تدبير علاقات الاختلاف - العربي اسليماني

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسمقدمة :
كثيرة هي النظريات التي تعد الاختلاف ظاهرة صحية في الحياة المجتمعية. وفعلا فإن طبيعة تكون المجتمع، وتشعب مناحي المعرفة التي يمتح منها الأفراد توجهاتهم السياسية والثقافية والتربوية والاقتصادية، كل ذلك يستتبع مجموعة من القضايا الخلافية التي تحصل بين الأحزاب بقدر ما تحصل بين الأفراد أو بين الفرد والجماعة التي ينتمي إليها أو يجد نفسه متورطا فيها. ومن هنا تصدر إشكالية معروفة تتمثل في كيفية تدبير علاقات الاختلاف في سياق وضعية يطبعها اختلاف العلاقات ؟ ! كيف يمكن إذن، لأطراف متعارضة في التصور والتمثل ونظام الفكر أن تتواصل وتناقش وتتفاهم؟

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة انطلاقا من الدرس الفلسفي والسوسيوبنائي الذي نستخلصه من بعض المفاهيم الأساسية التي يستعملها "هابرماس" في كتاباته المختلفة. ويشفع لهذا الاختيار نزوعنا إلى تعرف الفكر الهابرماسي في بعض جوانبه الحداثية والديمقراطية. وذلك من أجل استثماره المفترض في تدبير ما يحدث بيننا من اختلافات سياسية وثقافية ودينية.

1-هابرماس : الولادة والفكر

ولد يورغن هابرماس (Jûrgen Habermas) في مدينة دوسلدورف بألمانيا عام 1929. درس الفلسفة وعلم النفس والأدب والاقتصاد والتاريخ في غوتينجن وزيوريخ وبون وهو في سن العشرين. وفي سنة 1954 حصل على شهادة الدكتوراه في موضوع حول الفيلسوف الألماني شلينغ shelling ، ثم أصبح أستاذا مساعدا لأدورنو Adorno وهو لايزال شابا. وفي سنة 1964 أصبح أستاذا للفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة فرنكفورت التي بقي فيها كأستاذ شرفي بعد تقاعده سنة 1994.

قرأ هابرماس لفلاسفة ومفكرين عدة أمثال : كانط، وهيجل، وماركس، وفيبر، ودوركايم. ويعد حاليا الوريث الشرعي لمدرسة فرانكفورت أو مدرسة النقد الجديد. لقد تشرب أفكارها وتأثر بروادها كأدورنو وهوركهايمر وماركوز؛ كما واجه هابرماس هانس جورج غادامير، وألبرت، وأرندت، وبوبر.



إن المرحلة التاريخية التي عاشها هابرماس حبلى بالمخاضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بصفة عامة. ولذلك نجده ذا ثقافة واسعة واطلاع عميق على مختلف القضايا التي تهم الإنسان والفرد داخل المجتمع. وذلك ما يجعلنا في هذا المقال ننطلق من تصوره للتفاعل والتواصل والنقاش والتفاهم باعتبارها أفعالا وصيرورات مجتمعية تفضي إلى تدبير علاقات الاختلاف بين الأفراد والجماعات.

2-كيف ندبر علاقاتنا؟
إن الحديث عن تدبير العلاقات بين الفرد والجماعة يثير منهجيا بعض التساؤلات حول مفاهيم من قبيل العلاقة والتدبير والتفاعل والتواصل والتفاهم والديمقراطية المداولاتية والتوافق ،إلخ...

3- حول مفهوم التفاهـم

<< التفاهم هو فسح المجال لعقل الآخر ليمتزج بعقلنا ، ومزج عقلنا بعقله ؛ فامتزاج عالم الأنا بعالم الآخر هو الكفيل بتحقيق التفاهم الحقيقي>>1   والتفاهم لا يتأتى إلا بعد الفهم الذي هو ، بالنسبة  إلى الفرد ، قدرة يكتسبها خلال وبواسطة التفاعل مع الجماعة؛ وتعد تلك القدرة بمثابة تقنية أولية ضرورية لتحقيق التواصل وتدبير علاقات الاختلاف.

و من بين المعارف السبع التي يعتبرها إدغار موران  ( Edgar Morin ) ضرورية لتربية المستقبل نجد تعلم الفهم  أو التفاهم يقول :

<< لقد أصبحت مشكلة الفهم أو التفاهم مشكلة أساسية بالنسبة إلى الإنسان ؛ وعليه يجب أن يكون هذا المفهوم المشكلة ضمن غايات تربية المستقبل وأهدافها . إن التربية من أجل تدريس الرياضيات شيء ، والتربية من أجل تدريس فهم الإنسان والتفاهم بين الناس شيء آخر؛ إن الوظيفة الروحية للتربية هي تدريس التفاهم بين الأشخاص إن على مستوى العلاقات بين الأقرباء أو على مستوى العلاقات بين الناس والدول>> .

ويميز موران بين فهم أو تفاهم موضوعي ثقافي براني قابل للقياس ، وفهم أو تفاهم جواني بينذاتي (intersubjective ) ؛ والعلاقة بين الموضوع والذات هي علاقة تلازم ؛ إذ أن الأنا (l’ego)  لا  تدرك الآخر أو الغير (l’alter ) إلا كذات أخرى تتماهى فيها وتتقمصها في الوقت الذي تجعل فيه هذا الآخر أو الغير يتقمصها. وهكذا تصبح الأنا-الآخر هي الآخر-الأنا (ego-alter =alter-ego) >>

وعوائق التفاهم  - يضيف موران -هي الضجيج وتعدد المعاني(polysémie )  ، وتجاهل طقوس  وعادات الآخرين ، وعدم فهم القيم التي تتضمنها ثقافاتهم ، وكذلك عدم فهم أوامر ونواهي ثقافة ما، وتجاهل الاختلاف بيننا في رؤية العالم و إدراكه والتعامل مع ظواهره ؛ ناهيك عن الأنانية والتعصب والشوفينية  والعنف وتملكنا من طرف فكرة أو عقيدة نجزم بعدم وجود أية حقيقة خارجهما.

