مدخل موجز إلى علم الاجتماع: (2) - في مبادئ وأسس علم الاجتماع ـ إبراهيم بايزو

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

sociologia111في الحلقة الأولى من هذه السلسلة كنا قد تطرقنا بنوع من الإيجاز لتاريخ علم الاجتماع ومخاض نشأته بفضل تكامل جهود عدد من الفلاسفة القدماء والعلماء المحدثين. وفي هذه الحلقة سنعرض لمبادئ وأسس هذا العلم التي تميزه عن غيره من العلوم. وإننا وإن كنا لا ندعي الإحاطة بكل هذه الأسس إلا أننا رغم ذلك نعتقد أن ما نقدمه يشكل أبرزها وأملنا أن يساهم الرجوع إلى المراجع التي اعتمدناها في تعويض النقص وتصحيح الخلل الذي قد يحصل.

(2)- مبادئ وأسس علم الاجتماع:
من أجل تكوين فكرة واضحة عن مبادئ وأسس علم الاجتماع، اخترنا أن نتناول ذلك من خلال التطرق لثلاثة قضايا أساسية هي:

  •  استقلالية علم الاجتماع عما سواه من غيره من العلوم لاسيما العلوم الإنسانية منها؛
  • موضوع علم الاجتماع وقابلية هذا الموضوع للدراسة العلمية؛
  •  قواعد الدراسة والبحث العلمي في علم الاجتماع.

أولا: استقلالية علم الاجتماع:

أول القضايا التي سنتعرض لها في هذا سياق الحديث عن الأسس والمبادئ التي يقوم عليها علم الاجتماع تتمثل في مسألة استقلال هذا العلم عن غيره من العلوم الإنسانية؛ ذلك أن الحديث عن أسس العلم تفترض تمييزه عن غيره من الميادين المعرفية. وفي سبيل الوصول لهذا الغرض نعرض لأهم الشروط التي يجب توافرها في العلم المستقل وبعد ذلك نتحقق من توافرها في علم الاجتماع.



تنقسم المعرفة الإنسانية عموما إلى ثلاثة أقسام هي: المعرفة الحسية، والمعرفة الفلسفية ثم المعرفة العلمية. ويقصد بالأولى تلك المعرفة التي تقتصر على مجرد الملاحظة الحسية البسيطة للظواهر باعتماد الحواس الطبيعية التي زود الله بها الإنسان ؛ أما الثانية فتحيل على تلك المعرفة التي يتم إنتاجها عن طريق التأمل الفلسفي العقلي  في القضايا والظواهر وهي غالبا ما تستند إلى المنطق وتتسم بالتجريد؛ أما المعرفة العلمية فهي تقوم على الأسلوب الاستقرائي الذي يعتمد على الملاحظة العلمية، وفرض الفروض، واختبارها وتحليلها من أجل التأكد من صحتها وبطلانها وفق مناهج علمية دقيقة.

وتنقسم المعرفة العلمية بدورها إلى ثلاثة أقسام هي العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية وهي العلوم التي تهتم بدراسة الإنسان من مختلف جوانبه ونشاطاته.  وقد حدد العلماء للعلم المستقل ثلاثة شروط أساسية هي:[1]

  1. أوجود طائفة متميزة من الظواهر، يتخذها العلم مجالا للدراسة والبحث.
  2. خضوع هذه الظواهر لمنهج علمي للبحث.
  3.  إمكانية تعميم النتائج والوصول لطائفة من القوانين والنظريات الخاصة بهذا العلم.


إن هذه الشروط متوفرة في علم الاجتماع بما لا يدع مجالا للشك. فالشرط الأول المتعلق بوجود طائفة من الظواهر الخاصة بعلم الاجتماع قد تأكد لنا توفره من خلال الاستعراض الذي قدمناه لتصور علماء الاجتماع لموضوع العلم وميدانه؛ فرغم بعض الاختلاف الذي يظهر من خلال التعابير المستعملة إلا "أن ثمة نقاطا تمثل ولو هيكلا عاما يتحرك من خلاله علم الاجتماع ويتحدد به موضوعه الأساسي وهو هيكل يشير إلى أن علم الاجتماع هو علم دراسة الإنسان والمجتمع."[2] وهذا يعني أن الظواهر التي يدرسها علم الاجتماع هي الظواهر الاجتماعية أو المجتمعية كما أختار بعض الباحثين أن يسميها.[3] وهذه الظواهر تتميز عن غيرها من الظواهر التي تدرسها العلوم الإنسانية الأخرى بأنها:

أ‌ اجتماعية، ويفيد مفهوم الاجتماعي هنا أن ما يدرسه علم الاجتماع ليس إنسانا منعزلا، أو قدرات عضلية أو غرائزية، وإنما المقصود بالدراسة هم بشر متفاعلون، بينهم علاقات، ومخرجات لهذه العلاقات.

