شخصية الشباب المغربي وأنماط التدين السائدة في المجتمع ـ محمد الحوش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

jeunesse-abstraمقدمـــــة :
لا يجب أن يرتبط اهتمام السيكولوجيا فقط بتحديد السمات والأنماط التي تميز الشخصية والعمل على تصنيفها بشكل نظري، بل يجب تنزيل تلك السمات والأنماط حسب ظروف تكونها، والتأثيرات المتفاعلة التي تحضر في هذا الصدد بهدف أجرأة حقيقية للمفهوم السيكولوجي للشخصية، ومدى ارتباطه بمواضيع تحضر بشكل ملح في المجتمع الذي نعيشه. ولعل الشباب كظاهرة ما زالت تفاجئ العالم بإنجازاتها وخرجاتها، كان آخرها الثورات التي قادها الشباب نحو تحطيم أعتى الديكتاتوريات التي كانت راسخة في الأنظمة العربية، تستحق المزيد من الدرس والتحليل العلمي والسيكولوجي على وجه الخصوص، بالنظر لفرادتها ولعلاقاتها الخصوصية مع مختلف مواضيع ومفاهيم الوجود. ويبقى التدين كمفهوم وموضوع في آن واحد من المحاور الأساسية التي يجب التدقيق في تحديد علاقة الشباب بها، وذلك من منطلق المحددات الشخصية التي تميز الشباب عموما والشباب المغربي على وجه الخصوص.

نسعى من خلال هذا المقال إلى ملامسة شخصية الشباب المغربي وعلاقتها بأنماط التدين السائدة داخل المجتمع، والمنطلق هنا ليس مدى إبداعية الشباب المغربي في خلق أنماط معينة من التدين ولكن في طبيعة السيرورات التي تبلور خصائص شخصيته، والتي بناءا عليها تتحدد علاقته بأنماط معينة من التدين حاضرة ومحددة سلفا داخل المجتمع المغربي، والتي نقتصر على ثلاثة أنماط رئيسية منها وهي: التدين الرسمي، التدين الشعبي، والتدين الحركي، وطبيعة الأسباب التي تجعل الشباب المغربي ينفتحون على نمط أكثر من غيره بناءا على تفرد شخصياتهم بحسب تكوينها التاريخي وإعادة تكوينها المستمر عبر الزمن أيضا.



1. مدخل نظري لتحديد المفاهيم .

1.1.شخصية الشباب المغربي:

تجتمع ثلاث مفاهيم رئيسية  في هذا المحور، يحتاج كل منها إلى مقاربة خاصة تتوحد فيها عدة مداخل والتي يمكن على ضوئها إعطاء  معنى خاص لكل مفهوم. فتفاعلات الجوانب النفسية والاجتماعية والأنتروبولوجية والتاريخية والمجالية ... هي وحدها القادرة على بناء فهم مقنع لمختلف هذه المفاهيم. ولكن بالنظر لشمولية هذا الطرح وضيق مساحة التدخل والتحليل في الإطار المحصور هنا، سنعتمد على مداخل تبقى إلى حد ما كلاسيكية، ونقصد بها التركيز في فهم وتحليل كل المفاهيم المطروحة "الشخصية"، و"الشباب"، و"المغربي" على المداخل والفروع العلمية التي يظهر أنها قد تفيدنا أكثر في هذا الجانب. فالشخصية يتم تناولها من منظور نفسي خالص بالنظر لما تمت مراكمته من طرف هذا العلم في تحديد وتفسير وتحليل الشخصية بأبعادها المختلفة، وضمان حيز مهم لبلورة مفهوم للشخصية يتناسق وخصوصية كل مجال اجتماعي وثقافي معين. فالشخصية في تعريفها الأوسع هي "نتيجة لتفاعلات مجموعة من العناصر المختلفة، العاطفية الانفعالية، والمعرفية للأفراد، وهذه النتيجة لها خصائص متفردة لكون كل شخصية مستقلة بذاتها"[1]. إن هذا التعريف الواسع للشخصية، وإن كانت تعاريفها متعددة ، يمكن من استحضار جانبين هامين أولهما أن الشخصية ليست مشكًلة كقطب واحد قار وجامد، وثانيهما أن لكل فرد شخصيته تختلف كليا أو جزئيا عن الآخر، ورغم ذلك نستطيع أن نحدد خصائص لشخصيات متشابهة تشترك في مواضيع ميولها أو في تصورات وجودها ورؤيتها للكون.

