المفاهيم الأساسية لمقاربة الفضاء المديني والتغير الاجتماعي ـ د. شهاب اليحياوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ecran abstrait creatif 2ـ مفهوم الفضاء الاجتماعي :

    دعنا نتّفق أوّلا ، قبل استدعاء مختلف مقاربات الفضاء، على شبه غياب أو تغييب عديد حقول البحث العلمي لمفهوم الفضاء لا فحسب ضمن علم الاجتماع بل أيضا لدى غالبية علماء الاقتصاد مثلما علماء النفس. يبدو الاهتمام بالفضاء غائبا أو ن سجّل حضوره فلا يتعدّى العرضي والهامشي ؟ ذلك أنّنا لم نجد تخصيصا لمجال تعريفيّ لمفهوم الفضاء والفضاء الاجتماعي ضمن عدد هائل ن البحوث الاجتماعية والحضرية بالخصوص نظرا للعلاقة الترابطية بين إثارة المديني واستدعاء مفهوم الفضاء وحتّى وإن وردت في البعض منها فإشارة لا تعمّقا [1]. وهي ذات الملاحظة التي وقف عليها كلّ من  بيار مرلان و فرنسواز كواي في معجمهما [2] .

أ ـ الفضاء الرياضي:

     تمثّل مقولة الفضاء محور اهتمام الرياضيات وعلمائها الذين يعتبرونها ميدانهم الخاصّ. ويعني الفضاء في مدلوله الرياضي ذلك " الوسط الفارغ " [3] أو هو" ما لا تستطيع تحديده أي ما هو مرادف للاّنهائي " [4].

        تميّز وتصيغ الرياضيات تصنيفات دقيقة لفضاءاتها غير القابلة للحصر من الناحية العدديّة : مجرّدة ، لا إقليديّة ، ذات تقوّسات ، ذات أبعاد محدّدة ، غير محدودة الأبعاد . لكن من وجهة نظر لوفافر توجد مسافة فاصلة تتّجه نحو الاتساع بين لغة الرياضيات والواقع الماديّ والاجتماعيّ تتعمّق معها إشكاليّة غير جديدة على المعرفة تتمثّل في كيفية التحوّل من الفضاء بالمعنى الرياضي أي من القدرات الذهنيّة (المنطق) إلى الطبيعة ، في مرحلة أولى ثم الانتقال إلى الممارسة وإلى الحياة الاجتماعية التي هي ذاتها تكون داخل فضاء يستدعي فهمه معرفة بالفضاء تصنع القطيعة مع ما يسميّه لوفافر[5] بالخطاب حول الفضاء  ويقصد به الدراسات الوصفية للفضاء التي لا ترتقي إلى المستوى التحليليّ وبدرجة أقلّ النظري أو تلك البحوث التجزيئيّة والتقسيميّة للفضاء .


ب ـ سيميائيّة الفضاء :

    ينكشف الفضاء في مدلوله السيميائي كمنظومة علامات يقتضي فهمها لدى أوستكوفتسكي استدعاء مقولة الاستعمال أو الاستخدام الذي يقيمه الفاعل للفضاء الذي يحتلّه ويشغله . فمعنى الفضاء وهذا هو المهمّ يستدلّ عليه لدى فايري أيضا عبر ومن زاوية الممارسة الاجتماعية للفضاء  لذلك فهو يدعو إلى مقاربة وتعقّل الفضاء المديني ضمن سيميائيّة متمفصلة في منظومة دلالة .

       فالفضاء "لا يعني البحث إذا لم يكن دالاّ من زاوية ممارسة اجتماعية وإن لم يكن دالاّ لشخص ما"[6]  . ولعلّ وجهة النظر المعيّنة التي يحب أن يتّجه التحليل السيميائي للفضاء إليها تلك التي يتحدّث عنها تابوراي كأمكنة مجرّدة أين يمكن لسيميائي أن يصف الأشياء الحقيقيّة لكن في علاقاتها ببعضها. هذه العلاقات وبالمثل دلالة الفضاء السيميائي هما معطيين للتحليل من زاوية الممارسات داخل الفضاءات أو الأمكنة . فلفضاء "ما هنالك ممارسة اجتماعية "[7].

    يقارب تابوراي الفضاء كمجال لسيناريوهات عديدة ولربط الصلة بينها أو بين عديد الأشياء . فهو يتناول مثلا موضوع المعمار لا على مستوى الفضاء الخاصّ أي المنزل نفسه بل على صعيد الحيّ أي أنّه يموضع هذا الشكل ضمن حقل مقارنة مع مثيلاتها أو الأشكال المغايرة أو المختلفة عنه من ناحية ويتناوله من ناحية أخرى خارج النموذج اللّغوي الوفيّ لألسنيّة دي سوسير ضمن العلاقة الضرورية بالتواصل الحاصل بين محتلّي الفضاء المديني أو "خلق فضاءات للتواصل"[8] .

      يدفع ديلا هاوس التحليل أبعد ليقارب دلالة الفضاء التي تحتكم عليها وتحتكم إليها الذات المجتمعية بعبارتنا أو مستعمل الفضاء بعبارته عبر تأكيده على مفهوم'' الصلة الاجتماعية '' . الاّ انّ تعقّل هذه الصلة يتمّ في منظوره وجوبا في إطار خاصّ ألى وهو إطار التفاعل والتواصل أو التبادل الاجتماعي [9] للدلالات بين شاغلي الفضاء موضوع التحليل. فكل شيء يتكيّف مع تصرّفنا فيه: مع توظيفنا أي استعمالنا له الذي يضفي عليه دلالته. فالفضاء أيّ فضاء لا يحتمل اعتباره مشهدا وبالمثل لغة ولا يشتغل كنظام أو مدوّنة رمزية يستدعي تأويله استيعاب هذه الشفرة . وهو ما يخرج ، في نظرنا ، سيميائية الفضاء من سجنها السيسوري الألسني الذي تنخرط فيه معظم المقاربات السيميائية لموضوع الفضاء ويضفي عليها بعدا سوسيولوجيّا فهذه المقاربة لا تقصي الفاعل عن موضوع فعله ولا تموقع موضوع الفعل خارج فاعله أي خارج الاستعمال الذي يمثّل، في منظورنا ، وحدة التحليل الأساسية والضرورية لفهم الفضاءات المدينية ومشكلة التغيّر والمقاومة والرفض وكلّ المشكلات المدينية المطروحة على مدن اليوم [10] التي تشهد تداخل أو حضور التقليدي ضمن الحديث والحديث ضمن التقليديّ [11]. ينخرط ضمن هذا التوجّه ودفعا له وفي استدعاء ضروريّ لمقولة الاستعمال التي تعطي لحضور البعد الرمزي للفضاء وبالتالي المخيال والذاكرة الجماعية شرعيّة لا تتأكّد إلاّ مع استدعاء أو موضعة ضروريّة للتحليل ضمن سوسيولوجيا المعيش اليومي.

      لا تتمظهر هذه الممارسة الاجتماعية التي هي مرجع التحليل السيميائي للفضاء لدى ديلاهاوس و تابوراي وغيرهما إلاّ عبر إيديولوجيا معطاة لدى فايري. فالممارسة الاجتماعية بهذا المعنى لا تتمظهر إلاّ عبر منظومة تمثّل أي منظومة معنى. من هذا المنطلق تصبح وجهة التحليل السيميائي لدراسة الفضاء لا عبر هذه الممارسات التي تتمّ داخل الفضاء بل أساسا عبر التمثّلات والمعاش الفضائي. معنى ذلك أنّ دلالة علامات الفضاء لا تتأتّى في منظوره من استعمال الفاعلين الاجتماعيين للفضاءات التي يشغلونها ويتحرّكون ويتصرّفون ضمنها ومعها وعبرها داخل المدينة وبالتالي مع ذواتهم والآخرين غي منظورنا ولا تتأتّى أيضا من المعنى اللّفظي [12] بل هي بالأساس تعبيريّة [13] .

        يطوّر قرايما سيميائية تستدعي علما فرعيّا من علم الرياضيات يعنى بدراسة موقع الشيء الهندسي ، لا بالنظر إلى شكله أو حجمه بل بالنظر إلى الأشياء الأخرى وهي الهندسة اللا كمية أو الطوبولوجيا. ينعكس الفضاء في هذه السيميائية الطوبولوجية كشكل وبالتالي بناء يحيل إلى خلافه أي إلى ما ليس هو ويعرّف بالنظر إلى الامتداد. فمقاربة مكان ما يقتضي في هذا التمشّي موضعته قبالة مكان آخر وبالتالي فإنّ تعري هذا المكان لا يحصل إلاّ بما ليس هو. فألهنا يعرّف بالنظر "للهناك " والمقدّس بالنظر إلى المدنّس والخاصّ بالنظر للعام والداخلي بالنظر للخارجي والأعلى بالنظر للأسفل، إلى غير ذلك من المقابلات التي تميّز جدليّة اليومي لدى لوفافر [14] والازدواجية محور أي مقاربة للحياة اليومية لدى مافيزولي [15] .

       فالفضاء في المفهوم السيميائي الطوبولوجي لا يدلّ على نفسه بل على غيره ، على شيء آخر عداه أي الإنسان الذي يشغله. معنى ذلك أنّ الفضاء كشكل هو لغة يصبح تحيل الباحث إلى ما هو غير فضائي مثل اللّغات الطبيعيّة. من هنا يصبح التحليل هو عمليّة وصف وإنتاج وتأويل لهذه اللّغات الفضائيّة . وتقتضي كلّ دراسة طوبولوجيّة انتقاء قبل أيّ شيء نقطة الملاحظة . وتعتمد هذه الخطوة على عمليّة تمييز أو تفريق ضروريّة بين بعدين : مجال التعبير ومجال المعبّر عنه أي بعبارة أوضح بين دالّ ومدلول. وتتمثّل المرحلة الموالية في التحديد الدقيق لنماذج أو كيفيات توافق هذين البعدين . على أنّ اللّغة الفضائيّة تعني لدى قرايما أو التحليل السيميائي الطوبولوجي ، أي الفضاء ، لغة يدلّ بها المجتمع عن نفسه لنفسه .

      تقارب ، إذا  السيميائية ، الفضاء كمنظومة علامات في استناد واضح إلى مقولة الإستعمال أي الاستخدام الذي يقيمه الفاعلين لفضاءاتهم كما لدى أوستكوفتسكي، أو في علاقة بمقولة التواصل بين شاغلي الفضاء المديني لدى تابوراي. وتتناول السيميائية أيضا دلالة الفضاء من زاوية الممارسة الاجتماعية كما في علاقة بالصلة الاجتماعية ضمن إطار التفاعل والتواصل أو التبادل الاجتماعي كما في إتّجاه ديلا هاوس. يتناول التحليل أيضا الفضاء عبر منظومة تمثّلات أي منى حسب فايري الذي يعتبر دلالة الفضاء لا تتأتّى من الإستعمال بل من قوتّه التعبيريّة  معنى ذلك أنّ التحليل السيميائي يدفع نحو الاتّجاه أساسا إلى التمثّلات والمعاني . إلاّ أنّ ما لم نفهمه في النظرية الفايرية حول الفضاء هو كيفية ربطه دلالة الفضاء، من ناحية بالممارسة الاجتماعية للفضاء . واعتبار أنّ هذه الأخيرة تتمظهر عبر منظومة تمثّل أي منظومة معنى ورفضه فهم الفضاء عبر الإستعمال من ناحية أخرى. يبدو هذا غريبا إلاّ إذا كان فايري يقصد بالاستعمال لا استعمال الفاعلين للفضاء الذي يحتلّونه والذي عبره يقرأ الفضاء. فعبر هذا الإستعمال يتحدّد وينكشف معنى الفضاء وتمثّل الفاعل له . فالتمثّل والاستعمال لا يتموقعان في اتّجاهين لا يمكن لهما الالتقاء بل يتلازمان ويحيلان إلى بعضهما اعتبارا لأنّ الممارسة الفضائية هي جانب من الجوانب التي تشكّل تمثّل الفاعل لفضائه الذي يتعاطاه بعقله ووجدانه وواقعيته وأحلامه وخياله وبذاكرته الجماعية التي تشدّه عبر الفضاء للجماعة وتدلّه عليها عبر الفضاء الجماعي . ونقصد بالفضاء الجماعي لا المشترك بالتحيّز بل بالتصوّر والممارسة والاستعمال .

  2 ـ تمثّلات الفضاء :

      استطاع جون بايلهوس في دراسته لسلوك سائق سيارة الأجرة داخل الفضاء المديني وتمثّله للفضاء الذي يتحرّك ضمنه أي فضاء عمله ، استخلاص وجود وسيط بين الإنسان والأشياء التي يتصرّف تجاهها وهو الرمز. معنى ذلك أنّ تعقّل سلوك الفرد يقتضي حضور مقولة التمثّل في التحليل السوسيولوجي . فتمثّل سائق سيارة الأجرة للفضاء المديني متأتي في ذات الوقت من التجربة الفضائية الشخصية التي هي نتاج الممارسة المهنية ومن خريطة المدينة أي معرفة معطاة أو مملاة. إلاّ أنّ سائق سيارة الأجرة يتراوح فعله بين المملى والشخصي [16]. ويؤثّر ذلك على تمثّله للفضاء وبالتالي تعاطيه له . فاستعمال الفضاء إذا " هو الذي يعطي مدلولا له " [17] . وتتشكّل صورة الفضاء التي منها يتقرّر السلوك الفضائي للمدينيين ،عبر التجربة أي عبر الممارسات الاجتماعية والاستعمال اليومي للفضاء المديني لدى كابال أيضا [18]. تمتلك هذه الصورة حال تشكّلها ، لدى كابال ، نوعا من الاستقلالية عن التغيّر الذي يحصل في الفضاء الحضري . فتغيّر صورة الفضاء لا يخضع، إذا، لآليّة تحديديّة تجعل التغيّر الحاصل ضمنها نتيجة تباعيّة وآليّة لتغيّر الفضاء المديني .فهو، في الواقع، يخضع لعوامل أخرى وبالتالي استدعاء أبعاد عديدة لتعقّل طبيعة العلاقة بين الفضاء وتمثّله.