ب‌ وعامة؛ والعمومية هنا تفيد أن الوقائع الاجتماعية التي يدرسها العلم هي تلك الظواهر الأكثر تواترا واطرادا في المجتمع البشري.

ت‌ ضرورية؛ وما هو ضروري يعني أبعادا في المجتمع، ضرورية للحفاظ على الإنسان ومجتمعه.[4]

وفيما يتعلق بالشرط الثاني، أي مدى وجود منهج علمي خاص يتبعه علم الاجتماع، فإننا نجد أن لعلم الاجتماع مناهج متعددة تخضع لها ظواهره، وقد تطورت هذه المناهج حيث كان المنهج التاريخي أول المناهج التي استخدمها علماء الاجتماع (خاصة ابن خلدون) في بادئ الأمر، تلته مناهج أخرى منها المنهج التجريبي، ومنهج دراسة الحالة، والمنهج الإحصائي وغير ذلك من المناهج التي بفضلها أمكن الوصول إلى طائفة من القوانين الاجتماعية[5].

 أما فيما يخص الشرط الثالث، فيكفي أن نشير إلى أن علم الاجتماع خلال مسيرته استطاع أن ينتج مجموعة من القوانين الاجتماعية النسبية ومن هذه القوانين ما يلي[6]:

أ‌     يتحول المجتمع البشري من مجتمع بسيط إلى مجتمع مركب ومن مجتمع مركب إلى مجتمع معقد.

ب‌ تضعف العلاقات الإنسانية في حالة تقدم المجتمع في الحقول المادية والعلمية والتكنولوجية.

ت‌ تزداد نسب الجرائم في المجتمعات التي يلعب فيها الدين دورا هامشيا وثانويا.

ثانيا: الأسس المنهجية لعلم الاجتماع:

في هذا المحور الفرعي سنناقش نقطتين أساسيين مرتبطين بالأساس المنهجي لعلم الاجتماع؛ أولى هاتين النقطتين هي مسألة بناء الموضوع في علم الاجتماع والثانية هي إمكانية الدراسة العلمية للمجتمع. وإذا كنا سنحاول، في النقطة الأولى، تقديم أجوبة عن أسئلة من قبيل: ما هو موضوع علم الاجتماع؟ وما هي ميادينه؟ وكيف يبنى موضوع البحث في هذا الحقل المعرفي؟ فإننا في النقطة الثانية سنعمل على عرض أقوال المعارضين والمؤيدين لفكرة قابلية المجتمع للدراسة لننتصر في النهاية لؤلئك الذي يثبتون هذه الإمكانية.

أ‌      موضوع علم الاجتماع:

سبق أن بينا في فقرات سابقة  أن من أهم قضايا علم الاجتماع التي استأثرت باهتمام رواد هذا العلم قضية الموضوع وما ينبغي أن يدرسه العلم؛ وقد توصلنا إلى أنه رغم بعض الاختلافات في التعبير عما ينبغي التركيز عليه في الدراسة إلا أنه يمكن أن نستنبط اتفاقهم على أن موضوع علم الاجتماع هو كل ما يتصف بصفة الاجتماعي أو المجتمعي. إن علم الاجتماع إذن إنما يمارس فكرته المركزية وحبكة فهمه الخاصة في اجتماع البشر[7]. ويمتد معنى الاجتماعي ليعادل في اتساعه البشرية جمعاء، وفي معنى أقل سعة تساوي هذه الصفة المجتمع ككل. وفي معنى تضيق حدوده أكثر، تطلق تسمية "مجتمعي" على الأشكال الدينية والثقافية والعائلية والاقتصادية والسياسية والمورفولوجية داخل المجتمع.  وإلى هذا الاتساع في المشمول بصفة "الاجتماعي" يمكن أن يرجع الاختلاف في تعريفات الرواد لموضوع علم الاجتماع حيث يمكن أن نلخص هذه التعريفات للعلم على أنه:[8]

أ‌     علم دراسة السلوك الإنساني.
ب‌ علم دراسة التفاعل الإنساني المتبادل.
ت‌ دراسة النظام الاجتماعي.
ث‌ دراسة البناء الاجتماعي.
ج‌  دراسة الأنماط الاجتماعية أو الظواهر الاجتماعية.
ح‌  دراسة الاعتماد الإنساني المتبادل.
خ‌  دراسة المجتمع الإنساني في استقراره.
د‌    دراسة العلاقات الاجتماعية الموضوعية... إلخ.