أما مفهوم الشباب فتختلط استعمالاته بحسب مجال تداوله، فقد يختلط مع المراهقة والبلوغ... وللحسم في هذا الجانب فإن الدراسات وحرصا منها على "دقة المصطلحات العلمية تجعل كل مصطلح من هذه المصطلحات يستعمل في مجال تخصصي معين، فلفظة المراهقة تستخدم في مجال علم النفس، ولفظة البلوغ تستخدم في مجال الفيزيولوجيا والطب، في حين تستخدم لفظة الشباب في المجال الاجتماعي"[2] ، والشباب من الناحية اللغوية يدل على الارتفاع والنماء أما ديموغرافيا "فالشائع هو اعتبار السن ما بين 15 و25 سنة هي مرحلة الشباب، وهو التحديد المعتمد عربيا ودوليا"[3]، لكن الآن ومع التحولات التي عرفتها المجتمعات العالمية والعربية منها على وجه الخصوص بما فيها المجتمع المغربي، قد فرض ضرورة الانتقال إلى معيار آخر لتحديد مرحلة الشباب غير تلك التي كانت سائدة " فخلال الخمسينات أصبح تعبير "زوفري" المحرف عن العامل في اللغة الفرنسية يميز الشاب المغربي العامل والمستقل عن والديه"[4] ، بل وكان أيضا تقييم الشاب في الفترات السابقة يكون "حسب اعتماده على والديه "عامل"، حسب قدرته على الزواج "عزري" أو قدرته على الصيام خلال شهر رمضان، وأيضا على العمل في الحقول... "[5] . إن ما يمكن ملاحظته هو التضارب في تحديد مفهوم الشباب عبر آليات وأوصاف تخص مرحلة معينة من مراحل تطور المجتمع المغربي، دون القدرة على إعطاء تعريف حاسم لهذا المفهوم، ورغم هذه التضاربات فيمكن الاعتماد على كون مرحلة الشباب هي المرحلة المتسمة بالفاعلية في نظرنا، بالقدرة على التجديد، أو على الثورة على النمط السائد بغض النظر عن سماتها القيمية. إن حاجتنا في هذا الصدد ترتبط بتحديد تعريف للشباب في مرحلة العولمة المفجر لابتكارات تجديدية، كما الرائد في قراءة وإعادة القراءة لبنيات فكرية وسلوكية متضمنة داخل المجتمع والتي يظل التدين جزءا رئيسيا منها.

وبالنسبة للمفهوم الثالث " المغربي" فهو مفهوم أكثر إشكالية ، فكيف نستطيع تحديد هذا المفهوم الوصفي حتى باعتماد المقاربة التاريخية المجالية، إذا ما ادعينا أن دورنا هو تلمس تعريف محايد. فالمغرب مجاليا وديموغرافيا هو البلد الذي يبلغ عدد سكانه 34 مليون ومساحته 446,550 كلم مربع. في حين أنه من الناحية التاريخية قد نخضع لا شعوريا للرواية الرسمية التي تؤرخ للفوقي دون التحتي، وللسلطان دون الشعب...، وإذا ما قسنا ذلك التاريخ الموصوف على الواقع الذي نعيش وذلك عبر تخيل مساحة زمنية من خلال عيشنا في المستقبل كشباب لقراءة ما يختلج المجتمع المغربي"الذي نعيش حاضره" فأكيد أن تاريخ الرواية الرسمية سيكون ممجدا لهذه اللحظات المتأزمة التي نعيشها. لكن انضباطا لمجال العرض وضرورة تأطير المفاهيم التي تفرض ذاتها، فإننا سنجمل المفهوم "المغربي" بكونه يتحدد عبر إرادة الأفراد أو الشباب الذين لهم علاقة "بالبلد".

