مفهوم الرمزية عند ميرسيا إلياد ـ عبد القادر ملوك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

18-08-09-3مقدمة:
سيكون من باب المبالغة القول بأن هذه الورقة المحدودة في الزمان و في الحجم، ستستوفي كل أشكال الرمزية التي تصدى لها ميرسيا إلياد على مدار سنواته الطوال التي قضاها نابشا و منقبا في حضارات و أعراق مختلفة و متباينة  عن أشكال التفكير الرمزي الثاوي خلف أساطيرها من جهة و المتحكم في هاته الأساطير من جهة أخرى. إن غاية ما نصبو إليه من هذا العمل أن نكوِّن صورة عامة عن ملامح التفكير الرمزي في كتب مؤرخ الأديان الروماني، لاسيما كتاب المقدس و المدنس. و هي خطوة ارتأينا أن نمهد لها  بأرضية لابد منها تجعل القارئ (الذي لا يملك دراية بهذا الموضوع)على بينة من مفهوم الرمزية /الرمز، و من وظيفة الرمز  و التأويل الرمزي  و على بينة كذلك من بعض أنواع التفكير الرمزي كما عالجها بعض ذوي الاختصاص في مجالات مختلفة، أمثال  فرويد، يونغ، لاكان في التحليل النفسي؛ سوسير، جاكوبسون في اللسانيات؛ ك.ليفي شتراوس في الاتنولوجيا ...الخ.


مفهوم "الرمز le symbole":
آثر البشر إحاطة أنفسهم، دائما، بالرموز، و مازالوا حتى الآن يحافظون على هذه الرغبة، فأينما حللنا أو ارتحلنا، تقع أبصارنا على رموز، مستعملة في الكتابة أو على واجهات المتاجر، أو في الإعلانات... الخ. ورغم أن البعض يحتفظ بعبارة الرمزية لحركة القرن التاسع عشر، بيد انه رغم شهرة الرمزيين في ذلك العهد، فإن تلك الحركة لم تنجح لتتبلور حولها حصرا عبارة الرمزية.[1] الأكيد أن السلوك الرمزي للإنسان طال مختلف مناحي حياته، من ألفها إلى يائها، إلى درجة تدفعنا إلى الاتفاق مع ارنست كاسيرر في دعوته الشهيرة "فلنحد الإنسان بأنه حيوان ذو رموز بدلا من أن نحده بالعقل و النطق. فإذا فعلنا ذلك ميزنا اختلافه الخاص عما سواه"[2]. لكن إذا كان هذا الأمر قد أصبح حوله شبه إجماع الآن، فإن مسألة إيجاد تعريف شاف لكلمة رمز، تبقى أمرا دون المتناول، طالما لم يحصل بصدده إجماع من قبل علماء الانتروبولوجيا، بالنظر إلى استعمالاته المتعددة التي تنجم عنها معاني متباينة أحيانا لنفس الرمز؛ فالعلم الأحمر مثلا عندما يوضع في الطريق يكون علامة على وجود خطر بينما إذا رفعته دولة أو منظمة فإنه يدل على معاني إيديولوجية و يكون رمزا لكل هذه المعاني و النظم المعقدة.[3] إلا انه لا يجب أن نفهم من هذا التعقيد الذي يطال كلمة رمز، أننا لن نبحث له عن تعريف نرفع به على الأقل قليلا من اللبس حتى يتسنى لنا فهم ما يستتبعه من توظيفات من قبل ذوي الاختصاص و على رأسهم ميرسيا إلياد الذي يهمنا أكثر من غيره في هذه الورقة.
لقد دأبت التقاليد الأدبية على تقسيم كلمة رمز إلى ثلاث مجموعات معاني مختلفة:
المعنى الأكثر تداولا يمنح لكلمة رمز معنى قريبا من التمثيل الرمزي/ الشعاري: الحمامة رمز السلام، الأسد رمز الشجاعة و الإقدام، الصولجان و التاج رمزان للملكية و السلطة، رفع الذراعين رمز للاستسلام ...الخ
اشتقاقيا كلمة رمز مشتقة من الكلمة اليونانية sumbolon المشتقة بدورها من الكلمة sumbally و التي تفيد "التوثيق أو الربط "  و كان المرموز علامة للتعارف، و أي شيء مقسم إلى قسمين متساويين يسمح بالتقارب لحامليهما و التعارف كأخوين و أن يستقبل كل منهما الآخر بحفاوة بالغة دون أن يكونا قد تقابلا من قبل.