إن الذي يميز الاجتماعي بصفته موضوع علم الاجتماع هو أكثر من اجتماع البشر وتجمعهم، أي أن الاجتماعي لا يمثل تجميعا بسيطا للأشخاص وإنما تفاعلهم واحتكاك أفكارهم وميولهم ورغباتهم وما يحيط بذلك من شروط طبيعية وتاريخية يؤدي إلى مركب مجتمعي له سمات مختلفة عن السمات الخاصة بالأفراد.

كيف يبنى الموضوع في علم الاجتماع؟

يقول عالم الاجتماع الفرنسي الشهير آلان تورين: "لا يشاهد عالم الاجتماع مسرحية وممثلين يؤدونها، وإنما يساهم في اكتشاف مسرحية، ستكتب يوما، ويلعبها الممثلون، قبل كتابة نصها المسرحي، وأكثر من ذلك، إنه يضم جهوده إلى جهود الممثلين أنفسهم كي يتعرفوا سوية إلى ما يجري على خشبة المسرح."[9] إن هذه القولة من هذا العالم تحيل على قضية أساسية تتعلق ببناء الموضوع في علم الاجتماع. فألان تورين يؤكد من خلال هذه القولة على أن الموضوع لا يملك وجودا مسبقا على العلم، ولا يوجد  جاهزا للدراسة، وما هو موجود في الواقع الإنساني المحسوس إنما هو عدد هائل من المعطيات التي هي في حاجة إلى إدخالها في قضايا نظرية.  فكما أن علم الفيزياء يدرس الذرة كموضوع إلا أنه لم ينجح مرة في عزل ذرة واحدة؛ كذلك في علم الاجتماع، لا تمثل الموضوعات كالمجتمع والظاهرة الاجتماعية والأسرة والحزب..الخ أكثر من وقائع ذات وجود غير مستقل على شكل أفكار ومفاهيم تحتاج من العالم أن يبنيها لدراستها. وهذا ما يجعل من المهام الأساسية لعالم الاجتماع العمل على بناء موضوعه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يبنى الموضوع في علم الاجتماع؟

إن ما يصادفه الباحث في علم الاجتماع وهو يتأمل الحياة الاجتماعية من حوله -كما أشرنا- لا يعدو أن يكون خضما من التفصيلات والمعطيات، وعددا هائلا من الأشخاص يتصرفون ويفكرون ويشعرون ويقيمون علاقات وروابط فيما بينهم. لكن العنصر الأساسي الذي يملكه هذا الباحث هو تلك الفكرة المركزية للعلم  وحبكة الفهم التي يعتمدها والمتمثلة في الكل المجتمعي والانطلاق من هذا الكل المركب لفهم الأجزاء (أو الأفراد).

يقوم الباحث الاجتماعي، عن طريق هذه الفكرة المركزية وحبكة الفهم، فيتفحص محسوس الحياة اليومية، فيختار منها معطيات محسوسة دون غيرها، ويدمج بينها ويجردها وينظرها في تركيب يعبر عن طابعها النموذجي. ويصل في نهاية الأمر إلى موضوعه.[10]

ب‌  إمكانية الدراسة العلمية للمجتمع:

يعتبر البحث في إمكانية الدراسة العلمية للمجتمع استكمالا للنقاش المتعلق بعلمية علم الاجتماع واستقلاله؛ ذلك أن علمية واستقلالية أي حقل معرفي تفترض وتستلزم قابلية موضوعه وطائفة الظواهر التي يدرسها لأن تخضع للدراسة العلمية.