واستخلاصا، إن شخصية الشباب المغربي هي نتيجة لتفاعل كل المعطيات التاريخية والمجالية والاجتماعية والنفسية... التي تتحكم في بلورة رؤية خاصة لدى جيل من أفراد يعترفون بانتمائهم لمجال "مجالي وفكري" مرتبط بالمغرب، يبرزون من خلاله اختلافهم وتفردهم الكلي أو الجزئي عن الأجيال الحاضرة التي تعيش في مجالات مجالية وفكرية لها طابعها المتفرد والخاص، والذي يتحكم بدوره في بنينة رؤاهم الخاصة والمتفردة للكون في شموليته.

2.1 أنماط التدين بالمغرب :

نقصد بالأنماط مختلف الأنواع من البنى الفكرية الرمزية والواقعية المادية  التي تميز نسقا من الأنساق الدينية التي يعتقد معتنقوها بأنها تشكل الحقيقة الوجودية التي تخصهم وتخص الناس والكون. في حين أن التدين هو "الكيفية التي يعيش بها الناس معتقداتهم الدينية في حياتهم اليومية ... وهو يختلف جذريا على المعنى البسيط المتداول الذي يشار به إلى الالتزام بتطبيق التعاليم الدينية والتقيد بأحكامها"[6]، فالتدين إذن هو مختلف المعتقدات والممارسات السائدة لدى فئة معينة، والتي تؤكد على انتمائها إلى مرجعية إسلامية بالخصوص، بل وتدعي صدق اعتقادها. وبالمغرب نجد انتشار العديد من أنماط التدين على مسار السلم، من قطبه الإيجابي إلى السلبي باعتماد مقاربة فاعلية كل نمط  في تعامله مع السلطة والمجتمع. فما هي إذن أهم أنماط التدين بالمغرب؟ وفي أي نمط يستوطن الشباب المغربي أكثر؟

سيتم التركيز على ثلاثة أنماط من التدين التي تحضر بقوة، دون الإدعاء على أنها الموجودة فقط لأن أشكالا أخرى من التدين تبقى حاضرة سواء بالعلن أو التخفي .

أ‌.         التدين الرسمي:

بالنظر للدور الرئيسي الذي يلعبه التدين في خدمة الدولة من خلال إضفاء  مشروعية الوجود عليها بحمايتها لنوع من التدين يتوافق مع مصالحها، في مقابل مواجهة أنواع أخرى من التدين لأنها لا تتفق والمسار العام الذي تسير به وعليه الدولة، أو أنها تنفي عن بعض الممارسات والطقوس الدينية دينيتها. إن التدين الذي تروج له الدولة هو ذلك الذي يخدم مصالحها في البقاء والاستمرارية، والحفاظ لها على سمعتها لدى العامة بحيث تسخر كل الوسائل المادية والرمزية بهدف العمل على نشره بين المواطنين، وإقناعهم بمشروعية وشرعية إشراف الدولة عليه كحامية للدين وقائمة بالدعوة.

ويتجلى الخطاب الديني الرسمي بالمغرب من خلال "التعبير عليه بصيغ دستورية متعددة يمكن التطرق إليها فيما يلي: 1 الصبغة الإسلامية للدولة المغربية،2 الإسلام دين الدولة الرسمي، 3 الملك أمير المؤمنين، 4 قدسية المؤسسة الملكية"[7] . إن هذه الجوانب الأساسية تؤسس لحضور فعلي لنمط مقولب من الدين، يخضع للسياسات العامة للدولة بحيث يتم التسويق له بكونه دين الوسطية والاعتدال الذي يعارض مختلف التيارات التي تدعو إلى التطرف فى مختلف أشكاله، بحيث تحرص على مواجهته أو تظهر المواجهة ضده من خلال مواقف وتشريعات تتجه نحو محاصرته.

بالرغم من المظهر المعتدل والمتماسك للتدين الرسمي بالمغرب فإن الشباب لا يتجهون لاعتناقه وذلك من منطلق كونه يشكل جزءا من السياسة، وليس موجها للسياسة كما يفترض، فالدين في نظرهم يؤسس لمختلف التشريعات والسلوكات.