    يرتبط تشكّل صورة الفضاء لدى الفرد بما يسميّه هورنون و رينولد بفضاء النشاط أي بالمعرفة المباشرة والشخصية في ارتباط بأنشطته اليومية . من هنا تتغاير صورة أو تمثّل الأفراد والجماعات للفضاء المديني الواحد . من هنا ، أيضا ، تتّضح أهميّة توجيهنا ضمن الاستجواب لسؤال حول الأماكن والفضاءات التي يقصدها المستجوب يوميّا. فحصر مجال تحرّكه هو حصر لحدود خارطته الذهنيّة أو جغرافيته الذاتية للمدينة بعبارة كابال أي رؤيته الشخصية للفضاء الذي يحيط به، هذه الجغرافية التي لا تتوافق مع الوسط الجغرافي الفعلي دائما . ف بروكوب ، مثلا ، يعتبر في هذا السياق أنّ الفضاء" يتّجه إلى وضع حدّ له أين تنتهي التفاعلات الاجتماعية لفرد أو جماعة" [19] .

    إذا واستنادا لبالهوس و زنّاد و كابال و بروكوب،فإنّ  فضاء الفرد هو فضاء الإستعمال وفضاء التفاعل وهو فضاء داخل الفضاء . ولا يمكن تناوله إلاّ عبر قراءة في جغرافية تفاعلات فرد أو جماعة واستعمال فرد أو جماعة للفضاء المحتلّ أي بعبارة أدقّ تمثّل الفضاء الذي يستند إلى لعبة استعمال الفضاء" لعبة حيازة واستعمال الفضاء" [20]. يعتبر، لوفافر من ناحيته أنّ الممارسة الفضائية لمجتمع ما تفرز فضائه. فهي "تطرحه وتقترحه في تفاعل جدليّ: تنتجه ببطيء وثبات في الوقت الذي تسيطر عليه وتتملّكه"[21]. ويتطلّب فهم الممارسة الفضائيّة لمجتمع ما فكّ رموز فضائه / فضاء التمثّل أي المعاش عبر الصور والرموز. هذا الفضاء لديه "يقنّع الفضاء الماديّ بإستعمال أشيائه رمزيّا " [22] . 

          يتماثل ضمن الفضاء المتصوّر أي تمثّل الفضاء"المعاش الفضائي والمدرك بالمتصوّر"[23].ويتناول لوفافر الفضاء الاجتماعي ضمن مثلّث المعاش أي فضاءات التمثّل والفضاء المدرك أي ممارسة الفضاء والمتصوّر أي تمثّل الفضاء مثلما نجد أنّ تناوله للممارسة الفضائية يقاربها في علاقة مباشرة بإنتاج الفضاء. فالناسّ ينتجون حياتهم وتاريخهم ووعيهم بعالمهم عبر وداخل فضائهم الذي هو في فكره مادّة ولكنّه أيضا أداة للتفكير مثلما للفعل ووسيلة للإنتاج والمراقبة وبالتالي الهيمنة والنفوذ. هذا الفضاء هو مندمج وملك لجماعة معيّنة تبعا لمتطلباتها وأيضا " أخلاقيتها وجاليتها أي إيديولوجيتها " [24] .

     خلاصة القول، إذا، أنّ الفضاء واحد لكنّ المتعدّد هو التمثّل وهو التصوّر الفردي أو الجماعي لنفس الفضاء الذي يتحرّك ضمنه لا فحسب ماديّا ولكن بالأساس رمزيّا ّ هذا ما يمثّل نقطة التقاء بين عديد الاتجاهات النظرية والمنهجية المتضاربة والمختلفة. إلاّ أنّ بؤرة الاختلاف هي وحدة البحث في موضوع الفضاء والتناول المنهجي الأمثل له .

3 ـ التغيّر الاجتماعي: العفوي والمخطّط

      يحصل تعريف مصطلح التغيّر في تقابل مع مفهوم الثبات الذي يعرّف على أنّه " صفة ما لا يكفّ عن أن يكون هو نفسه " [25]. ويصعد الأصل اللاتيني للكلمة إلى فعل التوقّف، إلاّ أنّ الدلالة المعطاة قبل ذلك وخلال القرنين الثاني والثالث عشر تفضي إلى معنى: ما يدوم باستمرار وبدون انقطاع وبدون تغيّر. وقد عرف المفهوم اتّساعا خلال القرن السابع عشر ليشمل إضافة الصفة الكمّية " التي تحتفظ بنفس القيمة " [26] . يرادف الثبات ، إذا ، الديمومة التي هي كما لدى بوحديبة " مقاومة للتلف"  الذي مصدره التبدّل وبالتالي فالثابت يعرّف بالنظر للمتغيّر والمتغاير واللاإستقرار .

      يمكن مقاربة مفهوميّ الثبات والتغيّر لدى بروني، في نفس الوقت كصفة وككميّة. ويقترن المفهومين ككميّة بقيمة ومقياس الثوابت , ويستندان كصفة إلى جملة من الأوصاف والخصائص والمميّزات. ويرتبط مفهومي الثبات والتغيّر أيضا ونتاجا بمفهوميّ القياس والحالة . فالحالة التي هي صفة لما هو عليه شيء أم معطى ما ، تتحدّد عبر عدد من القياسات ومن الملاحظات حول عدد أدنى من الخصائص المقترنة بالشيء . فإذا تمّ بعد كلّ القياسات والملاحظات والانتباه إلى ذات القيم لهذه الخصائص فذلك يقودنا إلى استنتاج أنّنا أمام حالة ثبات على عكس الحالات المغايرة التي تحيلنا إلى التغيّر.

       إذا، ودائما مع بروني، فتعقّل كلّ من الثبات والتغيّر يقتضي من التحليل استدعاء أربعة تعارضات أو تقابلات: الاستمرارية / التقطّع ، التجانس / اللا تجانس ، التماثل/ التباين ،الإسقرار/ واللاإستقرار .فالثبات يقرن دائما بالاستقرار والاستمرارية وكونه حالة تجانس في مقابل إلحاق واللاإستقرار واللا تجانس والقطيعة بمفهوم التغيّر وبالتالي صنع القطيعة النظرية والفعلية بين الديمومة والتغيّر . معنى ذلك أنّ هذا المنحى النظري في مفهمة الديمومة والتغيّر يقرّ بأنّ الحالة التي تصنع القطيعة التّامة مع البنى القديمة وأشكالها التعبيرية لا تتّخذ صفة التغيّر . لكن يغيب عن هذا الاتجاه أنّ التغيّر لا ينتهي دائما إلى نفي تامّ أو نهائيّ للقديم ، بل أنّ هذا القديم يتواصل بأشكال متعدّدة ومختلفة في ظلّ الحديث أي لا لتغيّر ، لفترة تنتهي إمّا بالاضمحلال نهائيّا بفعل لا فاعلية إواليات المقاومة العائدة له أو الاندماج ضمن هذا الجديد بشكل يضمن له الاستمرارية في الوقت الذي تستمرّ معه مقاومته للتغيّر . هذا الفهم يوجّه وينبّه التحليل إلى الجانب اللاشكلي والعفوي وإلى ظواهر الرفض والمقاومة ويحوّل الانتباه إلى تعقّل وفهم الإشكاليات التي تطرح على التغيّر الموجّه أو المخطّط بعبارة بروني .

       لا بدّ، مثلما نميّز بين الثبات والتغيّر، أن نتبيّن ثنائيّة التغيّر والتطوّر الاجتماعيين والتمييز بينهما.لقد مثّل التطوّر الاجتماعي الموضوع المحبّذ للسوسيولوجيا الكلاسيكيّة : سوسيولوجيا سبنسر و كونت و دوركايم وماركس و فيبر. أمّا التغيّر الاجتماعي فقد شكّلت ظواهره الموضوعات التي تتّجه السوسيولوجيا المعاصرة أساسا لدراستها ومقاربتها عبر مناهج وتموقعات براديغميّة متباينة ومتعدّدة . التطوّر الاجتماعي هو"جملة تحوّلات يعرفها مجتمع خلال حقبة طويلة " [27] تمتدّ على أكثر من جيل، أمّا التحوّل الحاصل على مستوى التغيّر الاجتماعي فهو معطى للملاحظة مثلما للتحليل على مدى أو فترات قصيرة على خلاف التحوّلات في معنى التطوّر الاجتماعي. ثمّ إنّ التغيّر الاجتماعي ، لدى غي روشاي ، يختلف عن التطوّر من حيث كونه مموضع على صعيديّ الجغرافيا والسوسيولوجيا، بمعنى قابليته الأكيدة للملاحظة في زمن أقلّ وفضاء أضيق ممّا هو عليه  بالنسبة للتطوّر الاجتماعي.

       يدعو غي روشاي ،أيضا، إلى ضرورة أن نمفصل بصفة دقيقة بين التغيّر الاجتماعي والفعل التاريخي والسيرورة الاجتماعية. فالفعل التاريخي يستند إلى أعوان التغيّر الذين هم أفراد أو جماعات أو حركات معيّنة ، على أنّ فعل أعوان التغيّر إمّا أن يتّجه إلى مستوى المضمون أي محتوى التغيّر ذاته أو يمسّ من نسقه في اتّجاهي الدفع أو على العكس البحث عن كبحه أي تعطيل تسارع التحوّلات. وقد يتّجه فعل أعوان التغيّر خارج فعل التعديل إلى منع حصول هذه التحوّلات ذاتها سواء كليّا أو في جزء من التنظيم الاجتماعي. يحيل هذا القول إلى الإقرار بأنّ أعوان التغيير يلعبون دورا في مسار التغيّر ونسقه ، إمّا بشكل سلبي أي الرفض والمقاومة للجديد بمنعه أو تعطيل تعمّمه وتجذره في النسق الاجتماعي أو بشكل يوجد دافع ومحفّز للتحوّلات . هذا الفعل ببعديه الإيجابي والرافض هز جزء من الفعل التاريخي الذي هو " تلك الناحية من الفعل الاجتماعي " [28] الذي يتموضع إمّا في ناحية التجديد أو يتعارض معه . فإذا كان الفعل التاريخي هو مظهر للفعل الإجتماعي والمظهر الأكثر سوسيولوجي للتغيّر الاجتماعي،فإنّ السيرورة الاجتماعية تصف أو تحكي هذا التغيّر الاجتماعي . فهي ليست التغيّر يقدر ما هي ذلك التمشّي الذي يحيل الملاحظة إلى  تسلسل الظواهر والأفعال مثلما إلى كيفيات انتظام وتراتب وحدوث الأشياء في الزمن .

        يحصل تعريف التغيّر ، إذا ، في حضور أكيد لمقولة الاختلاف أو التباين وهو ما نجده في تناولات كلّ من بروني وآشي و بلتيسون. تسمح لنا هذه المقولة بإدراك وتمييز حالتين يفضي إلى تبيّن وملاحظة حصول تغيّر ما. معنى ذلك أنّ التغيّر يتمفصل لدى آشي عبر مفهوم الحالة في مجاليّ الفضاء والزمن في ذات الوقت . يقابل القول بالاختلاف ، لدى غي روشاي، مقولة التحوّل. فالتغيّر لديه تحوّل قابل للملاحظة في الزمن على أن يمسّ بنية أو اشتغال التنظيم الاجتماعي لجماعة معيّنة في الزمن والفضاء. فالتحوّل البنيوي هذا يحدث تأثيرات على مجرى تاريخ هذه الجماعة المعيّنة. يصبح،إذا،ظاهرة اجتماعية إعتبار لضرورة أن يتوجّه إلى ظروف وأنماط حياة جماعة ما . ويفترض في التحوّل في معنى التغيّر لدى غي روشاي أن تتلوه بلورة لهذا التنظيم سواء في مجمله أو في بعض مكوّناته أي تغيير جزئيّ أو شامل ينبغي معه أن يكون هذا التغيّر قابلا للملاحظة ولتعيين ووصف هذه المشكلات الحاصلة في عناصر أو كلّ التنظيم الاجتماعي ، يختلف التغيّر الاجتماعي عن الحدث العرضي . فهو يبرهن عن دوام أي استمرارية في مستوى التحوّلات الملاحظة . تصنع هذه الديمومة الفارق المفاهيمي بين التحوّل بمعنى التطوّر وفي معناه المحيل إلى التغيير مثلما تسمح لهذه التحوّلات بأن تفعل في التنظيم الاجتماعي.

      يطرح تناول موضوع التغيّر الإجتماعي ضمن الفضاء المديني داخل المدينة العربية الإسلامية بالذات ، عدّة إشكاليات تعترض مسألة التنمية الحضرية ضمنها . ولعلّ أهمّ ما يستدعيه موضوع التغيّر الاجتماعي هو الرفض أو المقاومة ضمن المعاش اليومي الفضائي والسلوكي والتواصلي للفاعلين المدينيين سواء كانوا أفرادا أو جماعات . هذه المقاومة لا يجوز أن ينظر لها على كونها مجانيّة أي لا تحيل إلى معنى وإلى دلالة تكشف موقع الفاعلين ومدى مشاركتهم أو انخراطهم أو إقصائهم وتهميشهم من التخطيط للتغيير المديني وبالتالي الاجتماعي .

      تتقنّع هذه المقاومة في أشكال عدّة ويتّخذ الفاعلين ضمنها استراتيجيات فعل متعدّدة ومختلفة من بينها ما يعنينا هنا في هذا المجال المتعلّق بالتغيّر وهو ما يسمّى بالتغيّر العفوي أو بما نسمّيه بالتغيّر الموازي الذي يتواجد ضمن وعبر التغيّر المبرمج والمخطّط والموجّه حتّى وإن كان لا يستجيب بصفة كليّة لشروط التغيّر الأربعة التي ذكرناها آنفا ، استنادا لـ غي روشاي. فالسؤال يجب ، إذا ، أن يتوجّه إلى التمييز المفاهيمي بين التغيّر الموجّه أو المخطّط بعبارة  بروني والعفوي أو الموازي .

أ ـ التغيّر المخطّط أو الموجّه : القصدي والعقلاني .

