أزمة العقل الدّيني الغربي - د. عزالدّين عناية*

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسيأتي حضور الدّين بشكله المؤسّسي في الغرب، من بين أكثر الأنماط المؤسّسية الاجتماعية تركيبا وتداخلا ونشاطا، وفي مقابل ذلك يحضر التديّن بمفهومه الفِطْري الرّوحي دون ذلك بكثير، لضمور أثره وتواري ملامحه. خلّف ذلك التوّازي اللاّمتوازن أوجه عدّة من التّضارب، كانت وراء توليد أزمات مختلفة داخل الهيكل الدّيني العام، انعكست آثارها في الدّاخل كما الشّأن في الخارج. من ذلك التضارب، بين الدّين كمؤسّسة، والتديّن كتفعيل، نحاول استعراض بعض أوجه تلك الأزمة.
1- الكنيسة وخيار المحرومين أو المترفين:
برغم فسيفساء النّحل والعقائد التي تميّز الواقع الدّيني المسيحي الغربي، يجمع رابط مشترك بين كنائسه المختلفة، مما يجوّز إطلاق نعت كنيسة على شتاته المتنوّع، نظرا لوحدة الإيقاعات التي تضبط علاقاته الدّاخلية ونظرته للآخر الحضاري. فجرّاء القوّة المادّية التي تميّز الغرب الحالي، وسمات الهيمنة التي تطبع سياسته الخارجية، رافقتها قناعة لدى السّاهرين على مؤسّساته الدّينية، ترنو للعب نفس الدّور في مجال النّفوذ الرّوحي على العالم أيضا. تلخّص ذلك في السّعي للوصاية على "الأخلاق الدّينية"، والتطلّع لإعادة تربية الجنس البّشري، بغرض إعادة تهيئته روحيّا عبر مداخل مختلفة، منها ما سمّي بالأنجلة، أو بإعادة الأنجلة، أو بحوار الأديان أو بحوار الحضارات. وهو ما جعل بعض المفكّرين واللاّهوتيين المنشقّين، ينتقدون بشدّة هذه المركزية، فقد دعا اللاّهوتي الألماني السّويسري هانس كونغ لأخلاق كونية شاملة كبديل لمركزية طروحات الكنيسة الحالية.
وتحاول الكنيسة، في التاريخ المعاصر، وخصوصا منها تفرّعيها الكاثوليكي والإنجيلي الأمريكي، أن تبقى عين الغرب الرّاصدة في الخارج، عبر تنبيه العقل السّياسي وإشعاره، بنقاط التحذير والانتقاد للعالم الإسلامي أو للعالم الكنفشيوسي، وغيرها من الفضاءات الحضارية التي تشهد تدافعا مع الغرب أو مع الكنيسة. فنظرا لما تملكه المؤسّسة الدّينية الغربية من قدرات علمية وإمكانيات، متمثّلة في مراصد ومعاهد ورجالات وخبراء، تحاول من خلالهم صنع تلك الهيمنة، تعضدها في بلوغ مقصدها ارتباطات مع أقلّيات دينية منتشرة في أرجاء العالم، استطاعت أن تستوعبها وتحتضنها، تارة عبر التحذير من الذّوبان في الدّاخل وطورا عبر الإغراء بربط مصالحها بالخارج، موظّفة إياها لصنع الحدث السّياسي الدّيني الإشكالي الذي تنتَقَد منه بلدانها، أو مجتمعاتها، خصوصا إذا ما كانت متعدّدة الأعراق والدّيانات، سواء في خياراتها الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية. وضمن لعبة التوظيف تلك، غالبا ما أخطأ مسيحيو الشّرق التّقدير حين اعتبروا الغرب حامي المسيحية وراعيها، ولم يدركوا أنه مجموعة من المصالح الوطنية المختلفة، استغلّ مسيحيي الشّرق لتفتيت عديد المجتمعات، وفي أيّامنا لصياغة توازنات قوى خارجية وربط تطلّعات الأهالي المحلّيين وإرادتهم بالخارج.



فأحيانا يحاول الغرب السّياسي، عبر الكنيسة، أن يبرّر فعله بخلفية خلقية وإنسانية، تتستّر وراء يافطات متنوّعة: حوار الأديان، حوار الثّقافات، ادعاءات القضاء على الفقر والأوبئة، تدعمه في ذلك آلة دعائية، تحاول توجيه الوعي العالمي، حتى وفّقت في إلحاق هزيمة دلالية بقضايا مشروعة، لدى مظلومين عدّة، وقد حازت الكنيسة نصيبا معتبرا في تلك المهمّة.