تعني إمكانية الدراسة العلمية لموضوع من الموضوعات أو طائفة من الظواهر توفر شرطين أساسيين في هذه الظواهر هما:

أ‌      قابلية هذه الظواهر لأن تخضع للمنهج العلمي كما هو متعارف عليه. "فالعلم يقوم على استخدام أساليب ووسائل منهجية منظمة للاستقراء التجريبي، وتحليل البيانات والمعطيات، والتفكير النظري، والتقييم المنطقي للحجج والبيانات من أجل إعطاء تصور معرفي متماسك حول مسألة ما."[11]

ب‌ وجود أو إمكانية الوصول إلى طائفة من النتائج على شكل قوانين قابلة للتعميم ولو نسبيا تخضع لها هذه الظواهر.

إن إثارة هذه المشكلة، أي مشكلة إمكانية الدراسة العلمية للمجتمع قد تبدو مدهشة؛ غير أن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها تتمثل في أن كثيرا من العلماء والدارسين يشككون في ذلك وعلى رأس هؤلاء نجد الفيلسوف الرياضي الفرنسي "بوان كاريه" الذي يلخص موقف كثيرين حين أكد "أن علم الاجتماع علم كثير المناهج قليل النتائج، أي أن الحقائق والقوانين والنتائج التي يصل إليها من خلال دراسته المستندة إلى تكنولوجيا معقدة في البحث هي جد محدودة كما ونوعا."[12] ويقيم الرافضون لإمكانية الدراسة العلمية  لموضوع لعلم الاجتماع موقفهم على ثلاثة مقولات أساسية كما يلي[13]:

أ‌     إن المجتمع وظواهره متغيرة باستمرار، وهذا التغير يجعل حركة المجتمع قد تسبق في أحيان كثيرة حركة البحث الاجتماعي بشكل يحول دون الوصول إلى نتائج وقوانين ثابتة عن المجتمع والحياة الاجتماعية.

ب‌   إن الظواهر الطبيعية هي وحدها القابلة للخضوع لما يسمى بالمنهج العلمي؛ ذلك القانون العلمي في الظواهر الطبيعية سوف يتحقق بشكل تلقائي إذا توفرت الشروط الضرورية والكافية لتحققه بحيث يمكن التنبؤ التام بحركة الظواهر الطبيعية بينما لا يمكن الادعاء بإمكانية الوصول إلى قوانين على نفس المستوى من الصرامة في علم الاجتماع نظرا لأن هناك عوامل مثل الإرادة الإنسانية يمكن أن يتوقف عليها تحقق القانون رغم توفر كافة الشروط الضرورية[14].

ت‌  إن المنهج التجريبي الذي يعني التحكم في جميع المتغيرات المؤثرة في الظاهرة هو جوهر المنهج العلمي، ويستحيل استخدام هذا المنهج في دراسة الظواهر الاجتماعية لما قد ينطوي عليه ذلك من خطورة.

هذه الدعاوى، رغم الوجاهة التي قد يبدو للوهلة الأولى أنها تتسم بها، والتي تنطبق على كافة العلوم الإنسانية إلا أنه يمكن تفنيدها واحدة تلو الأخرى على النحو التالي:

أ‌     إن التغير والحركة الدائبة ليست سمة للمجتمع وحده بل سمة مميزة لكافة الظواهر بما فيها الطبيعية؛ وهذا لم يحل دون الدراسة العلمية للطبيعة رغم التغير المستمر للمادة. إن المطلوب من العلم ليس هو دراسة الظاهرة في حالة استقراها فقط بل إن "هدف العلم هو الكشف عن الانتظامات التي تحكم التغير الذي هو سنة الكون والتي لا تعني بأي حال من الأحوال حالات استاتيكية، بل هي انتظامات في التغير والحركة، ومن ثم فإن دعوى استحالة الدراسة بحكم التغير تنفي إمكانية العلم بما هو علم وليس علم الاجتماع وحده."[15]

ب‌  وفيما يتعلق بغياب الصرامة التي تمتاز بها القوانين الطبيعية عن القوانين الاجتماعية، نشير إلى أن احتمال وجود دور للإرادة الإنسانية في تحقق القانون الاجتماعي  لا يعني استحالة الدراسة العلمية للمجتمع، بل إن حل المسألة في منتهى البساطة إذ يكفي أن نأخذ هذه الإرادة في الحسبان باعتبارها شرطا من شروط تحقق القانون وهنا يكمن بعض الاختلاف بين القوانين الطبيعية والاجتماعية.