      يعرّف أحديّ أهمّ منظّري تطوّر التنظيمات والتغيّر المخطّط  وهما تيسياي و تيلياي [29] التغيّر المخطّط على أنّه القابل لإحتواء كلّ محاولة تحضير أو تمدين عقلانيّة لتحوّل النسق الاجتماعي . ويحيل هذا الشكل من التغيّر مباشرة إلى العقلاني الذي يرادف التخطيط مثلما لمفهوم القصديّة . يصبح التغيّر المخطّط ، إذا ، وبهذه المفهمة ، تغيّرا عقلانيّا قصديّا يستجيب لإكراهات أعوان التغيير والجماعات التي يخدم هذا التغيّر مصالحها وأهدافها . وتحيل القصديّة إلى معنى الجبريّة (التحديديّة) المتجسّدة عبر المراقبة ووسائل الإكراه داخل الفضاء المديني منطلق ومسرح وهدف التخطيط بالنظر لبنية السلطة وموازين القوى ضمنه. وقد يكون التغيير المخطّط القصدي والموجّه أيضا نتيجة لا سلطة فاعل ـ جماعة بل نتيجة تفاوض على أنّ هذه النتيجة تكشف عن تساوي ميزان القوى رغم التقاء الأهداف . إلاّ أنّ هذا الشكل من التغيّر المخطّط في نظرنا يقتضي التقاء القوى المثقّفة في مستوى لا فحسب الأهداف والمصالح بل أيضا التمثّلات والتصوّرات أي مناهج ووسائل تجسيد هذه الأهداف والمصالح . لا يعني هذا التغيير تساوي السلطة ضمن هذا العقد المصلحي التفويضي . فالتحالف يقتضي أو يكشف عن تنازلات على صعيد السلطة ووسائل المراقبة وإكراه وعلى صعيد الأهداف ذاتها مثلما على مستوى تعريف المشاكل واستنباط الحلول والاختيار من بينها. فإذا كان الاتفاق على صعيد المصالح والأهداف قائم فإنّه قد لا يتحقّق على مستوى تحديد وتعريف المشاكل. وإذا تمّ في هذا المجال فقد لا يكونه على صعيد اختيار الحلّ مت بين الحلول. [30] فهذا الأخير يخضع إلى بنية السلطة داخل هذا التحالف واستراتيجيات القوّة أو القوى الأكثر تثيرا . يسمّي لادروت هذه القوى داخل الفضاء المديني بالأعوان المدينيين ويصنّفهم إلى : أعوان جماعيين عموميين وأعوان خواصّ . ويعتبر أنّ طبيعة العلاقة بين هؤلاء الأعوان المدينيين فيما بينهم وبين السلط والتجمّعات والمؤسّسات " هو الطريق الذي يجب أن نسلكه إذا أردنا لا فحسب معرفة النظام الجماعي الخاصّ بكليّة حضريّة معيّنة بل أيضا النماذج الجماعية الممكنة للفعل وللنظام" [31]. وتوجد علاقات محدّدة بين بنية الفعل وبنية السلطة وبين هذه الأخيرة والبنية الفضائيّة ثمّ بين بنية المؤسّسات وبنية الفعل . يصبح التغيّر ، بهذا التصوّر اللادروتي، موجّها بطبيعة العلاقة بين هذه البنى وأنّ أيّ تغيّر يجد تفسيره في هذه العلاقة بين الأعوان الجماعيين الحضريين .

       يضع مفهوم التغيّر الاجتماعي المخطّط أو الموجّه التحليل أمام الجانب الشكلي للتنظيم الاجتماعي داخل الفضاء الحضري وللكليّة المدينيّة . ويستدعي أيضا مفاهيم أخرى لعلّ أهمّها:الأعوان أو الفاعلين الاجتماعيين ، الفعل الاجتماعي ، المراقبة والإكراه الاجتماعيين،الرفض والمقاومة واستراتيجيات الفعل والتخطيط التي يصنّفها تيسياي و نورو إلى أربعة وهي:التعميم / التخطيط / الاستشارة / والإدارة المشتركة للتغيير [32] ، بالنظر إلى معيار المشاركة .

ب ـ التغيّر العفوي أو الموازي.

      يستدعي التغيّر المخطّط إتّجاه التحليل نحو مقولات الشكلي ونحو العقلاني والقصدي والمنظّم والموجّه ونحو مفهوم المشاركة بالأساس , فالتغيّر المخطّط ضمن المديني يحيل إلى أربعة استراتيجيات حسب تيسياي لإحداث التحوّلات داخل التنظيم الفضائي والاجتماعي المديني . وتحاول كلّ إستراتيجية تغير درجة تشريك الفاعلين في تحديد المشكلات وتصوّر واختيار الحلول  وتحديد وسائل ومناهج تطبيقها [33] أو في ما يسمّيه لادروت بالأعمال العموميّة [34] .

      إذا كان التغيّر المخطّط يضعنا أمام مقولات المشاركة، التشريك، السلطة وميزان القوى السلطوي داخل المدينة، فإنّ التغيّر العفوي يحيلنا إلى اللاشكلي وإلى المخفيّ والمقدّس والخيالي والرمزي مثلما إلى مقولات : المقاومة وإلى الفاعل المديني ذاته . والفاعل المديني في قصدنا هو شاغل الفضاء المديني والمستخدم أو المستعمل له . إنّ الإستعمال هو وحدة البحث الضرورية لتعقّل وفهم تعاطي الفاعلين للفضاء المديني الذي يشغلونه ويتحرّكون ضمنه كجسد وذاكرة ويتفاعلون ويحيونه عبر إدراكهم وتمثّلاتهم له "وتحيى معهم المدينة " [35]. وتقرأ الذاكرة عبر استهلاك أو استعمال الفضاء بإعتباره " مجال المجازات " [36] وبالتالي المعاش الفضائي للفاعلين المدينيين . ننظر بهذا المعنى " للتغيّر الاجتماعي كعملية فضائيّة " [37]. تصبح معه مقاربة التحليل السوسيولوجي لليومي أي حياة كل الأيّام بكلّ تفاصيلها حتّى البسيطة منها أمر ضروريّ. فضمن الوضعيات البسيطة [38] لليومي والمعاش الفضائي يجد التغيير العفوي تفسيره. فاليومي هو مجال تموضع الذاكرة في المعمار والتوزيع الوظيفي والترتيب اليومي للفضاءات والاستعمال وبالتالي مجال المخيال الجماعي وللرمزية والمقدّس أو واللا مقال. وهو ما يذهب إليه مافيزولي في اعتباره أنّ " التعلّق بالمنزل وبالأرض وبالمكان وبالعادات يقوم على هذه الخاصيّة المقدّسة " [39] .

       إنّ ما نعبّر عنه بالتغيّر العفوي أو الموازي لا يطرح نفسه ضمن المدينة كتحوّل أو تبدّل بل تواصل مع الماضي واستدعاء يومي للذاكرة الفضائية الجماعية ، يضع التقليدي في قلب الحديث والحديث في مواجهة أشكال أو أنماط حياة تقع في جوهر القطيعة التي يهدف إلى تأسيسها مع ما يمدّ إلى الخلف ويخلق الازدواج والمقاومة أي كبح ما يتّجه إمّا إلى المضمون أو شكل أو نسق التغيّر الموجّه أي التمدّن والحداثة في المدينة العربية الإسلامية اليوم. وهو ما يشكّل تقريبا موضوع إجماع كلّ دارسي المدينة العربية الإسلامية.

    لا يطرح التغيّر العفوي نفسه كبديل للتحوّلات التي هي نتاج وموضوع المراقبة الاجتماعية وإنّما كتعبير رمزيّ للرأسمال الثقافي وللذاكرة الفضائية لجماعة أو جماعات اجتماعية معيّنة ورفض ومقاومة للتجديد وما يشكّله من تهديد لقيمها ومعاييرها وتمثّلاتها ومع صورتها لذاتها ولما حولها ، التي تحقّق لها تواصلا مزدوجا مع الفضاء : تواصل مع الماضي وبالتالي الذاكرة عبر الفضاء الممارس والمعاش عبر هذه الصورة والتمثّلات الفضائية مثلما الأهداف. وهو ما يخرج الفاعل من اجتماعويته الدوركايمية وعقلانيته المفرطة التي تحيل إلى الوعي الخالص وتقصي جانب اللاوعي الفردي مثلما الجماعي أي يخرج التحليل من المغالاة والاختزالية المفرطة في بعديها الجمعي والفرداني . وتواصل من ناحية أخرى مع الحاضر المديني بشكل يحقّق لها الاندماج مع الاحتفاظ بهويتها وحمايتها أي بمجال فاصل بعبارة مافيزولي أو مجال للغرر بعبارة كروزي يضمن لها هامشا من المناورة والتفاوض لتحقيق هدف مزدوج ينعكس على كلّ مظاهر المعاش اليومي.هذا التقابل بين"الدوام والتغيّر الملاحظ والمنعكس في المعاش الفضائي يشكّل إحدى المشاكل السائدة للتمدّن ، في المدينة العربية التقليدية مثلما المعاصرة " [40] وهو ما يجعلنا نطلق عليها مع الدكتورة زنّاد  تسمية : المدينة المزدوجة .

ج ـ استراتيجيات التغيّر :

        إنّ قصديّة التغيّر الموجّه مثلما عفويّة التغيّر الموازي رغم إحالتهما للتحليل على طرفين مختلفين لكنّهما غير متعارضين أو متناقضين بالضرورة دائما ، فإنّهما يقتضيان استدعاء مقولة الإستراتيجيّة. وقد إتّخذ هذا المفهوم معاني عدّة لدى منظّري  التغيّر القصدي مثل قريني و إدقار سشان و وارن بينيس و ليفين وغيرهم . ويمكن تضمين مفهوم الإستراتيجية في ثلاثة معان . فـ وارن بينيس وإدقار سشان يسندان لمصطلح الإستراتيجية برنامج أفعال أي دلالة تنظيم أو بنية وسائل متعدّدة  متبنّاة من قبل عون أو أعوان التغيّر القصدي العقلاني لتحقيق أهداف معيّنة. أمّا بالنسبة لليفين فيرادف بين الإستراتيجية والمقاربة. فالإستراتيجية هي مقاربة التغيّر بمعنى أنّها تمثّل الكيفيّة التي سيتبصّر بها العون مشكل التغيّر الاجتماعي، أي أنّ العون يختبر المنظومة الاجتماعية التي ضمنها يتدخّل لإحداث التغيّر [41] . وتتّخذ الإستراتيجية دلالة تقنيّة أو أداة أو منهج فعل يحدّده ويلتزم به العون لتحقيق الأهداف المضبوطة مسبقا . يقترح كلّ من نورو و تيسياي و ترنمبلاي تعريفا توفيقيّا وأكثر شمولية من التعريفات السابقة, فالإستراتيجية تتّخذ لديهم معنى"مجموع وسائل مستخدمة وأفعال ملتزم بها من قبل عون ضمن فضاء معطى لغاية بلوغه هدف خالص"[42]. يجمع هذا المفهوم بين الدلالات الثلاثة المعطاة لمصطلح إستراتيجية التغيّر القصدي أي المخطّط. وهو يحتمل قابلية استعارته أيضا ضمن تناول التغيّر العفوي أي فعل الفاعلين الاجتماعيين في النسق الذي يتلقّون إكراهاته أو إلزاماته ولكنّهم لا يذوبون كليّا في تحديداته . فالفاعل يملك فعله وهو يد وقلب موجّه بمثيرات اقتصاديّة واجتماعية لكنّه يملك عقلا أي أنّه كائن مستقلّ قادر على الحساب والتكيّف والتخيّل في علاقاته مع التنظيم وبالتالي يحتكم ضمن أفعاله إلى مصالح أو أهداف قد تتّفق مع الرسمي والمبرمج أي القصدي والموجّه وقد تتعارض معه . من هذه الزاوية يوظّف الفرد وسائل لبلوغ أهدافه وبالتالي إستراتيجية تكيّف أو اندماج أو مقاومة للتجديد وللتغيير تتحدّد بمدى التقارب أو التعارض أو إمكانية ذلك بين ما يطرحه التجديد وأهداف الفاعلين المدينيين مثلما تصوّراتهم وتمثّلاتهم وقيمهم ومعاييرهم الثقافيّة .

       إنّ مقولة الإستراتيجية سواء على مستوى القصدي أو العفوي تقود حتما إلى مقولتيّ التخطيط والعقلانيّة. إلاّ أنّ المغالاة في القول بعقلانية الفاعل الاجتماعي وبالتالي الفعل الاجتماعي يقع خارج متون البحث وبالمثل الجبرية الاجتماعية التي تغتال الفاعل وتعزله عن فعله وتحوّله نتاجا لعون آليّ للنسق أي السياسة التمدينيّة ولأعوان التغيير المخطّط . فالفضاء المديني لا يستجيب دائما لوظيفيّته التخطيطيّة ولا يفرز التغيّر المبرمج عبره.لأنّ الفضاء يؤوّل أي يعاش عبر كلّ الموروث القيمي والمعاييري المتّصل بالفضاء المرجعي لشاغلي الفضاء المديني أي عبر الوجه الآخر للواقع الغير مغاير بالضرورة وهو وجه الخيالي والخارق والمقدّس والرمزي في بعده لا الفردي بل الجماعي . فالفضاء المديني هو حقل تفاعلات بين الشكلي واللاشكلي : بين الموجّه والعفوي / بين الضبط الاجتماعي والمقاومة أو الرفض أي بين استراتيجيات فعل متعدّدة ومختلفة ونتاج لها . معنى ذلك أنّ مقاربة ظاهرة التمدّن أو حاضر المدينة يقتضي استدعاء كلّ الأعوان أو الفاعلين المدينيين . لكن من هم هؤلاء . هذا ضروريّ تبيانه حتّى تكتمل الرؤية لدى القارئ لتعقّل توجّه البحث في إحاطته بموضوع بحثه .