هذان المعنيان السابقان لكلمة رمز تكاد لا تربطهما صلة بالمعنى الثالث الخاص بالرمز المنطقي الرياضي الذي يمثل علامة تصويرية أو يشير إلى وجود وحدة كمية معينة أو وصف عمليات محددة على هذه الكميات. فالرمز إذن في نطاق الأفكار عامل صلة غني بالوساطة و التماثل يجمع المتناقضات و ينقص التعارض. لا يمكن فهم شيء دون مساهمته، و علم المنطق يتوقف عليه لأنه يدعو إلى التكافؤ و الرياضيات نفسها بأرقامها لا توضح إلا بالرموز.[4]
بدوره معجم لالاند في طبعة سنة 1926 يشير إلى المعاني الثلاثة لمفهوم الرمز معتبرا إياه ما يمثل شيئا آخر في نوع من التلاؤم التماثلي.
وظيفة الرمز:
فيما تستعمل الرموز؟ هذا السؤال الذي يبدو بريئا و بسيطا لمن يقرؤه للوهلة الأولى، يثير تعقيدات جمة حين محاولة الإجابة عنه، فالرمز يمتلك على الأقل ثلاث وظائف كبرى، فهو يُظهر، يجمع أو يؤلف ثم يوجه.[5]
الرمز أولا يُظهرmontre، فهو يجعل محسوسا و ظاهرا ما لم يكن كذلك: قيم مجردة، سلط، فضائل، عيوب، جماعات. الأمر لا يتعلق بمماثلة ساذجة، توظف فيها آلية الربط "ك" (شجاع كاللأسد)، (فخور بنفسه كالطاووس). إن الرمز يمتلك صفة الاحتكار فهو يستحوذ على المعنى و يسيطر عليه، إذ لا يمكن أن نربط الشجاعة مثلا بغير الأسد، ينبغي أن لا تتنازع الجماعة حول محتواه أو حول معناه، ما يعني أن له قيمة بالنسبة للجماعة و بالنسبة للمجموع و بالنسبة للمجتمع برمته، و كيف لا و هو يمتلك سلطة توحيده و سلطة خلق توافق حوله، و بكلمة واحدة إن الرمز اجتماعي.
بدوره الرمز المنطقي- الرياضي لا يسلم من هذه القاعدة، فهو يستمد قوته من التوافق الحاصل بشأنه، فعلى سبيل المثال إذا لم يحصل توافق حول الرمز (-) باعتباره مناقضا للرمز (+) فإن كل ما يترتب عنهما من نتائج سيذهب أدراج الرياح و قد نجزم بان صرحا رياضيا بأكمله سيندثر.
الرمز، من جهة ثانية، يجمع و يؤلف réunit ، فعلاوة على وظيفته التوافقية السالفة الذكر، نجد أن الرمز يعلن الانتماء، فحسب عبارة جورج جيرفيتش " انه يدرج و يقصي" il inclut et il exclut [6] و هنا تتجلى وظيفة الرموز/الشعارات، فالأعلام المرفوعة في المناطق الحدودية تلعب جيدا دور الانتماء و الإقصاء. لنتأمل كذلك الرمز الماركسي  المتمثل في المنجل و المطرقة، فهو ليس دفاعيا محضا، بل انه يملك قيمة تنظيمية تعلن بطريقة ضمنية عن برنامج: التحالف بين الطبقة العاملة و الفلاحين، أمر ضروري و كافي لاستعادة السلطة و إقامة مجتمع اشتراكي. إن هذه الوظيفة الاجتماعية للرمز هي ما كان ك.ليفي ستروس يروم الكشف عنه في كتابه الموسوم (Anthropologie et Sociologie ( فقد اعتبر بأنه من طبيعة المجتمعات أن تعبر رمزيا عن عاداتها و مؤسساتها، و بالمقابل فالسلوكات الفردية ليست رمزية في حد ذاتها، بل هي العناصر التي من خلالها يتمكن نسق رمزي – لا يمكن أن يكون إلا جماعيا- من التشكل.[7]
الرمز في النهاية يُلزم و يحدد enjoint et prescrit، هذه الوظيفة تبرز بجلاء في الرموز و الشعارات ذات الطابع السياسي، فلو أخدنا مثلا رمز الصولجان و التاج، فسنجدهما لا يكتفيان بالإشارة إلى  السلطة و إعلانها، بل هما يفرضان احترام هذه السلطة، لذلك نجد بأن الأثاث الملكي، من قبيل الكرسي و المنصة و غيرها تسعى عبر رمزيتها إلى خلق نوع من الهبة و الجلال يفرضان شيئا أكثر من الاحترام.