ب‌.    التدين الشعبي:

لعل هذا النوع من التدين هو الأكثر تغلغلا في بنية المجتمع المغربي، بالنظر لتاريخيته أو كما ترى الدراسات الكولونيالية بأن المغرب لم يعرف إسلاما وإنما عرف "أسلمة" للمعتقدات السائدة الوثنية قبل مجئ الإسلام حسب Edmond Doutté[8]". فتشبع المجتمع المغربي بهذا النمط من التدين من خلال مختلف الطقوس والممارسات، وأيضا المعتقدات التي يتم استحضارها في المخيال الشعبي عبر اصطدام الأجيال بها من خلال "التنشئة الاجتماعية عموما بشكل شفوي من جانب الأم عبر الالتزام بمختلف أشكال الإسلام الشعبي، زيارة الأولياء الارتباط بالزوايا والطرق الصوفية وبقايا المعتقدات السابقة للعصر الإسلامي"[9]. فاصطدام الأطفال في مراحل مبكرة عبر احتكاكهم بالأم بهذا النمط من التدين، يجعل منه الحقيقة الدينية الوحيدة والمطلقة بالرغم مما قد يشيع داخله من تناقضات سواء على مستوى الاعتقاد أو الممارسة.

ويبقى هذا النمط من التدين الأكثر حضورا بالمجتمع المغربي عامة، وإن كان قد عرف تراجعا مهما في أوساط الشباب على الأقل من ناحية رفضه الواعي، بالرغم من أن ممارسات واعتقادات عدة تنتمي إلى مجال هذا النمط من التدين تبقى حاضرة في الأوساط الشبابية.

ج.التدين الحركي:

يتأطر هذا النمط من التدين عبر وجود أشكال مختلفة داخله، خصوصا فيما يرتبط بالعلاقة بين الديني والسياسي. فمن التدين السائد داخل الحركات السلفية والمعتدلة حتى الحركات الجهادية نجد فرقا شاسعا يصل إلى حد تكفير المتدينين بعضهم لبعض، وهذا ما يدل على تعقد ظاهرة التدين المرتبط بالحركات، بالخصوص لدى فئة الشباب التي تشكل عمود هذه الحركات الأساسية. ولفهم كيفية حسم الشباب لنمط تدينهم يجب أولا الحسم في الفروق الفاصلة ما بين مختلف مكونات التدين الحركي، وبالرغم من صعوبة هذا الفعل لكن عموما يمكن حصر الفاعلين في هذا النمط فيما يلي "1- جماعات ذات بعد حركي سياسي "( الحركات الإسلامية : العدل والإحسان، التوحيد والإصلاح، الحركة من أجل الأمة، 2- جماعة الدعوة والتبليغ 3- التيار السلفي التقليدي والجهادي"[10]. فما هي أهم خاصيات وطبيعة تدين هذه الحركات؟

يعد مفهوم السلفية كتيار حركي مفهوما غير واضح بدرجة كبيرة بالنظر لتداخل الدراسات وطغيان التقارير الاستخباراتية حوله، أكثر من اعتماد المنهجية العلمية في تقصي حقائقه، على الرغم من وضوح بعض توجهاته الدينية، لكن يمكن تعريف هذا المفهوم بكونه "دعوة سياسية إيديولوجية تستهدف صياغة الحاضر والمستقبل وفق صورة مثالية متقطعة من الماضي الذي يعتقد أنه أفضل العصور وأولاها بالإقتداء"[11] . فالهدف الأسمى لهذا التيار الذي ينبني نمط تدينه على الدعوة إلى تطبيق الشريعة الأولى الصافية وتنقيتها من الشوائب التي لحقتها جراء اختلاطها مع معتقدات فاسدة لا تنتمي للإسلام الحقيقي في اعتقادهم، ويحضر هذا النمط من التدين لدى الشباب المغربي بشكل متفاوت، ويظهر ذلك خصوصا من خلال الموجة التي اجتاحت المجتمع المغربي خلال الثمانيات، بحيث برزت فئة شبابية تعبر عن توجهها السلفي عبر ما يعرف " باللباس الأفغاني" متأثرة بأوضاع دولية خاصة. لكن أيضا  فحضور هذا النمط من التدين يبقى صريحا في ثنايا المجتمع عبر الجمعيات الدعوية وأشكال تنظيمية أخرى.