  4 ـ مفهوم الفاعل المديني : من هم الفاعلين المدينيين

      إنّ أيّ طرح لمسألة التنمية الحضريّة والتغيّر المديني لا يجب أن يقف عند المستويات التي يتحدّث عنها لادروت وهي التخطيط الحضري والمراقبة المجتمعية. فالتخطيط كما سلف وأن أشرنا يحيل إلى ضرورة تبيّن إستراتيجية التغيّر المتبنّاة ووسائل المراقبة " العقلانيّة للتمدّن وللتنمية " [43] داخل المدينة. لا يكفي ذلك بل لا بدّ للتحليل السوسيولوجي أنّ يتساءل عن أعوان التغيير. لأنّ هذا البعد التحليلي هو الذي يفضي بنا إلى شكل التخطيط التنموي والحضري مثلما إلى الجماعة أو الجماعات المؤثّرة أو الموجّهة له. ثمّ إنّ أيّ تنظيم "لا يوجد إلاّ عبر وساطة فاعلين " [44] والتنظيم ذاته هو " بناء اجتماعي أو نتاج نشاط إنساني" [45] .

      تستدعي ، إذا ، مقاربة التخطيط الحضري والتغيّر الاجتماعي داخل الفضاء المديني ضرورة الفاعلين المدينيين ، لكن من هو الفاعل المديني ؟ يستخدم منظّري التغيّر المخطّط والقصد داخل التنظيم عبارة : عون أو أعوان التغيّر ويطلقونه على من"يتصرّف في الفاعلين التنظيميين بمقتضى تفويض ظاهريّ أو ضمني من الإدارة لغاية الحثّ على تغيّر مخطّط ضمن إطار الأفعال المنسجمة والعقلانية " [46] . لكن نجد أنهم يستخدمون مصطلح الفاعل للإشارة لعون التغيير مثلما (الجماعة ـ التابعة) [47] أي الموجّه إليهم التخطيط أو هم هدف التغير المخطّط. ثم إنّ ما يميّز استراتيجيات التغيّر القصدي والموجّه ، لدى روبارت بوبار هو نمط تقاسم مراقبة مجموع تمشي التغيّر . معنى ذلك أنّ الفاعلين في سلوكهم العيني " لا يستجيبون لقواعد مغلقة " [48] أو بعبارة كروزي الإلزامات البنيوية التي تشكّل" السياق الذي ضمنه يحيا الفاعل" [49]. يطلق ، إذا ، منظّري التغيّر الموجّه اسم العون على المخطّطين والفاعل على الموجّه لهم التخطيط  ويستدعي جانب العون مقولات التخطيط وتحديد المشكلات وانتقاء الحلول واختيار وسائل ومناهج تجسيدها ووسائل مراقبة التحوّلات ، أمّا جانب الفاعلين فترافقه مقولات المشاركة ، الرفض والمقاومة أو الانخراط والتبعيّة .

         يسمّي لادروت أعوان التغيّر لدى تيسياي بالأعوان الجماعيين المدينيين . ويتصنّف الأعوان الجماعيين إلى أعوان جماعيين عموميين وأعوان مدينين خواصّ.  يشمل الصنف الأوّل صنفين هما: الأعوان الجماعيين البلديين وأعوان الخدمات المحليّة للإدارات المركزية. ويعطي موقع الأعوان الجماعيين البلديين لسلوكهم كأعوان عموميين وللتصرّفات التي تنتج عنها، مكانة ودلالة مميّزة وخصوصية ضمن الأفعال التي لها تأثيرها على الجماعة الحضرية. ويميّز لادروت في إطار هذا الصنف بين :

        ☼ ـ دور أعضاء البلدية المتّسم بالشمولية بالنظر للمستخدمين بإعتبار تعلّقه بالاختيارات الأساسية ضمن التخطيط المديني والتنمية الحضرية أي التغيّر المديني.

        ☼ ـ دور المستخدمين الذي هو دور جزئيّ بإعتباره مرتبط بغايات مخصّصة

أمّا الصنف الثاني من الأعوان الجماعيين العموميين وهم أعوان الخدمات المحليّة للإدارات المركزية فقراراتهم لا تجد مرجعيتها مباشرة داخل الجماعة المحليّة موضوع القرار ، لكن طبيعة العلاقة التي تربطهم مع الأعوان الجماعيين البلديين تحتلّ مكانة هامّة وحسّاسة في مسألة الاندماج الحضري .

    إنّ الفعل في الفضاء المديني وفي الاندماج الحضري يتّسع ليشمل من يسميهم لادروت بالأعوان المدينيين الخواصّ وهم مجموعة متشكّلة من الباعثين المحلّيين الذين يحتكمون هم أيضا على سلطة. وتمارس مؤسّساتهم تأثيرات متعدّدة على المدينة تتجاوز المستوى أو الفعل الاقتصادي. فللأعوان الحضريين الخواص تأثير على ترتيب الفضاء الحضري وحتّى النمو الديموغرافي بفعل المبادرات التي يتّخذونها وتنعكس آثارها على المحيط المديني . يلعب " التجّار والحرفيين ورؤساء المؤسّسات والباعثين العقاريين دورا هامّا في نمذجة المدينة على الأقلّ في جزء منها " [50].إلاّ أنّه لم يوضّح : هل في جزء من المدينة أو في جزء من فعل التشكيل أو النمذجة . يصبح الأعوان الحضريين الخواص إذا أخذنا بالمعنى أو التأويل الثاني طرفا من بين الأطراف. يتعيّن على لادروت تبيان جانب الإسهام وأهمّيته في عملية تشكيل أو نمذجة الفضاء المديني. وهو ما استدركه الباحث وإن ليس بالدقّة المطلوبة حين دفع بتحليله إلى مستوى تأطير فعلهم في المدينة ضمن إطار المراقبة الاجتماعية للتحضّر. فقراراتهم وسلوكاتهم تتّخذ لديه اتّجاها أو نزعة جمعيّة . ويختلف مستوى اندماج سلوكهم حسب"حدّة وطبيعة المراقبة الاجتماعية الحضرية" [51].ومّما يضعف، في نظرنا،الأهميّة التي يسندها لادروت اعتباطيّا للأعوان الحضريين في نمذجة المدينة هو إخضاعه فعلهم لتبعيّة مزدوجة. فمن ناحية يتحدّد حجم تأثيرهم على الفضاء المديني وتكييفه للمراقبة الاجتماعية الحضرية ومن ناحية أخرى بالإجماع المديني أي الأهداف الأساسيّة محلّ اتّفاق وإجماع متساكني المدينة التي تحدّد "انسجاما ما في استعمال الفضاء أي نظام فضائي معيّن" [52] .

      تلعب العلاقات لا الممكنة أو المتوقّعة أو المفترضة بل الموجودة فعلا بين الأعوان المدينيين الخواص أي المقاولين والتجّار والحرفيين وأصحاب مؤسّسات البعث العقاري والمؤسّسات الصناعية، دورا فاعلا في إواليات اندماج السلوكات وعمليات مشاركة الأشخاص. ويحتلّ شكل العلاقات بين هؤلاء الأعوان وبين أفعالهم ، مكانة رئيسيّة في صياغة أنماط تنظيم الجماعات المدينيّة .

        يميّز لادروت بين القرارات المنتجة للتغيّر والقرارات المتّخذة حول التغيّر نفسه وحول شكله لا محتواه . وهو يميّز أيضا ضمن القرارات والأفعال المنتجة للتغيّرات بين تلك المنتجة له مباشرة ويسمّيها "المشروعات " [53] والقرارات التي لا تفرز نتائج إلاّ بكيفيّة لا مباشرة ويسمّيها"تحفيزات". ويتجاوز التباين بين هذين الصنفين من القرارات مستوى المباشرتية إلى مستوى الغايات. فغاية الأفعال والقرارات المنتجة مباشرة للتغيّر أكثر ايجابيّة وتقنيّة وأكثر ضيقا وقربا ، في حين أنّها أوسع وأكثر لا تحديديّة أو جبريّة في الزمن وأكثر معياريّة من الغير مباشرة . أمّا الأفعال والقرارات المنتجة التي تمارس حول التغيّر خاصّة من قبل الأعوان العموميين فهي ذات نزعة كبحيّة للتغيّر بما أنّها تهدف إلى " تحجيم ومراجعة وحتّى إلغاء أو تعطيل عديد الأفعال" [54]. لكن الاتجاه الكبحي لهذه الأفعال والقرارات لا يحجب الجانب الإيجابي لها. وتتجسّد ايجابيتها في" توجيه وبلورة وتحويل التغيّرات في حينها " [55]. وهي قادرة على الوصول حتّى إلى تغيير إتّجاه عدّة انجازات دون أن يفضي بها ذلك إلى إلغائها أو إيقافها . على أنّ الوسائل مثل أشكال الفعل ليست متاحة لأيّ احتكار من قبل أيّ من الأعوان الحضريين. معنى ذلك أنّه لا وجود لديه لتصنيف للوسائل ولا لأشكال الفعل يوازي تصنيفه للأفعال والقرارات أو الأعوان المدينيين الجماعيين . فكلّ شكل للفعل تعطيليّ أو تحفيزيّ للتغيّر وكلّ وسيلة معطاة لتوظيف متعدّد الأعوان الحضريين الخواص والعموميين . يصبح من الضروريّ على أيّ بحث،إذا،أن يتّجه أساسا إلى تعقّل أشكال ونماذج فعل متعدّد ومختلف الأعوان المدينيين في المدينة وتشكّلها. فلا يجوز، في نظره، إلحاق شكل معيّن للفعل أو وسيلة ما بصنف معيّن من الأعوان العموميين البلديين دائما في الإكراه أو المراقبة مثلا في مقابل إسناد المبادرة للأعوان الخواص. ذلك ما يعني أنّ المراقبة والإلزام والمبادرة ليست موضوع احتكار كامل ونهائيّ بقدر ما هي موضوع اشتراك لكن يشمل ما هو غير مستقرّ نظرا لخضوعه لعوامل محدّدة عدّة. لذلك يعتبر لادروت أنّ التمشّي الحقيقي يتمثّل في التوجّه بالتحليل أساسا ، إلى تمثّل العلاقات القائمة أو الفعليّة والراهنة لا فحسب بين أعوان الحضريين والسلط والتجمّعات والمؤسّسات لتبيّن النظام الجماعي للجماعة الحضرية بل أيضا النماذج الممكنة للفعل وللنظام الجماعي لمدينة معطاة.

     هل يمكن اعتبار متساكني المدينة أو بعبارة أخرى شاغلي الفضاء المديني أعوان مدينين ؟ وهل يمكن أن يكون لأنشطتهم وأفعالهم دلالة ووظيفة جماعية ؟ هذا ما يطرحه ويتساءل عنه لادروت وما يمثّل جوهر بحثنا . لا ينفي لادروت جمعيّة سلوك شاغلي المدينة لكنّه يقرنه بشرط مستوى مشاركتهم وانخراطهم في الحياة الجماعية للمدينة أو الجماعة الحضرية . فحياة المتساكنين "تتعلّق في كلّ لحظة بتهيئة الفضاء المديني" [56]. لكن حياة الجماعة الحضرية أي متساكني المدينة ليست ، في منظوره ، سوى تحرّكات وانتقال داخل فضاء العمل واستهلاك السلع مثلما الخدمات. فهم يعيشون ومعهم تحيى المدينة، ذلك أنّ تغاير وتبدّل نسق وخاصيّة وتكرّر هذه الحركات يفرز تحوّلات يكون لها تأثير أو فعل في المدينة بمجملها. لكن شرط أن يشمل ذلك عدد هامّ من الحضريين أو جماعات إستراتيجية. يوحي هذا الشرط بأنّ  لادروت لا يتمثّل محتلّ وشاغل الفضاء المديني في علاقته بفضائه الخاصّ قبل العام الجماعي والمشترك أو معطى للاشتراك . وهي مسألة مفهومة اعتبارا لأنّ معيار جماعيّة الفعل أو تحوّل المتساكنين إلى أعوان مدينين جماعيين يتعلّق لديه بمدى مشاركتهم في الحياة الجماعية للمدينة . فمن يستجيب لهذه الحاجة " يتصرّف كعون جماعيّ لديه " [57]. يقارب ، إذا ، منظّري التغيّر المخطّط مثلما لادروت ، المديني محتلّ وشاغل الفضاء المديني كعون للتنظيم الحضري . وذا كان يتمتّع بفعل فمجاله ضيّق وهو في آخر التحليل عون يعزل فعله عن تمثّلاته وعن مخياله وأحلامه وذاكرته التي  تتمظهر في وعبر الفضاء الذي لا يشغله بل يحياه رمزيّا . فهؤلاء يقفون على ظاهرة كونية مثيرة في مدن اليوم وهي عزوف شاغلي الفضاء المديني عن الانخراط في الحياة الجماعية للمدينة والمشاركة في بلورة السياسات التنموية إمّا مباشرة أو عبر السلوك الانتخابي. لكنّهم يقفون غالبا عند فعل الوصف ولا يبلغ التحليل لديهم مستوى التفسير السببي أو صياغة الترابطات السببيّة للظواهر والعوامل التي يطرحونها عرضا. فحركة الجسد وانتقاله داخل الفضاء مثلما تحيل إلى مكانة الفرد ومستوى عيشه تستجيب لكلّ مخزونه الثقافي والرمزي. فتواصل الذات مع الفضاء الذي تحيى ضمنه وتتفاعل معه وفي إطاره مع وعبر كلّ ذاكرتها الفردية والجماعية هو تواصل مع الماضي واستدعاء له في الحاضر المعاش ، ينعكس في اليومي أي الإستعمال المطّرد للفضاء. فعبر الإستعمال أي عبر الممارسة الفضائية الرمزية بالأساس يتحدّد معنى ووظيفيّة الفضاء الفعليّة لدى شاغله. إنّ من يسمّيهم لادروت بالمتساكنين يلعبون دورا في سيرورة التغيّر الذي هو فضائيّ عبر إخضاعهم للفضاء الخاصّ مثلما المديني لتمثّلاتهم الفضائيّة باعتبار أنّ"الحياة اليومية تمثّل" [58] بالأساس، ولأهدافهم الفردية أو الجماعية. يكيّف الفرد الفضاء الخاصّ وظيفيّا ومعماريّا وجماليّا وسلوكيّا لذاكرته ولتقديم صورة عن نفسه للآخر المديني لا تكون مطابقة له دائما وإنما تستجيب لتصوّره للآخر وما ينتظره منه وللفضاء المحيط به.

