موقف الدين من الاتجاهات الأنثروبولوجية الحديثة - غالب الشابندر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسدرجت بعض فروع علم الاجتماع على إمضاء (البدائية) مرحلة طبيعية في تاريخ الوجود الإنساني، ونشأت في هذا النطاق مصفوفة من النظريات والرؤى التي تبحث في المجتمع البدائي، سواء على صعيد بداياته التأريخية وجذوره الزمنية أم على صعيد حقيقة وجوهر المنهاج الحياتي والعقلي لهذا المجتمع.
ويعتمد باحثوا هذه القضية في صياغة رؤيتهم العلمية عن البدائية ومجتمعها على أقوام متواجدين على هذه الأرض يعتبرونها تحاكي أو تطابق المجتمع الانساني في بداياته التاريخية السحيقة، فضلاً عن استيحاء بعض الآثار المادية التي تركها الانسان، وهو يمارس حياته الأولى، علماً أن هذه البحوث تتخذ من الانسان العاقل الذي يرجع تأريخه ـ كما يقولون ـ إلى 20000 سنة، بأنه بداية الكائن الإنساني الحالي، وإن مرحلة البدائية التي يتحدثون عنها تندرج ضمن المساحة التاريخية للإنسان العاقل.
لقد تظافرت علوم الاجتماع الغربية على التعامل مع (البدائية) كحقيقة أولية لابدّ منها، وكان للماركسية الدور الأكبر في تكريس هذا التصور، وقد أفاضت في طرح التصورات والأفكار حول المرحلة البدائية للمجتمع البشري.
ـ عقبات المنهج:
على أن هذا التسالم القبلي اصطدم بجملة عقبات بعد مراجعة نقدية شاملة لقضية البدائية ومجتمعها ومرحلتها.
والعقبة الأولى ذات بعد منهجي:
إن الباحثين هنا يستندون في دراساتهم واستنتاجاتهم إلى معلومات يجمعونها أو يسمعونها عن (أقوام) معاصرة يعدونها بدائية سلفاً، وبالمقارنة بين عاداتها وتقاليدها وأنماط سلوكها، يصممون نظرياتهم عن البدائية وملابساتها.
إن أساسيات هذا المنهج لا تتمتع بالمتانة العلمية والرصانة المنطقية، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: إن هذا المنهج ينطلق من موضوعةٍ يصعُبُ إقرارها مسبَّقاً وهي تحتاج إلى إثبات علمي، وتتجسد هذه الموضوعة في اعتبار بعض الأقوام نماذج بدائية، ولكن اختيار (الأقوام) في الكونغو والأمازون واستراليا، وإخضاعها لحكم أو عنوان اجتماعي أنثروبولوجي هو في حد ذاته عملية غير مقبولة، لأنها نوع من الحكم الأولي في مسألةٍ معقدة للغاية.



ثانياً: ليس هناك من دليل ينفي إمكانية انحدار هذه المجتمعات عن سابقةٍ أرقى نمطاً في السلوك ونماذج الحياة، ثم تحولت إلى ما عليه بفعل عوامل معينة. إن مثل هذه الإثارة تزيد من مصاعب هذا المنهج وتطالبه بمزيد من الإيضاح حول عملية الإخضاع هذه، فهي ولا ريب ذات طابع قسري.
ـ ثالثاً: إن أكثر هؤلاء العلماء يمضون مدة زمنية محدودة مع هذه الأقوام، ثم ينطلقون في وضع رؤية عملية شاملة عن البدائية وقضاياها!! وفيهم مَن كان يعتمد على المعلومات التي تنقل إليه بالمراسلة مثل (مورجان) الذي استند كارل ماركس إلى كتابه وبحوثه في تفسير المرحلة البدائية.
وفي الحقيقة إن مثل هذه الجهود ليست كافية ـ عملياً ـ في تأسيس نظرية رصينة عن أخطر قضية تتعلق بطبيعة الانسان وماضيه وروحه وفطرته، خاصة وإن التعميم في الظواهر الاجتماعية يتعرض إلى نقد حاد من داخله.
ـ رابعاً: إن أسلوب المقارنة بين العادات والتقاليد والأفكار بين المجتمعات والأقوام التي تعبر (بدائية) أضحى أسلوباً قديماً وغير مقبول لدى الأنثروبولوجي الحديث، وترتكز المقارنة لديه على العادات في صلتها بنسق اجتماعي معين، وذلك لأن العادات قد تتحد أو تتشابه في مظهرها، إلا أنها تختلف اختلافاً واضحاً من ناحية وظيفتها الاجتماعية، وأن لكل منها جذر يتصل بكل مجتمع قائم بنفسه.
