداء المفكر دوره في تخريج المغازي الثاوية وراء الجزئيات والتفاصيل اليومية للحظة الراهنة، وغياب هذه المغازي هو الذي يدفع الكثرة إلى فقدان الرؤية السليمة وسيادة التفسير العبثي للأحداث.
وواقع الحال أن المسؤول الأول عن إخراج الجماهير من حالة التردد والحيرة التي تصل بها حد التشوق إلى استعادة وضع مضى زمانه إنما هم المفكرون الذين يَبدون في كثرتهم الكاثرة اليوم تائهين في دوامة التحيُّر؛ فمن للأمة إذن إذا ما غاب عنها وعي المفكرين؟! والسياسي نفسه غير قادر على استيعاب اللحظة في دلالاتها المتعالية أعني مغازيها التاريخية والاستراتيجية العميقة، فغياب دور المفكر في هذه اللحظة ترمي به في بقايا المرحلة التي تسعى الجماهير اليوم لتجاوزها، أي أنها ستجعله حتما من مخلفات الماضي.
ذلك ما يعني أن ننتظر جيلا جديدا من المفكرين سيولد من رحم التحولات العسيرة، إذ حينها سوف لن ترحم الجماهير ذات الروح الجديدة مفكر اليوم التائه بين مصالحه التي تأتيه من الماضي ومبادئه التي يحملها المستقبل، آمالا وتطلعات كان هو نفسه يتشدق بها ويدندن حولها، حتى إذا أقبلت وجاءت بكل زخمها وجدناه ناكصا عنها متحصنا بالماضي ليواري سوءته التي غطتها مراحل الماضي، فمن سيحملها إذن إلا قوم يستخلفهم الله عنا ثم لا يكونوا أمثالنا.


لكن حتى وإن اتهَمتُ المفكر المخضرم بين لحظتي الأمس واليوم اتهاما شخصيا يتعلق بارتباطه بمصالحه وأمانه الشخصي، فإننا لا نفتأ ندرك أن حيرته مبررة بشكل كامل عندما نحاول الإجابة عن سؤال المدخل، أعني عن المغازي السامية لما يحصل اليوم، لأننا سنجده غافلا عنها ولكن لو أدركها سيعض عليها بالنواجد، فأية حقيقة هذه الغائبة عنا؟
برؤية تاريخية متصلة ليس الأمر الحاصل اليوم إلا مواصلة لمسيرة التحرر التي انطلقت بذورها منذ لحظة الأفول ذاته، التحرر من العوائق الذاتية ونظيرتها الخارجية في آن وبشكل متواطئ، لذلك فإننا نرى تحولات اليوم تصطدم باعتراضات كبرى عنوانها الإعاقات الخارجية التي تستعمل أدواتها الداخلية عندنا، وهي اعتراضات مبررة ومفهومة هي الأخرى، لأن تصور الصعود والعودة إلى التاريخ دونما اعتراضات هو ضرب من الخرافة والوهم؛ وبالنتيجة أدت هذه الاعتراضات إلى ما يشبه الفوضى الاجتماعية والسياسية بما يُغيِّب أي أفق لرؤية الفرص والمتاحات التي تمنحها لحظات التحول.
وعلى هذه اللحظة من الغموض بالذات يراهن المعترضون على تيئيس الجمهور من كل طموح يحقق الآمال بل يجتهدون في محاوله صدمه بدوامة من المآسي والآلام وسوء الطالع والإمعان فيها حتى تقطع الشك باليقين بأن الحاصل ليس إلا فتنة أوقعنا فيها المعترضون أنفسهم، بما يبقينا دائما على سردية المؤامرة والاعتقاد بأن الآخر ما يزال حاضرا يعمل فينا بخيوطه السحرية التي لا نكاد نشعر بها أو نراها.
والواقع أن كل ذلك سينطلي حتما لو ما كان لنا التفسير النافي، أعني الأطروحة المضادة، وهذا الذي جعلني أطنب في الحديث عن دور المفكر فيما تقدّم، لأنه الوحيد المخول بتقديم التفسير حضورا فاعلا وترشيدا كذلك للجمهور فيما سيأتي من مسير التغيير الطويل ساعيا إلى إحالته من الغفلة ومحذرا له من اتخاذ الطرق غير المناسبة.
فلا مفر من القول أن التحولات الحاصلة فاجأت المفكر وحطمت الأرضية التي كان واقفا عليها، أعني ذهنية التأَمُّر على الجمهور الساكن في جو من الرتابة والتعقل التام الذي كان سائدا حينها، لكن فجأة تحركت الأرض تمور به وبمن حوله فلم يكن أمامه إلا خيارين اثنين، فإما أن يبقى مدهوشا مشدوها يشاهد وينتظر مستقبلا وهميا لن يأتي بينما المستقبل الفعلي حاضر أمامه بقضه وقضيضه فهو رافض له ويريده عنوة أن يكون على هواه، فواصَل مهمة الأستذة والوصاية على الجمهور بل وتعالى عليه بالاحتقار والاستصغار أو حتى بالتخوين، الجمهور الذي صار بحق هو المعلم والوصي على المصير، لكن ربما كان يتصور أن توكل إليه مهمة إعلان البدء في التحول! على وقع عبارة ما أحصفه من رأي لو كان  صادرا من عندي!