      فكلّ فرد لدى قوفمان ينخرط في" الفاصل بين ما يريد أن يكونه  وما هو عليه في نظر الآخرين" [59] وبالتالي يفهم الاجتماعي لا في " معناه الموضوعي بل في المعنى المفكّر فيه ذاتيّا من قبل الذين يؤدّونه" [60]. فشاغلي الفضاء بهذا المعنى هم فاعلون يحتكمون على هويّة ومخزون ثقافي يموضعهم جماعيّا ويمارس عليهم إكراهات تنعكس في فعلهم مثلما في تمثّلاتهم ، لكنّهم في ذات الوقت يوظّفون مخزونهم ، بصفة واعية، وفق استراتيجيات فعل ملائمة لتجسيم أهدافهم . فالإنسان " يفعل أي أنّ له إرادة وهدف ودافع" [61]. ففعل الفاعل الاجتماعي كما لدى فيبر لا يدرك كمجرّد أثر للبنى الاجتماعية. فلا بدّ لتعقّله وفهمه من أن ينفذ التحليل إلى مقاصد ودوافع الفاعل المديني والوسائل التي يتصرّف فيها أو يعتقد أنّه يتصرّف فيها مثلما التقويم الذي يعطيه الفاعل نفسه لمختلف وسائله. لكن هذه الوسائل التي يوظّفها الفاعل ضمن إستراتيجية فعل مثلما اختياراته لا تنفصل حسب برنستاين عن تأثير البنى الاجتماعية في المجال المديني الذي يحيا ضمنه ويحيا به . فالفضاء المديني الذي يتحرّك ويتفاعل ضمنه ومعه الفاعل المديني الشاغل والمستعمل له ، لا يبدو كما ذهب لذلك مارلوبونتي " كمنظومة أشياء نألّف بينها لكن كمنظومة مفتوحة لأشياء نسقط عليها ذواتنا " [62]. وهذا يعني أنّ الفاعل المديني ينظر ويتعاط مع العالم من حوله من وجهة نظر معيّنة ومن زاوية ومسافة معيّنة واتّجاه معيّن ، يحيلنا إلى أبرز الإشكاليات التي تعيشها المدينة العربية الإسلامية اليوم ( والتي منها الحفصية ) في ظلّ سياسات لا تولي اعتبارا في تخطيطها الحضري والتنموي للمدينة " للقيمة الثقافية للاستعمال وحيازة الفضاء " [63] لدى شاغلي الفضاء المديني متعدّدي المرجعيّات الفضائيّة وبالتالي التصوّرات والتمثّلات الفضائية والتقويمات القيميّة والمعياريّة للفضاء التي تنعكس في الممارسة الفضائية اليومية أي المعاش اليومي الفضائي الذي يكشف عن ازدواجيّة تطبع مورفولوجيّة المدينة مثلما العلاقات والسلوكات والمواقف في ظلّ اختلاف وتعدّد أهداف الحيازة أو التواجد ضمن المكان.

 

 

    5 ـ الذاكرة الجماعية والسلوك الفضائي:

      إنّ النّاس"لا يحيون كأموات" [64] ضمن الفضاء الذي يشغلونه جسدا وذهنا ولكن أيضا عبر ذاكرة جماعية. توصل الذاكرة الفاعل بالذي كان في الفضاء ذاته أو في الفضاءات المرجع. فالنّاس لا ينقطعون عن ماضيهم أي ذاكرتهم عند التحوّل من فضاء إلى آخر مغاير ضمن المدينة أو من فضاء ريفيّ أو تخوميّ إلى مدينيّ أي من تمثّل وتصوّر للفضاء ونمط عيش إلى آخر ومن يومي إلى آخر. فالفرد مثلما الجماعة يتحوّل ويتحوّل معه كل موروثه الثقافي وكلّ ثقافته المعيشيّة وكلّ تصوّراته وأوهامه وأساطيره ومخياله وتمثّلاته وتطلعاته التي تلتصق بالفضاء المشغول وتشكّله. ولعلّ أوضح مجال لإختبار صحّة ذلك هو المركّبات السكنيّة المشيّدة عبر الباعثين العقاريين الخواص أو الدولة والتي تستند فيها الوحدات السكنية إلى نفس المعايير وتوحّد الشكل واللّون ون اختلفت المساحات أحيانا. ففي هذه الفضاءات نلاحظ بعد مدّة من الحيازة ليست طويلة خضوعها إلى تدخّلات من الشاغلين لها على مستويات الواجهة أساسا وبالدرجة الأولى ثمّ على مستوى اللّون العام أو تناسق الألوان بين الجدران والأبواب عبر الشبابيك الخارجية مثلما الداخلية ، إلى مستوى إعادة رسم التوزيع الفضائي لوظائف الجسد داخل المنزل / الفضاء الداخلي الخاصّ، أي ترتيب الغرف بما يستجيب لمعايير أخلاقيّة وجماليّة بالأساس[65]. يعني ذلك أنّ كلّ هذا المخزون الذي يشكّل ويكوّن الذاكرة ويتجسّد رمزيّا، يصبغ الفضاء الذي يشغله الفاعلين. وهو ما تعكسه كما أسلفنا المدينة العربية الإسلامية من خليط متباين ولا متجانس ضمن الفضاء الواحد بين أشكال حيازة واستعمال الفضاء والتواصل معه. تحيل الموضعة الفضائيّة للذكريات، في نظرية هالبوشز حول الذاكرة الجماعية وأطرها الاجتماعية ، إلى " وجود مورفولوجيا للحياة العقليّة داخل مساحة جغرافية وإراثيّة ـ طبوغرافية ـ " [66] .

      ثمّ إنّ الاجتماعي مثلما الفضائي يرتبطان بقانون مورفولوجي حراكي [67] . فإعادة بناء أنماط التبادل الرمزي الاجتماعي يحوّل مجال الذاكرة "إلى مسرح معرفة موضوعيّة" [68]. تشكّل هذه الذاكرة، لدى جودي، كليّة يستنفذ ضمنها الاجتماعي في منظومات علامات ثقافيّة. يمكن للذاكرة،إذا،مثلما الرمزية الاجتماعية أن تكتسح كلّ الحياة القائمة التي تلعب ضمنها الأشياء والصور والحكايات ، لديه ، دور شواهد على الذاكرة أو الاستفزاز أي استحضار الذكريات لدى هالبوشز. ألاّ أنّ الذاكرة، في تصوّرنا لا تتعقّل كنوع " من تكتيل للذكريات" [69] كما لدى جودي بل أنّ الذكريات المتعلّقة بالماضي الفضائي تحمل معها شحنة ثقافيّة رمزيّة بمعنى أنّها تصطحب وتخزن معها في ذاكرة الفرد مثلما الجماعة تصوّرات ومفاهيم وصور وقيم الذي كان ومازال يحيا مع الفرد قناعيّا وبالتالي رمزيّا ، في توحّد مع ما تحتفظ به ذاكرته من أشياء وعلامات وذكريات الذي كان في الفضاء ذاته أو الفضاء الأصل. وهو ما يفسّر اعتبار كابال أنّ "التحوّلات الهامّة للفضاء الحضري ـ ظهور أحياء جديدة أو اكتساب وظائف جديدة ـ  تتأخّر كثيرا لتندمج في  تصوّرات المواطنين" [70]  حول هذا الفضاء.

         ينفي هذا الفاصل الزمني بيت التغيّر في الفضاء المديني والتغيّر في صورة الفضاء لدى شاغله، العلاقة الماديّة والمباشرة بين الفضاء وشاغله. فالفضاء هو علاقة أو نتاج علاقة تواصليّة وعلاقة استعمال يتخلّلها كلّ المخزون الثقافي والرمزي أي الذاكرة. وتحدّد هذه العلاقة وظيفيّة هذا الفضاء في التصوّر والممارسة اليومية للفاعلين. فالفضاء المعاش هو نتاج العلاقة بين الفضاء المدرك والفضاء المتصوّر[71].ثم إنّ ما يبدو"ليس بالضرورة الحقيقة" [72].فمن الخطأ،إذا، حسب دوبو" أن لا نفهم ما يرتسم في الواقع " [73] .

         لا تختزن ذاكرة جماعة ، الظواهر فحسب بل كيفيات عيش وتفكير الذي كان.والذاكرة الجماعية،في نظرية هالبوشز ، تنشط عبر الإثارة التي يصنعها حضور شخصيات نصبيّة أو متخفّية حيّة شاهدة على الماضي.وتترسّخ عبر هذه الشخصيات الشاهدة والواصلة بين الماضي والحاضر أي بين ماضي هذه الشخصيات النصبيّة: كالجدّ والأب والأشياء الدّالة عليه،وحاضرنا.لكنّ الشاهد الأوّل المعطى والممكن لنا استدعائه في كلّ آن ومكان من الفضاء الذي نتحرّك ضمنه هو" نحن " أنفسنا. فنحن ، حسب هالبوشز، "نحمل معنا وفينا كمّية من الأشخاص الذين لا يتداخلون فيما بينهم" [74].

      يتموقع هذا "النحن" وينتشر فضائيّا وبالتالي يستمدّ وجوده مثل جوهره من الفضاء الذي يشغله، إلاّ أنّ ذلك لا ينطبق كليّا بهذا المعنى إلاّ على من يمثّل الفضاء الذي يشغله فضاء المرجع في الآن نفسه. ذلك أنّ "النحن" يتشكّل انطلاقا من الطفولة وطوال التواجد والتفاعل ضمن الفضاء وحين ينتقل إلى فضاء مهما كان مدى تماثله أو تباينه مع الأصل، لا يتكيّف مع الفضاء الجديد بل العكس ما يحدث . فنحن نسقط ذواتنا على الفضاء أو نجسّدها فضائيّا وانطلاقا منه، أي أن الفاعل يخلق بشكل واعي أو لاواعي تناغم وانسجاميّة بين "الهابيتوس" الفردي والجماعي وفضاء التكيّف أو فضاء التفاعل والتواصل مع الذات ومع الذاكرة (المنزل بالذّات) وع الآخرين (المدينة أو الفضاء العام أو المشترك).

     يطرح هالبوشز الذاكرة الفردية مثلما الجماعية في اقتران بمقولة الشواهد المحفّزة للتذكّر، إلاّ أنّ هذه الشواهد والتي تعني في الغالب لديه الشخصيات النصبيّة لا تستفزّ الذاكرة بذاتها كلّيا , ففعاليتها وفاعليتها مقرونتين بشرط وجود أثر معيّن للحدث الماضي لا في الواقع بل في ذهننا. فالذاكرة الجماعية تعيد تركيب الماضي الذي نحتفظ  منه بذكريات حقيقيّة وأخرى خياليّة ، ماض يترك آثارا قابلة للملاحظة العينيّة أحيانا ، تدركه الجماعة ضمن تعبير الصور وداخل مظهر الأماكن وحتّى في " طرق التعبير والإحساس المحتفظ به والمعاد إنتاجها ، لاوعيا، عبر أشخاص معيّنة وفي أماكن ما " [75]. ولا تقتضي ضرورة استدعاء أحداث أو ظواهر ماضوية أن تكون أطرافا فاعلة فيها. يكفي ، لديه، أن نكون شاهدين أو حاضرين ضمنها لتحتفظ الذاكرة بصورة عنها. ولا تقتضي ضرورة استدعاء أحداث أو ظواهر ماضوية أن تكون أطرافا فاعلة فيها .  فيكفي, لديه, أن نكون شاهدين أو حاضرين ضمنها لتحتفظ الذاكرة بصورة عنها.

    فالذاكرة ، بما هي إعادة تركيب وبناء للماضي المعاش، تستعين في تحقيق ذلك بمعطيات مستمدة من الحاضر.من هنا،يصبح الفضاء المديني، بعبارة جودي، متحفا لآثار ذاكرة الإجتماعي وشاهدة على الذي كان والذي يتواصل في الحاضر المديني حيّا. لكن في ارتباط فقط بإستمرارية تواجد الجماعة على الفضاء/المتحف. لذلك يعتبر هالبوشز أنّ''ديمومة أي ذاكرة محدّدة بديمومة الجماعة ''. والذاكرة الجماعية، في تصوره، تفكير متواصل وديمومة تنتفي عنها صفة التصنّع أو الافتعال، بما أنّها '' لا تحتفظ من ماض إلاّ بما هو حيّ أو قادر على الحياة داخل وعي الجماعة التي تحفظه'' [76]. فلا وجود لفراغ مطلق ضمن الذاكرة الجماعية مثلما الفردية،إلا أنّ اللا نسيان من جهة والطبيعة الحركية للذاكرة أي التبدل الموازي للتغير المستمر للجماعة من ناحية أخرى ، لا يعني كونها تصبح أكثر مشحونة أو ثراء .

    تقدّم الذاكرة الجماعية للجماعة الإجتماعية التي تقترن بها ، لدى هالبوشز، رسما عنها يتمظهر في الزمن،على اعتبار أنّه يحيل هذه الجماعة إلى ماضيها أو يوصلها به بشكل يسمح لها بالتعرّف على ذاتها ضمن تعاقب الصور التي تشكّل ، لدى جودي ، وسيلة جوهرية '' لتوظيف الذاكرة وشواهد على الذاكرة الجماعية '' [77] .

   يعتبر، هالبوشز ، أن عملية إعادة تركيب صورة حدث ماض تظلّ مبتورة وتسمح بإستحضار ذكرى ما ، بل من الضروري أن تقترن هذه العملية بمعطيات أو مفاهيم معيّنة ، موضوع اشتراك ، يتضمنها ذهننا مثلما أذهان الآخرين عناصر الجماعة الإجتماعية الواحدة . فالفرد يلتجأ للذاكرة أي لماض جماعي ينخرط في حاضره الفردي والجمعي ليجيب على أسئلة، إمّا أن الآخرين يطرحونها عليه فعلا أو انه يفترض أو يتوقع صدورها عنهم أو احتكامهم عليها .