التأويل الرمزي:
تأويل رمز معين معناه التساؤل عن المرموز إليه، بمعنى آخر محاولة معرفة مدلول رمزيته، فإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر الرمز (=) فسنجده مزدوج الدلالة، فباعتباره علامة  يرمز إلى التساوي و التكافؤ، و باعتباره رمزا ، نجده يحيل على إمكانية وجود نسق من التعادلات و التكافؤات (على مستوى الأفراد داخل الدولة مثلا).
إن هذا المسار (مسار التأويل الرمزي) هو الذي سارت فيه مجموعة من المباحث في شتى التخصصات، يكفي أن نشير مثلا إلى "رمزية الحلم" لنكون في إطار التحليل النفسي، سواء في شخص رائده و مؤسسه سيجموند فرويد، أو في أشخاص أتباعه الذين تتلمذوا عليه، أو الذين جاؤوا من بعده؛ ففي كتابه تفسير الأحلام L’interprétation des rêves 1900 يعتبر فرويد بأن الحلم، على عكس ما ذهب إليه أصحاب النزعة العلمية و الوضعيون الكلاسيكيون، له معنى، وهو معنى رمزي، يمَكِّن فك شفرته من فتح المحتوى النفسي اللاشعوري للذات. و تشاء الصدف أن يكون الرمز هو سبب الانفصال الذي حدث بين فرويد و تلميذه يونغ، فقد اعتبر هذا الأخير، مخالفا بذلك أستاذه، بأن الليبيدو la libido ليست سببا بقدر ما هي نتيجة.
إذا كان قد سبق لنا أن قلنا بأن الرمز هو علامة على الرابطة التي تجمع بين نصفي موضوع مجزأ، فإنه عندما يستعمل لفظ الرمزي مع لفظي المتخيل و الواقعي، فهو يكوِّن ثالوثا خاصا بالمتن التحليلنفسي و خصوصا بفكر جاك لاكان ( أحد تلامذة فرويد البارزين) الذي نظم استعماله. يشكل المتخيل و الرمزي و الواقعي في المنظومة اللاكانية بنية الذات، منظومة لاكان هذه قائمة في العلاقة المتبادلة بين منطوقين:
ü اللاشعور هو خطاب الآخر (العائلة، القانون، الأب في النظرية الفرويدية، التاريخ و المواقع الاجتماعية...)
ü اللاشعور منتظم بنيويا على هيأة لغة.
هنا يمكن أن نعثر على مواطن التقاطع بين كل من لاكان و شتراوس، فكلاهما يقر بالانفصال بين الفرد و اللغة، بين المتخيل و الرمزي، بين التنوع و النظام الذي يضبطه، بين المكان و الزمن: بين الذات و التاريخ.[8]
بعدما أزحنا قليلا من الغموض عن مفهوم الرمزية و عن وظيفته، و عن بعض من تأويلاته المتعددة، سنعمل اللحظة على مقاربة ذات المفهوم عند ميرسيا إلياد معتمدين بالخصوص على مؤلفه "المقدس و المدنس".
الرمزية عند ميرسيا إلياد:
في عصر كثر فيه الحديث، من قبل أقلام عديدة، عن موت الإنسان، يعلن ميرسيا إلياد نيته عدم الاستغناء عن كلمة "إنسانية"، التي تحمل بالنسبة له معنى خاص غير ذلك المتداول في الأدبيات الإنسانية.