وفريق سحبته التحولات إلى أرض الجماهير واختلط بها حتى اكتنفه ما اكتنف الجمهور من الحماس والإثارة والاندفاع غير العقلي، فكان عليه أن يضحي هو بذهنه المميز عن الآخرين، واللحظة صارت في اعتقاده ليست لحظة تنوير وإنما لحظة تثوير متصورا أنه سينال حظوة القيادة العملية المباشر، لكن شتان بين الفكر والتنظير وبين الانخراط والممارسة، فانقلب فجأة من الدروس الأكاديمية إلى رفع الشعارات فبدى له ما لم يكن يحتسب.  
فلا هذا ولا ذاك تصرف وفقا للمطلوب، وحصل لهم تماما مثلما حصل لرماة أحد عندما انفكوا من معاقلهم لحصد الغنائم التي تصوروها ملكا مشروعا لهم، بينما كان خالد، العدو حينها، يتربص بهم في مكان وزمان لم يكن كبدر، لقد كان واقع أحد جديدا على غير سابق مثال، تماما مثلما هو النموذج الجديد الحاصل اليوم في التحولات الراهنة عندنا، فما هي حقيقة أننا نعيش لحظة نموذج فعلي جديد؟
لم تكن التغيرات المفاجئة إلا إيذانا ببدء مرحلة جديدة وانتهاء أخرى، وأن بين المرحلتين تغيرات لا مرئية عميقة كانت تحصل في الداخل والخارج معا، فما دامت الجماهير قد تحركت وتسيدت المشهد بلا منازع بحيث لم يبق للزمن الماضي إلا محاولات العودة والتنكيص اليائسين، فإن معنى ذلك أن الهيمنة المُطْبِقة قد تحولت إلى مجرد اعتراضات، وشتان بين نموذج الهيمنة المطبقة ونموذج الاعتراض، لذلك فمهما بدا الواقع غير مريح للجمهور أو المتابعين فإن الحقيقة الجديدة والمؤكدة تتمثل فيما أحدثه من البطولة عند تحركه المفاجئ الذي جر بفضله نفسَه والعالم إلى خارج دائرة الهيمنة المعتادة والتي اختيرت له وأجبر على المكوث فيها برهة طويلة من الزمن.
فأن يعترضك شخص ما حتى لا تصل إلى غايتك فيعني أنه يضع العوائق أمامك ويلهيك لتضييع وقتك أو أن يحرف مسارك إن استطاع لكنك دائما تملك فعل المدافعة والمخاتلة من أجل التقدم في المسير، إن هذا وضع لا يمكن قياسه إطلاقا إلى حالة أن تكون مسجونا مكبلا إلى أربع جدر لا يخطر ببالك الإقدام فيه على أي مبادرة.
لذلك كان المعيار في جميع ما يحصل راهنا داخل المشهد الاجتماعي والسياسي إنما يصنف إما إلى جهة زمن الهيمنة الماضي ويفسر أنه صادر عن الإخلاد والارتكاس، وإما نابع من مساعي الجمهور في التحول إلى الزمن الجديد الذي تتحدد ملامحه وفقا لمجريات الأمور، وهذا في الواقع موضوع وجب أن نتنبه إليه.
إن الجماهير لا تقدم على فعل شيء إلا عند ارتباطه المباشر بمشاعرها العفوية المباشرة أو بما قد يرتبط بمصالحها الحيوية، وهي تتوافق من غير شعور منها مع المغازي المتعالية للحراك في اللحظة التاريخية، وتلك هي الدلالة الجوهرية لمعنى التدافع القرآني، وتدخل في ذلك كل الجزئيات والتفاصيل الصغيرة بما فيها الاعتراضات نفسها، وانتهاء إلى استمرار الحرب الأهلية الداخلية ذات الأبعاد الطائفية والطبقية التي يترآى أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة والتي سيتحول الوعي الإسلامي إثرها إلى آفاق على غير سابق مثال، وهذا كله رغما عن الآلام والأحزان، لأنها سنة وإرادة الله في التاريخ لا محالة.        
وليست تنتهي هنا مهمة المفكر في إبراز فضاء التحولات التي تقدّم أنها تحول من فضاء الهيمنة إلى زمن الاعتراض، وإنما ستتواصل إلى بناء النماذج السياسية والاجتماعية المفارقة للنماذج السائدة، نماذج وجب صياغتها نظريا بالتلازم الشديد مع الحاصل الفعلي الذي يشهد تقلبات كونية مثيرة للغاية، فليس على عين المفكر أن تنام أو أن تغفل عن الرصد والمتابعة اليقظة لاقتناص الفرص المتاحة، حتى لا نكرر التجارب غير الناجحة في تاريخنا. والله أعلم