ومن ضروريات التفاهم والتربية ، العمل على استدخال مبدإ التسامح الذي يفترض تحمل مرارة الأفكار المعارضة. إن موران  ( E , Morin ) يميز بين أربع درجات في الشفافية : أ) احترام حق الآخر في الكلام ولو بدا لنا سخيفا ؛ ب) التغذي بالآراء المضادة  من أجل النفاذ إلى عمق الديمقراطية؛ ج) الاقتناع بأن عكس الفكرة العميقة هو فكرة عميقة أخرى، فالحقيقة كامنة في الفكرة المضادة لفكرتنا ، والتي يجب احترامها كما يتصور نيل بوهر(Niels   Bohr  ) ؛ د) وعي الأساطير والايديولوجيات والأفكار والانحرافات التي تسيطر على الإنسان . إن الفهم والتفاهم هما غاية ووسيلة التواصل البشري ؛ وعليه فإن مهمة تربية المستقبل هي التربية على الفهم والتفاهم  وإصلاح العقليات2.

و يربط  لابوردوري  ( René Laborderie ) بين التواصل والفهم ربط لزوم ومحايثة ؛ فغاية التواصل هي فعل الفهم ثم فعل التعلم ، لأنه لا يمكن أن نستفيد شيئا إذا نحن بدأنا التعلم دون الفهم . إن التواصل ينبغي أن يستهدف كفاية تعلم الفهم وتعلم التعلم3(comprentissage) .

أما هابرماس فيرى أن التفاهم عند هاربرماس  هو اتفاق تتوصل إليه مجموعة من المشاركين في التفاعل. وهذا الاتفاق يقاس بقابلية النقد والمناقشة .وكل نشاط تواصلي فعال في حاجة إلى عقل تواصلي " ينظمه ويضبط مساره "4

4- العلاقـة

يعد مفهوم العلاقة من المفاهيم المحورية في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي و مدرسة التواصل الجديد أو مدرسة بالوألطو (Palo Alto) ، التي تتبنى المقاربة النسقية .       

إن العلاقات بين الأفراد و الجماعات لا يمكن إقامتها بدون تواصل ؛ ذلك << أن الفصل بين التواصل والعلاقات الإنسانية  هو فصل تعسفي و اصطناعي ، إذ إنهما لا يمثلان سوى شيء واحد أو وجهي العملة الواحدة على مستوى الوجود و معطيات العيش >>5    (Gérard Naef).

5- اختلاف العلاقة أم علاقة الاختلاف ؟

تقوم العلاقات إما على المساواة وإما على التمييز والمفاضلة ؛ ففي الحالة الأولى تكون العلاقة تماثلية (relation symétrique)، ولا سبيل للحديث عن تفوق فرد على آخر .أما في الحالة الثانية ، فنجد الأطراف تتكامل بينها بهدف تشكيل صورة    (Gestalt) من نوع مخالف . إنه تفاعل تكاملي نجد فيه وضعيتين مختلفتين : وضعية أحد الشركاء في درجة متفوقة و أولية ( one up) ؛ ووضعية الآخر في درجة ثانية ( one down) . والعلاقات بين الأفراد ينبغي أن تكون قائمة على ديمقراطية مداولاتية وتواصل تعاوني لا نازل ولا مجرد صاعد ،ديمقراطية تتوافر فيها شروط العدل والإنصاف والمساواة وتكافؤ الفرص . إضافة إلى النوعين المذكورين  يقترح  البعض نوعا ثالثا من العلاقة هو العلاقة الميتاتكاملية (métacomplémentaire ) ؛ وهي علاقة يضطر فيها أحد الأطراف إلى التبعية للطرف الآخر 6 .     

هذه إذن بعض أنواع العلاقات أو ما سميناه باختلاف العلاقات ؛ أما بالنسبة لعلاقة الاختلاف ، فإننا نعني بها كل علاقة مبنية على الحوار والنقاش والتفاوض ؛ فبموجبها يعطى كل فرد في المجتمع حقه في أن يختلف مع باقي الأفراد في الرأي ، و أن يعبر عن كل أو بعض ما يعتمل في داخله بحرية كاملة لا تتجاوز ديونطولوجية الحوار والنقاش ، وكذلك الفهم والتفاهم .إن علاقة الاختلاف مقترنة بتواصل تحتفظ فيه الذوات باستقلاليتها دون أن تميل إلى الغلبة والسيطرة . إن علاقة الاختلاف مبنية على التواصل باعتباره صراعا وديا يؤججه الحب والثقة والصراحة . وهو ليس ذلك الحب الرومانسي الشعري ولكنه نوع من الاستفهام المتبادل الذي تتخلله صراعات إيجابية  ( Karl Japers ) .

6 - مفهوم التفاعل

إن التواصل تفاعل من أجل التفاهم ، فكل نشاط تواصلي يتجه نحو التفاهم، والتفاهم عند هاربرماس Habermas هو اتفاق تتوصل إليه مجموعة من المشاركين في التفاعل. وهذا الاتفاق يقاس بقابلية النقد والمناقشة .وكل نشاط تواصلي فعال في حاجة إلى عقل تواصلي " ينظمه ويضبط مساره "10 و يستعمل مفهوم التفاعل بكثرة في علم النفس الاجتماعي، وهو تخصص يهتم بسلوك الفرد في علاقته بالمجتمع. ويعد مفهوم التفاعل عنصرا أساسيا لدراسة أشكال التواصل بين أعضاء الجماعة، والأدوار التي يقوم بها الفرد. إن التفاعل تبادل قبل كل شيء، ويحدث " عندما يؤثر طرف فاعل وليكن A على طرف منفعل وليكن B والعكس"7  ، ذلك أن الطرف المنفعل يتحول في عملية التفاعل إلى منبه و فاعل، والطرف الفاعل إلى منفعل. ويسمح هذا التفاعل داخل الجماعة بالتعرف على آراء أفرادها، وتقابلها. كما يؤدي إلى تلاقح وعملية توليد تكوينية تتمثل في انبثاق أفكار وآراء جديدة تسمح باتخاذ قرارات ومواقف إيجابية تؤثر في حياة الجماعة .