مؤرخ الأديان الروماني لا يريد حصر أبحاثه في مفاهيم فلسفية قديمة، و لكنه يروم إعادة التفكير في فكرة المؤرخ ذاته، من خلال إعادة تنشيط و تجديد بعض المعاني المنسية، المحتفظ بها في تقاليد روحية صعبة الإمساك. إعادة اكتشاف l’homo religiosus من طرف علم الأديان في عصر يسير شيئا فشيئا نحو طرح مشكل مصادر إعادة الإحياء الروحية للإنسان.
بانطلاقنا من فكرة كون جذور الوعي الإنساني ذات طبيعة دينية و هو ما نعته يونغ بمصطلح اللاوعي الجمعي، أراد ميرسيا إلياد جعل دراسة التفكير الرمزي في خدمة إعادة تعريف الشرط الإنساني المعاصر من أجل تجاوز الأزمات المتعددة لموت الإنسان.[9]
ماذا تقول الأساطير و ماذا تقول الرموز؟ و هل يقولان شيئا أو أشياء حول العالم و الإنسان يمكن أن يثمنه العقل؟ نعلم جيدا أهمية هذا السؤال / الإشكال في مختلف السجالات المعاصرة التي أثارتها انتروبولوجية كلود ليفي شتراوس. في الحقيقة هذا السؤال ليس وليد اللحظة الراهنة فجذوره ضاربة في القدم، إذ يمكن ردها إلى أرسطو الذي سبق له أن وضع أسطورة التأمل في المدهش و العجيب موضع شك و ارتياب، و بالتالي طعن في إمكانية منحه المكانة الممنوحة للمفهوم. طبعا ليس المجال مناسبا للخوض في هذا السجال التاريخي بما أن رهاننا يقف عند فكر إلياد.
الرمز ليس مفهوما un concept، بالمعنى الذي نفهم به المفهوم كشيء له معنى قار (و لو نسبيا) نستطيع أن نعرفه به و بالتالي نقبض على ماهيته. ينبغي النظر إلي الرمز كشكل من أشكال التفكير باستطاعته أن يعكس التجربة الدينية. في الرمز ليس هناك تضارب فكري أو تأملات متشعبة، بل هناك فهم مباشر لهذا الطقس الديني الملغز. فهو في طبيعته يحمل بعدا دينيا، ما دامت الرمزية لا تشتغل إلا في شبكة من التقابلات و التماثلاث  بواسطتها تستطيع التنقل من منطقة إلى أخرى في العالم. إن فهم رمز ما لا يعني فهم معنى كلمة أو صورة منعزلين: انه ليس في الإمكان ضبطه و تحديده إلا عبر تعالقاته، كعنصر في شبكات متعددة، يعني في انتمائه إلى  نسق. لأن الرمز يعبر في الآن ذاته عن التعقيد الذي يطال المقدس في تمظهره من جهة، و عن علاقته بالوجود الإنساني من جهة أخرى. و لعل ما قام به ميرسيا إلياد يصب في هذا الاتجاه، حيث راح يحفر و ينبش في العادات و الطقوس و الأنصاب...الخ لإزالة ما علق بها من شوائب الزمن، و ما لحقها من تشويه و انحراف، و لإعادتها إلى مكانها أو مكانتها في منظومة رمزية تحقق في داخلها ذاتها كجزء لا يتجزأ من الظاهرة الدينية، عبر عملية تأويلية..[10] هناك أمثلة عديدة تكشف عن رغبة الإنسان في إضفاء صفة القداسة على ما هو دنيوي،  "فالمعبد يشكل فتحة بمعنى الكلمة صوب الأعلى و يضمن التواصل مع عالم الآلهة"[11]
و عين القبة هذه ترمز لانقطاع المستويات و للاتصال مع المتصاعد[12].  إن الحنين العميق للإنسان المتدين هو أن يسكن عالما إلهيا، بمعنى العيش في كوزموس طاهر و مقدس كما كان في البداية، عندما خرج من بين يدي الخالق[13] و هو ما جرى تصوره في المعابد و المزارات.