إن أسلوب المقارنة بين العادات وإلحاق بعضها ببعض على أساس الأسبقية الزمنية من خلال تعدد المجتمعات يُعتبر منهج سطحي، يتناسى قوة الفكر والتأمل لدى الإنسان.
ـ عقبات التعريف:
ولكن المشكلة لم تتوقف عند حدود المنهج بل تتعداه إلى مسألة أخرى، فقد تساءل علماء الأنثروبولوجيا الجدد عن معنى (البدائية)، فليس من المعقول أن تتأسس علوم حول موضوع مجهول التعريف، فلابد وهذه الحال أن نوفر تعريفاً دقيقاً للبدائية، حتى يمكن الولوج إلى دراستها كظاهرة وتاريخ ومجتمع.
وقد تعددت التعاريف هنا بشكل مذهل، ونحن هنا نستعرض قسماً منها:
1 ـ الفجاجة، انعدام التطور،تدني التوعية.
2 ـ عدم كفاية الوسائل بالنسبة للأهداف.
3 ـ البساطة وعدم التمايز أو النقيض العام للعقيدة.
4 ـ نقطة في الزمان مبكرة أو أولى.
5 ـ ما هو أصلي أو قديم.
6 ـ إشارة إلى مجتمعات ساحقة في القدم.
7 ـ مجتمعات معاصرة تعتمد على الصيد والزراعة واقتصاد (إقطع ـ إحرق).
8 ـ اللاكتابة.
9 ـ إشارة إلى مجتمعات تفتقد الجانب التكنولوجي.
10 ـ كل الشعوب التي هي خارج نطاق المدنية الغربية.
11 ـ مجتمعات لا تمتلك تراثاً مكتوباً.
12 ـ مجتمعات فاقدة للوثائق التاريخية.
13 ـ مجتمعات ذات صبغة دينية.
14 ـ مجتمعات تقوم العلاقات فيها على أساس القربى والدم.
15 ـ مجتمعات تطورها متوقف.
16 ـ مجتمعات معزولة عن العالم.
17 ـ مجتمعات صغيرة عن العالم.
18 ـ مجتمعات وحشية.
19 ـ مجتمعات أصيلة، أي لم تختلف مع غيرها.
20 ـ مجتمعات يتعارض قانونها مع القانون الأوروبي.
21 ـ مجتمعات شعبية.
22 ـ مجتمعات تضفي على كل نواحي الطبيعة صفات روحية.
هذه بعض التعريفات العامة التي يطلقها الكتاب الاجتماعيون الغربيون على البدائية والمجتمع البدائي حتى قال أحدهم: ((اصطلاح البدائية هو الاصطلاح الأساسي في علم الأنثروبولوجيا، وأنه الاصطلاح الذي يدور حوله هذا الحقل من حقول المعرفة، ومع ذلك فإنه اصطلاح يستعصي على التعريف ... ))، وعلى تعبير أنثروبولوجي آخر ((لقد أصبح الانسان البدائي شخصية أسطورية تقريباً في التراث المكتوب لمعظم اللغات الأوروبية .. )) فقد غدا هذا الانسان كالمشجب يعلقون عليه أنواعاً كثيرة من الآراء.
وعليه، فإن اصطلاح البدائية واسع الاستعمال في الأعمال التقويمية ذات الصبغة العامة، وأن المعاني المرتبطة به تصف بالغموض والتضارب.
وقد لاحظ الباحثون على جملة التعريفات السابقة المفارقات التالية:
أولاً: إن بعض الكتاب يربطون بكلمة البدائية معاني البساطة، القدم، التدني السافر، ويوحون بأنها شيء غير مرغوب فيه، مع أن بعضاً آخر، يتحدث عن صفات جيدة مثل: الإحساس القوي بالأمان الشخصي، أو مثل: العلاقات الاجتماعية القائمة أساساً على آصرة القربى، أو مثل: التعاون من أجل تحقيق الأهداف المشتركة.
ثانياً: إن العديد من هذه المعاني إلى جانب تنوعها وانعدام الصلة بينها، تُستخدم بإهمال وتضارب فيما بينها.
ثالثاً: إن بعض الكتاب يستعملون الاصطلاح بحكم العادة الاجتماعية السائدة.
وأخيراً: إن استخدام كلمة البدائي بالذات لا يُقدم أي ميزة فكرية أو تحليلية ... إن استخدام كلمة بدائي لم يُعِنّا على إيجاد نظرية أو نظريات معينة محددة في علم الانسان وتأريخه الحضاري، بل العكس يشكل عائقاً دون هذا الجهد.
