الفن والدولة ـ عمر قرطاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Abstract Angled Seas - 1024x768لا شك أن للفن دلالات ثقافية واجتماعية جد ملتبسة.. تتراوح بين الافتتان اللامتناهي والاستهجان الشديد ..فبينما تجد الكثير من الناس يدمنون استهلاك المنتَج الفني ويتتبعون أخبار الفنانين لدرجة الهوس ، تجد آخرين لا يعنيهم الأمر بتاتا ولا يحرصون على متابعة الفن إلا بمحض الصدفة .. ويزيد الأمر التباسا عند فئة ثالثة تجمع بين الحالين ، فهي من جهة تهتم وتتابع وتتذوق ألوان الفن المتنوعة ، ومن جهة أخرى تعتبر الفن مجرد مضيعة للوقت وتسلية غير ذات جدوى ، ولا يتوقف الحكم على الفن عند هذا الحد ، بل يتجاوزه ليقع تحت طائلة الحلال والحرام ..


الأفكار لا محالة تغيّر الكثير من الأوضاع وتصنع التغيير.. والفن بماله من قوة ناعمة يستطيع تخليق هذه الأفكار وتوجيهها وتنشيط حركتها والمساعدة في نفاذها.. وبهذا المعنى لا يصبح الفن مجرد مادة ثقافية تندرج ضمن الاستهلاك الفردي الحر ، بل الفن منذ بزوغه الأول وانكشاف أهميته كان عرضة لتدخل السلطة .. تدخل يطال نوعيته و حدوده .. والأمثلة كثيرة لذلك التدخل.. فلطالما تورط الفن في بناء سياسة ما وتمجيد حاكم و محاربة عدو .. وكان دائما أداة في يد السلطة يفوق من حيث الأهمية كل أدواتها السلطوية الأخرى ..وهذا التدخل للدولة في شؤون الفن سواء من حيث التوجيه والتوظيف أومن حيث المنع والتضييق ليس فقط لاقتناعها بجدواه وقوته ، بل كذلك لأنها فهمت مبكرا أن للفن قدرة كبيرة على إعطاء عمق إنساني للسلطة وكذا إعطاء مبرر وجداني لمصالح الدولة المختلفة بغض النظر عن مشروعيتها القانونية أو حتى المنطقية ..
وهذا يضعنا أمام إشكالية في مفهوم الحرية المفروض تحققها في الممارسة الفنية ، بداية من الإبداع ووصولا إلى الاستهلاك والتذوق..ولتفسير هذه الإشكالية المتمثلة في تدخل السلطة من جهة وفي حرية الفن (الواجبة) من جهة أخرى، لتفسير ذلك ينبغي التفريق بين الحرية في التعبير والإبداع والاختيار والميول وبين التوجيه عبر برامج الدعم والرقابة ، فبينما تتطور حرية التعبير الفني وتتنوع روافدها بتطور وسائل النشر ووسائط التلقي والتواصل وبنضالات طويلة ومريرة..بقيت سلطة التحكم والتوجيه من لدن السلطة ثابتة، بل تطورت وتعددت أشكالها ، سواء في الرقابة المباشرة أو برامج الدعم الموجهة ..وهذا من وجهة نظري له أسبابه الموضوعية بالنظر إلى اعتبارين أساسيين ، الاعتبار الأول ويتعلق بالسلطة الحاكمة التي تحتاج لوسيلة تواصل وتأثير لتحسين صورتها وخدمة أغراضها وتوجهاتها.. والاعتبار الثاني ويتعلق بالفنان نفسه الذي يقبل بتنفيذ هذه المهمة الرسمية والسير في ركاب الدولة لأنه يحتاج إلى جهة داعمة تضمن له الاستمرارية والانتشار والاستقرار.. بل حتى الذين خرجوا عن هذه الصفقة "غير المعلنة" وحادوا عن الركب وهاموا في دروب الفن في حرية وانطلاق وعارضوا وناكفوا .. حتى هؤلاء استعملتهم السلطة في كثير من الأحيان وإن بصورة خفية ومراوغة..
في المغرب لم نخرج عن هذه المعادلة ، ووظف الفن في خدمة الدولة وتحسين صورتها..وقد شهد عهد الملك الراحل "الحسن الثاني" حالة تجنيد غير مسبوقة للفنانين في المناسبات الوطنية للتغني وتمجيد الملك وتخليد الأحداث الوطنية ، لذلك نلاحظ مدى الدعم والرعاية التي حظي بها الفنانون في تلك الفترة خصوصا المشتغلون في مجال الأغنية حيث شهدت هذه الأخيرة ازدهارا كبيرا لم يشهد مثله المغرب مثيلا لحد الآن، لدرجة أن ما يصطلح عليه بالأغنية المغربية العصرية بقيت حبيسة ذلك الزمن ولم تواصل تقدمها أبدا ..ويمكن القول أن الفن كان مرفقا من مرافق الدولة تستعمله كما تستعمل باقي المرافق ، وكان الفنان شأنه شأن أي موظف عادي ، لا يمكنه أن يخالف التعليمات وليس بمقدوره الغياب عن مناسبة من المناسبات الرسمية ، أو أن يمتنع عن التغني بأمجاد الملك ولا ينبغي له..