ان التاريخ عند الياد يأخذ معنى هو غير المعنى الذي يقدمه له العديد من المؤرخين، انه حقل رحب، تتحرك فيه الرموز الدينية، فتنمو و تذوي، و تنفرد و تتحد، يضمر ما كان قائما، و ينهض ما كان كامنا، هكذا يتاح للمقدس أن ينضاف إلى رموز أخرى تحده و يحدها.[14]
هناك مسألة ذات أهمية قصوى عند الياد تتعلق بالتمييز بين الرمز و تجلياته، فالرمز هو المقدس عينه، في حين أن تجلياته هي صوره و أشكاله المتعددة و المتباينة،  هذا التجلي أو la hiérophanie هو مثلا الحجر و الصخرة و النصب و الوثن، أما الرمز فهو تجسيد الألوهية. فالرموز ليست علامات تعسفية، معلقة في الفراغ، فالديني مهما كان بدائيا أم متمدنا، فهو حتما يفكر بواسطة الرموز و هو ما يزكيه مارسيل موس معتبرا أنه لا يمكن فهم مغزى أي صلاة، إذا لم يعترف بفاعلية الكلمة.[15]
تحتاج الرؤية الدينية إلى الرمزية لكي تعيد بعث المركب التخييلي الذي تقوم عليه، لذلك تحتاط العقول القيمة على الشأن الديني من أن تندثر هذه الرمزية عبر النمو الديني الذي يسعى لأن يتطور مع الزمن. و على ذكر الزمن يعتبر الياد بان الإنسان المتدين يعيش نوعين من الزمن، أكثرهما أهمية هو الزمن المقدس ، يمْثل تحت المظهر المتناقض لزمن دنيوي، قابل للانعكاس و قابل للإعادة. و لنوع من حاضر أزلي أسطوري يحتفل به دوريا بواسطة الطقوس و هذا السلوك تجاه الزمن يكفي لتمييز الإنسان المتدين عن الإنسان "غير المتدين".[16]
يعتبر الياد بأن كل الأفعال التي قام بها الإنسان المتدين، حتى تلك التي لامست الجنون و الدناءة و الجريمة، كان يعتقد و يريد بها أن يحتدي حذو آلهته، أو أن يتقرب منها على أقل تقدير، فالناس لا يعبدون الحجارة إلا بمقدار ما تمثل لهم شيئا آخر غير نفسها (منطق المفارقات حيث تشتغل الرمزية) و لعل هذا ما تكشف عنه الآية " و ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"[17] و زلف في لسان العرب و ازدلف و تزلف تعني دنا منه. قال قتادة و السدي و مالك عن زيد بن أسلم و ابن زيد "في تفسيرهم لهذه الآية: " أي ليشفعوا لنا و يقربونا عنده منزلة و لهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم لبيك لا شريك لك  إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك و هذه الشبهة..."[18]
هذا تأويل – مادامت الرمزية قائمة على التأويل-  و في تأويل من نوع آخر، لتمظهر la hiérophanie يوفر الحجر للوعي الديني البدائي، بثباته و جموده، و رسوخ كينونته العصية على التغيير، طرازا من الوجود المطلق الذي يشعر البدائي حياله بتجاذب عاطفي، فيبهره برسوخه و ديمومته، و يهاب صلابته و حجمه، و هكذا نفهم فكرة بناء الأضرحة للموتى مثلا بارتباطها بأصولها الرمزية الأصلية و هي رمزية الحجر. فالحجر لأنه في نظر البدائي رمز الديمومة و الثبات، أضحى بجدارة حاميا للحياة ضد الموت، و للجسد ضد الانحلال. أصبح مسكنا يحفظ روح المتوفى و يثبتها في مكانها.[19] يقول الياد في كتاب المقدس و المدنس:" لو أن حجرا مقدسا جرى تبجيله فذلك لأنه مقدس، و ليس لأنه حجر.[20]
ان المقدس السماوي في نظر مؤرخ الأديان الروماني، مع ابعاده عن الحياة الدينية بكل معنى الكلمة يبقى فعالا عبر الرمزية، فالرمز الديني يبلغ رسالته حتى و لو لم يدرك بوعي بكليته. لأن الرمز يتوجه للكائن البشري بكليته و ليس لعقله فقط.[21]
