فرويد والمعنى الخفي للإيمان الديني ـ المختار منودي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

freudاهتم فرويد بمعالجة المعنى الخفي للإيمان الديني ضمن عدد من أبحاثه، لعل أهمها هي: «Totem et Tabou» «Moise et le monothéisme» «L’avenir d’une illusion». وبالنسبة إليه، فإن الخوض في هذا الموضوع يقتضي الرجوع الى المرحلة الطفولية لما تحمله من إحالات على ما نحن في صدد البحث فيه. لابد من الإشارة أولا، الى أن فرويد لم يقم فقط بمناقشة هذه القضية ضمن الأبحاث المذكورة أعلاه وغيرها المهتمة بنقده للحضارة الحالية، بل إننا لنجده يخوض في ذلك ابان دراسته حول ليوناردو دافينشي، بحيث يعلن فرويد في بحثه "ليوناردو دافينشي: دراسة في السيكولوجيا الجنسية" ما يلي:
"لقد علمنا التحليل النفسي الصلة الصحيحة بين عقدة الأب والإيمان بالله، وتبرهن لنا الحياة اليومية كيف يفقد الشبان ايمانهم الديني بمجرد ان تنهار سلطة الأب. ونحن بهذا نميز في العقدة الأبدية جذور الحاجة الدينية، ويظهر لنا الله القدير العادل والطبيعة الرحيمة كإعلاء عظيم للأب والأم، أو بالأحرى كإحياء واستعادة للمفاهيم الطفلية عن كل من الوالدين. وترجع النزعة الدينية من الناحية الحيوية الى الفترة الطويلة من اليأس، وحاجة الطفل الصغير الى المساعدة. فالطفل عندما يكبر ويتحقق من قوى الحياة الهائلة، يدرك ظروفه باعتباره في مرحلة الطفولة، ويحاول ان يخفي يأسه بواسطة احياء نكوصي للقوى الحامية له في الطفولة."

بتعبير اخر: يكشف لنا علم التحليل النفسي عن العلاقة القائمة بين عقدة الأب والاعتقاد الديني، فبانهيار سلطة الأول تنهار سلطة الثاني. إن كل السلوك البشري هو، بالنسبة الى فرويد، محكوم بمبدأ التكرار او الاستعادة: فحسب هذا المبدأ فإننا نصل ابان سير حياتنا العادي الى احياء نزاعاتنا الطفولية المثبتة في لاوعينا والتي تقوم بتشكيل حياتنا العاطفية. "ففيما يخص الحياة النفسية، تشكل عملية صيانة الماضي القاعدة لا الاستثناء الغريب" «Malaise dans la civilisation».
وتؤكد حياة ليوناردو دافينشي ما يثبته التحليل النفسي. وسنعالج الان، مسألة شغف فاوست الإيطالي بالبحث من وجهة نظر التحليل النفسي كمدخل لاستيعاب مفهوم الاعلاء «Sublimation» الوارد في النص أعلاه. فلقد كان دافينشي معروفا بفضول قل نظيره في البحث لدرجة جعلته يلقب بفاوست الايطالي، وبزهد حيال الحياة الجنسية. وتبين الحياة اليومية من خلال الملاحظة وجود اشخاص قادرين على توجيه جزء معين ومحسوس من قواهم الجنسية الدافعة نحو أشكال وأنواع نشاطاتهم المهنية والرياضية والعملية. فمن وجهة نظر التحليل النفسي فإن الباعث الجنسي هو من يقوم بدور المعين على القيام بهذا التوجيه، فهو الذي يقدم القدرة على الاعلاء، أي تحويل الأهداف والمواضيع الأقرب الى أهداف ومواضيع أكثر سموا وعلوا، أي الى اهداف ومواضيع ليست ذات طبيعة جنسية.
إن النموذج البدئي الذي من خلاله تجد الأفكار الدينية أصلها يجد جذوره في الطفولة المبكرة، إنه يتلخص في اليأس. هذه الأخيرة بما هي الحالة الطفولية للاعتماد المطلق، بسبب من لا كفاية ومحدودية الطفل المواجه للعالم وأخطاره، دون ان يملك الطفل القدرة على مواجهته لوحده. وأمام هذه المحنة، وهذا الانطباع المرعب، يشعر الطفل بالحاجة الى أن يكون محميا، مصانا ومحبوبا، وهذه الحاجة هي ما ينهض الوالدين-خاصة الأب-على ضرورة الاستجابة لها. لكن الطفل عندما يصير راشدا يعرف على نحو سريع على ان المحنة تدوم مدى الحياة. إن محنة الراشد ليست الا استمرار وتكرار لمحنة الطفل. من هنا يمكننا ان نستوعب حكم فرويد على الانسان باعتباره مقدر عليه الى الابد ان يظل طفلا.
