مصر أكبر من مماليكها : محمد علي فرحات

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

egypte 001العفيف الأخضر، النهضوي التونسي المتحـــمس، نموذج مفكرين يعتقدون أن قربهم من النــــاس يقتضي بعدهم من أجواء التدين، وموقفــــهم هذا يستند إلى نهضة أوروبية وصلــــت إلى حدّ عبادة العقل رداً على التحالف الظالــــم بين الإقطاع والإكليروس. كانت المدينة تنمــــو وترســــم أفقاً جديداً للإنتاج يتعدى الزراعة ويقــــودها. إنها المدينة الأوروبية الناهــــضة التي انتقلت شظايا أفكارها إلى بلادنا، ولا زلــــنا نتفاعل معها من دون إبداع يستـــند إلى قاعدتنا الاقتصادية والثقافية. انظر إلى أدبيات النهضة العربية، وكيف أنها عالقة بمادية شبلي الشميل الوثوقية واجتماعيات عبدالرحمن الكواكبي وسلامة موسى ومعاصريهما.


وسبـــق أن شهدنا في بيروت الستينات، نجمــــاً سعودياً هو عبدالله القصيمي الذي أصــــدر كتابه «العالم ليس عقلاً» وأتبعه بكتب أخــــرى تفسره. كان الرجل وارثاً لتَلازُم الاقتراب مــــن مصلحة الناس مع الابتعاد من أجـــواء التديـــن، ويمكن تصنيف كتاباته بأنـــها تراث فولتير عربي، فهي أدب فكري وليست فكــــراً، تمتلئ بالحماسة، كأنها تقود تظاهرة ضد الأمس ومن أجل الغد، وتتطلب متحمسين يهتفون عالياً ضد الماضي، ويجتاحون الأكثرية الشعبية الراكدة وليس لهم بعد الاجتياح من بديل.
لا شـــك في صدق العفيف الأخضر وحماسته مثلما كان سلَفه عبدالله القصيمي، وكلاهما تخرج من المدارس الدينية المعتمدة في بلده، الأول من تونس والثاني من السعودية، وأوصلهما التمرد والحماسة لنهضة متسرعة إلى إعلاء صوت فولتيري يضيع في براري بلادنا وصحاريها الواسعة.
شاهدت القصيمي في «الهورس شو» - شارع الحمرا في بيروت، بجسده النحيل ونظارتيه السوداوين، ومن حوله حداثيون لبنانيون وعرب ينظرون إلى أيقونه الحماسة العلمانية العربية في ما يشبه الدهشة. رجل يكتب منتهى ثورة الحداثة بلغة تقليدية تكاد تتحطم على لسانه، كأن كلماتها، بل حروفها، تتصادم وتقدح شرراً بلا تحفظ. وشاهدت العفيف الأخضر على عتبة الحرب اللبنانية (1975 - ....) بين كوكبة من الحالمين حول الثورة الفلسطينية، لكن العفيف أطلق آنذاك كلاماً مغايراً كان يردده في غير مجلس ومكان. هذا لبنان يُرمى بوردة لا برصاصة، فحافظوا عليه ولا تظلموه. سمعه الكثيرون ولم يستجب أحد، وكان ما كان.
العفيف الأخضر فشل في الانتحار في باريس، هذا ما حملته الأخبار، أما عبدالله القصيمي فيرقد هنيئاً في مقابر المسلمين.
 
عندمـــا زار رجب طيب أردوغان مصر ونصح «إخوانه» الحاكمين بأن يُرسوا نظاماً علمانياً -أي مدنياً- يقوده إسلاميون، رفض هؤلاء نصيحة «أخيهم»، لأنهم يجهلون الحداثة المصرية الغنية أو يحتقرونها. ها هو الشعب المصري يؤكد هويته وكرامته: 30 مليوناً على الأقل يتظاهرون ضد حكم الإخوان في المدن الكبرى والصغرى وفي المناطق كلها. تظاهرة أدهشت حتى منظميها الشبان، الذين اخترقوا الجدار الصلب للإخوان والمعارضة وابتكروا أوراق حجب الثقة الموثَّقة بالرئيس محمد مرسي.
«الإخوان» تعاملوا مع مصر القرن الحادي والعشرين بذهنية ثلاثينات القرن الماضي وأدبياتها الإسلاموية، الناتجة عن رفض حداثة تقودها نخب متمصرة وأعيان محليون ويحميها محتل بريطاني ويقف على رأسها نظام ملكي يحيط به مستشارون أجانب.
لم تكن الحداثة المصرية هي فقط قشرة الأعيان والأجانب والمتمصرين، كانت حركة اجتماعية بنت مدناً ومصانع وتشكلت من حيويتها ثقافة منفتحة على الجديد وتحيي القديم وفق معيار نقدي.
بدا «الإخوان» أدنى مستوى من توقعات خــصومهم، فهم لم يأخذوا بفضائل المماليك، الذيــــن انفتحوا على نخب مصر في عهدهم، إذ فضّــل الإخــــوان «أهل الثقة» على «أهل الخبرة»، طاردين مَن عداهم من مواقع السلطة كلها، وأوكلوا لأشخاص محدودي الفكر والمــــعرفة والخبرة قيادة إدارة عريقة، إلى حد أنهــــم أجلســــوا على مقعد طه حسين رجلاً غريب الأطوار، ما دفع أعلام الفكر والأدب والفن في مصر إلى «احتلال» وزارة الثقافة ومنع الوزير الإخواني من ممارسة عمله المفترض أنه عمل.
يمكن الاسترسال بلا حدود في نقد تصرف الإخوان في حكم مصر أو في «الغنيمة» المصرية، لكن الجماعة أسقطت نفسها قبل أن يُسقطها المصريون، وطرحت جدياً السؤال حول مدى أهلية جماعات الإسلام السياسي للحكم في العالمين العربي والإسلامي. أليس ملفتاً أن فروع الإخوان في المنطقة والإسلاميين الحاكمين في إيران وتركيا التقوا جميعاً حول القلق من حشود 30 حزيران (يونيو) المصرية، كأنهم يتخوفون من حشود مشابهة في بلادهم تبلِّغهم الرسالة: الدين هو العبادة وأخلاقياتها، أما السياسة فهي إدارة رشيدة تستمد أفكارها العملية من مصادر متعددة، من بينها دروس وعبر تاريخ الدين.
حين كان ملايين المصريين يحتشدون توفيــــت في الإسكندرية ملكة إيران السابقة فوزيــــة، ابنة الملك المصري فؤاد وشقيقة الملك فاروق الأول.
المصــــريون طلبوا الرحمة للملكة الراحلة وعبروا عن حنين لها وللعائلة الملكية المصرية، ولأن الماضي لا يعود، فهم يريدون فتح باب المستقبل الذي يقبض عليه «إخوان» أدهشوا مصر والعالم بمحدودية أفكارهم وضعف خيالهم وعدم اعترافهم بالواقع.
ماذا يفعل «إخوان» مصر. سيقاومون حتماً ويلعبون دور الضحية، لأن الضحية تحفظ التنظيم بما يدور حول نضالها من أساطير أو أكاذيب.