لقد سمعنا، في ما سبق لما قاله الياد بخصوص الرمزية، و قدمنا لذلك مثال الحجر، لنستمع له و هو ينوع الرموز التي بفضلها يصبح العالم شفافا و قابلا لإظهار التصاعد في اعتقاد الإنسان المتدين، و لنعرج على مثال رمزية المرأة التي تحيل هي و الأرض على الخصب يقول الياد: "المرأة إذن متضامنة صوفيا مع الأرض، و تمثل الولادة كعمل متفرع على المقياس البشري، من الخصب الأرضي، فلكل التجارب الدينية ذات العلاقة مع الخصب و الولادة بنية كونية. و ترتبط قداسة المرأة بقداسة الأرض. و للخصب النسوي نموذج كوني: هو نموذج الأرض الأم المولدة الشاملة.[22]
كما يحيلنا في زاوية أخرى على مقارنة رمزية بين الحياة و طقوس النبات، رمزية تجعل المتدين يتصور الكوزموس بمثابة شجرة جبارة: فطريقة تكون الكون، و في المحل الأول، قدرته على التجدد إلى ما لا نهاية، معبر عنها رمزيا بحياة الشجرة، فالكوزموس تنظيم حي يتجدد دوريا، من هنا نفهم لماذا لا يضع الإنسان المتدين الموت حدا نهائيا للحياة، فالموت ليس بالنسبة له سوى حالة للوجود البشري.
عديد الأمثلة يوظفها ميرسيا الياد لإظهار وظيفة "الرمزية" خصوصا في الفكر الديني الذي خصص له مؤلفات عديدة حتى عرف بمؤرخ الأديان، و إن شئنا أن نخرج بخلاصة لبعض ما أثرناه في هذا العرض المقتضب، نشير بادئ ذي بدء، إلى أن حديث الياد عن المتدين، لا يعني الإقرار بثنائية متدين / غير متدين، بل هو مجرد تمييز بين من يعلن تدينه بطريقة صريحة ، و بين من يمارس التدينُ، مهما كانت ماهيته، فعلته في بنيته اللاشعورية و هو في غفلة من ذلك، يقول في هذا الصدد: " إن الغالبية العظمى ممن "لا دين لهم" ليسوا محررين بمعنى الكلمة من التصرفات الدينية، و التيولوجيات و الميتولوجيات. إنهم مغرقون أحيانا بركام سحر- ديني و إنما هابط إلى درجة الكاريكاتير، و لهذا السبب من الصعب أن يكون قابلا للاعتراف به".[23] كما يقول في موضع آخر: "و بالإجمال، فإن غالبية الناس "بدون دين" ما زالوا يتقاسمون أديانا كاذبة و ميتولوجيات متخلفة. الأمر الذي لا يدهشنا في شيء، من اللحظة التي يكون الإنسان الدنيوي فيها هو سليل الإنسان المتدين l’homoreligiosus و لا يستطيع إلغاء تاريخه الخاص، أي سلوكات أجداده المتدينين، الذين كونوه كما هو عليه الآن".[24]
ما الذي نبتغي الوصول إليه من وراء هذه الأقوال التي حاولنا من خلالها توريط الجميع، بطريقة أو بأخرى في التدين؟ إن مرامنا هو الإقرار، مع ميرسيا الياد، بأن الإنسان يتحرك، شاء ذلك أم أبى، وعى ذلك أم لم يعه، داخل منظومة رمزية تؤطره و ترسم ماهيته، و يعيد تشكيلها باستمرار حتى تتماشى مع سيرورة الزمن، و هو بذلك يعيد في الحقيقة إعادة تشكيل ذاته حتى تقوى على العيش عالميا، لأن الرمز كما يقول الياد، لم يجعل العالم مفتوحا فحسب و إنما ساعد أيضا الإنسان المتدين ليتوصل للشمول. فبفضل الرموز خرج الإنسان من وضعه الخاص و انفتح نحو العام و نحو العالم.[25] فهو لم يعالج الرموز و تجلياتها معالجة خارجية أو حيادية إنما كوسائط أساسية بينه و بين كينونته، تؤسس لفعاليته البشرية و الاجتماعية هي في حقيقة وجوده، إذ ليس ثمة وجود حقيقي له إلا عندما يتمثل العالم من خلاله. انه يترعرع في حقل الرموز.[26]
خاتمة:
