المقاربة العلميّة للظّواهر الدّينيّة - عزالدّين عناية*

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسيحضر المقدّس في الاجتماع العربي بشكل لافت، متجلّيا في عدّة أنشطة مشوبة بمسحة دينيّة، الأمر الذي يرفع الدّيني إلى مرتبة الفلسفة الاجتماعية المنسابة في وعي الفرد وسلوكه. ولكنّ حالة الحضور الواسعة تلك، تعوزها في الحقيقة متابعة علميّة تليق بها وفي مستواها. ونعني بها وضع الدّيني، في شتى مظاهر تشكّلاته، وانبعاثاته، وأنشطته، ودوافعه، وآثاره، بين قوسين. بإخراج المقدّس المعيش من العفوية والانسياب، إلى الضّبط والفهم.
فعادة ما تتركّز دراسة الدّين في مستواها الأكاديمي، في البلدان العربيّة، في كلّيات الشّريعة والجامعات الإسلامية، أو في الحوزة العلمية، بين أتباع المذهب الإمامي؛ وفي الكلّيات الحبرية لدى المسيحيين. تتلخّص علوم الدّراسة، في الجانب الإسلامي، بالعلوم الشّرعية: من فقه وأصوله، إلى علوم القرآن والحديث، إلى المواريث والمقاصد، إلى الدّعوة، إلى علم التجويد والتّفسير وعلم الكلام. وفي الجانب المسيحيّ تتوزّع بين علوم اللاّهوت والعلوم الكنسيّة بشتى أصنافها: اللاّهوت الكتابي، واللاّهوت المنهجي، واللاّهوت التّاريخي، ولاهوت الآباء، واللاّهوت الرّوحي وعلم التبشير والقانون الكنسيّ، بغرض تأهيل الخرّيجين لممارسة دور كهنوتي.
وتتميّز مناهج الدّراسة والبحث في العلوم الشّرعية واللاّهوتية، لدى الجانبين الإسلامي والمسيحي، بطابع مدرسيّ داخلي، بصفتها علوما إيمانية، غرضها الأساسي دحض القلق العميق الذي يكتنف وجود الإنسان.
والسّائد في مناهج تدريس تلك العلوم، تقديمها بحسب مرويات تخلو من إعادة النّظر في مناهج السّابقين وأساليبهم. وحتى المحدَثين الذين كتبوا في هذه العلوم، غالبا ما لخصوا المدوّنات السّابقة للآباء (أوريجانيس –ت254-، وترتوليانوس القرطاجي-ت225-، ويوحنّا فم الذّهب –ت407-، والقدّيس أوغسطين-ت430-، وتوما الأكويني-ت1274-)؛ أو علماء السّلف (أبو حامد الغزالي-1058-1111م-، وشيخ الإسلام ابن تيمية-ت1328م-، وأصحاب المذاهب الأربعة)، وقدّموها في حُللٍ حديثة مع محافظة على البناء الفكري وإبقاء على الأفق النّظري. والذين حاولوا الخروج عن مرويات الآباء وعلماء السّلف، غالبا ما أزيحوا وأبعدوا، نذكر علمين بارزين في الرّاهن، هانس كونغ من الجانب المسيحي ونصر حامد أبو زيد من الجانب الإسلامي.
فالعلوم الشّرعية واللاّهوتية، في ثوبها التقليدي المعروضة فيه، لم تساير التحوّلات الاجتماعية، من حيث طرح سؤال براغماتيتها وجدواها وقدراتها على فهم الدّين والمتديّن، حتى شاعت مقولة خصوم رجال الدّين القائلة: "زبل البقر أجدى نفعا من اللاّهوت نستطيع أن نصنع منه السّماد". فلو أخذنا دارس علوم القرآن وتفحّصنا طبيعة المواد التي ينكبّ عليها, من ناسخ ومنسوخ، ومكّي ومدني، وأوّل ما نزل وآخر ما نزل، ومطلق ومقيّد، نرى أن هذه العلوم تسمح له بالكاد للاندماج في مؤسّسات المجتمع العصري، لافتقاره لقدرات حقيقية تؤهّله لأداء نشاط عملي أو نظري.
نفس الوضع لاحظته مع طلاّب اللاّهوت المسيحي، الوافدين على روما، من آسيا وأمريكا اللاّتينية وأوروبا الشّرقية ومن الأفارقة والعرب، ممن درَسوا معي سابقا في الجامعة الغريغورية وأنجيليكوم بجامعة القدّيس توما الأكويني. كان العديد منهم، اضطرارا لا اختيارا، مجبرين للانضمام لسلك الكهانة، حتى تؤمّن لهم الكنيسة رزقا، لأنّ أي مغامرة للدّارس بمغادرة سقف الكنيسة مدعاة لتيهه، نظرا لافتقاده التأهيل الحقيقي للانخراط في المؤسّسات العصرية، بسبب محدودية جدوى العلوم التي يتلقّنها.