فذلك الارتباط المتين بين استراتيجيا السّياسة وتطلّعات الكنيسة، والذي حضر فيه رجل الدّين، مبرّرا ومباركا لا فاعلا ومبادرا، غالبا ما انعكس أثره سلبا وقلّص من فرص بناء ثقة مع التكتّلات الحضارية والدّينية الأخرى، بغرض تأسيس إيلاف جامع بين أتباع الأديان. وقد تولّد اقتناع الإكليروس في العهود السّابقة بإقرار الارتباط بالآلة السّياسة، بعد يقين الكنيسة من دحرها خارج مجال النّفوذ السّياسي المباشر في السّاحة الغربية، فرضيت بما منح لها من موقع خلفي. وفي الزّمن الحالي، تحاول اكتساب ما فرطت فيه، عبر امتلاك الحقيقة الخلقية كونيا، بالاستناد إلى قوى هيمنة دوليّة في المجال السّياسي. والواقع أنه ليس من الهيّن للكنيسة، في ظلّ تحالفها الجليّ والخفيّ مع الآلة السّياسية، التي يطبعها التجبّر، إرساء حوار شفّاف مع الأديان الأخرى أو مع الفضاءات الحضارية المحاصَرة نهضتها، تكسب فيه ثقة أتباعها، نظرا لمحاولة الكنيسة الصّعبة للإمساك بالمتناقضات في الآن نفسه، المتمثّلة في الولاء للمستكبِر والدّعم للمستضعَف. لذلك تأتي مساعيها للحوار مع الحضارات الأخرى باهتة ومفتقدة لدعامات القوّة، لعلّ هذا الوهن ما جعل الكنيسة تتعثّر حتى الآن في إرساء حلف ديني عالمي، برغم توفّر قدرات هائلة مؤسّسية وتكنوقراطية ومالية لديها.

فممّا قلّص الثّقة بين التكتّلات الدّينية العالمية المختلفة، أن الجانب القوي منها -وهو الطّرف الكنسي- يهدف في انفتاحه على الفضاءات الحضارية الأخرى لاحتوائها، وليس لتطارح الإشكاليات معها والبحث لها عن حلول مشتركة وعادلة، تُبنى على أساسها خلقية كونية جامعة، في كنف الندّية الحضارية والدّينية. استلزم بلوغ ذلك الهدف توظيف مقولة الحوار بدل مقولة التبشير المحورية، بعد أن صارت الأخيرة تلاقي انتقادا. وحتى "علم التّبشير" و"لاهوت الأديان"، النّاشطين داخل المؤسّسات الأكاديمية الكاثوليكية، في الجامعات البابوية الرئيسية بروما، الغريغورية والقدّيس توما الأكويني، لم يقدرا حتى الرّاهن على تجاوز الإرث اللاّهوتي القديم، وإنتاج خطاب منفتح يتجاوز ضيق الرّؤى القروسطية، المتلخّصة في "ألاّ خلاص خارج الكنيسة".

جاء في وثيقة صادرة عن "مجمع عقيدة الإيمان" - Congregazione per la Dottrina della Fede-، وهي أعلى الهيئات الفاتيكانية السّاهرة على العقيدة، ضمن تصريح "Dominus Iesus"، بإمضاء مفتّش العقائد السّابق، الكردينال جوزيف راتزينغر، بنيدكتوس السّادس عشر، الذي يشغل في الرّاهن منصب الحبر الأعظم في حاضرة الفاتيكان: "الحوار وإن كان يشكّل جانبا من رسالة الأنجلة، فهو واحد من أدوات الكنيسة لتبشير الأمم، والندّية المطروحة أثناء الحوار، تتعلّق بتساوي الكرامة الذّاتية للأطراف، لا بالمحتويات العقدية التي بحوزتها". الأمر الذي جعل أحد منتقدي الكنيسة من الدّاخل يعلّق على هذا الموقف المتملّك للحقيقة بقوله: "هذا ليس حوارا بل ذمّا". تلك العَقَدِيّة الخلاصيّة تشترك فيها كبرى التيّارات المسيحية الكاثوليكية والإنجيلية، ففي منطقة "حزام التوراة"، في الولايات الجنوبية في الولايات المتّحدة الأمريكية، أين تهيمن التيّارات الإنجيلية، يبقى الشّعار الأساسي المرفوع "المسيح هو الحلّ" "Jesus is the answer".



2- تحدّيات الدّاخل:

على خلاف الرّؤية الشّائعة عن الكنيسة الغربية كونها مؤسّسة سلبيّة، منعزلة ومبعَدة، تسجّل في الواقع حضورا نشيطا في المجتمعات التّابعة لها، تختلف حدّته من بلد لآخر. ولم يخل ذلك الحضور من إثارة عديد الانتقادات لها، سواء في ما تعلّق منها بالشأن الدّيني أو بالشأن المدني. عبّر عن ذلك العنت الاجتماعي منشقّون داخليون، لعلّ أشهرهم اليسوعي كارل راهنر (1904-1984)، الذي أجبر على الصّمت من نظامه الكهنوتي في الخمسينيات، بضغط من الفاتيكان؛ وكذلك اليسوعي تايلار دي شاردان (1881-1955)، الذي منع من نشر مؤلّفاته، بغرض تحييد حضوره العلمي؛ وكذلك الدّومينيكاني ايفاس كونغار (1904-1995)، عقل جماعة "اللاّهوت الجديد" - Nouvelle théologie-، الذي نفي من فرنسا إلى القدس بسبب آرائه المغايرة؛ وفي الرّاهن الحالي نجد الذّائع الصّيت اللاّهوتي السويسري الألماني هانس كونغ.