ختاما يمكننا القول بأن السلوك الرمزي للإنسان كان في أساس الوجود البشري، العقلي و الاجتماعي طالما أن اكتساب المعارف، مهما كانت طبيعتها، بدون عون الرموز، ينخفض بالإنسان إلى مستوى المعطيات المباشرة، ما يجعله أقرب من الحيوان منه إلى شيء آخر، لذلك لم يختلف ك.ليفي شتراوس عن موس، و دوركايم و الياد و علماء آخرين، حول صعوبة/استحالة قيام تواصل بين البشر بدون رموز، ما يفيد بأن الرمزي و الاجتماعي وجهان لعملة واحدة، لا يستقيم الحديث عن احدهما دون الآخر.  لكن هذا لم يمنع – كما هي عادة الباحثين دائما- من وجود اختلافات حول ذات المسألة بين كل من دوركايم و الياد، تمثلت بالخصوص في اعتبار الأول بأن الاجتماعي هو الذي يولد الرمزي، في حين ذهب الثاني (الياد) من منظور اشتغال مختلف على مفهوم المقدس إلى اعتبار أن  الرمزي هو الذي يولد الاجتماعي.
المراجع المعتمدة
المراجع العربية:
إرنست كاسيرر، مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية، ترجمة إحسان عباس، دار الأندلس، بيروت 1961
ميرسيا الياد، المقدس و المدنس، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، طبعة أولى 1988
فيليب سيرنج، الرموز في الفن- الأديان- الحياة. ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، الطبعة الأولى، 1992
كاترين كليمان، التحليل النفسي، تعريب: د. محمد سبيلا و حسن أحجيج، سلسلة ضفاف
أحمد محمود زين الدين، مقالة منشورة في ويكيبيديا الموسوعة الحرة، المقدس عند ميرسيا الياد.
موقع الشبكة الاسلامية على الانترنيت.
المراجع الفرنسية:


[1] فيليب سيرنج، الرموز في الفن- الأديان- الحياة. ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، الطبعة الأولى، 1992 ص 40
[2] إرنست كاسيرر، مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية، ترجمة إحسان عباس، دار الأندلس، بيروت 1961 ص: 69
[3] فيليب سيرنج، الرموز في الفن- الأديان- الحياة. ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، الطبعة الأولى، 1992 ص 5
[4] Dominique Jameux, Encyclopaedia Universalis 2004, Mircea Eliade, symbole.
[5] ibid
[6] ibid
[7] ibid
[8] كاترين كليمان، التحليل النفسي، تعريب: د. محمد سبيلا و حسن أحجيج، سلسلة ضفاف، ص 55
[9] Editions universitaires de Lyon 3 – collection « symbolon », publié le 30 mars 2009
[10] أحمد محمود زين الدين، مقالة منشورة في ويكيبيديا الموسوعة الحرة، المقدس عند ميرسيا الياد.
[11] ميرسيا الياد، المقدس و المدنس، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، طبعة أولى 1988، ص 28
[12] نفس المرجع، ص 50
[13] نفس المرجع، ص 53
[14] أحمد محمود زين الدين، مرجع سابق.
[15] أحمد محمود زين الدين، مرجع سابق.
[16] ميرسيا الياد، المقدس و المدنس، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، طبعة أولى 1988، ص 58
[17] سورة الزمر، الآية 3
[18] أخد بتصرف عن موقع الشبكة الاسلامية الالكتروني.
[19] أحمد محمد زين الدين، مرجع سابق.
[20] ميرسيا الياد، المقدس و المدنس، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، طبعة أولى 1988، ص 90
[21] نفس المرجع، ص 97
[22] نفس المرجع، ص 107
[23] ميرسيا الياد، المقدس و المدنس، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، طبعة أولى 1988، ص 149
[24] نفس المرجع، ص 151
[25] نفس المرجع، ص 153
[26] أحمد محمد زين الدين، مرجع سابق.