وهو نفس المأزق الذي يخشاه خرّيج العلوم الشّرعية، المرتهن مستقبله بالتّدريس أو الوعظ أو ما شابههما، ومهمّة التكليف في ذلك صارت في قبضة المؤسّسة الرسميّة، فما العمل إن لم توفِّر له شغلا؟؟ هنا يلتقي العقلان الإسلامي والمسيحي في أزمة متشابهة، من حيث غربة دارس العلوم الشّرعية واللاّهوتية، بصفة تلك العلوم مقاربات أُنتِجت في فترات تاريخية سالفة، حسب متطلّبات حاجيّة وإيديولوجية معيّنة. ولكن مع تحوّل الدّهور، صارت عاجزة عن كنه نوعيّة علوم الوسائل المحيطة بالدّين، في مجرى تحوّلاته مع الاجتماع الحديث. من ذلك الباب لزم تكرار سؤال النّشأة التاريخية للعلوم وراهنيتها لتقدير مدى وعودها.
{mosimage}أما المقاربة العلمية للدّين، والغائبة تقريبا عن كلّيات الشّريعة والكلّيات الحبرية في البلاد العربية، فمجال نشاطها في حقلين أساسيين هما: سبل فهم المقدّس، كشعور ووعي، وسبل وظيفته في الواقع الاجتماعي. أو بحسب تعبير عالم الأديان الفرنسي ميشال مسلان: تتجاوز المقاربة العلمية أحكام العقل الإنساني بخصوص امتلاك الحقيقة الميتافيزيقية أو اللاّهوتية، لتتطلّع للفهم الاختباري للمقدّس.
باختصار، علوم الشّريعة أو علوم اللاّهوت، هي علوم إيمانية، مشروطة سياقاتها بالإيمان. تجيب عن سؤال: ما الواجب علينا الإيمان به؟ وما السّبيل لنيل رضاء المعبود؟ في حين أسئلة المقاربة الدّينية العلمية فهي تنشغل بما هو معتقَد وممارَس، مع متابعة لدور الدّين وأثره في الواقع الاجتماعي، فهي تولي اهتماما وتبجيلا للإنسان المتديّن فوق أرضه لا في تطلّعه إلى السّماء.
وفي الجامعات الإسلامية وكلّيات اللاّهوت، في البلدان العربيّة، غياب للمقاربة العلمية للدّين من حيث النّشأة والتشكّل والفاعلية والأثر، باستثناء قسم يتيم في كلّية العلوم الدّينية، بجامعة القدّيس يوسف بلبنان، يمنح الإجازة في علوم الأديان، يتوخّى تدريس الأديان من خارجها.
ذلك النّقص جعل الجامعات العربية تعوزها الأدوات اللاّزمة التي تسمح بمحاورة الآخر وتفهّمه. فالحديث عن حوار الأديان يبقى خطابا أجوف، ما لم ينبن داخل وعي علمي وتفهّم عقلي للآخر. سأذكر بعض النقائص في الشّأن:
- تفتقد الكلّيات الإسلامية إلى تدريس أقرب الأديان إليها: اليهودية والمسيحيّة، بمناهج علمية. حيث لايزال حصار معرفي مضروب على هاتين الدّيانتين، مع مكابرة وادّعاء بمعرفتهما. فالكتب المقدّسة لهذه الأديان لازالت ممنوعة في جلّ البلدان العربية، وآخره ما قامت به وزارة الشّؤون الدّينية والأوقاف الجزائرية من منع إدخال كتاب التلمود إلى المعرض الدّولي للكتاب الذي تحتضنه الجزائر هذه الأيام.
- لازال الواقع الدّيني الغربي حقلا مجهولا، فليس هناك سعي لتكوين أو إرسال طلاّب وباحثين من الجامعات الإسلامية أو الحبرية للغرب، للاطّلاع على أحواله الدّينية، فكرا ومناهج ومؤسّسات. وما يحدث من الجانب المسيحي العربي، لا يتعدّى عادة مواصلة دراسة اللاّهوت بالخارج.
- لا يوجد مركز بحث عربي يشتغل على الظّواهر الدّينية من ناحية تداعياتها وآثارها الاجتماعية والسّياسية والاقتصادية، سواء على مستوى الدّاخل أو الخارج، كما تفتقد البلاد العربية إلى مجلّة أو دوريّة تقارب الظّواهر الدّينية. كما أن إنتاج واستهلاك الكتب الدّينية العلمية، التي تتناول الظّواهر الدّينية، يكاد يكون منعدما.
وددت الإشارة إلى المداخل الغائبة في فهم الظّواهر الدّينية، بغرض لفت الانتباه إلى أنّ الإمكانيات التي تحوزها كلّيات الشّريعة أو الكلّيات الحبرية، لا تستوعب اليوم مفهوم الدّين ولا تفي لروحه. فكيف السّبيل إلى خوض غمار الانخراط في الحوار مع الآخر ومع الكوني، والخطاب داخلي إيماني تتحدّد مصداقيته ومشروعيته بالمؤمنين فحسب؟

الأستاذ عزالدّين عناية -  جامعة لاسابيينسا روما
روما: 12-11-07