ـ الأسطورة:
ويأتي في هذا السياق الحديث عن الأسطورة في علم الأنثروبولوجيا الحديث، فالأسطورة تعني خواء من الفكر في أكثر أدبيات علماء الاجتماع والتاريخ سابقاً، وتُسمى أسطورة لأنها خيال لا ينطوي على واقع، أو لأنها تتنافى مع ما وصل إليه العلم!!
ولكن هذا التهوين للأسطورة فَقَدَ هيبتَهُ أخيراً، لأنها تعبر عن جهد عقلي جدي في تفسير الأشياء، أي أنها أصيلة في تيار المجهود العقلي والفكري للإنسان، وليست مزحة أو تسلية أو خيال، وكما يقول ليفي شتراوس: ((إن أصالة التفكير الأسطوري تكمن في كونه تفكيراً مفهومياً، بل الأسطورة لا تعني سوى العقل البشري الذي يضعها مستعيناً في ذلك بالعالم، وإن الأساطير تعكس لنا صورة محسوسة للعالم، وأنها قد تصل إلى بُنية المعادلة شبه الرياضية)). ويحاول شتراوس أن يحول الأسطورة على قطعة موسيقية، ومن المعلوم أن الموسيقى تنسيق ونِسَب وعلائق متوازنة، ويؤكد شتراوس في مكان آخر إن الأسطورة ((لغة من الدرجة الثانية تتجلى، لا انطلاقاً من عناصر منعزلة بل انطلاقاً من تأليفات لابد من العمل على وصف نشاطها أو سيرها الوظيفي))، بل إن الفكر العلمي والأسطوري ـ إذا جاز هذا التعبير ـ منضبطان بنسق منطقي واحد.
ولكن لماذا الهجوم على الأسطورة ما دامت نظرية نيوتن بالضوء تعتبر أسطورة قياساً إلى ما طرحه مجدداً انشتاين في هذا المجال؟
فالأسطورة من هذا المنطلق تعني نظرية عملية ولكنها خاطئة، فهي علم ولكنه غير متطابق مع الواقع بشكل من الأشكال، وتحويل الأسطورة إلى رمز هي من إضافات التاريخ بعد أن أخفقت الأسطورة في تفسير الواقع على أثر كشوفات ومعلومات جديدة.
فالأسطورة إذن محاولة كشف، محاولة تعليل وتفسير، مثلها مثل العلم.
ـ ثورة في الموضوع:
وفي غمرة هذه التحولات المفصلية في موضوعات علوم الأنثروبولوجيا، وما حصل في نفس المفاهيم من نقلات نوعية في الفهم والتفسير .. تتحدث أفكار عملاقة عن ضرورة إحداث ثورة في ذات موضوع الأنثروبولوجيا وبعض العلوم الاجتماعية الأخرى.
يقول لويس ممفرود في كتابه (أسطورة الآلة): ((لقد ارتكب الأنثروبولوجيون جريمة نكراء في حق ما قبل التأريخ عندما اعتبروا إن الأشياء المادية (العظام والحجارة بوجه خاص) البرهان الوحيد الذي يمكن قبوله عملياً على فعاليات الانسان البدائي، فالطقوس الدينية واللغة والتنظيم الاجتماعي التي لم تترك أي أثر مادي وعلى الرغم من حضورها المستمر في كل حضارة، لكن بلا شك أهم ما أنتجه الانسان بدء من أولى المراحل، فلقد كان هذا الانسان يسعى إلى صياغة (أنا) انسانية متعالية على (أناه) الحيوانية، وذلك بصُنع الرموز التي يمكن أن يستمدها من إمكاناته الخاصة كأحلامه وأصواته وانحناءات جسده)).
ويرى هذا الباحث الشاب: إن الكثير من عناصر الثقافة الإنسانية كانت متقدمة على صناعاته واختراعاته التكنولوجية، فمن الأمثلة الحاضرة نرى شعوب بوشيمان الاسترالية تمتلك تكنولوجيا غارقة في البدائية، لكن احتفالاتها الدينية منظمة تنظيماً عائلياً إلى درجة قصوى وتملك لغة غنية جداً، ومن الأمثلة القديمة نرى إن المصريين والعراقيين يخترعون فنّ الكتابة الرمزي، فيما لا يزالون يستعملون العصي للحفر، علماً إن لغاتهم كانت وسائل متقنة ومعقدة.
لقد أساء الإنسان إلى نفسه عندما سمى نوعه أو عندما أطلق على (أناه) اسم حيوان صانع الآلات، وترك مذخورهُ من الفكر والأسطورة والرمز.
ولهذا يدعو البعض إلى تأسيس أنثروبولوجيا جديدة تتولى التراث الفكري للإنسان الغابر، وليس أدواته الحجرية فحسب، والوصول إلى ذلك التراث ليس مستحيلاً رغم أنه صعب.