ويتأطر التدين الحركي أيضا عبر الحضور الملفت لفاعلين دينيين ولحركات نافذة داخل المجتمع تفرض نمطها الخاص من التدين، والذي يصل إلى مستوى الصراع الخفي أو المعلن في بعض الأحيان مع نمط التدين الرسمي . ونمط التدين الحركي يؤكد حاليا بالمجتمع المغربي على أنه الأقدر على استقطاب أقوى لفئة الشباب سواء في وجهه "المعتدل" أو " المتطرف"، هذا الأخير الذي يتأكد لنا من خلال الحضور الملفت لفئة الشباب في تفجيرات الدار البيضاء 2003 بحيث أن منفذوا العملية "كلهم شباب في مقتبل العمر تتراوح أعمارهم ما بين 19 و 32 سنة ينحدرون من أوساط فقيرة تسكن دور الصفيح والأحياء المهمشة المحرومة من أبسط شروط الحياة الإنسانية الكريمة"[12].

إن الملاحظة الأساسية من خلال ما تقدم هو فاعلية فئة الشباب في مختلف أنماط التدين الموصوفة،  لكن السؤال الذي يطرح هو: كيف يختار الشباب المغربي أنماط تدينهم بناءا على طبيعة شخصياتهم؟ وكيف يمكن تفسير تحول شخصيات الشباب المتبني لنمط معين من التدين واعتناقهم لنمط آخر؟

2 . متغيرات أساسية في تكوين شخصية الشباب المغربي، وعلاقتها بأنماط تدينه :

لقد تم تحديد الشخصية بكونها النتيجة العامة لتفاعلات مختلفة وهذه التفاعلات يتحدد تأثيرها وأيضا طبيعتها من خلال المجال والمتدخلين الذين يؤثرون فيها، وإذا ما اعتبرنا شخصية الشباب المغربي "التقليدي" تتكون عبر سيرورة تنشيئية توافقية وأحادية، أي أن نفس القيم يتلقاها الشباب من مؤسسات التنشئة السائدة آنذاك خصوصا الأسرة والمسيد والجماعة أو المجتمع الصغير، بدون وجود فرصة لهؤلاء الشباب للانفتاح على المجال الخارجي، فإن الشباب المغربي الحالي لم يعد من الممكن التحكم في مصادر تنشئته باستثناء المراحل الأولى في حياته، التي تسيطر فيها الأسرة بالأساس على توجهاته. إذ الشباب المغربي أضحى معرضا لمصادر شتى بل وباحثا عنها من أجل التنشئة الدينية بناءا على قناعاته، وهذه المصادر تتجلى بالأساس في "انفتاح الشباب على وسائط الاتصال والمعرفة الحديثة والقنوات الفضائية والمواقع الدعوية على شبكة الأنترنيت ومتابعة العلماء والدعاة الأجانب خارج الحقل الديني الرسمي"[13]، الذي يحاول تمرير نمطه الديني للشباب عبر تضمين المقررات المدرسية لتوجهاته في هذا الإطار، فتكوين الشباب من الناحية الدينية لم يعد ثنائيا تهيمن فيه مؤسسات الأسرة والمدرسة، بل أضحى تعدديا يعطي حرية أكبر للشباب في اختيار نمط التدين الذي يتوافق وسمات شخصيته المتفردة.

ويمكن إجمال أهم التحولات والمتغيرات الفاعلة في تحديد شخصية الشباب المغربي في:

ـ التغيرات والتحولات الطارئة على مؤسسات التنشئة الاجتماعية، الأسرة بالخصوص حيث تقلص دورها "كخلية بشرية تسمو وتترفع عن أن تكون مجرد واجهة اقتصادية أو سلطة أبوية أو نفوذ ديني"[14] ، لصالح مؤسسات أخرى لا يمكن التحكم في موادها الفكرية وحضورها القوي خصوصا المؤسسات الإعلامية، وقدرة الشباب على مشاهدة كل الفاعلين الدينيين المغاربة منهم والأجانب بحرية تامة تبعا لقناعاتهم الشخصية.