يَعتبِر هذا الأخير أن تثبيت بنى السّلطة في الكنيسة الكاثوليكية، تعود منطلقاته للقرون الوسطى، ثم جرى تدعيمه أثناء "الإصلاح المضاد"، واستحضر كمفاتيح مضادة للحداثة خلال القرنين الأخيرين. يحدّد كونغ مجموعة انتقادات للكنيسة الكاثوليكية، ممثّلة في هرم قيادتها البابا السّابق كارول ووجتيلا، تتلخّص في ما سماه بـ"أزمة الأمل". فالبابا يوحنا بولس الثّالث " كارول ووجتيلا" يدعو للحوار في الخارج وينقضه في الدّاخل. كما أن سعي الكنيسة للحوار مع أديان العالم يصحبه في الآن تواصل احتقارها معتبرة إياها "أشكالا ناقصة من الإيمان"، كما لازال البابا يعرض نفسه "مبشّرا" بالشّكل القديم. بالإضافة، أن الفاتيكان عادى في السّابق حقوق الإنسان ثم تراجع عن ذلك وسعى للاندماج مع السّياسات الأوروبية، لكنّه رغم ذلك لم يوقّع بعد على إعلان حقوق الإنسان للمجلس الأوروبي.

كما تتواصل مواقف الكنيسة السّلبية من الشأن العائلي، حيث تستمرّ معارضتها لوسائل منع الحمل. وهي تعارض الفقر، وتمنع في الآن تنظيم النّسل، الذي يحدّ منه ومن مرض فقدان المناعة. كما يرى كونغ أن ترويج الأنموذج الكهنوتي الذّكوري العزوبي، كان وراء انحرافات خلقية خطيرة، مثل انتشار الاعتداء الجنسي على الأطفال واللّواط والسّحاق بين رجال الدّين والرّاهبات. مبيّنا أن العزوبة المفروضة هي تنكّر لما ساد في الألفية الأولى، التي لم تعرف فيها المسيحية هذا المنع.

أ- الاحتكار الكاثوليكي

كتب ويليام. ف. باينبريدج رئيس المؤسّسة المعمدانية الأمريكية ورئيس وفود التبشير الخارجية سنة 1882، أنه خلال زيارة لروما "فتّش مراقبو شرطة البابا بيو IX كافة أمتعتنا لمنعنا من إدخال الكتاب المقدّس إلى المدينة المقدّسة". جرى هذا الأمر في وقت سالف، بيد أنه حتى سبعينيات القرن الماضي، لايزال بإمكان الكهنة الكاثوليك فقط إجراء قُدّاس الزّواج في إيطاليا، كما ليس بمقدور البروتستانيين فسخ عقود زواجهم، إذا ما أقرّت من الكنيسة الكاثوليكية. ونجد الإذاعة والتلفزة الحكوميتين تبثّان كلّ أسبوع عدّة ساعات من البرامج الكاثوليكية، في حين تبقى الأديان الأخرى مغيبة كلّيا. وقد يحضر بعضها، مثل الإسلام، في برامج احتقار وتجريح، تمس كرامة أتباعه وسماحة تعاليمه، برغم أن الإسلام الدّين الثّاني في إيطاليا من حيث عدد الأتباع.

وفي الثلاثين من شهر أكتوبر سنة 1981، سحبت الحكومة البلجيكية بشكل نهائي تحجيرها التام، عبر السّكك الحديدية وعبر البريد، نقل مطبوعات شهود يهوه، والتي من ضمنها الكتاب المقدّس. بالمثل حتى ديسمبر 1974، كانت الشّرطة البرتغالية تُصادر وبشكل روتيني كتابهم المقدّس ومطبوعاتهم الدّينية، وعادة ما تعنّفهم بشكل مفرط. وفي جانفي 1991، نقّحت البرتغال قانونا كان يسمح للكاثوليك فقط بتدريس مادة الدّين، منِحت بموجبه بعض الحقوق للبروتستانيين أيضا.

وفي سنة 1970، أصدرت إسبانيا مرسوما للتسامح الدّيني، يجيز لغير الكاثوليك تولّي بعض الوظائف الدّينية. وفي 1992، وسّعت الحكومة الإسبانية إعفاءاتها المالية لتشمل تكتّلات الجماعات البروتستانية الإنجيلية، سامحة لهم بحقّ تشييد المدارس، ومعترفة بالرّعوية البروتستانية شغلا قانونيا. كيفما كان، فإن الحقوق الجديدة لم تتوسّع لتشمل الجماعات البروتستانية التي لا تنضوي تحت الفيدرالية أو غير المسيحيين. تلك أوضاع المسيحيين، أما أوضاع الإسلام فهي الأكثر سوءا بين مجمل النّحل والدّيانات الأخرى، فمثلا في إيطاليا التي تضم ما يقارب المليون مسلما، يحوز مسجد واحد –مسجد المركز الإسلامي بروما- اعترافا قانونيا، في حين لم تنل المصليات الأخرى ذلك الاعتراف. فالإقرار للمهاجر المسلم بأن إتيانه للغرب للعمل، وأن الصّلاة لا تشكّل جانبا من عِقْد العمل بين الطّرفين، هو شكل من التّمييز، الذي يلغي بعنف حقّا أساسيا متمثّلا في حرية التديّن، ويستند هذا التأخّر في الاعتراف الحقوقي للمهاجر المسلم لتخوّفات متنوّعة، تدعمها وقائع عن تآكل ديمغرافي، مرفوق بتنام حثيث لأبناء الجالية المسلمة المقيمة داخل الغرب.

فبرغم ما دبّ من وهن في عديد المؤسّسات الاحتكارية الكاثوليكية في أوروبا، فإن جانبا كبيرا من الدّول الكاثوليكية لم تحرّر اقتصادها الدّيني بعد، ولازالت تفتقد لهيكلية تعدّدية عادلة وسويّة.