         يثبت هذا الفهم الهالبوشزي، مرة أخرى ، شرط الحضور المادي أو الفعلي للآخرين في فعل التذكّر أي اشتغال الذاكرة الفردية أو حتى الجماعية في تواجد الجماعة ذاتها. ففعل الإثارة التحفيزية للتذكّر مصدره خارجي عن الفرد أي من  الجماعة أو الجماعات التي يمثل عضوا فيها. تمكّن الجماعة المرجع أو الجماعات التي ينخرط ضمنها الفرد، في كل لحظة، من وسائل إعادة بناء الفرد لذكرياته أي ذاكرته.

        يغدو من الأساسي ، في هذا الاتجاه ، أن تتم مقاربة أو تناول الذاكرة الجماعية لدى هالبوشز في تواز مع أطرها الإجتماعية . فالتفكير الفردي لا يمتلك قدرة التذكّر أي الاستحضار إلا بعد تموضعه من جديد ضمن الأطر الإجتماعية وينخرط في الذاكرة الجماعية. ذلك أنّ الإنسان يكتسب، طبيعيا، ضمن المجتمع '' ذكرياته ويتذكرها..وأين يشخّصها ويموضعها '' [78]. تفضي هذه الأطر الإجتماعية للذاكرة ، التي هي دالّة جماعية ، بنظرية هالبوشز إلى صياغة رابط بين صورة الماضي التي تعيد تركيبها الذاكرة استنادا للذكريات الفردية والتفكيرات المهيمنة للمجتمع في كل حقبة  من تاريخ المجتمع . ثم إن هذه الأطر الإجتماعية هي ، من ناحية أخرى ، نتاج أو تحصيل تركيب أو تجميع معين لذكريات فردية لعدد من عناصر نفس الجماعة الإجتماعية .

      لا تختزن الذاكرة الجماعية ، فحسب ، ماضي الجماعة بل تعبد تركيبه ، بل ابعد من ذلك فهي تعيد عيشه أي تحوّل التاريخ الشخصي مثلما الجمعي إلى تاريخ حي معاش في الحاضر عبر أشيائه وفضاءاته وعبر استعمال الفضاء الخاص والتفاعل معه مثلما عبر الحومة والحي والجيرة والمدينة والأصدقاء والفضاءات المشتركة أو المعطاة للمعية الإجتماعية. إلا أنّ هذا الماضي مثلما الذكريات التي تحتفظ الذاكرة منه، ‘‘لا يكف عن تقديم وسائل ضرورية لإعادة إنتاجها'' [79]. فالمجتمع، يقول هالبوشز ، يتضمّن بصفة مستمرة في تفكيره الأطر الإجتماعية لذاكرته التي تستحيل كل ظاهرة أو شخصية تنفذ إليها ، مقولة ومعلومة ورمز وبالتالي تتخذ معنى ضمنها.  وهو يميز بين الذاكرة الجماعية والتاريخ الذي لا يمكن أن يمثل كل الماضي بل، في الواقع، بعض منه. غير انه يوجد ، إلى جانب هذا التاريخ المدوّن للجماعة ، تاريخ يتجدّد بإستمرار بشكل يسمح له بالدوام خارج هذه الجماعة الإجتماعية . تتقيّد ديمومة الذاكرة بشرط ديمومة الجماعة نفسها آو تواصل شواهد نصبية تحيل إليها وتستفزّ فعل التذكّر وحضور الماضي ضمن المعاش اليومي وبالأخص، في نظرنا،في حركة الجسد الرمزية ضمن الفضاء أفقيا وعموديا والاستعمال الذي يستدعي فهمه دعوة المخيال والذاكرة مثلما الرمز في وظيفته التواصلية كما تنعكس في الفهم الغورفيتشي بالذات [80] .

      إذا كان التاريخ واحد لدى المؤرّخ فإنّ لكل جماعة تاريخ ولكل ذاكرة جماعية ، جماعة محدّدة في الفضاء والزمن وعليه فإنّ الظواهر والأحداث مثلما الفضاءات والأمكنة التي تحيى ضمنها الجماعة وكل الحقب لا تدرك لنفس الكيفية ولا تسند نفس الأهمية . من هنا يتحدث هالبوشز عن ذاكرة جماعية وهو ما يشكل تمييزا آخر يقيمه بين الذاكرة الجماعية والتاريخ .

     تتميز الذاكرة الجماعية عن التاريخية بكونها لا تحتفظ ولا تختزن من الماضي إلا التماثلات.فكل جماعة تشعر حينما تستحضر تجسدا لما فيها أي تاريخها الخاص، '' أنّها هي وتعني بذلك هويتها رغم أن إعادة عيش الأحوال هو أيضا طريقة للعب مع خطر ضياعها '' [81].

       لا يجوز الحديث عن ذاكرة جماعية نموذجية يتماثل مضمونها كليا لدى كل العناصر المكونة للجماعة الإجتماعية ، بما أن هالبوشز نفسه يعتبر أنّ ذكرياتنا الطفولية منقوصة ومشوشة وان ذاكرة الفرد تتأثر، فيما تتضمنه من ذكريات حولها ومن حوله ، بعوامل عديدة يضعها أمام ذاكرات فردية لنفس الفضاء المعاش في الماضي أي التجربة الفضائية التي تختزنها ذاكرة الفرد . فكل شاغل لفضاء يتحرك ضمنه في إطار خاص جدا يستجيب لإهتماماته وعلاقاته وموقفه من هذا الفضاء ذاته.

      يحتكم كل فرد على''جغرافيا شخصية لا تتوافق مع الوسط الجغرافي الفعلي'' [82] ولو أنّ هالبوشز يرى أن ذكرياتنا وبالتالي ذاكرتنا '' تتجدد وتكتمل'' [83]، بفعل الصور والوضعيات الجدية التي يتواجد ضمنها الفرد ونتاجا، حسب الزاوية التي يتعامل منها مع ذكريات الماضي المعاش بكيفيات مختلفة وبالتالي بدرجات متفاوتة من الخزن والتصور والتمثّل لذاته ولما حوله . لا ينفي ذلك، الحديث عن ذاكرة الماضي المشترك. لكن يجب أن يتجاوز مدلولها مجرّد كونها كمية الذكريات المعينة للماضي المشترك. بل إن الذكريات المتشابهة والمتعددة التي تحكي الماضي بنفس الكيفية تكشف عن وحدة التصوّر والتمثّل والمضمون القيمي والمعاييري والرمزي في نظرنا فعاليتها وحيويتها بحضور شواهد من هذا الماضي لنفس الجماعة كالأشخاص النصبية أو الأشياء فحسب بل أنّ الفرد يتجه قصديا أو لا قصديا إلى الاحتفاظ ضمن فضائه الخاص – المنزل – الخفي منه أكثر منه الظاهر ، بأشياء توصله بالماضي وتديمه في الحاضر مثلما أنّه يحتفظ بما يتشابه أو يعتقد انه يتماثل مع ما يشكّل شاهدا حيّا على ماض لا يريده أن يستمر فحسب بل أنّ هذا الذي كان يتواصل عبره ، عبر ديمومة سلوكيات وتصورات واستعمالات الأفراد للفضاء اليومي المعاش / الماضي . ويتواصل هذا المعاش بأساليب متعددة تشكل إحدى أهم  غايات البحث تقصيها من خلال نموذج الحفصية من المدينة التاريخية القديمة عبر التحليل السوسيو مورفولوجي للفضاء المديني .

 

6 – الرمزية الإجتماعية : المفهوم والوظائف

           تتجسّد إحدى خصائص الظاهرة الإجتماعية في تمظهرها الرمزية [84]. ويعتبر دوركايم ذاته أنّ '' المجتمع هو ذو جوهر رمزي'' [85]. فالفعل الإجتماعي ''يسبح كليا وبصفة دائمة ضمن الرمزية '' [86]. يستدعى الرمز أو البعد الرمزي لظاهرة الإجتماعية لتعيين المظاهر الأكثر تعدّدا للحياة الإجتماعية نفسها. ثم إن اغلب التمظهرات الإجتماعية، لدى غورفيتش، كالطقوس والعادات والممارسات وحتى التمثّلات الجماعية والحالات الذهنية الأخرى تتعلق هي أيضا بالرمزية أو تفرض على الفهم استدعاء المعطى الرمزي. إلاّ أنّ الحقل الرمزي هو''بالأساس غامض ولهذا السبب ذاته هو بالأساس اجتماعي وإنساني '' [87]. وتشكّل الرموز والعلامات المشتركة ، لدى مارسال موس، الواسطة الضرورية لتقارب وتواصل الناس داخل مجتمع ما والوسيلة اليتيمة، لدى دوركايم، لإنتشار الوعي والتواصل فيما بين متعدد وعي الأفراد. تضفي هذه الرمزية على الفعل الإنساني والاجتماعي، لدى غي روشاي،طابع الإجتماعي ، بما أنّها تشكّل المكوّن الرئيس له وإحدى أسسه المحورية. يعرّف غورفيتش الرمز الإجتماعي بإعتباره علامة على شيء معين وهي في ذات الوقت أداة مشاركة أو انخراط وبالتالي الجمعنة. والرمز في مدلوله المرجعي في المعجمية اليونانية يعني'' نصف كل قادر على تجسيد المجموع" [88].  وهو يعني " شيء ما يحتلّ مكان شيء آخر " أو شيء ما يعوض ويستدعي شيء ما آخر" [89] ويتطلب الرمز دالا وهو الشيء الذي يحتلّ مكان شيء آخر ومدلولا أي الشيء الذي يحلّ الدال محلّه ودلالة وهي العلاقة بين العنصرين الأولين.هذه العلاقة معطاة لتأويل الأعوان الذين تتجه إليهم الرموز مثلما الذين يشكلونها [90]. إلاّ أنّ الرموز الإجتماعية متعلقة كعلامات''لا تجسّد إلاّ جزئيا المضامين المدلولة'' [91] لدى غورفيتش . وهي, في الواقع تقنّع الأشياء التي تستدعيها وتدلّ عليها، بما أنها لا تكشفها " لا بالضبط ولا كليا "[92]. يبدو المجال الرمزي كمعطى يسجل حضوره في كل تناول للحياة الإجتماعية،إلا أن الأكيد والمعلوم هو تباين المقاربات السوسيولوجية في الخاصيات التي تسندها للرمزية الإجتماعية مثلما من زاوية تصورها لإشتغالها ووظائفها ونماذج تأثيرها على الحياة الإجتماعية، حيث يكشف علم الاجتماع الفرنسي الكلاسيكي عن ثلاثة أطروحات حول الرمزية الإجتماعية,  تشكل الرمزية الإجتماعية ضمن الأطروحة الأولى نظام ظواهر يحصل تناولها موضوعيا في معنى كونها تؤسس وحدة أو رابطة فعلية بين أعضاء المجتمع أو الجماعات .وليس بالإمكان ، ضمن الأطروحة الثانية أن يتشكّل ويستمر أي مجتمع إلاّ عبر تشكّله هو ذاته كرابطة رمزية .

      تقرن، الأطروحة الثالثة في السوسيولوجيا الفرنسية الكلاسيكية ، بين الرمزية الإجتماعية وعملية التواصل أي أنّها تسند للرمزية وظيفة تواصلية وبالتالي فهي تختلف حسب شكل ومضمون عملية التواصل نفسها . ويستدعى، ضمن هذه الأطروحة، ضرورة : هربارت ميد الذي يعتبر أنّ الرموز" تشكل الأسس الوحيدة الممكنة للمجتمع " [93] لكونها تماهي في تصوّره مفهومه للآخر المعمّم الذي هو نتاج عملية تواصل بين الأفراد أي بين الذات والآخر . فالرموز هي الوسيط الذي عبره " يفهم عديد الأفراد بعضهم ويتواصلون فيما بينهم " [94]،على أنّ التواصل في مفهومه له يعني ذلك التفاعل الإجتماعي الذي هو العملية التي عبرها يستطيع كل فرد أن يتموقع موضع الطرف الآخر في التواصل . فالذوات تحلّ في دور الآخر وبالمثل هذا الآخر .

       يقتضي التفاعل ، إذا ، الفهم المتبادل أو تبادل الفهم بين المتفاعلين في وضعية تواصل ، على أنّ هذا الفهم المتبادل بين الأنا والآخر يستند إلى انتظارات متبادلة يسعى الفاعلون عبرها إلى تحديد وضعياتهم المتبادلة . فالتفاعل ،إذا ، يصبح في مفهوم هربارت ميد " مجموع استراتيجيات تتوافق عبرها الأنا والآخر، الواحدة مع الأخرى " [95]. هذا التوافق هو رمزيّ بالأساس ويستدعي من الفاعلين وسائل ومصادر معيّنة لتجسيد تلك الإستراتيجيات. وتتجاوز الرمزية الفرويدية رمزية دوركايم لكونها استعاضة وتقنيع ، من هنا فإنّ الصور الحلمية ترمّز الرغبة المكبوتة . وهي حين تشبع هذه الرغبات فذلك يتمّ عبر الاستعارة أي أنّها لتعبّر عنها فهي تقنّعها أي تعرضها رمزيا. فالرغبات التي تكيتها وتردّها الضوابط أو الموانع خارج حقل الوعي، لا ترتدّ إلى الوعي ضمن الحلم إلاّ عبر الاستعارة.      

      يظل هذا التعقّل للرمزية وفيّا لفردوية المقاربة النفسية الفرويدية ، لذلك فهي تتغاضى كليّا عن المظهر الموضوعي والإدراكي للرمزية مجال اهتمام الدوركايمية التي تقف عند الوظيفة التواصلية للرمزية الإجتماعية . وتعتبر الرمزية الدوركايمية الرموز بمثابة الجسر الضروري لتعميم متعدّد الوعي الجماعي. فكل وعي فردي ينكشف في تصورها وعيا مغلقا على الآخر وبالتالي يقتضي التواصل بين متعدد الوعي الفردي علامات ورموز ، بل ابعد من ذلك فإنّ دوركايم مثلما ميد و مارسال قاربيال ، يختزل كل تمظهرات الإجتماعي في الرمزي . فالحياة الإجتماعية " في كل مظاهرها وفي كل فترة من تاريخها ليست ممكنة إلاّ بفضل رمزية واسعة " [96] والرمزية في مفهمته لها تتعدى كونها حيلة أو قناع لتمثّل أداة تسمح للتحليل بإبراز كل ما يتجاوز متعدد الوعي الفردي ، ضمن الظواهر الإجتماعية . ولعلنا لا نلامس الخطأ حينما نساير مافيزولي في فهمه لمعنى الرمز لدى الدوركايمية ، على أنّه " سبب وأثر كل حياة مجتمعية " [97] .