ت‌  أما فيما يتعلق بالدعوى الأخيرة المتعلقة باستحالة تطبيق المنهج التجريبي المعملي على الظواهر الاجتماعية، فإننا نؤكد على أن في ذلك تشويها وتبسيطا للمنهج العلمي؛ فهذا الأخير بمعناه الدقيق والواسع هو "طريقة للتفكير في الظاهرة وأسلوب لجمع بيانات عنها وطريقة في تحليل هذه البيانات واستنباط النتائج وتفسيرها والوصول إلى تعميمات بصددها، قد يطور أو هو يطور بالفعل أساليب في البحث والدراسة تلاءم الموضوع"[16]. وليس من الضروري افتعال مواقف تجريبية لكي نتحدث عن المنهج العلمي بل إن المجتمع بتاريخه وما فيه من ظواهر يشكل المعمل الذي يمكن للباحث الاجتماعي العمل فيه.

مما سبق يتبين أن علم الاجتماع هو مجهود علمي في جوهره وأن المجتمع وظواهره باعتبارها موضوع هذا العلم موضوع قابل للدراسة العلمية كغيره من الظواهر. "غير أن دراسة الكائنات البشرية تختلف اختلافا بينا عن دراسة الوقائع والظواهر الأخرى في عالم الطبيعة، ومن ثم لا يمكن مطابقتها تماما مع دراسة الحياة الاجتماعية."[17] 

ثالثا: قواعد الدراسة السوسيولوجية عند إميل دوركهايم[18]:

أشرنا في الفقرات السابقة إلى أن إميل دوركايم يعد من أهم مؤسسي علم الاجتماع وأنه من أوائل من درس، من الفرنسيين، هذا العلم دراسة أكاديمية؛ لذلك  فقد كان من أبرز من دعوا إلى الدراسة الموضوعية للظواهر الاجتماعية وسطروا لذلك قواعد منهجية. وقد جمع أبرز تصوراته عن هذه القضية في كتابه: "قواعد المنهج في علم الاجتماع".

إن من أبرز ما اهتم به دوركايم في تقعيده للدراسة الموضوعية للظاهرة الاجتماعية كان تحديد خصائص الظاهرة الاجتماعية وقد حددها في أربع خصائص وهي تتجلى في كون الظواهر التي ينبغي أن يدرسها علم الاجتماع تتميز بأنها أولا تلقائية، وثانيا: جبرية وملزمة، وثالثا: عامة و أخيرا خارجية ومستقلة عن الأفراد[19].

أما أبرز القواعد المنهجية التي أكد دوركايم على ضرورة احترامها عند دراسة الظواهر الاجتماعية فيمكن إجمالها في اثنتين كما يلي:

أ‌     دراسة الظاهرات كأشياء:

تتلخص أهم الأبعاد المنهجية لبحث الظاهرات المجتمعية عند إميل دوركايم في ضرورة دراسة هذه الظاهرات كأشياء. ويحيل هذا التأكيد الدوركايمي على المدى الذي ساهمت به الفلسفة الوضعية لكونت في صياغة فكر الرجل. ويعني هذا التأكيد صراحة محاكاة العلوم الطبيعية وتطبيق نظرتها وتصوراتها للظاهرات الطبيعية على الظاهرات المجتمعية[20].  ولا يعني هذا أن الموضوعات التي يدرسها علم الاجتماع هي أشياء مادية، وإنما توصف على أنها أشياء من حيث أن الشيء يواجه ويقابل الفكرة؛ أي أن معرفتنا بالشيء تأتي من الخارج، من عالم الموضوع، في حين أن معرفتنا بالفكرة تأتي من الداخل، أي من عالم الذات[21]. إن هذه القاعدة تفيد أنه ينبغي على الباحث أن ينبذ المعطيات والتصورات ذات الطابع الشخصي التي يكون مصدرها الأفكار المسبقة للفرد، وألا يتمسك إلا بالمعطيات الحسية التي تتمتع بدرجة كافية من الموضوعية العلمية. ولا يحصل هذا إلا بقدر ما تملك الظاهرة المجتمعية من العلامات الخارجية الثابتة والدائمة التي يمكن ملاحظتها مع استبعاد ما هو ذاتي؛ وهو ما يعني أن علم الاجتماع لا يتخذ موضوعا إلا ما كان قابلا للتعريف بخواص خارجية معينة كما يعني أن الموضوع يتضمن كل ما ينطبق عليه هذا التعريف من وقائع.[22]

ويستلزم هذا النهج في الدراسة أمورا ثلاثة هي أولا: التخلي عن كل فكرة مسبقة نملكها عن الظاهرة، وثانيا: الانطلاق من الخواص الخارجية لها، وثالثا: الاعتماد على الإحصاء والعمل على تخليص الظاهرة من اختلاطها بغيرها بغية ملاحظتها في نقائها وصفائها[23].