ب- الاحتكار البروتستاني

في أغلب البلدان البروتستانية الأوروبّية، تواصل الدّولة توفير الأديان بشكل مجاني، أو على الأقل، الدّين الذي دفع المستهلِك سهْمه فيه عبر الضّرائب. كما تستمرّ تلك الدّول في نصب العراقيل البيرقراطية أمام المؤسّسات الجديدة التي تحاول دخول سوقها الدّينية أو تتطلّع للنشاط فيه. ففي بعض الدّول تتوفّر المساعدة لكنائس مختلفة، وفي أخرى لواحدة فقط. كما نجد إكليروس تلك الكنائس البروتستانية التابعة للدّولة يوجّه الأمور حسب مراده.

في السّويد، تمثّل اللّوثرية أنموذجا للشّكل الذي تسير عليه كنيسة الدّولة، فمنذ النّشأة كانت الكنيسة جهازا تابعا للدّولة. حيث تتواجد عديد القوانين الخاصة التي تضبط نشاطها مع الملك، بصفته راعي الكنيسة والمكلّف بتعيين الأساقفة ورؤساء الأساقفة. وكما هو معلوم يولد المواطن السّويدي منتميا بالوراثة للكنيسة.

وبكون السّويد يسمح لعقائد أخرى بالتواجد، فليس صحيحا أن تلك العقائد تتمتّع بحرية تامة، لمجرّد نعتها بالكنائس الحرّة. فمثلا، غالبا ما تلاقي الجماعات البروتستانية الإنجيلية صعوبة في الحصول على ترخيص لعقد لقاءاتها العامة. كما ترتفع العراقيل أمامها عند الاحتكاك ببيروقراطية دولة، تخلو من أي تعاطف عند تحدّي اللّوثرية الرّسمية.

تهيمن تلك الأوضاع على البلدان الاسكندنافية بشكل متشابه، فقد لاحظ بيتر لودبيرغ، الأمين العام للمجلس المسكوني بالدّنمارك، أن "البرلمان له سلطة مطلقة في تسيير الكنيسة الوطنية (الكنيسة اللّوثرية)"، وأضاف، أن إكليروس الكنيسة الوطنية يعتبر النِّحل المسيحية الأخرى عبثية.



3- المركز والأطراف

طيلة بداية حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الشّرقي والغربي، كان تحالف الكنيسة مع الآلة الرّأسمالية الغربية في العمل على نخر الكتلة الاشتراكية خفيّا، وحتى زيارة  البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1979، التي مثلت اختراقا للفضاء البولوني، إحدى الأركان الأساسية للمعسكر الاشتراكي، ما كان العداء صريحا وعلنيا. ولكن على إثر تفاعلات تلك الزّيارة، تم التنبّه لانحياز الفاتيكان في الصّراع الإيديولوجي ضد الكتلة الاشتراكية، بعد أن صار علنيا. وقد مثّل البابا الرّاحل الوجه البارز في العملية، يسنده في ذلك الكاردينال شيبرياني لوباز تروجيلو، المكلّف بتنقية الكنيسة من أي نفس اشتراكي.

فعلى مدى حقبة الثمانينيات، تمتّنت عرى التنسيق بين كنيسة البابا البولوني كارول ووجتيلا وحكومة الرّئيس الأمريكي السّابق رونالد ريغن، مبدع شعار "مملكة الشرّ" في الثامن من مارس 1983. فقد دفع توافق مصالح موظّفي البيت الأبيض مع نظرائهم في الفاتيكان للتنسيق فيما بينهم، شمل من جملة ما شمل تبادل المعلومات الاستخباراتية، كما بين ذلك ويليام ب. كلارك المستشار السّابق للرّئيس الأمريكي، في حوار مع - Catholic World Report - في نوفمبر 1999، برغم مظاهر التّعادي السّابق بين الكنيسة الإنجيلية الأمريكية وكنيسة روما.

كما لازالت تبعات الخلاف الرّوسي الفاتيكاني السّابق تخيم بظلالها على تطبيع العلاقات الكاثوليكية الأرثوذكسية حتى الراهن. فلم يُسمح للبابا السّابق ووجتيلا بزيارة روسيا، كما لم يأت الرّئيس الرّوسي لجنازته عند مماته. وتعدّ المشاكل المعلّقة بعد الفترة الشّيوعية مما ساهم في تعطيل تطبيع العلاقات بين الفاتيكان والكنيسة الأرثوذكسية. ومايزال حضور المؤسّسات الكاثوليكية في روسيا والمتّهمة بالتبشير، إضافة إلى انبعاث الكنيسة الأكرانية الإغريقية الكاثوليكية، من المسائل العالقة التي منعت اللّقاء بين ألكسيج الثاني، زعيم الكنيسة الروسية، ويوحنا بولس الثاني.

كان من الضروري التعريج على دور الكنيسة الهام في نخر المعسكر الاشتراكي السّابق، لتبين ملامح الاستراتيجيا الكنسّية المستقبلية. فبعد انتهاء الكنيسة الغربية من ملحمتها مع الكتلة الاشتراكية، والتي انهدّت على إثرها عديد الأسوار تحاول في الزّمن الحالي بناء سلطة عالمية، توجه من خلالها المسيحية الواقعة خارج الفضاء التقليدي الغربي والتحكّم بمصيرها، وهذه الهيمنة غالبا ما تجلّت في تطلّعات روما التي تصرّ على التكفّل بتعيين الأساقفة والكرادلة في الأطراف، دون تنازل في ذلك للكنائس المحلّية. فنهجها العَقَديّ الملزِم والرافض لأيّة استقلالية، غالبا ما أرهق الكنائس المحلّية، فرأت في المعيَّنين أجانب وغرباء عن الكنيسة المحلّية، مما خلق تململات في عديد الفضاءات.