      تغطي الرمزية ، لدى غورفيتش ، أغلب الأصعدة المتناضدة للواقع الإجتماعي على غرار معظم تمظهرات الإجتماعي مثل التنظيمات والنماذج والعادات والممارسات والتمثلات الجماعية والحالات الذهنية مقلما مختلف تمظهرات ظواهر الحضارة كاللغة والدين والقانون والمعرفة . وتضع الرموز الإجتماعية في الاعتبار المواقف الجماعية للذوات الباثّة أي المشكّلة لها والمتقبّلة أو المؤوّلة لها .

     تتأسّس المقاربة الغورفيتشية للمجال الرمزي على معارضة كل المقولات التي تختزل أسس الواقع الإجتماعي في التواصل ما بين ذهني أو ضمن الصلة بين متعدّد الوعي المغلقة. فأيّ تواصل إنساني يستمدّ إمكانيته من تضمّنه الضروري لوحدة سابقة تجعل الوسائط الاتصالية فعّالة ، أي العلامات والرموز التي عبرها تتواصل . فالرموز لا تسجّل حضورها بنفس الكيفية والحجم في كل تمظهرات الإجتماعي مثلما تصرّ على ذلك الدوركايمية . فقد يكون دور الرمزية في مظهر ما مختصرا وغائبا في مستوى بعض تمظهرات علاقات الذات مع الآخر مثل الصداقة والحبّ . وفي بعض الأصعدة الإجتماعية تكون الرمزية موضوع تعالي . فالرمزية الغورفيتشية ترفض منطق المغالاة في حشر أو الدافع بالرمزية في أي مجال أو حقل اجتماعي معطى للتفسير السوسيولوجي مثلما ترفض الرمزوية أي المذهب المغالي في ردّ كل الواقع الإجتماعي بمختلف تمظهراته إلى الرمز أو الرمزية . معنى ذلك أن الرمزية الإجتماعية ، لا تجسّد لديه ، سوى صعيد من بين متعدّد أصعدة الواقع الإجتماعي ، يستدعي من التحليل أن يعطيها أهميتها في التفسير لكن على أن يتناولها في الآن ذاته " كنوع من اسمنت اجتماعي سائل وكلي الوجود ، يتسرّب في كل مكان لرتق الشروخ وحيد المستويات" [98] . فالرموز الإجتماعية بها التأويل المفاهيمي تنعكس كوسيط تحتفظ عبره الأصعدة المتناضدة للواقع الإجتماعي بإرتباطها بعضها ببعض وتنافذها المتبادل .     

      ينتبه غورفيتش إلى ضرورة أن يجتهد الباحث في التمييز بين أنواع الرموز التي يحصرها في ثلاثة أنواع : فهناك دائما رموزا مثل الشعارات والأحكام المسبقة ، مضلّلة بصفة واعية. وفي مقابل الرموز التضليلية يوجد رموزا هزئية لا وعيا. كما توجد كذلك رموزا لا يخفي تشكيلها أي قصد تضليلي خفيّ أو ضمنيّ وهي الرموز التي يسند لها غورفيتش الدور الرئيسي في الواقع الإجتماعي ويوصلها بمختلف مظاهر الحضارة كالقانون والدين والفنّ والمعرفة واللغة .ولا تعمل الخاصية الوسائطية أو التوسطية للرموز الإجتماعية بنفس الكيفية ، بل أن هذه الخاصية هي التي تجعلها متغايرة بالنظر إلى جملة من المعطيات . فهي تختلف بالنظر إلى الذوات الجماعية الباثّة لها أي المشكّلة لها وبالنظر أيضا للمتلقّين . فنفس" الرمز ونفس الكلمة لا تستدعي نفس مظاهر شيء ما لدى أشخاص مختلفين " [99].

      تتغاير الرموز الإجتماعية حسب تباين الأطر الإجتماعية أي حسب نمط المجتمع أو التجمّعات الخصوصية مثلما أنماط البنى الإجتماعية : جزئية كانت أم كلية . ولا تتباين الرموز بإعتبارها وسائط بالنظر للأطر والبنى الإجتماعية فحسب بل أيضا حسب الحالات الإجتماعية الخصوصية . فهي تختلف عن الأزمنة الهادئة عنها في الأزمنة المضطربة والحالات أو الظروف الدافعة أو على العكس الرافضة للتغيير. وتعترض الرموز وضعيات وحواجز تتجّه إلى تجاوزها والتحكّم فيها . من هنا أيضا يبدو مستوى إضافيا لتغيّر الرموز حسب هذه الحواجز وهذه الوضعيات . إلا أنّ الرموز الإجتماعية تتغاير تباعا لتبدّل العلاقات القائمة بين الرموز والمرمّز إليه تبعا لمعطيات عديدة أخرى [100]. يصنّف جورج غورفيتش الرمزية إلى ثلاثة أصناف . يتعلّق الصنف الأوّل من الرموز بالحقل الوجداني مثلما نجد ذلك لدى كل من بيار جانيي و وايتهيد. لا تقترن هذه الرموز، بالضرورة، بالخيال الذي يلحق عادة بالعاطفة مثلما ينعكس ذلك في التمييز الباريتي بين الفعل المنطقي وغير المنطقي والتصنيفات التي يوجدها ، كما يذهب لذلك آرنولد . ويرفض غورفيتش المطابقة التي يضعها سورال بين الرمزية والأساطير المعاصرة. فيمكن إذا أن تغلب على الرموز الخاصية الإنفعالية مثل الرقصات والأغاني وطرق التعبير الفردي أو الجماعي عن الإعجاب بالأشياء أو الأشخاص. أمّا الصنف الثاني من الرموز فتغلب ضمنها خاصية النشاط والإرادة وهو ما يشكّل تميّزها ويسند لها وظيفة علامات ، تحفيز ، دفع ، قيادة ، الخ . وإذا نظرنا إلى التمثّلات سواء الفردية منها أو الجماعية، فإنّ الرموز الإجتماعية المتعلّقة بها تغلب عليها الصفة الذهنية .   

        لا يمثّل التصنيف الغورفيتشي للرمزية دعوة إلى تصنيف للتمظهرات الإجتماعية موازي بقدر ما هو جلب إنتباه إلى مقولة تعددية الوظيفة الرمزية بدل انحصار التحليل في الحديث عن رموز تتعلّق بمظاهر مختلفة من العقلية. فالرمزية، لدى غورفيتش ، هي أكثر العناصر ارتباطا في الآن ذاته بالظواهر الإجتماعية الكلية والظواهر النفسية الكلية ، لكن مع ضرورة إعتبار أولوية الإجتماعي عن النفسي .

      تحيلنا مقولة تعددية الوظيفة الرمزية إلى استدعاء الوظائف التي تؤديها الرموز بالنظر إلى الفعل الإجتماعي. وتؤدي الرموز الإجتماعية وظائف يمكن حصرها في وظيفتين أساسيتين تعرضنا لهما بصفة متفرقة مع دوركايم و ميد و موس وهما التواصل والمشاركة. يتمّ ضمن التفاعل الذي هو التواصل في تعريف ميد ، تبادل الوسائل بين الذوات في وضعية تواصل أي تفاعل. وإذا كانت اللغة تتضمّن رؤية للعالم وإدراك وتصوّر الفاعلين لما يحيط بهم ولأنفسهم ولمكانتهم ، فإنّ الرمزية لا تنقل مجرّد رسائل بل رؤى وتصورات وتمثّلات الذوات المتواصلة فيما بينها توصل الرموز الإجتماعية عبر وسائل اتصال متعدّدة بين الفاعلين الإجتماعيين .تلعب الرمزية وظيفة مشاركة من حيث أنّها تذكر وتصون مشاعر اشتراك وتأكيد انخراط الذوات في جماعة بعينها . فإنخراط فعل الذات في القيم وأشكالها الرمزية أي نماذج الفعل يرمز إلى انتماء هذه الذات إلى جماعة معيّنة . يميّز غي روشاي ، ضمن هذه الوظيفة، أربعة أشكال للرموز.فالأعلام والشعارات والأغاني والرقصات والألوان المميّزة هي رموز تعنون وتميّز جماعة اجتماعية عن غيرها مثلما أنّها تثير أو تصون شعور الانتماء أو كرابط بين أعضاء الجماعة ، كما انتهى إلى ذلك تراسهار في دراسته حول عصابات الإجرام في شيكاغو. وتجسّد الرموز، في جانب آخر، التراتب الإجتماعي وتصاحبه لترمز لمتعدد الشرائح والطبقات الإجتماعية . فالألوان واللباس والترفيه واللهجات وحركة الجسد في الفضاء الداخلي مثلما المشترك داخل الحي وهذا الحي نفسه ونمط السكن تؤدي كلّها دور مؤشّرات ورموز الموقع الذي تحتلّه وتشغله الجماعة ضمن التنظيم الإجتماعي . فاليومي بكل تمظهراته المتعدّدة السلوكية والتواصلية مع الآخر ومع الفضاء يتموضع موضع الرمز الذي يحيلنا لا فحسب إلى موقع الفرد أو الجماعة ، بل أيضا تستفزّ وتثير تمظهرات اليومي الذاكرة الجماعية أي أنها توصل الماضي بالحاضر: توجد الماضي في صلب الحاضر كما ينعكس في المعاش اليومي بكل جزئياته وتفاصيله حتى البسيطة جدّا والتافهة أو حتى المبتذلة منها. إنّ ما يحتفظ به شاغلي الفضاء المديني من أشياء في ركن المنزل أو سطحه أو شرفته لا يستجيب لمقتضيات اليومي المديني بل يعود إلى سلوكات وعادات توصل بالماضي الفضائي الريفي تسجّل حضورها ضمن المجال اليومي لحركة الجسد كنصب أو آثار تذكارية أي رموز تستدعي الذاكرة الفردية مثلما الجماعية. فهي رموز يتواصل عبرها الفاعلين مع ماضي يريدونه حاضرا في ذاكرتهم،حيّا في حاضرهم بمختلف تمظهراته الذهنية والفضائية كما الممارسة اليومية. ترمز هذه النصب، إذا، في ذات الوقت إلى الماضي مثلما إلى شريحة أو موقع الجماعة ضمن المجتمع المديني.

      تبدو الرمزية الإجتماعية،إذا ، رغم اختلاف زوايا البحث ضمنها بين اتجاهات علم الاجتماع ، في صلب اهتمام التحليل الذي يهدف إلى تعقّل وفهم أعمق للواقع الإجتماعي . فكما أنّ موس و دوركايم يعتبران الرمزية جوهر الإجتماعي وأن كل تمظهرات الإجتماعية تردّ إلى الرمزية التي تسمح لمتعدّد الرعي الفردي مثلما الجماعي بالفهم المتبادل والتواصل. وللرمزية مثلما يذهب لذلك هربارت ميد وظيفة تواصلية ووصلية. فالتواصل الذي هو التفاعل لديه يستدعي وسائط هي الرموز التي تتواصل عبرها الأنا مع الآخر ومن هنا جاءت تسمية هذا الاتجاه بالتفاعلية الرمزية.

    إنّ محورية الرمزية في مقاربة الإجتماعي لا يجب في مدلولها الغورفيتشي أن تعيد إنتاج المغالاة . فالرمزية تغطي لا كلّ بل معظم الأصعدة المتراتبة للواقع الإجتماعي وتمظهراته وظواهر الحضارة ، إلاّ أنّه على التحليل السوسيولوجي أن لا ينغلق على موضوع بحثه . ذلك أنّ الرموز إضافة لكونها لا تنسحب على كل أصعدة وتمظهرات الإجتماعي فإنّ حضورها لا يسجّل بنفس الكيفية والحجم . والرمزية ليست ذات صفة أو خاصية أحادية غالبة سواء وجدانية أو المتعلّقة بالنشاط والإرادة أو العقل،بل أننا أمام أصناف ثلاثة للرمزية قد تسجّل حضورها مجتمعة أو منفردة في إحدى أو متعدّد تمظهرات الإجتماعي.إنّ أبرز ما يحسب لغورفيتش في مجال الرمزية هو تنبيهه إلى تعقّل دينامي لا مغالي ولا اختزالي وينظر إلى الرمزية نظرة تتجاوز الثباتية إلى استدعاء مفهوم التغاير أو التباين. فالرموز تتباين حسب الذوات الجماعية الباثّة أو المتقبّلة وبالنظر إلى تغاير الأطر وأنماط المجتمعات مثلما أنماط البنى الإجتماعية وحسب الوضعيات الإجتماعية. إنّ الرمزية حقل يضعنا أمام عمق الظاهرة أو الظواهر الإجتماعية . فالمشغول والموظّف والمستخدم أو المتروك من الأشياء هي رموز تحيلنا لا فحسب إلى مكانة الجماعة ضمن التنظيم الإجتماعي بل إلى الذاكرة الجماعية التي توصل الحاضر بالماضي بأشكال متعدّدة ورمزية تحيلنا إلى مفهوم التقنّع وبالتالي مسرحة اليومي لدى مافيزولي . وتجعل الرمزية الحاضر الذي توصله بالماضي، حيّا متواجد ضمن المعاش. تحول  المنزل إلى متحف اجتماعي لا يحكي الآن وهنا فحسب بل الذي كان ولم ينجح الآن في إقصائه أو صنع القطيعة النهائية معه . فالألوان والروائح المنبعثة من المنازل وحتى الفواضل المنزلية يقول لوفافر ـ تحيلنا إلى الداخل ، إلى العائلة ، إلى عاداتها وسلوكاتها الغذائية التي تكشف مستواها الاقتصادي مثلما مرجعيتها الثقافية. فالسلوك الغذائي مثلما الفضائي لا يستجيب دائما للتحديدات الاقتصادية وبالتالي التفسير المادي بقدر ما هو ثقافي يتغاير من جماعة إلى أخرى [101] وينعكس على معمار وتوزيع الفضاء الخاص وبالأخص التواصل معه : الخاص والمشترك من الفضاء المديني الذي يكشف في المدينة العربية الإسلامية عن تداخل التقليدي والحديث [102] وتداخل الأزمنة  في الفضاء يقرأ من معماره [103] مثلما في حركة الجسد داخل وعبر الفضاءات المدينية كالحمّام والمسجد والسوق والزاوية والجامع ووسط الدار [104] .