7-  التفاعل الاجتماعي والتداولية الكونية

من المحاور الرئيسة في نظرية اللغة عند هابرماس نجد " التداولية الكونية ( pragmatique universelle )، إنه ينطلق من افتراض وجود تعددية تمثيلية ، أي وجود عدد كبير من الأفراد الذين ينخرطون في نقاش وتفاعل؛  ويرتكز هذا التفاعل البينفردي على جدلية مصقولة ( dialectique rodée) للصراع المعرفي الفردي الذي ينتج عن صراعات سوسيومعرفية بين –فردية Inter individuels يولدها الإحساس بالانتماء إلى الجماعة.

ولكن إذا أردنا من الفرد أن يحس بالانتماء إلى الجماعة. (الجماعات المنتمية) فلابد من أن نوفر له شروط هذا الإحساس في إطار ما يسميه البعض بقواعد العدل أو الإنصاف les règles de l’équité   (foa et foa)  ؛ ويتمثل ذلك في تنويره أي جعله قادرا على استعمال فهمه وعقله دون حاجة إلى قيادة غيره. لابد من تحفيز هذا الفرد الذي نريد جعله جزءا من كل ، يتشرب قيمه ويتوافق معه دون أن يبقى مجرد متكيف مع بعض الوضعيات الاجتماعية التي تنم عن امتلاكه لكفايات تواصلية واستراتيجية لكنها في الآن نفسه تفقده خاصية التأثير وتجعله يفقد أحيانا خصوصياته كما يقول هيدجر.8

إن السؤال الفلسفي الأكثر نفعا في رأينا هو السؤال الذي يلامس وجودنا كأشخاص ذلك إن التأمل والتفكير في علاقتنا بالزمان والمكان، وما يحركهما من تدفقات بشرية ومعرفية، مادية ومعنوية، غالبا ما يخلقان لدى الفرد الواعي والمثقف سيولة  في التعلم وتناسلا في الأفكار والأسئلة التي ترتبط بوضعيته داخل المجتمع (son statut dans la société). ولربما يعد هذا أحد الأسئلة التي يحللها هابرماس. إن الجهد والرغبة اللذين يولدهما الإحساس بالانتماء إلى الجماعة يجعلان كل فرد يبحث عن ذاته داخل مجتمعه، ويطور فكره، وينمي كفاياته بواسطة قناة هي اللغة الشفوية التي تكون أكثر نجاعة وحميمية في اللقاءات والتواصلات المباشرة، وبالتالي ينبغي أن نجعل كل فرد من أفراد المجتمع أو الجماعة قادرا على الارتقاء إلى وضع الفاعل (accéder au statut du sujet ) ، وفهم المعادلة التالية :    <<  لكل شخص الحق في أن يقول "أنا" ، ويستعمل ضمير المتكلم في خضم التفاعلات>>. إن التداولية الكونية بالنسبة إلى هابرماس ترى أن التفريد *(individuation) والتنشئة (socialisation) هما صيرورتان متكاملتان ومتلازمتان تتحققان في قلب التفاعل مع الآخر، وقد وجد هابرماس أساس هذه القوة التنشئوية (socialisation) التي تنبثق من التفاعل، والتي تفتح كل واحد على فرديته، في بنية اللغة العادية . إن دلالة جملة ما تحدد بواسطة شروط صحتها أو حقيقتها   ، إن هابرماس يفترض أن كل إرسالémission أو إنتاج لعلامات إلا ويخلقان مجالا للتخاطب الذي تكتسي فيه هذه العلامات (signes) معانيها؛ بعبارة أخرى، إن اللغة إنجازية (performative) مادام كل افتراض أو قضية للملفوظ (proposition d 'énoncé)  إلا و هما قول وفعل . إنها تنتج المعنى والاستعمال في الآن نفسه.9

ويذهب هابرماس أبعد من ذلك عندما يقول بأن كل فعل للغة يؤسس لعلاقات بينذاتية، من خلالها كل فرد طرف في الجماعة باحترام السياق الاجتماعي ووضعية النقاش والتخاطب الضرورية للتلقي الملائم لمعنى كلام كل واحد ، والملائم كذلك للفهم المتبادل. وهذا ما يسميه بالبعد التخاطبي (dimensionillocutoire du langage) ويعني به البعد الأساسي للغة لأنه "من خلال الأفعال التخاطبية التي تقوم بها الأطراف المعنية المشاركة في التفاعل والنقاش والتخاطب،ترسل نوايا وادعاءات الصلاحية وتشترط هذه الأطراف ذاتها الاعتراف بها 10 .إنها كونية وغير قابلة للنقد، وهي كذلك متمثلة في فعل التفاهم مع الآخر حول شيء ما عن طريق جعلنا متفهمين compréhensible. فكل فعل كلام(acte de parole)  إذن يمنح الآخر شيئا ما للفهم بطريقة تفهمية "ولهذا السبب تكتسي الجماعة اللغوية وظيفة معيارية من أجل التفاعل الاجتماعي لأنها معادلة ضرورية للتفاهم ولتتويج الانخراط الخطابي.11  posséder une langue c’est s’en servir et nous en servant, nous devenons des personnes en relation avec d’autres

ورغم الاختلافات الموجودة بين هابرماس وادغار موران، فإنه من الممكن أن ندرج في هذا السياق الرؤية الشمولية والفلسفية لموران . إنه يتحدث كذلك عن الحوارية والمركب والنقد المتعدد الأبعاد كما يتحدث عن التفاهم ويعتبره إحدى المعارف السبعة الضرورية لتربية المستقبل les sept savoirs  nécessaires à l’éducation du futur) .كما ذكرنا سابقا.