أ- التّناقض مع أمريكا اللاّتينية:

بدا ذلك جليّا في الموقف مما عُرِف بـ"لاهوت التحرّر"، على إثر التجمّع الأسقفي العام بمادلين بكولمبيا سنة 1968.  فقد فرض تحالف الكنيسة مع آلة الهيمنة الغربية، التنكّر لذلك اللاّهوت، عبر سحب المشروعيّة منه واتهام رجالاته بموالاة الكفر (الإلحاد الشيوعي)، ونعتهم بوصمة "الأساقفة الحمر"، ومن ثمّة محاصرتهم، لما يطرحونه من مراجعة جذرية تعيد تعريف ماهية الكنيسة، ورسالة المسيح. فالمسيح لم ينهر كهنة هيكل أورشليم وفي باله رهبة من سلطان قيصر، الجاثم على البلاد والعباد، بل صدح مملكتي ليست من هذا العالم، متجاوزا كافة الرّهانات الزّمنية، بصفة الدّين إن لم يحالف الفقراء مبدأ يوالي الأغنياء مقصدا، وإن لم يناصر المقهورين فسيدافع عن العشّارين، فلا منزلة له بين المنزلتين.

كتب غوستافو غوتيراز، الأب الرّوحي للاهوت التحرّر، في نهاية الستّينيات: " منذ أمد جرى الحديث في العالم المسيحي عن المشكلة الاجتماعية، أو ما يسمّى بالمسألة الاجتماعية، ولكن فقط في السّنوات الأخيرة جرى التنبّه لعمق البؤس، وحياة العسف والاغتراب التي ترزح تحتها الأغلبية السّاحقة من البشرية، ضمن أوضاع مذِلّة للإنسان، وبالتالي لله". فحياة البؤس، لأولئك الذين ألغي حقّهم في الوجود، من خلال دوْس على كرامتهم الإنسانية، مرتبطة بنظام خضوع، تصير بموجبه بلدان وطبقات اجتماعية أكثر غنى وأشدّ قوّة، في حين تصير غيرها أكثر سوءا وتدهورا. فلا يكفي التدخّل، عبر إيديولوجيا النّهوض الاقتصادي، للحدّ من هذه الأوضاع، لأن ذلك الفعل يبقى خاضعا لإرادة الأقوى، الذي يحافظ على شدّ تلك الدّول والتجمّعات لأوضاع استغلالها.

فالذي يدفع بالمضطَهدين، لهجران أوضاع اغترابهم، نوع من الوعي يجعلهم صانعي تاريخهم. ولكن هذا الوعي الذاتي لدى الفقراء غير كاف، ما لم يعضده تطوير نظام اقتصادي عالمي يحوّر بنى الاستغلال السّائدة، ويدفع الدّول الضعيفة باتجاه اقتدار ذاتي من أجل نماء فعلي، هكذا يرى اللاّهوتي الإيطالي برونو فورتي السّبيل للخروج من هذا المأزق.

لقد أثارت كنيسة أمريكا اللاّتينية بدورها عديد الانتقادات المتعلّقة بالشّأن، خصوصا في المؤتمرات العامّة لأسقفية القارة، في مدلين بكولمبيا سنة 1968، وفي بوبلا بالمكسيك سنة 1979. كما نادى التجمّع المنعقد بسانتو دومنغو، في 1992، بضرورة التّنمية الشّاملة للشّخصية البشرية، ودعا في نفس السّياق لاهتمام خاصّ بالثّقافات الأهلية، الإفريقية-الأمريكية وتلك المولّدة.

لقد تلخّصت محاصرة لاهوت التحرّر وإدانته، في محاكمة غوستافو غوتيراز (1983-1984)، وفي محنة منظّره، ليوناردو بوف، الذي حوكم من طرف هيئة عقيدة الإيمان بروما، بين سنتي (1984-1985)، التي كان يترأّسها البابا الحالي جوزيف راتزينغر (بنيدكتوس السّادس عشر). أُجلِس بوف على نفس كرسي المحاكمة الذي أجلس عليه غاليلو غاليلي وجردانو برونو، بتهمة الانحراف عن الصّراط المستقيم، على إثر صدور كتابيه، اللّذين لخص فيهما فلسفة لاهوت التحرّر: "Jesus Cristo Liberador" "يسوع المسيح المحرّر"، و"Igreja, carisma e poder" "الكنيسة والكاريزما والسّلطة".

أراد الرّجل إعادة صياغة فلسفة المسيحية خارج معادلات الزّمن الحالي، ضمن رؤية طهريّة أصيلة. يقول بوف: "على ما أعتقد يصعب الحديث عن المسيح الفقير والوديع داخل قصور روما... فالبديل، في فعل ما فعله عديد أساقفة أمريكا اللاّتينية، باعوا قصورهم وتحوّلوا للسّكنى في بيوت متواضعة". فبموجب تلك الرّؤى الانقلابية، تم عزله وتجريده من كافة مهامه الأكاديمية والدّينية.