ب‌ تفسير ما هو اجتماعي بما هو اجتماعي:

تتمثل الركيزة الثانية للمنهج الدوركايمي في ضرورة تفسير الظاهرات الاجتماعية بظاهرات من نفس نوعها، أي تفسير ما هو اجتماعي بما هو اجتماعي، وليس بما هو حيوي أو نفسي. "ويعني ذلك تفسير الواقعة المجتمعية بوظيفتها المجتمعية. وفي ضوء ذلك، يلجأ دوركهايم إلى حجتين منطقيتين تتكرران عنده على الدوام، ويستخدمهما معا لتمهيد الطريق أمام التفسير الاجتماعي.

"الحجة المنطقية الأولى: الحالات النفسية ليست سببا وإنما نتيجة للوقائع المجتمعية. والدليل على ذلك، اختلاف الميول النفسية وتغيرها باختلاف وتغير الشروط المجتمعية، واختلاف الميول النفسية بين مجتمع وآخر.

"الحجة المنطقية الثانية: لا تفسر الوقائع المجتمعية بالسلالة أو العرق أو الوراثة، والسبب أن أشكال التنظيم المجتمعي الأكثر تنوعا وجدت في مجتمعات من السلالة نفسها، كما أن أشكال التنظيم المجتمعي الأكثر تشابها وجدت في مجتمعات ذات سلالات مختلفة."[24]

 [1] - أحمد رأفت عبد الجواد، م.س.ص: 18.
[2] -عبد الباسط عبد المعطي. ص: 15.
[3] - عبد الله إبراهيم،م.س.ص: 63.
[4] - عبد الباسط عبد المعطي، ص: 29 بتصرف.
[5] - أحمد رأفت عبد الجواد، م.س.ص: 21، وسنعود ضمن هذه السلسلة للحديث بتفصيل عن سؤال المنهج في علم الاجتماع.
[6] - إحسان محمد الحسن، م.س.ص: 506-507.
[7] - عبد اله إبراهيم،م.س. ص: 58.
[8] - محمود عودة، أسس علم الاجتماع، ص: 19.
[9] - نقله عبد الله عبد إبراهيم، م.س. ص: 39.
[10] - عبد الله إبراهيم، م.س. ص: 59.
[11] - أنتوني غيدينز،م.س.ص: 669.
[12] - محمود عودة،م.س.ص: 59.
[13] - محمود عودة، م. ن.، ص: 60-70 بتصرف.

[14] - كمثال على ذلك القانون الاجتماعي الذي يقول: "إن التناقض الاجتماعي وأشكال القهر الاجتماعي المختلفة سوف تؤدي إلى الثورة الاجتماعية." وقد يحدث أن تتوفر الشروط لحدوث الثورة لكنها لا تحدث لآن الناس لا يريدون أن يثوروا.
[15] - محمود عودة، م. ن.
[16] - نفسه.
[17] - أنتوني غيدينز، ص: 669.
[18] - اكتفينا هنا بالتطرق لقواعد الدراسة السوسيولوجية عند دوركهايم لاعتبارين إثنين: أولهما أن هذا العالم يمثل بحق أول من وضع قواعد دقيقة للدراسة السوسيولوجية؛ والثاني: لأننا سنعود لنثير الموضوع من جديد وبنوع من التفصيل عند الحديث عن سؤال المنهج.
[19] - راجع ما كتبناه في الموضوع عند حديثنا عن إميل دوركهايم ضمن رواد علم الاجتماع في الحلقة الأولى.
[20] - عبد الباسط عبد المعطي، م.س.ص: 100.
[21] - عبد الله إبراهيم، م.س. ص: 68، وراجع كذلك ما أورده الكاتب نفسه عن هذه القضية في كتابه: "الاتجاهات والمدارس في علم الاجتماع"، ابتداء من الصفحة 59 فما بعدها.
[22] - في مقابل هذا التوجه الوضعي، يوجد تصورات أخرى تعطي أهمية أكثر لما هو ذاتي في دراسة المجتمع، وسنتعرض لهذا في حينه.
[23] - عبد الله إبراهيم، م.س.، ص 97، بتصرف.
[24] - عبد الله إبراهيم، م.س. ص: 97-98.