8-  مفهوم التواصل

يكتسي التواصل أهمية بالغة في خلق علاقات مادية ومعرفية بين الأفراد والجماعات.

وإذا كان التواصل مرحلة أولية أساسية لخلق التفاعل بين الأفراد والجماعات فإننا نميز من جهتنا بين نوعين من التواصل لنبقى منسجمين مع الفكر الهابرماسي وهذه قضية خلافية لم تنتبه إليها-فيما نعلم- الدراسات التي أنجزت حول ظاهرة التواصل.

9-عندما نتواصل تجاريا:

نكون في وضعية تبادل أو مقايضة ؛ وبالتالي فإن الأشخاص المتواصلين يفقدون ملكية ما كان عندهم ، مثال : زبون يدفع ستين درهما للحصول على كيلوغرام من اللحم ؛ فالزبون إذن ، يفقد جزءا مما كان عنده ، ونفس الشيء بالنسبة للجزار: الأول يصبح لا يمتلك إلا أربعين درهما من أصل مائة كانت في جيبه ، والثاني يصبح بدوره لا يمتلك إلا مائة وتسعة وتسعين كيلوغراما من أصل مائتين .

10- عندما نتواصل معرفيا وثقافيا:

نتبادل المعرفة دون أن نفقد ملكيتنا المعرفية الأصلية . وهذا هو مربط الفرس في كيمياء العملية التواصلية ؛ فعن طريق الحوار والتواصل التفاعلي الدائري بين الأفراد يعبر كل واحد عن رأيه ويدلي بدلوه ، ويطرح تمثلاته ومعارفه التي لا تنضاف فقط إلى مكتسبات الآخرين بقدر ما تتلاقح معها في جدلية مثمرة ، إذ إن الأمر ليس مجرد تواضع ولا جمع بل هو دينامية وتفاعل (ni addition ni juxtaposition mais dynamique et interaction  ؛ فأنا أناقشك لآخذ منك رأيك وتأخذ مني رأيى  ، وبالتالي لا أحد منا يخسر بل إنه يصبح ذا ثلاثة آراء هي : رأيه السابق ، ورأي محاوره ثم رأي ثالث ينبثق من التفاعل بين الرأيين في شكل تركيب ( synthèse) . إن حبة القمح تتلاشى لتعطي نبتة ، والنبتة تيبس وتنسحب*  لتعطي سنابل فيها مئات الحبات .12

وهكذا نلاحظ أن  عملية التواصل تشبه عمليات التفاعل في الكيمياء ، فقد يؤدي ذلك التفاعل إلى مركب جديد متماسك ، إذا كانت العناصر المتفاعلة مأخوذة وفق مواصفات محددة ودقيقة ...

11- اللغة والتواصل

نظرا إلى الأهمية التي تكتسيها اللغة عند هابرماس وآخرين في تحقيق عملية وفعل التواصل نتوقف عند هذه الظاهرة الإنسانية بامتياز.

بداية يلاحظ هابرماس أن العمل ليس وحده الذي يميز الإنسان عن الحيوان كما يقول كارل ماركس،13  ولكن هناك أيضا خاصية أكثر فعلا وأهمية ألا وهي اللغة التي تمكن من التواصل ثم التفاعل.

إن العمل بالنسبة إلى هابرماس يؤدي إلى معرفة ذات مصلحة تقنية تحليلية وهي معرفة تعتمد على التجربة لكنها تصوغ فرضياتها في شكل رياضيات. وتسمى علوما أو معرفة تقنية لأنها توضع من أجل التدقيق. ويتعلق الأمر هنا بالعلوم الطبيعية والرياضية التي نستعملها لتحقيق أغراضنا وغاياتنا. فمثلا الكهرباء والجيولوجيا والتنقيب عن المعادن ، كلها معارف ذات مصلحة تقنية. وتنمو هذه المعارف من خلال ما يسميه هابرماس بالوسيط le média ، أي المجال الذي توضع فيه العلوم موضع التنفيذ. وعندما يتحدث هابرماس عن المعرفة التقنية يلاحظ أنها معرفة ترجع إلى الأنوار والوضعية. ذلك أن فكر الأنوار كان يرى أن العلم والتقنية يعتبران نتيجة لتقدم المعرفة وتطورها، وأنهما الوسيلة الناجعة للقضاء على الأساطير والخرافات ويؤسسان لمجتمع متصالح مع ذاته، خال من الأيديولوجيا. لكن العكس هو الذي   حصل حيث أن العلم والتقنية اللذين تولدا عن نقد الأيديولوجيات ، أي نقد كل خطاب يكرس السلطة ويضفي عليها المشروعية، أصبحا هما نفسهما عبارة عن إيديولوجيا. أيضا يلاحظ هابرماس علاقة المعرفة التقنية بالعقل الأداتي الذي ينظر إلى الشجرة مثلا ليس كموضوع للتأمل والوصف وإثارة المشاعر وإنما ينظر إليها باعتبارها موردا للخشب والفاكهة. كما يرى علاقة الأستاذ بالطالب من خلال سمعة الأستاذ ونفوذه وسلطته وليس من خلال ما يستفيده الطالب أو من أجل البحث العلمي.