ب- الكنيسة الإفريقية

لا يزال النّفوذ الفعلي داخل الكنيسة الكاثوليكية بأيدي البيض الغربيين، برغم التطوّر العددي الهائل للكاثوليك خارج الفضاءات التقليدية. ففي إفريقيا، تعرف أعداد الكاثوليك نموا لافتا يصل إلى 148%، من جملة عددهم البالغ 135.660 مليونا، وهو تنام يفوق نسبة الازدياد الدّيمغرافي في القارّة، الذي يقدَّر بـ83%. برغم ذلك لايزال حضور الأفارقة هامشيا في مؤسّسات القرار في الفاتيكان، حيث يقدّر عددهم في مجلس الكرادلة بـ 12،83% من المجموع العام، ويمثّلهم في التكتّل الانتخابي عشرة كرادلة، أي 8،7% من مجموع النّاخبين، واحد فقط منهم له مهمّة في "الكوريا رومانا"، وهو فرانشيس آرينزي كبريفاتو، في مجمع الشّعائر الإلهية وتنظيمات الأسرار، بعد أن شغل طويلا مهمّة رئيس مجلس الحوار الدّيني. فتنصيب الأساقفة في الأصقاع الخارجية لا يزال شأنا فاتيكانيا، بدون ترك الخيرة لرجال الدّين المحلّيين، لتسيير شؤونهم، والعملية تعبّر عن إرادة إخضاع الأطراف للمركز.

كان من أبرز ما خلّفه الإحساس بتدنّي نفوذ الأفارقة، تولّد مظاهر تململ داخل الكنيسة الإفريقية، نظرا لمشاكلها المغايرة عن الكنيسة الغربية الممسِكة بمقاليد الأمور، الأمر الذي جعل الفاتيكان يسعى جاهدا لمحاصرة بوادر ذلك الانشقاق قبل انفلاته. فقد دعا البابا السّابق، يوحنّا بولس الثّاني، للتفكير بجدّية في تشكيل كنيسة "أفروأوروبية" لاحتواء الأزمة بغرض تجنّب انشقاق شبيه بما هزّ كنيسة أمريكا اللاّتينية. وقد اتخذت خطوات جادة في ذلك بعقد الملتقى الإفريقي الأوروبي بروما، في نوفمبر 2004، بمشاركة 50 أسقفا أوروبيا و 50 أسقفا إفريقيا، لتطارح المسائل ذات الشأن.

ففي كنيسة إفريقيا هناك إلحاح على ضرورة الخروج من رهن المسيحية الاستعمارية، المثقلة بمركزيتها الأوروبية. جرى التأكيد على ذلك خصوصا مع الكاثوليكي جون مارك إلاّل ومع الأنجليكاني جون امبيتي، كما يُعتبر انبعاث "المجلّة الإفريقية للاّهوت" -Revue africaine de théologie- بكنشاسا في الكونغو، موحيا في ذلك الشأن.

ج- آسيا والكنيسة

لا تزال تحدّيات عويصة تعترض الكنيسة الكاثوليكية في آسيا، جرّاء مظاهر نفور متأصّلة، عبّر عنها البابا السّابق ووجتيلا (يوحنّا بولس الثّاني) في مقدّمة رسالته -Ecclesia in Asia- لأعمال مجمع أساقفة آسيا المنعقد بالفاتيكان بين أبريل ومايو 1998 بقوله: "إنه لغريب سبب بقاء مخلّص العالم، المولود بآسيا، مجهولا بشكل واسع لحدّ الآن بين شعوب القارّة". سعى البابا السّابق لاختراق ذلك النّفور، من خلال زيارات لأذربيجان وكازخستان وباكستان والهند وسيريلانكا وبانغلاديش وتايلاندا وسنغافورة وأندونيسا واليابان وكوريا الجنوبية والفلبين. فالكاثوليك يمثلون أغلبية في الفيلبين فحسب، بنسبة 63 مليونا من جملة 76، أي قرابة 83%؛ وفي المرتبة الثانية تأتي الهند بـ13 مليونا، بنسبة مئوية 1،5%؛ ثم أندونيسيا بـ7،5 مليونا أي 3،6%؛ والفيتنام بـ6 ملايين بنسبة 7،5%؛ وكوريا الجنوبية 3،1 مليونا بنسبة 6،6%؛ وسيريلانكا 1،3 مليونا بنسبة 6،9%.

لازال النّفور من الكاثوليكية يحرج الكنيسة، فمثلا في ماكاو التي حكمها البرتغال الكاثوليك مدّة تزيد عن الأربعة قرون، من 1576 إلى 20 ديسمبر 1999، تاريخ انتقالها تحت السّيادة الصّينية، رضخت طيلة تلك الفترة لسيطرة الكنيسة الشّاملة على مجالات التربية والتعليم، تدعمها في ذلك شبكة خورنات نشيطة، بيْد أن عدد الكاثوليك لم يتجاوز 20 ألفا، أي 4،5%، من جملة 450 ألف ساكنا.

وبالمثل تجلّى ذلك البحث عن الاستقلالية مع الكنيسة الوطنية الصّينية، منذ قطع العلاقات مع حاضرة الفاتيكان وطرد المبشّرين الكاثوليك سنة 1951، والإصرار على رفض المركزية الكنسية الغربية، بناء على مقولة ماو تسي تونغ "حتى السّماء في الصّين صينيّة"، لتجنّب أي نفوذ خارجي في الدّين، والذي لازال الفاتيكان يصرّ عليه، كما قام به أخيرا من خلال تنصيب أسقف هونغ كونغ، المونسنيور زان كردينالا، في تحدّ للكنيسة الوطنية الصّينيّة.