نصل الى هنا، لنجد أنفسنا مطالبين بتحليل مفهوم فرويدي جد هام في هذا السياق، يتعلق الأمر بتيمة "صعوبة الحياة" «La dureté de la vie». "بالنسبة الى الفرد كما الإنسانية جمعاء، فإن الحياة صعبة التحمل" «L’avenir d’une illusion». "تماما كما فرضت علينا، فإن الحياة صعبة المراس، انها تحاكمنا بكثير من الالام، والاحباطات، والمهام المعقدة." « Malaise dans la civilisation ». إن صعوبة الحياة هي دائما الشرط الأولي الرئيس للشعور بالخوف. من هنا سنجد ان الدين سيقترح على الانسان ترويح عبئه الغريزي، مبرزا له وجه الحماية والمواساة.
يعلن فرويد ما يلي:
"من الفحص التحليلي النفسي للفرد، يبرز جليا وعلى نحو خاص ان إله كل واحد هو صورة لأبيه، وأن الموقف الشخصي لكل واحد فيما يخص الاله يرتبط بموقفه من والده الواقعي، المختلف والمتحول مع هذا الموقف، وأن الله هو من حيث العمق هو أب ذو كرامة أكثر سموا." «Totem et Tabou».
 يعود الدين دائما الى عقدة أوديب، ويفسره فرويد انطلاقا من كونه ألية إسقاطية تعمد على خلق إله انطلاقا من "النواة الأبوية". من هنا فإن الاله هو أب معلى. يلعب العنصر الأبوي إذن دورا عظيما فيما يخص فكرة الله، حيث ان فرويد سيعمل على تفسير تاريخ الأديان انطلاقا من ذلك العنصر، وسنجد ذلك واضحا حالما نتقصى الفصل الثالث من كتابه «Totem et Tabou». ففي حال تأملنا الطوطمية، تلك التي تمثل بالنسبة الى فرويد الشكل المعروف الأولي عن الاعتقاد الديني، ينبغي علينا ان ننظر الى عبادة الطوطم كرمز لتبجيل الأب،-الوجبة الطوطمية تأول باعتبارها تعبيرا عن احياء لوفاق الأبناء غداة وفاة الأب الأصلي-. الطوطم، بمعنى الحيوان المقدس، ليست إلا تمثلا بديلا عن الأب، إنها الشكل الأولي للبديل. وهذه العلاقة الله-أب ستزداد تجذرا ووضوحا مع بروز التوحيد الإلهي «Monothéisme»، بحيث سيتم تصعيد وتعزيز صورة الأب الى اقصى الدرجات الممكنة، وسيصير الاله شخصا واحدا. ومن الان فصاعدا، سيصير من الممكن ان تستعيد علاقة الانسان بالله خصوصية العلاقة القائمة بين الابن والأب. وبشأن التناقض العميق حيال الأب، فإنه لا يعبر عنه من خلال التضحية الطوطمية، وإنما بواسطة هـــــــاجس الخطــــيئة الذي يترجم الشعور الأولي الذي يحياه الابن بالذب حيال الأب. ففي تضحية المسيح يتم التعبير-حسب فرويد-عن سمتين أساسيتين للازدواجية الأوديبية: فمن جهة يمكننا ضبط الشعور بالذنب حيال الأب، ومن جهة ثانية نزعة الابن المتواصلة الى أخذ مكانة أبيه والاستيلاء عليها. (الابن نفسه يصير إلها).
لواضح تمام الوضوح الان، ان العناصر التالية هي ما تمثل الجذور المؤثرة للاعتقاد الديني، يتعلق الأمر أولا بمحنة الطفل الأولية، الحنين الى الأب الذي كان يقوم بوظيفة الحماية للابن، ناهيكم عن القلق والشعور بالذنب الناجم عن السلطة الأبوية. وما ينطبق هنا على أصل الاعتقاد الديني ينطبق أيضا على أصل الالحاد. لقد سبق ل فرويد ان أشار في بحثه الشهير «L’avenir d’une illusion» الى الطبيب الأمريكي الذي فقد ايمانه جراء مقابلته لجثة امرأة عجوز على طاولة التشريح. أول فرويد ما وقع للطبيب الأمريكي على النحو الاتي:
إن مشهد الجثة قد أيقظ عند الطالب ذكرى والدته وجميع العواطف المرتبطة بها، خاصة الثورة ضد الأب. ومن هنا يمكننا ان نستوعب كيف أكد فرويد على ان الرغبة في القضاء على الاب بمقدورها ان تصير على نحو واع شك في وجود الاله.
لقد توصل فرويد الى استنتاج مفاده ان على الإنسانية ان تتخلى بتاتا عن المرحلة الطفولية التي تقتضي التشبث بالحماية الإلهية من اجل المغامرة الشجاعة حتى انتزاع الشخصية الراشدة القادرة على تحقيق مصيرها. أكد فرويد على التربية خاصة التربية المبنية على أساس أكثر المعارف العلمية تطورا لتحقيق هذا الغرض، ولم يكن ليوم واحد مشككا في قدرة العلوم على القيام بهكذا مهام، لقد تصرف على غرار غيره من العلماء، وتمكن من ان يضيء على المعنى الخفي للإيمان الديني من منظور التحليل النفسي مقدما ثمارا غنية لمن يرنوا تقصي الظاهرة الدينية.