إلى جانب المعرفة التقنية التحليلية يتحدث هابرماس عن المعرفة العلمية وهي معرفة مرتبطة باللغة وتستهدف التواصل والتفاهم والتوافق. إنها معرفة تنمو وسط التفاعل الاجتماعي. وتقوم على النقد والتأويل. ويتعلق الأمر هنا بالعلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع والفلسفة والتاريخ( حيث أن فهم المعنى هو الذي يؤدي إلى معرفة الحدث والحقيقة، ولذلك فإن الهيرمينطيقا هي تأويل معنى المقصديات وتمديد ونشر التفاهم البينذاتي بيد الأفراد. مثل علم الاجتماع والفلسفة والتاريخ)

أما النوع الثالث من المعرفة فهو المعرفة من أجل التحرر والانعتاق، وهي مرتبطة بالمعرفة العلمية وباللغة. وتشمل العلوم النقدية كالتحليل النفسي ونقد الأيديولوجيات. والهدف منها إقامة نوع من التأمل والتفكير الذاتي والقضاء على عوائق التواصل والتفاعل والتوافق. إن المصلحة من هذه المعرفة هي التحرر والإنعتاق. 14

ويستند نقد هابرماس للتقنية والوضعية على انعكاساتهما على الإنسان والمجتمع. فالنزعة التقنية ترى أن تحقيق التقدم الاجتماعي يكون بواسطة التطبيق العلمي للمعرفة العلمية. وبالتالي فإنها نزعة "تحيل التقنية إلى مجرد وسيلة محايدة قوامها التوظيف العلمي للمعرفة العلمية متناسية أن التقنية نفسها تحول الإنسان إلى وسيلة وأداة، وتقمع طاقاته وحريته، وبالتالي تصبح أيديولوجيا" 15.

أما النزعة الوضعية فإنها تقوم على تقديس العلم والاقتناع بقدراته السحرية والخارجة على تقديم حلول و أجوبة لكل الأسئلة والمشاكل. إن ما جعل العلم قوة إنتاج ذات شأن كبير في المجتمع المعاصر، هو ارتباطه بالتقنية والصناعة الحربية والتصنيع المدني والتسيير الإداري ؛كما جعل السياسة تتعرض لعملية العلمنة 16.

12-  أخلاقية النقاش  :

عندما يتعاقد الأفراد على الحق في الكلام والاخنلاف والرأي وواجب الإنصات والتفهم تتلاشى الحدود الأنطولوجية والإبستيمولوجية بين الخطأ والحقيقة. ويصبح منطلقنا المنهجي مؤسسا على مسلمة هي أن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب كما قال الشافعي وهكذا نتجاوز كل ثنائية ميتافيزيقية تقليدية أو حديثة ؛ وبالتالي لا نضع حدا فاصلا بين الخطأ والحقيقة. لقد قال إدغار موران بأن الخطأ والوهم يعتبران قدم أخيدوس المعرفة.17 (أي نقطة ضعفها) ( l’erreur est le talon   d’ACHILE de la connaissance ) ؛ وبالتالي لا وجود لمعايير ثابتة ومحددة يجب التوسل بها للحكم على رأي سواء أكان أكاديميا أم ديداكتيكيا بأنه إنتاج أو رأي صحيح وغير خاطئ إن المعايير موجودة ولا ينبغي إلغاؤها. ولكن يجب  اعتبارها معايير فيها الثابتة والمتحولة، الذاتية والموضوعية إن بارادايم طوماس كوهن وبنية الانقلابات العلمية واكتشافات العلوم المعرفية وعلوم الأعصاب دعوة صريحة إلى نسبية المعرفة وتعددية الحقائق وفتح قنوات التواصل بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية 18. إن التكامل بين أستاذ الرياضيات وأستاذ  مادة أخرى محبذ في إطار ما يسمى بالبينتخصصية أو التفاعل والتداخل بين العلوم . إن مشاركة الفرد في النقاش داخل الجماعة تكسبه دينامية جديدة ، وتجعله يتخلص من وضعية الغموض الذي يكتنف إدراكاته ومعارفه وآراءه وأحاسيسه و يرتقي إلى وضعية جديدة ينتج فيها كفايات انعكاسية (الحجاج، المفهمة الأسئلة، التحليل، التركيب، الإقناع، الإقتناع...) وينتج تفسيرات معقولة بهدف تجاوز اصطدام المواقف والحصول على توافق Consensus .

وكل ما يحصل في هذه الوضعية النقاشية قائم على اللغة بحسب هابرماس، لأن التبادلات اللغوية التي تتخذ شكل مناقشات هي الأساس، وقطب الرحى في هذه العلاقات التفاعلية بين أفراد الجماعة.

في هذا السياق يقدم هابرماس بعض التوضيحات باستعمال مفهوم التواصل communication المطبوع بالحجاج argumentation . إنه تواصل تكون فيه ادعاءات الصلاحية عبارة عن إشكالات مقترحة من وجهة نظر تبريرها. وادعاءات الصلاحية (prétention à la  validité) أربعة هي : ادعاء الصدق، ادعاء الحقيقة، ادعاء الثبات، ادعاء المشروعية، ادعاء المعقولية.

وينبه هابرماس إلى عدم الخلط بين التواصل والنقاش رغم ما بينهما من علاقات وشيجة، إن النقاش يتدخل عندما تكون ادعاءات الصلاحية متعارضة أو موضوع اختلاف بين الأطراف التي توجد في وضعية نقاش، وعندما لا تشكل ادعاءات الصلاحية موضوع اختلاف ومعارضة فإن الأطراف المعنية تكون في وضعية تواصل.

إن كل فرد يدخل في النقاش والتواصل إلا ويكون مضطرا إلى بعض الممارسات الحجاجية من أجل إقناع الآخر والإقتناع به ، و بالتالي دخول مغامرة التعلم الكبرى باعتبارها التجربة الإنسانية الأكثر تقاسما بين الكائنات البشرية19  .