وبالمثل كردّ فعل على الموقف الصّيني الباحث عن الاستقلال الدّيني، سعى الفاتيكان لـ"تطويب" صينيين في يوم العيد الوطني لجمهورية الصّين الشّعبية، في أوّل أكتوبر سنة 2000، كضغط على خيار الاستقلال الدّيني الصّيني. ولاتزال العلاقة بين الدّولتين مأزومة برغم ما يبدو من سعي جاد نحو التّطبيع، فقد أعربت الصّين عن رفضها تدخّل روما في شأنها الدّاخلي، عبر غياب وفد بكين عن المشاركة في جنازة البابا الرّاحل كارول ووجتيلا، كما لازالت متمسّكة بمنع تنصيب قساوسة من الفاتيكان لديها.

4- تعثّر حوار الكنيسة الغربية مع الإسلام

تبدو لأغلب الأوروبيين، أديان الصّين -الكنفشيوسية والطّاوية- نائية ومجهولة وشرقا قصيّا، فهي لا تشكّل أيّة خطورة بالمرّة، وحتى وإن شهدت توتّرات معها فهي تنحصر بالسّياسي لا الدّيني. كما تبدو أديان الهند -الهندوسية والبوذية- للعديد أدنى قربا وأوفر إلماما بها، وقد تظهر لدى البعض وديعة وسلميّة ولا تتضمّن تهديدا، لما تفتقده من حدود صراع مع الدّول المسيحيّة؛ برغم تصاعد الأصوليّة الهندوسية العنيفة، التي بدأت في الانتشار بالهند مع منتهى القرن المنصرم. على خلاف ذلك، فإن الإسلام، الذي تشترك المسيحية معه، في عدّة آلاف من الكلمترات فهو يحضر دائما تهديدا مفتوحا. ذلك ما يلخّص به هانس كونغ الوضع الحالي لنظرة الغرب للإسلام.

تلك الأوضاع جعلت من الإسلام عنوان التحدّي، في الدّاخل وفي الخارج، الأوّل مثّله المهاجر والثّاني المسلم في وطنه البعيد. وترافقت تلك الهواجس بتراجع بيّن وفعلي للمسيحية في فضائها التاريخي، أي في أوروبا الغربية، الأمر الذي يُخشى أثره على قلب المسيحية في روما، يصحبه قلق من الصّحوة الإسلامية وتطوّراتها المجاورة المنتظرة.

أمام تلك المخاوف، أستلزم إنتاج أواليات دفاعية، تلخّصت في ما يمكن أن نطلق عليه "السّور الحضاري"، أُرْسي بناء على اصطفاف حضاري مصطَنع، أُسّس على مفهوم "التراث اليهودي المسيحي"، والذي انطلق الترويج له منذ تأسيس دولة إسرائيل ومسعى الغرب لموضعتها ضمن شموله الحضاري. انساقت الكنيسة الكاثوليكية في المساهمة في تشييد ذلك السّور الحضاري والترويج لدعمه منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، وهو ما يكشف عن ارتباط الكنيسة الاستراتيجي بالقوى السّياسية الغربية، عبر ترويج المقولات البراغماتية والدعاية لها، على حساب الوقائع الحضارية التاريخية. وقد بلغ التأسيس النّظري لتلك المقولة أوجه في خطاب الكنيسة، مع إصدار وثيقة "نحن نتذكّر: تأمّلات في المحرقة" (12 مارس 1998)، التي لخّصت اعترافات الكنيسة وتكفيرها عن مواقفها السابقة تجاه اليهود، والتي يرد في إحدى فقراتها: "بالنظر إلى آفاق علاقات اليهود بالمسيحيين، نطلب، في مستوى أوّل، من إخواننا وأخواتنا، الكاثوليك والكاثوليكيات، تجديد الوعي بالجذور اليهودية لإيمانهم. كما ندعوهم لتذكّر أن يسوع المسيح منحدر من داود، وأن مريم العذراء والتلاميذ الأوائل من سلالة ذلك الشّعب اليهودي أيضا؛ وأن الكنيسة تستمدّ جذورها من تلك الزّيتونة الطيّبة التي طعّمت بها غصون الزّيتون البرّي للأغيار؛ وأن اليهود اخوتنا الأعزّة والأحبة، وبمعنى ما هم "اخوتنا الكبار"" (ص: 101). والواقع أن مفهوم "الحضارة اليهودية المسيحية" اللاّتاريخي، يتغافل عن مفهوم "الحضارة المسيحيّة الإسلامية" التاريخي، لاغيا قرونا من التّماس والاندماج الحضاري، بما فيها من سلام وحروب وتوتّر وتفاعل.

وفي الآن التي تتكثّف فيها هواجس الكنيسة من الكتلة الإسلامية، يتعدّد عقد مؤتمرات الحوار الدّيني، المصحوبة بنزعة بطرياركية للكنيسة على الدّيانات الأخرى. ففي الكتاب الذي أصدره الأب الأبيض، موريس برمانس، "الحوار الإسلامي المسيحي في عصره وضدّ عصره"، يلخّص تلك النزعة البطرياركية، حيث يترجم صاحبه أطروحة التعالي الحضاري الغربي دينيّا، إذ يتناول بالتفصيل الهندسة الإصلاحية للعالم الإسلامي، محدّدا مقياسين للصواب لها: التّشريعات الاجتماعية الغربية والمناسك الدّينية الكنسية، وماعداهما فهو هراء.