ـ نتائج مختصرة:
من هذا العرض الموجز يمكننا أن نلخص النتائج التالية:
أولاً: إن البدائية مصطلح قلق، ولا يمكن أن نعتمد على هذه الكلمة دونما تحديد.
ثانياً: لم يتمكن علماء الأنثروبولوجيا الجدد إلى تحديد دقيق وواضح لمعنى البدائية ثم الرجل البدائي وأخيراً المجتمع البدائي.
ثالثاً: إن الإنسان البدائي يفكر كما نفكر نحن، وهو محكوم بنفس النسقية المنطقية التي تخضع لها عملية تفكيرنا.
رابعاً: إن الأسطورة مفهوم وعلم، وتنطوي على محاولة جادة لتفسير الأشياء ولكنها قد تخفق.
خامساً: إن الإنسان يستبق إنجازاته التكنولوجية بإنجازات تأملية وعقلية وثقافية تتصل برؤيته عن الوجود.
سادساً: والمطلوب الآن من علماء الأنثروبولوجيا أن يولوا اهتماماً أكثر مساحة وتركيزاً للجنبة العقلية والثقافية على صعيد تاريخ الانسان.
هذه أهم النتائج التي يمكن أن نرتبها على جملة المقدمات السالفة، وجوهر النتائج يعطي حصيلة خطيرة مهمة، وهي إن الإنسان بدأ حياته واعياً ومدركاً ومتأملاً، وأن قوة الخلق التأملي والتكنولوجي طارئة أو جاءت بعد تطور حصلت في ذات الإنسان، فهو مخلوق مفكر وصانع في الأساس.
ـ موقف الدين:
ما هو موقف الدين من هذه الانعطافات الكبيرة في مسيرة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا؟ خصوصاً الدين الإسلامي.
لا نريد هنا أن نجري عملية مطابقة أو توافق بين الدين وما تصل إليه العلوم الاجتماعية من حصائل علمية، فمثل هذه المحاولة ليست مطلوبة لأسباب لا مجال لذكرها الآن، ولكن نبغي تحديد الموقف منهجياً وعلى ضوء النظرية الدينية عن الانسان بشكل عام.
إن الدين يعالج التاريخ الإنساني من جملة نواحي، من أهمها تراثه الفكري والحضاري، ولذا يُسلط الأضواء على العادات والتقاليد والمفاهيم التي صبحت الانسان منذ بدء وجوده، ولم يتطرق إلى تراثه التقني والتكنولوجي إلا نادراً، فالكتب السماوية والقرآن بشكل خاص يركز على المسيرة الثقافية للإنسان عبر القرون ومن خلال صراع يصطلح على قُطبَيه الهدى والضلال، وتأكيد بعض رموز علماء الأنثروبولوجيا على تولي الإنسان من حيث هو كائن تراثي، ثقافي إنما يُجسد هذا المنهج القرآني.
والدين يرى في الانسان قوة متأملة، وإن الإنسان منذ أن فطره الله وباشر الحياة على هذه الأرض، مارس حياة حضارية ولو في حدود ضيقة، فالنبوة لازمت التأريخ البشري طوال تجلياته ومراحله، أي لم يكن الانسان في فترة من سني عمره الكوني لا يعني شيئاً، وهو حيوان بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، أو وُجد عاجزاً عن الإبداع الثقافي، بل وُجد مبدعاً، متأملاً، مفكراً، ولو لم يكن كذلك فإن النبوة غير قادرة على ممارسة دورها.
إن التخلي ن البدائية كصورة عارية عن التأمل أو باعتبارها ضد المنطق، يدعم الموقف الديني في رأيه عن الانسان وفي الصورة التي يرسمها له، والتي تؤكد بأن هذا المخلوق مبدع على صعيد الحياة.
إن تلك الصورة الحيوانية المجردة التي كان بعض العلماء يعرضون الانسان على طبقها (العجماوي)، لم تعد صالحة أبداً، لأنها تلغي دور العقل والأحلام والعواطف، بل تلغي حتى تركيبة قوامِهِ الداعية إلى إعمال العقل فيها.
والدين لا يؤيد أن الإنسان مرّ بمرحلة بدائية بالمفهوم الذي ينطوي على اتهامٍ له، حيث يُفيد هذا الاتهام أن (الإنسان) قد مرّ بحالة يمكن أن نُسميها (قبل التأمل) أو (قبل الثقافة) أو (قبل الإبداع الحضاري)، خاصة وأن الأسطورة التي تلصقُ بالانسان البدائي في كثير من الأحيان أخذت منحىً جديداً، يكرس مضمونها الإبداعي.