ينبغي إذن أن نتعلم من النقاش ونظهر بمظهر لائق داخل الجماعة. لكن الناس لا يتعلمون بنفس الطريقة. فالبعض قادر على استدخال النقاش وصياغة الأسئلة والأجوبة المناسبة لكل وضعية تواصلية. كما أنه قادر على تقديم الإعتراضات والمحاججة وكل ذلك يتم ضمن سيرورة سوسيوبنائية .إن جزءا من التنشئة الاجتماعية يتمثل في استدخال فكر الآخر ليس في شكل أنا أعلى (super moi) أو instance normative  ،والبعض الآخر قادر على  استدخاله كشكل من الشك والتعددية والعقلانية. أي كتفكير نقدي وجدلية ذاتية مصقولة وقدرة على اللاتمركز والاستدلال الفرضي الإستنباطي. فعندما نوجد في وضعية نقاش لا ينبغي أن نستأثر بالكلام ونتماهى في تبرير مواقفنا دون إعطاء الغير فرصة الدفاع عن مواقفه ، بل يجب أن نمتلك مهارة الإنصات ونصغي لما يقول الآخرون لأنه استدخال فكر الغير ليس تغريبا اللهم إلا إذا كانت هناك عمليات ترويض منافية للحرية والتنوير (كانط).

إن النقاش المبني على أخلاقيات الحوار واعتبار ظاهرة الاختلاف ظاهرة صحية نقاش يؤدي بكل منخرط فيه ومتبع لمراحل تطوره إلى تجاوز وضعية الإنطلاق والارتقاء بالعقل والذهن إلى وضعية أسمى. وبالرجوع إلى دور اللغة التي يقيم عليها هابرماس جزءا كبيرا من فلسفته ، نلاحظ أن لا أحد يقدر على التفكير بدون لغة (لا نريد أن نخوض في إشكالية العلاقة بين اللغة والفكر. وأيهما أسبق) إنني شخصيا لا أستطيع أن أجري نقاشا بدون وسيط هو اللغة . إن كلا من نيوتن وانشتاين وما بينهما من علاقات انفصال واتصال، وإن كلا من كوبرنيكوس وغاليلي قبلهما ، وما بينهما من علاقات اتصال وانفصال، إن هؤلاء جميعا تعلموا من عصرهم قبل أن يتجاوزه. إنهم كانوا يفكرون بواسطة لغة مكنتهم من تبني تقطيعات الواقع والتمثلات السائدة من أجل تجاوزها.

يتحدث هابرماس كذلك عن الوضعية المثلى للكلام مشيرا إلى مهارة الإنصات  Ecoute باعتباره أهم لحظة من لحظات تحقق التواصل والتفاهم بين الأفراد والجماعات إن الشخص الذي ينصت  هو إنسان  تتوافر فيه مهارة الانتباه والمعرفة ؛ والإنصات يقترن غالبا بالفهم على عكس الاستماع Entendre ؛ ويعرف أحد الباحثين الإصغاء كما يلي :<< الإصغاء هو المثابرة في الاستماع ، واستقبال ما يقوله فرد بالترحاب ، والتشبع بالخطاب في جزئياته و أبعاده وحدوده ومداه .ومن هنا قبول الآخر ، وتقبل كلماته وحركاته ونظراته .>> ( الشيخي)   

إن الإصغاء مهارة تقتضي التعلم والتدريب المستمر للحواس والدماغ ؛ فالإصغاء ليس مجرد استعمال الأذنين والدماغ ، بل هو كذلك تجنيد باقي الحواس بما فيها حاسة البصر ؛ ولذلك يقال : إن الإصغاء هو فهم الآخر واستيعابه في كلامه وحركاته .

ومن لحظات التواصل نجد كذلك لحظة معاودة الصياغة : فإذا لم يفهم أحد الأطراف السؤال المطروح يجب على الأطراف الأخرى أن تعيد صياغته بطريقة واضحة ؛

وأخيرا لحظة التعبير عن الذات التي تقتضي امتلاك الفكر السليم  والواضح ، وامتلاك اللغة والنطق اللذين يمكنان كل متحاور من إخراج ما هو موجود لديه بالقوة والكمون إلى الوجود بالفعل والتحقق . إن التعبير عن الذات لا يعني التكلم ولا إلقاء الخطب والتهافت  ( parler du coq à l’âne ) ،  ولكنه يعني الوعي وامتلاك المعرفة ، والحس التواصلي  .

إن هابرماس يعتبر مهارة الإنصات قيمة كبرى تنم عن احترام الآخر والنزوع إلى الغيرية. إن أخلاقية النقاش قيمة تمنح جميع الأطراف المشاركة في النقاش مناخا يشعرون فيه بالقدرة على طرح واقتراح أفكارهم بكامل الحرية في الوقت نفسه الذي يستوعبون فيه أهمية الإنصات لما يقول الغير. أما الوضعية المثلى للكلام فهي وضعية نقاش ينتج فيها الأطراف المتناقشون سلسلة من الأصوات ومتتاليات من الكلام لأسباب براغماتية غير مقصودة إنها وضعية تجعل الواحد يتقبل أن يصححه الآخرون كما تجعله قادرا على الإنصات والتناصت رغم كل معوقات التواصل.

يقول أحد الباحثين "إن عدم وجود تواصل مثالي لا يعني عدم وجود مثالية تواصل"20

"ce n’est pas parce qu’il n’y a pas de communication idéale qu’il n’a pas d’idéal de la communication »

13-الإنخراط في الجماعة والفعل التواصلي:

يقتضي الإنخراط في الجماعة نكران الذات والمصالحة مع الآخر باعتباره جزءا من الأنا. لقد تحدث البعض على ضرورة العيش معا   vivre ensembleالمرتبط بضرورة تعلم الأنوجاد  (Apprendre à être  )و تعلم التعلم او المعرفة  apprendre à apprendre وتعلم الأداء (savoir faire) ... ولن يتأتى هذا لأي فرد من الأفراد المجتمعية إلا إذا أدرك وفهم أن الكلام والتواصل داخل الجماعة شرطان ضروريان لكي يتمكن من أن يحقق وضعه الخاص وأناه المتكلمة . إن هابرماس يطرح التساؤل التالي: "كيف هو المجتمع ممكن" وكيف يمكن لنا  أن نمدد التفاعل مع الغير في الاتجاه الذي نريده دون أن نحدث القطيعة؟ كيف نحافظ على الأستمرارية في الفعل ونتفادى القطيعة بواسطة الصراع؟ أي الصراع الذي يحصل بيننا أثناء النقاش.بعبارة موجزة كيف ندبر علاقات الاختلاف في ظل اختلاف العلاقات كما قلنا في مقدمة هذا المقال ؟ يميزها هابرماس في هذا الإطار بين خمسة أفعال وأعمال ومنها الفعل التواصلي والفعل الإستراتيجي.