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه الحالة من التماهي بين الفنان والدولة كانت له ضرورة قصوى بالنظر إلى حساسية الفترة وتحدياتها ، فقد كان المغرب وهو يبني أركان الدولة ويؤسس نظامها معرض لمجموعة من المخاطر الداخلية والخارجية.. كان أولها خطر العلاقة الناشئة بين الدولة والمواطن ، إذ كان مواطن تلك الحقبة حديث العهد بالنظام والقانون والحكم والمواطنة ، لذلك كان لزاما على الدولة تقديم نفسها للمواطن بشكل حاسم عبر الدين والفن في محاولة لترسيخ نظام الحكم في الوجدان وتثبيته في السلوكيات..
كان الملك الراحل الحسن الثاني يتدخل في أدق تفاصيل الفن لدرجة تعديل كلمات أغنية أو إيقاعات لحن.. فلقب من أجل ذلك ب"الفنان الأول" ، وكان الفنان في هذه الفترة مجرد خادم للأعتاب الشريفة ومغرد بأمجاد الملك وانجازاته.. لكن بالمقابل تم القضاء نهائيا على الطفرة النوعية التي شهدها المسرح المغربي وتم هدم "المسرح البلدي" بالبيضاء وهدمت معه مدرسة ساهمت بشكل كبير في خلق ممارسة مسرحية رائدة ، ليس هذا فقط فقد تم كذلك تدمير مهرجان الهواة للمسرح ، وكان هو الآخر نواة حقيقية للمسرح المغربي الحر الخلاق وحصل ذلك لاعتبارات سياسية معروفة..
مع مجيء الملك "محمد السادس" إلى الحكم تغير مسار الفن جملة وتفصيلا ، وتغيّرت نظرة الدولة إلى الفنان دون أن تتنازل عن سلطتها في التوجيه ، وظهرت آلية الدعم كصيغة للنهوض بأوضاع الفن ومن تم تنظيمه وتسهيل عملية التحكم في مساره .. وتجلى هذا الأمر خصوصا في المجال السينمائي من خلال الدعم الموجه ، وظهرت أفلام على غير العادة تناقش مواضيع سياسية ، خاصة ما يتعلق بسنوات الرصاص ، ولم يكن هذا تحررا للفن بل لم يكن الأمر سوى توجها للدولة في طي صفحة الماضي في العقول .. وبمتابعة بسيطة لسياسة المركز السينمائي المغربي ، وهو الجهة الرسمية لدعم وتنظيم مجال السينما ، نلاحظ لمسة الدولة واضحة في الأفلام المدعّمة ، ليس بطريقة مباشرة وصريحة ولكن باختيارات صريحة ، مستعينة في ذلك بسلطة " الانتقاء والتعديل" المتوفرة لها من خلال المركز السينمائي.. لكن في غياب قاعات للعرض تبقى السينما في المغرب بدون تأثير بل مجرد فن للنخبة المثقفة المهتمة بالسينما عبر المهرجانات التي في أغلبها تخاطب الخارج أكثر مما تخاطب الداخل ..
والملاحظة الهامة في هذه الفترة الراهنة هو التراجع الحاد للأغنية المغربية العصرية التي عرفت ازدهارا كبيرا في عهد الحسن الثاني كما سبق أن ذكرنا ، ويمكن أن نفسر هذا التراجع بانتهاء دور الأغنية التاريخي في تمجيد شخص الملك ، وبالتالي انتهاء الرعاية الخاصة التي كانت تحظى بها والمشروطة بالولاء لا بالموهبة فقط ..
غير أن ما يثير الاستغراب في هذا الصدد هو أنه ومع توقف الأغنية العصرية توقفت حتى الأغنية الوطنية ، مما يشير إلى خلل ما تكوّن منذ تلك الفترة وهو الخلط الذي وقع بين الغناء للملك والغناء للوطن فمع وفاة الملك الحسن الثاني توقف الغناء للوطن.. مع العلم أن الوطن مستمر والتغني به ضروري ، لكن لا ننسى هنا غياب دعم الإذاعة الوطنية الذي ساهم هو الآخر في تجفيف منابع الوطنية في الأغنية المغربية لسبب غير معروف..