نقيصة الحوار المركزية تلك، شكّكت في قدرته، على شكله الحالي، لإرساء إيلاف بين الطّرفين، وبرّرت مقولة منتقديه كون الأمر يتجاوز نشاطه الظّاهر إلى مقصد مضمَر، متشابك مع استراتيجيات هيمنة، خاصة وأن الحوار على شكله الحالي، هو فعل كنسي واستجابة إسلامية له، وليس فعلا متوازنا بين الطرفين.

لقد انطلق حوار الكنيسة مع الإسلام بشكل مكثّف، منذ ستّينيات القرن الماضي، في وقت كان فيه العالم الإسلامي مشغولا بتثبيت قدميه، بعد ليل استعمار بغيض. كانت أثناءها قدرات العالم الإسلامي، المعرفية والعلمية متواضعة جدّا، ولا تسمح له بمشاركة فعّالة في صياغة فلسفة الحوار، الذي بادرت الكنيسة الكاثوليكية به، على إثر تسريحها من عقالها بعد المجمع الفاتيكاني الشّهير (1962-1965). لذلك لايزال الحوار في المنظور الإسلامي في بداياته، من حيث تعريفه، وأشكال ممارساته وأدواته، مما أبقى تفعيله غائبا من حيث أغراضه، وجعل الكنيسة متفوقة في جني ثماره. فهو لديها فعل براغماتي، مندرج في مخطّط تبشيري أوسع، أكثر مما يتخيّله العالم الإسلامي مجرّد تفاهم أخوي على أساس وحدة الرّوابط الإبراهيمية. ولكن منذ فترة الثمانينيات من القرن الماضي بدأ يدبّ تحوّل في المجتمعات الإسلامية، وبدت مظاهر وعي ومناعة في الجسد الإسلامي، جعلت الكنيسة تتنبّه أن أسلوبها السّابق ما عاد يسير حسب مرادها.

والواقع أن الحوار، بعيدا عن أغراض توظيفه، قيمة سامية، ولكن بشكله الحالي، المستتبع بعنف رمزي واستعلاء حضاري، يكشف عن خلل بنيوي في التواصل الحضاري وفي مطلب المثاقفة الأصيل. ولذلك لزم التمعّن، في المقاصد العليا التي يحتكم إليها، وفي الموجّهين له، لتبيّن المنطق الذي يسير ضمنه، والمقاصد العليا التي يسير نحوها. فإلحاح الكنيسة الغربية على الحوار، في وقت تعرف فيه الكتلة الإسلامية شيطنة موسّعة، من مؤسّسات "مجتمعات الكنيسة" يدعو للرّيبة. لذا يبدو مشروعا طرح عديد التساؤلات، بشأن هوية الحوار، وسبله، وتفعيل أخلاقياته في النسيج الاجتماعي. فمن مأزق الإسلام الحالي، وبحث أبناء حضارته عن العودة للسّاحة الحضارية، تتولّد إحدى الاختبارات العسيرة للعقل الحواري، والتي تلحّ بالمراجعة الإبستيمية لمعقولية الغرب.

فإحدى مسبّبات أزمة الحوار الجوهرية، تعود بالأساس إلى خطاب الغرب المنفلت والمتنكّر للأخلاقيات الكونية. ففي العقود الأخيرة تشكلّت شراذم، كُلِّفت بمهمّة عرض الإسلام، منها ما أفرزته الكنيسة ومنها ما استصنعه الإعلام، داخل عملية فبركة مستعجلة. يُطلَق عليهم نعت المستعرِبين أو المتخصّصين بالإسلاميات، يتولّون تقديم الإسلام وعرض مواقفه بشكل مغرض، يفتقد للموضوعية والرّصانة. والواقع أن المقاربة الهشّة، المستحدثة مع هؤلاء الوكلاء، الذين أنشأتهم الظّروف الطارئة ولم يقدّهم التمحيص العلمي، استعراضية وغير رصينة، وغالبا ما سممت مناخ المثاقفة بين الحضارتين.

تلك بعض مظاهر الأزمة التي يعاني منها العقل الدّيني الغربي، والخطير فيها أن مؤسّسته الدّينية ناشطة بشكل لافت وفاعل في تحديد توجّهات الغرب السّياسية، في الخارج بالأساس. لذلك إن يبدو التديّن فاترا ويشكو جيش الكهنوت تراجعا، من حيث أعداد الرّهبان والرّاهبات، فإن الاستعاضة عن ذلك النّقص بحضور فاعل على مستوى القرار والتوجيه في السياسات العامة، يبقى إحدى مظاهر قوة المؤسّسة الدّينية الغربية. فهي تستند إلى جيش من العلمانيين واللاّئكيين المأجورين، يعضدهم رجال دين منحدرون من المجتمعات الفقيرة، مسلوبي النفوذ والقرار، يخضعون لنواة المؤسّسة المركزية الغربية. يبقى ذلك الترميم، إحدى مبتكرات الحلّ المستعجل للأزمة المتحكّمة بالمؤسّسة الدّينية في الغرب.



* أستاذ من تونس بجامعة لاسابيينسا بروما.

يمكنكم تحميل الموضوعا مرفقا بالهوماش والاحالات من مكتبة أنفاس او بالنقر هنا.