13-1  الفعل الإستراتيجي : يتدخل هذا الفعل " عندما يدخل الفاعل acteur في حسبانه للنتائج انتظار وتوقع قرار فاعل. إضافي، واحد على الأقل، يعمل من أجل تحقيق هدف معين.21

13-2  الفعل التواصلي : يخص فاعلين على الأقل يقيمان علاقة بينشخصية ويبحثان عن توافق وتفاهم حول وضعية عملية، وذلك بهدف تنسيق خطة عملهما وبرنامج اشتغالهما.22

إن الفعل التواصلي هو تفاعل بين شخصين على الأقل قادرين على الكلام والفعل يقيمان علاقة بين شخصية. ويعد مفهوم التفاهم أولي في التفاوض حول تعريف الوضعية. إن التفاهم هنا لا يعدو كونه اتفاقا محفزا بطريقة عقلانية، ويقوم هذا الإتفاق على الاعتراف الذاتي بادعاءات الصلاحية حول ما هو موجود أو ما ينبغي أن يوجد.

وتفترض نظرية الفعل التواصلي أن المجتمع يقوم على أفعال تواصلية تجمع بين مختلف مكوناته  المدنية. وتتجه هذه الأفعال نحو تحقيق الاتفاق Entente  والنجاح . ويرى هابرماس أن الأفعال الرامية   إلى النجاح ترجع إلى مقاولات جماعية. وتتطلب برنامجا ومواجهة بين الآراء. بينما الأفعال الرامية إلى الاتفاق لا تغدو كونها  كلاما (Tartinet) يصعب التحكم فيه، لأنها تنفلت من التحليل العقلاني مادامت تخضع لخلفيات قبلية.

وعموما فإن التواصل حسب هابرماس موجود في الاجتماعي وفي اللغة التي هي اجتماعية، وفي ما هو ضمني وغير صريح، وفي الأحكام القبلية. إن التواصل غير آلي non machinique بل هو اتفاقي ينبثق في لحظة القطائع.

ويرى هابرماس أن اللغة وسيط للتواصل تصلح للوفاق بين الناس الذين يريدون التواصل. بينما الفاعلون يتابعون- كل واحد على حدة -أهدافا محددة وهم يتوافقون من أجل تنسيق أعمالهم.

وإذا كان هابرماس يرفض أن يعطى الفعل التواصلي أهمية كبرى في إحداث الرابطة واللحمة الاجتماعية (liens) بدعوى أن هذه الرابطة قد تتحقق بواسطة القوة والحيل والإكراه، فإننا نشدد من جهتنا على الأهمية الكبرى التي يكتسيها الفعل التواصلي في التفاعل بين أفراد الجماعة أو الجماعات السياسية والثقافية والعلمية والتربوية. لقد قال أوسكار برنيفلر  oscar brenifler    في هذا التعلم، ضمن تعلمات أخرى، تشغل وتعبأ المواطنة، ليس باعتبارها معنى نظريا، ولكن باعتبارها ممارسة : إنها تعلم احترام الذات واحترام الغير، وتعلم كيف نجعل أنفسنا محترمين من طرف الغير. إنها إعطاء حد أو كلمة << احترام >> معنى حقيقيا .إن الكلام إذن ، أكثر من كلمات ، إنه يخلق الفكر النقدي ويخلق المواطن ، ويساعد على نموه وتكوينه .23  

14)  المصالحة بديل للعنف وسبيل إلى تدبير العلاقات   

إن المصالحة المطلوبة من أجل تفادي العنف هي مصالحة مع الذات ومع الآخر ؛ وكل ذلك يقتضي معرفة الأنا ما دامت هذه المعرفة هي التي تؤهلنا لمعرفة الغير الذي نشترك معه في الجنس والنوع والطبيعة و بعض القيم والعناصر الثقافية . بيد أن معرفة الأنا عملية ليست  سهلة كما قد نظن ؛ فسقراط يقول << اعرف نفسك بنفسك >> ونيتشه   يقول :<< إن أكثر الناس بعدا عنك معرفيا هو أنت نفسك >> . وتتم  معرفة الغير عن طريق الاستدلال بالمحاكاة  ( le  raisonnement par analogie )، و أيضا عن طريق التكوين المستمر وتعلم العيش مع الجماعة ( apprendre à vivre ensemble ) .

لذلك نقترح أن نبدأ بنشر ثقافة السلم والتسامح المتجذرين في قيمنا الحضارية الإسلامية، والمتصدرين لشعارات الحداثة و الديمقراطية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ؛ وبعد نشر هذه الثقافة والتأكد من استيعابها ننتقل إلى مرحلة المصالحة بين الأطراف المتضاربة ؛ وذلك عبر الخطوات التالية :

نجعل كل فرد من المجتمع  يتصالح مع ذاته عن طريق التكوين المستمر، القائم على العمق والمقاربة الشمولية ، و أيضا عن طريق الإعلام بمختلف أشكاله ، وعن طريق التربية غير النظامية ، ومحاسبة مقترفي الجرائم بمختلف أنواعها ؛نجعل المواطن يتصالح مع الإدارة عن طريق تحسيسه بواجباته وحقوقه وتخليق الإدارة وتفعيلها .