إذن بعد مجيء الملك محمد السادس تراجع مفهوم الرعاية والعطف المباشر للفنان ، إلى مفهوم الدعم المؤسساتي عبر برامج للدعم المشروط.. لكن ظهرت في ظل هذه الآلية "جماعات مصالح" تستفيد من الدعم لتقدم فنا هزيلا لا يستجيب للمواطن ولا يحقق تطلعاته الثقافية والفنية.. وفي مجال الأغنية ظهرت تجارب شبابية متفرقة وبمجهودات ذاتية ، لكن سرعان ما تم تلقفها من طرف الدولة بأشكال متعددة من الدعم ، وخصوصا موسيقى "الراب" التي رأت فيها الدولة فرصة لتمكين الشباب من التنفيس على نفسه والتعبير عن رأيه في كل مناحي الحياة بمفردات الشارع دون حاجة لإمكانيات فنية تقليدية وهذه التجارب أظنها ساهمت بشكل أو بآخر في تكوين جيل من الشباب الحر ، كان نواة لحركة شبابية ذات فكر سياسي احتجاجي أفصح عن نفسه في أول فرصة واتته في 20 فبراير 2011 ..
إن إشكالية الفن في المغرب لا تنحصر فقط في غياب دعم شفاف وعادل ، بل تتجلى في غياب إستراتيجية واضحة تجيب عن سؤال مهم وهو ماذا نريد من الفن ؟ ، فبعد توظيفه قديما كأداة للحشد والتعبئة ودغدغة العواطف الوطنية.. بات الفن حديثا أكثر استقلالية واكتسب مناعة تجاه التوجيه المباشر للدولة ، ورجع تدريجيا إلى صورته الأولى حيث الفن متعة وتعبيرا فرديا حرا.. وأصبحت الدولة تديره من وراء ستار، ولعل هذا ما أحدث إشكالا لدى الدولة في طريقة تعاملها مع الفن ، وتشويشا في برامج الدعم وفوضوية في الرؤى من حكومة إلى أخرى ..فلو تفهمنا ضرورة وجود يد الدولة في الفن لاعتبارات سبق وذكرناها فإننا لا نتفهم هذه الضبابية في التعامل.. ويزيد الأمر سوءا في ظل حكومة بن كيران التي توجد في بنيتها موانع لا محالة ستعرقل مسار التطور الفني في المغرب ، ليس فقط من حيث الشكل أي الدعم والمواكبة بل كذلك في الكيف أي الرؤية والتأهيل..والسبب الأول هو سبب اديولوجي يتعلق بكون حزب العدالة والتنمية "العمود الفقري للحكومة" لم يحسم بعد حكمه على الفن ، فما زال هذا الأخير يتأرجح في أدبيات الحزب بين الحلال والحرام ، ومازال الحزب لم يجب على سؤال جوهري هو هل الفن هدف في حد ذاته أم مجرد وسيلة للتعبئة والإصلاح وتحسين السلوك الأخلاقي للفرد والمجتمع ؟ وهذا المفهوم الأخير يُرجع الفن لما كان عليه في العهد السابق حيث لم يكن إلا بوقا لتجميع الناس حول أفكار معينة أو أشخاص معينين ، والسبب الثاني في اعتقادي هو التركيبة الإيديولوجية لمكونات الحكومة والتي لا تعطي مجالا أبدا لتأسيس رؤية وإستراتيجية موحدة حول الفن ، لذلك من المتوقع أن يعرف الفن في ظل هذه الحكومة ركوضا وكسادا كبيرين ، وفي أحسن الأحوال سيبقى الحال على ما هو عليه..
لقد بدل المغرب وحكام المغرب منذ البداية مجهودا كبيرا ومتفردا في إرساء قواعد تعددية سياسية كان لها الفضل الكبير في استقرار المغرب وحمايته من الفوضى ونزعات التفرقة ، لكن هذه التعددية تبقى في مجملها تعددية شكلية غير قادرة على الصمود طويلا ، لأنها ببساطة تعددية لم تبنى على التميز والاختلاف بل بنيت على المصالح فقط.. فلا بد لتدارك الأمر من وجود أساس ثقافي وفكري للتعددية في المغرب ولا بد – كخطوة أولى وأساسية – من بناء برامج للدعم يكون هدفها الأول هو دعم التعددية الثقافية والفنية في المغرب لتكون مع الوقت أساسا لتعددية سياسية حقيقية ، والأهم هو بناء مؤسسة للثقافة والفن تكون للجميع وفوق الجميع ، تعمل على تفجير الطاقات الوطنية في ميدان الفن والثقافة و تبني فنا مغربيا يكون انعكاسا لكل الثقافات والرؤى التي يزخر بها المغرب ، لأن هذه التعددية هي ورقتنا الرابحة التي أنقذت المغرب من الانزلاق في الفوضى ، وهي بلا شك القادرة على بناء مجتمع ديمقراطي عميق ومستقر..