مفهوم الذوق عند بيير بورديو ـ إبراهيم السهلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

p160319 2 " إذا كانت الفلسفات المجردة تعتبر الذوق ملكة فطرية طبيعية ترتبط بالإنسان ، فإن رؤية سوسيولوجية بسيطة قام بها  بورديو أدت به إلى الاعتراض ونقد هذه الفكرة ، فليس الذوق ملكة فطرية طبيعية عند الإنسان و ليس معطى طبيعيا في الذات الإنسانية ، بل إن الذوق عند الإنسان يرتبط بوسطه الاجتماعي ، فبالملاحظة و البحث السوسيولوجي الذي قام به ، تبين له أن عملية التذوق تتحدد انطلاقا من الموقع الذي يحتله الفرد داخل المجتمع  ، و من ثمة  فالتمييز في الأذواق و الألوان عملية تتطلب جهدا كبيرا في محاولة تحديد المعايير و الميكانيزمات المتاحة التي تحدد ذوق الفرد .
إن تحديد ذوق الفرد داخل المجتمع أرجعه بورديو إلى الممارسات الثقافية مثل المسرح ، الفن المتحف ... ، وكلها تبقى غير متساوية للأفراد داخل المجتمع الواحد كونه مجتمعا طبقيا بامتياز ، فالانتماء الاجتماعي لطبقة معينة هو الذي يحدد ذوق كل فرد على حدة ، فإذا وقفنا على مثال الفن لكونه يرتبط بشكل وثيق بالتذوق لدى الأفراد ، فإن ملاحظة بسيطة تبين لنا التقابل الصارخ بين جمالية فئة شعبية ترتكز على استمرارية الفن و الحياة التي يعيشها و يحياها الفرد ـ فهذه الفئة تفضل النهاية السعيدة  ـ  وبين فئة أخرى راقية تحاول أن تضع مسافة  كبيرة بين الفن و الحياة ،لأن هذه الأخيرة تمتلك الرموز و الآليات لتفكيك الخطاب ، هذه الرموز اكتسبها الفرد من محيطه العائلي ذي التنشئة الاجتماعية القوية ثم نوعية التعليم الذي تلقاه الفرد .


إذن فالذوق الفني كنشاط ثقافي يبقى بعيدا عن التحديدات الذاتية ، ولا يعتبر الفرد مسؤولا عنها ، بل إنها سلوكات اجتماعية و كفايات استدمجها الفرد من محيطه الاجتماعي ، وهذا يظهر لنا إذا لاحظنا بأن أبناء الطبقات  الشعبية يتصورون الفن ملتصقا بالحياة اليومية ، فيستمر تأثير الفن على حياتهم و هو الشيء الذي يستمر كذلك في أنشطتهم الثقافية ، في حين أن أبناء الطبقات المحظوظة  يرون أن الموقف الفني و النشاط الثقافي ينمان عن وجود تنشئة اجتماعية تحمل ميكانيزمات ثقافية علمية ، كما ينمان عن تكوين مدرسي تعليمي عالي تجعله يضع مسافة بين الفن و الحياة ، أضف إلى ذلك كونهم يتوفرون على رأسمال ثقافي يمكنهم من امتلاك القدرة على فهم الخطاب المجرد و تفكيك الخطاب و تأويله و فك الرموز، و هذا ما يعكس وجود تمايزات في الأذواق و تمايزات في الأنشطة الثقافية ، هذه التمايزات تعتبر رمزية ، وهي انعكاس لواقع مادي  اجتماعي بين طبقات المجتمع . و يضيف بورديو بأن هناك مجالات ثقافية متعددة تعكس التمايزات في الأذواق بين الأفراد ، فنجد الموسيقى الكلاسيكية ، الرسم ، النحت ، السينما ، الصور ، الأغنية ... وداخل هذه الأنماط الثقافية توجد تمايزات متباينة في الأذواق ، فإذا أخذنا الموسيقى الكلاسيكية فيمكن أن نميز فيها بين ذوق شعبي و ذوق متوسط وذوق راقي ، فهذه التمايزات تتجاوز الموسيقى و تظهر كذلك في الممارسات الثقافية  العادية كاللباس ، التزيين ،الرياضة ، الطبخ ... فإذا وقفنا عند المطبخ  فنجد الفئات الشعبية تفضل الأكل الكثير وأكل اللحم عن السمك ، وتظهر بأنها تحديدات ترتبط بالتنشئة الاجتماعية و بأخلاق الفرد و ليست بتحديدات اقتصادية  كما يعتقد . نفس الشيء نجده في الممارسات الرياضية ، فنجد الطبقات الشعبية تحب الرياضات الشعبية ككرة القدم ، الملاكمة ... و كلها رياضات تتطلب جهدا بدنيا و تضحية ، بينما نجد الطبقات الراقية و المتوسطة ، تمارس الكولف ، ركوب الخيل ، التنس ... و كلها رياضات تجعلك تضع مسافة فردية بينك و بين الخصم و تتميز باختيار الشريك .
يظهر لنا إذن بأن العامل الاقتصادي له دور حاسم في تحديد ذوق  ويحاول أن يحدد موقع الفرد داخل السلم الاجتماعي ، من هنا يرى بورديو بأن مكانة الفرد تحددها ثلاث أبعاد رئيسة :
ـ  الحجم العام للرأسمال الذي يملكه الفرد؛
ـ  توزيع هذا الحجم بين الرأسمال الاقتصادي و الرأسمال الثقافي ؛
 3ـ تطور الخاصية الأولى و الثانية  مع صيرورة الزمن ،بمعنى أن الفاعلين يحصنون مواقعهم الاجتماعية من خلال استثمارهم لرأسمال الاقتصادي لتحقيق السيطرة داخل المجالات الأخرى ...            

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