وعندما نتأكد من مؤشرات التقارب والتفاهم ونكران الذات بين المواطنين ننتقل إلى مرحلة الصلح بين الشركاء والفرقاء وجمعيات المجتمع المدني ؛

إن المصالحة  ( réconcilliation)من هذا المنظور، هي نوع من الوصل وانفتاح الذات على باقي الذوات ، بمعنى تجاوز المفرد من أجل الجمع ، إلى جانب كونها شرطا يستلزمه كل تواصل فعال من شأنه أن يقضي على السلوكات العدوانية ويحمل الفرد على الارتباط مع الآخرين انطلاقا من الواجب الأخلاقي الذي  يعتبره كانط ( Kant Emanuel ) نزعة إنسانية متجذرة في كل واحد منا  ، وكلما اكتشفها في ذاته كلما احترم الآخرين ، وسعى إلى إقامة علاقات معهم على أساس السلم والأمن والاحترام المتبادل . كما أن هذه المصالحة هي الكفيلة بخلق مشهد يشبه مجالا عموميا في أبعاده المتنوعة.

قد يرى البعض أن هذه الدعوة إلى المصالحة طوباوية إلى حد الاستحالة ؛ إننا لا نصادر هذا الرأي وخصوصا أنه حينما تكون الأطراف المتحاورة لا تنتمي إلى نفس الإبيستمي ( نظام الفكر )، وتكون الفجوة عميقة بين عقلية الرئيس مثلا وعقلية المرؤوس ، أو بين ثقافة هذا  وثقافة ذلك ؛ الشيء الذي يجعل كل طرف يسبح في فضاء فكري مختلف كليا عن الآخر – إننا لا نصادر هذا الرأي -  ولكننا نرى مع هابرماس ، أن أي اختلاف أو عداء بين زيد وعمرو إلا ويمكن حله بفضل الحوار المتحرر من جمبع الإكراهات ؛ وذلك لأنه من الممكن إعادة بناء المواقف المتعارضة في موقف ثالث يأخذها جميعها بعين الاعتبار من أجل تجاوزها بطريقة ديمقراطية مداولاتية  ( démocratie délibérative )  ، قائمة على الفعل التواصلي ( l’agir communicationnel ) التفاعلي وليس على الفعل الاستراتيجي  ( l’agir stratégique ) الأداتي . وتبقى على عاتقنا مسؤولية خلق مجال عمومي espace public )  أرحب من مجال هابرماس  ، يكون مؤسسا على عقلانية تواصلية تفاهمية تحترم رأي كل متفاوض وتمثلاته الذهنية ،  ومتحررا من كل عقلانية أداتية .



الـهـوامـش

Labot, Michel, Dynamique des groupes non-directifs,p227 , puf , 1974
Morin Edgar , les sept savoirs nécessaires à l’éducation du futur p53à56 UNESCO 1999

أنظر كتابنا : التواصل التربوي مدخل إلى جودة التربية والتعليم منشورات مجلة علوم التربية رقم 5 مطبعة النجاح الجديدة البيضاء 2005

نور الدين، أفاية، الحداثة والتواصل ، ص 208-210 ، إفريقيا، الشرق، الرباط1995

Gérard – Naef Josselyne , savoir parler, savoir dire ,savoir communiquer pp5-6 Neuchatel,Pais , Delachaux&Niestlé 1987

Watzlawik .P , Helmick Beavin .J , Jackson .Don .D , une logique de la communication  , p 65-67 , éditions du seuil Paris ,1972


Maisonneuve , J , la dynamique des groupes ,20-31 ,et 150-160 , Que sais – je ,  puf ,  Paris ,1995
8- ابراهيم ، زكريا ، دراسات في الفلسفة المعاصرة ، الجزء الأول دار مصر للطباعة والنشر القاهرة

1969  الفلسفة الانطولوجية من  418 الى 451   

9-Habermas J., Théorie de l'agir communicationnel, tome 1, Fayard, Paris, 1973, p. 287

10- -Habermas J.  Logique des sciences sociales et autres essais, PUF, Paris, 1987, p. 40

11- Sharp A.-M., "Quelques présuppositions sur la notion de " communauté de recherche " ", in SASSEVILLE M., La pratique de la philosophie avec les enfants, Les Presses de l'Université Laval 2000, Québec, 2003, pp. 56-57.

12- إن الانسحاب عند هيدجر مثلا لا يعني الموت والانتهاء المطلق انظر اسماعيل المصدق قراءة لفلسفة مارتن هيدجر ص44 مجلة فكر ونقد العدد1 دار النشر المغربية البيضاء 1997

13- ايان كريب ترجمة محمد حسين غلوم النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس ص345 الى 352  علم المعرفة العدد ابريل1999
14-  Habermas J., connaissance et intérêt  Paris 1976

15-  سالم يفوت هابرماس ومسألة التقنية ص 38- 55 مجلة فكر ونقد العدد الأول شتنبر1997
نفس المرجع
Morin Edgar , opt cit
أنظر بنية الانقلابات العلمية طوماس كوهن ترجمة سالم يفوت
Perrenoud , Ph , Qu’est apprendre www.unig.ch/fapse/sse/teachers/perreoud
Habermas ,J , Théorie de l’agir communicationnel op cit p231
Idem p101
1dem p17Brenifier O., Enseigner par le débat, CRDP de Bretagne, 2002, p. 30

* le terme :individuation est emprunté à la biologie , il désigne les inductions et les différenciations successives conduisant à la formation des structures organiques compètes c’est à dire à la constitution morphologique , physiologique ou psychologique progressive de l’individu  voir Gorges Thines et Agnes Lempereur  Dictionnaire Général Des Sciences Humaines  édit universitaires Paris 1975
* مفتش باحث