 

 

 

 

 

 

 

 

المراجع

 

Aron (Raymond.) , Boudon (Raymond.) , Ansart , La Sociologie , éd Larousse , 1978 .

Bouchrara Zanned(T.), La Ville Mémoire , paris méridiens klinck sieck,1994 .

Bouchrara Zanned (T.), Symboliques Corporelles Et espaces Musulmans, Cérès productions, 1984.

Bouchrara Zanned (Traki.) , Une Ville Et Son Double , éd MTE , 1995 .

Bouchrara Zanned (Traki) : Essai D’analyse Socio – Morphologique, La Relation entre Les Pratiques corporelles Féminines et le cadre urbain a Tunis, Thèse 3° cycle.

Durand (Gilbert.), Les structures Anthropologiques De L’Imaginaire, bordos, 1969, Liv III, Ch. II.

Durant (Gilbert.) , La Sociologie , éd Gerand et c , TII , 1972 .

Durkheim (E.) , Les formes de la vie Religieuse , paris Puf , 1968 .

Duvignaud (jean.), Anthologie Des Sociologues, Français, PARIS, 1994.

Ferrier (J. P.), Sémiotique De L’espace, paris Denoël gouthier, 1979.

Feurier (C. H.), Le Nouveau Monde Amoureux, pref, denout, éd Anthropos. 

Gurvitch (Georges.), La vocation actuelle de la sociologie, paris PUF, 1957, T1.

Grawitz (Madeleine.) , Méthodes des Sciences Sociales , éd Dalloz , 1979 .

Halbwachs (M.), La Mémoire Collective, paris puf, 1950.

Halbwachs (M.), les cadres sociaux de La Mémoire, paris puf, 1952.

Herpin (N.), Les Sociologues Américains Et Le Siècle, paris puf, 1973.  

Horacio (Capel.) , L’image De La Ville Et Le Comportement Spatial Des Citadins , Dans Per , L’espace géographique N° 1 / 1975 , Jan – Mars .

Jeudy (H. P.) , Mémoires Du Social , paris puf , 1986 .

Ledrut (R.), Sociologie Urbaine, paris puf, 1968.

Lefebvre (Henri.), Critique de la vie quotidienne, paris crasset – l’arche, 1958.

Lefebvre (Henri.) , Espaces Et Sociétés , N°2 / Mars 1971 .

Lefebvre (Henri.), La Production de L’espace, éd anthropos, 1974.

Maffesoli (M.) , Logique De La Domination , paris puf , 1976.

Maffesoli (Michel.), La Conquête Du Présent, paris puf, 1979.

Maffesoli (M..), L’Ombre de Dionysos, paris Librairie des Méridiens, 1985.

Mauss (Marcel.), sociologie et anthropologie, paris puf, 1968.

Merlin (P.), Choay (F), Dictionnaire de L’urbanisme et de L’aménagement, paris puf, 1988.

Noureau (J. J.) , Tessier (R.) , Tremblay (M. b) , Changement Planifié Et évolution Spontanée , presse de l’université du Québec .

Pailhous (Jean.) ,La Représentation De L’espace Urbain , paris puf , 1970 .

Phara (P.) , Quéré (L.) , Les Formes De L’action , éd EHESS , 1990 .

Périodique, L’èspace géographique, Art / L’image de le ville et le comportement spatial des citadins, Par, Horacio Capel. nْ 1975, Jan – mars.

périodique, L’espace géographique, N 1 / 1975 janvier-mars – avril, L’image de la ville et le comportement Spatial des citadins, par Horacio Capel.

Revue, L’espace Géographique, N°3 / 1985 ; T 14, Art, L’Humaniste Et Les Acteurs De l’Urbain.

Riboulet (P.), Périodiques Espaces et Sociétés, mars 1971, N°2.

Rocher (Guy.), Introduction à La Sociologie Générale, T3, Le Changement Social, les points, 1968.

Rocher (Guy.), L’action social, éd HMH, 1968.

Sumph (J.), Hugues (M), Dictionnaire de la sociologie, paris Larousse, 1973.

 

[1] ـ مثل بحوث ,أعمال كلّ من مافيزولي ولوفافر وادوارد هال

 

[2] - Merlin (P.), Choay (F), Dictionnaire de L’urbanisme et de L’aménagement, paris puf, 1988, p. 268.

[3] - Lefebvre (Henri.), La Production de L’espace, éd anthropos, 1974, p. 7.

[4] - Merlin (P.), Choay (F.), op cit, p. 268.

 

[5] - Lefebvre (Henri.), op cit, p. 14.

[6].Ferrier (J. P.), Sémiotique De L’espace, paris Denoël gouthier, 1979, p. 200.

[7] - Ibid, p.213.

[8] -Ibid, p. 193.

[9] -Ibid, p. 193.

[10]-Ledrut (R.), Sociologie Urbaine, paris puf, 1968, p. 55.

[11]-Bouchrara Zanned (T.), Symboliques Corporelles Et espaces Musulmans, Cérès productions, 1984, pp.122 – 131.

 

 

[12]ـ يحدّد فايري ثلاثة كيفيات لتعريف معنى الفضائي : عبر وظيفة الاستعمال أو عبر المعنى اللّفاظي أي الدلالة التي تعطيها لعلامات معيّنة لها وجه دالّ معيّن أو عبر القوّة التعبيريّة للفضاء.

[13]- Ferrier (J. P.) , Sémiotique De L’espace , paris Denoël gouthier , 1979 , p. 199 .

[14]- Lefebvre (Henri.), Critique de la vie quotidienne, paris crasset – l’arche, 1958, pp. 45 – 50.

[15]-Maffesoli (M.) , Logique De La Domination , paris puf , 1976, pp. 80 – 82.

[16]-Pailhous (Jean.) ,La Représentation De L’espace Urbain , paris puf , 1970 , p.10 – 13.

[17]-Bouchrara Zanned(T.), La Ville Mémoire , paris méridiens klinck sieck,1994, p. 120 .

[18]-Horacio (Capel.) , L’image De La Ville Et Le Comportement Spatial Des Citadins , Dans Per , L’espace géographique N° 1 / 1975 , Jan – Mars , p. 77.

[19]- Ibid, p. 77.

[20]-Revue, L’espace Géographique, N°3 / 1985 ; T 14, Art, L’Humaniste Et Les Acteurs De l’Urbain, p. 191.

[21] - Lefebvre (Henri.), La production De L’espace, éd anthropos, 1974, p. 48.

[22] - Ibid, p 49.

[23]- Ibid, p 48.

[24]- Lefebvre (Henri.) , Espaces Et Sociétés , N°2 / Mars 1971 , p. 4.

[25]-Noureau (J. J.) , Tessier (R.) , Tremblay (M. b) , Changement Planifié Et évolution Spontanée , presse de l’université du Québec , 1991 , T6 , p. 316 .

[26] - Ibid, p 316.

 

[27]- Rocher (Guy.), Introduction à La Sociologie Générale, T3, Le Changement Social, les points, 1968, p. 17.

[28]- Rocher (Guy.), op cit, p.  23.

[29]-Tessier (R.), Tellier (Y.), Op  Cit, p. 328.

[30] - Tessier (R.), Tellier (Y.), Op  Cit, p. 72.

[31]- Ledrut (Raymond.), Sociologie Urbaine, paris puf, 1968, p. 25.

 

[32]ـ أنظر شرح هذه الأنماط الأربعة لاستراتيجيات التغيّر القصدي حسب تيسياي وتيلياي ضمن عنوان استراتيجيات التغير .

[33] - Tessier (R.), Tellier (Y.), Op  Cit, pp. 44 - 45.

[34]- Ledrut (Raymond.), Sociologie Urbaine, paris puf, 1968, p. 23.

                                                         

[35]- Ibid, p. 22.

[36]- Durand (Gilbert.), Les structures Anthropologiques De L’Imaginaire, bordos, 1969, Liv III, Ch. II, p. 461.

[37] - Maffesoli (Michel.), La Conquête Du Présent, paris puf, 1979, p. 176.

[38]-Bouchrara Zanned(T.), La Ville Mémoire, paris méridiens klinck sieck, 1994, p. 76.

[39]- Maffesoli (Michel.), op  cit, p. 60.

[40] - Bouhdiba (H. W.), op cit, p. 18.

[41] - Tessier (R.), Tellier (Y.), Op  Cit, p. 68.

[42] -Hogue (J. P.), Lévesque (M.), Morin (E. M.) , op cit , p. 62.

[43] - Ledrut (Raymond.), Sociologie Urbaine, paris puf, 1968, p. 54.

[44] - Ibid, p 55.

[45]-Hogue (J. P.), op cit, p. 62.

[46] - Tessier (R.), Tellier (Y.), Op  Cit, p. 315.

[47] -Ibid, p. XIX.

[48] - Ibid, p. XIX.

[49] -Hogue (J. P.), op cit, p. 64.

[50] - Ledrut (Raymond.), Sociologie Urbaine, paris puf, 1968, p. 21.

[51] -Ibid   ,p. 21.

[52] - Ibid   ,p. 21.

[53] - Ibid   ,p. 24.

[54]- Ibid   ,p. 24. 

[55] - Ibid   ,p. 24.

[56] - Ledrut (Raymond.), op cit, p. 22.

[57] - Ibid   , p. 23.

[58]-Herpin (N.), Les Sociologues Américains Et Le Siècle, paris puf, 1973, p. 70.

[59] - Grawitz (Madeleine.) , Méthodes des Sciences Sociales , éd Dalloz , 1979 , p. 152.

[60] - Durant (Gilbert.) , La Sociologie , éd Gerand et c , TII , 1972 , p .269.

[61] - Aron (Raymond.) , Boudon (Raymond.) , Ansart , La Sociologie , éd Larousse , 1978 , p. 107.

[62] -Phara (P.) , Quéré (L.) , Les Formes De L’action , éd EHESS , 1990 , p. 20.

 

[63] -Bouchrara zanned (Traki.) , Une Ville Et Son Double , ed MTE , 1995 , p. 20.

[64]-Jeudy (H. P.) , Mémoires Du Social , paris puf , 1986 , p. 9.

 

[65] ـ انظر في هذا المجال الباب الثاني: الفصل الثالث.

[66] - Duvignaud (jean.), Anthologie Des Sociologues, Français, PARIS, 1994, P. 23.

[67] -Bouchrara zanned (Traki) : Essai D’analyse Socio – Morphologique, La Relation entre Les Pratiques corporelles Féminines et le cadre urbain a Tunis, Thèse 3° cycle, p.  . 38

[68] -Jeudy (H. P.) , Mémoires Du Social , paris puf , 1986 , p. 9.

[69]- Ibid , P. 35.

 

[70] -Périodique, L’èspace géographique, Art / L’image de le ville et le comportement spatial des citadins, Par, Horacio Capel. nْ 1975, Jan – mars, p. 76.

[71] - Lefebvre (Henri.), La Production De L’espace, éd Anthropos, 1974, P. 44.

[72] -Féurier (C. H.), Le Nouveau Monde Amoureux, pref, denout, éd Anthropos, P. XIIV. 

[73] -Féurier (C. H.), op cit, p. IXX.

[74] -Halbwachs (M.), La Mémoire Collective, paris puf, 1950, p. 2     .

[75] - Ibid, p. 53. 

[76] - Ibid., p. 70.

[77] -Jeudy (H. P.), op cit, p. 64.

[78] -Halbwachs (M.) , les cadres sociaux de La Mémoire , paris puf , 1952 , p. VI. 

[79] - Ibid., p. 290.

[80] انظر الصفحات الموالية.

[81]- Jeudy (H. P.), op cit, p. 66 .

[82] – périodique, L’espace géographique, N 1 / 1975 janvier-mars – avril, L’image de la ville et le comportement Spatial des citadins, par Horacio Capel, p. 74.

[83]- Halbwachs (M.), les cadres sociaux de La Mémoire, paris puf, 1952, p. 62.

[84] - Mauss (Marcel.), sociologie et anthropologie, paris puf, 1968, p.71.

[85] -sumph (J.), Hugues (M), Dictionnaire de la sociologie, paris Larousse, 1973, p. 120.

[86] - Rocher (Guy.), L’action social, od HMH, 1968, p. 88.

[87] - Gurvitch (Georges.), La vocation actuelle de la sociologie, paris PUF, 1957, T1, p. 93.

[88] -Ibid, p. 92.

[89] - Rocher (Guy.), Op cit, p .88.

[90] - Gurvitch (Georges.), Op cit, p .93.

[91] -ibid, p. 93.

[92] - Rocher (Guy.), Op cit, p. 93.

[93] - Gurvitch (Georges.), Op cit, p .26.

[94]-sumph (J.), Hugues (M.), Op cit, p .135.

[95] -Ibid, p. 67.

[96]-Durkheim (E.) , Les formes de la vie Religieuse , paris Puf , 1968 , p. 331 .

[97] - Maffesoli (M..), L’Ombre de Dionysos, paris Librairie des Méridiens, 1985, p .16.

 

[98] - Gurvitch (G.), Op cit, p. 90.

[99] -Rocher (Guy.),  Op cit, p. 93.

[100] -Gurvitch (G.), Op cit, p. 95.

[101] -Horacio  )capel( ,op cit, pp. 73 – 80.

[102] -Bouchrara Zanned (T.), La ville mémoire, paris Méridiens Klinck, sieck, 1994, pp .119-125.

[103]-Riboulet (P.), Périodiques Espaces et Sociétés, mars 1971, N°2, p. 193.

[104] - Bouchrara Zanned, symboliques corporelles er espaces musulmans, Cérès, 1984, p. 148.