ـ قوة حضور المؤسسة الإعلامية الدينية واختلاف خطاباتها بحسب نمط تدين المشرفين عليها وعدم القدرة على التحكم في موادها أو توجيهها.

ـ غياب التجديد والتطوير في المجال الديني المرتبط بالتدين الشعبي خصوصا، الذي يصطدم به الشباب في المراحل الأولى لحياتهم ما يدفعهم إلى تبني أنماط أخرى أكثر انفتاحا وتطورا.

ـ فاعلية الشباب المرتبط وقدرته على المبادرة والاختيار والفعل وأيضا امتلاكه للجرأة على تغيير نمط تدينه من نمط إلى آخر.

ـ ويمكن أيضا القول بقدرة الشباب "المعولم" في علاقته بالتدين بصفة عامة على قبوله بالمتناقضات أو المناورة بينها.

تظل هذه إذن بعضا من العوامل الموضوعية والذاتية التي تلعب دورا أساسيا في بناء شخصية الشباب المغربي، وبالتالي تحدد طبيعة تصرفاته العامة وأيضا خصائص أنماط تدينه. فما هي أهم هذه الخصائص؟

إن الأفراد وبالنظر للتنشئة الاجتماعية التي تلقوها يبقى الماضي حاضرا في أذهانهم، بما في ذلك الماضي الديني الذي تعاملوا معه خلال الطفولة، وذلك في توافق تام مع طبيعة شخصياتهم الطفولية، وبضغط التعزيز الأسري الذي يعيشون في ظله، لكن بعد استقلال شخصياتهم وتحكمهم إلى حد ما في ضوابط استكمال تكوينها يلاحظ أن هناك " مساندة الشباب للحركات الإسلامية، ما يعبر عن تنامي النزعات الفردية داخل الأسر باعتماد قيم دينية بديلة"[15]، وهذا ما يعبر عنه التعامل مع التدين لدى الشباب المغربي كشكل من أشكال الاحتجاج على القيم الدينية المترسبة في الأسرة والتي تكون لها علاقة في الغالب بنمط التدين الشعبي، وأيضا على القيم الدينية التي يتم تلقينها داخل المدرسة بهدف توجيه الشعور الديني للأفراد  نحو نمط التدين الرسمي، لكن الشباب بدورهم يناورون نحو اختيار نمط التدين الذي يوافق خصوصيات شخصياتهم، وهذا ما يوفره في الغالب نمط التدين الحركي الذي يعطي فرصة التجديد للشباب وأيضا عدم الانسياق التام وراء الآراء السياسية والدينية للدولة الرسمية

خلاصة

أن ما يحدد النظرة إلى الكون بصفة عامة، كأشمل علاقة تربط بين الإنسان ومختلف المواضيع هي الخصائص والمميزات المتفردة لشخصيته، هذه الشخصية التي تتطبع بدورها بتأثيرات وتفاعلات ذاتية وموضوعية مختلفة، وعلى نفس القاعدة فإن علاقة الشباب المغربي بالتدين تتحدد بناءا، أولا، على أنماط التدين السائدة داخل المجتمع، التي تناولنا منها على الخصوص كلا من التدين الرسمي، والتدين الشعبي، ثم التدين الحركي. وثانيا بحسب خصائص شخصية الشباب المغربي ومدى وجود آفاق مفتوحة توفر لهم استغلال إمكاناته وقدراته بهدف السيطرة على الذات وتطويرها في سبيل اتخاذ القرارات التي تخصه. وقد لخصنا في هذا الموضوع عدة عوامل ترتبط بعدم قدرة التنشئة التقليدية على مواصلة الضبط الذي تمارسه على الشباب، وأيضا عدم قدرة الفاعلين في مجال التدين الرسمي والشعبي على تطوير هذه الأنماط والتعالي بها إلى ما فوق ترويجها فقط لخدمة مصالحها بهدف إقناع الشباب باعتناقها، مع ترك المجال مفتوحا أمام الشباب لاختيار أنماط أخرى تتوافق وخصوصيات تكون شخصياتهم المتسمة بالانفتاح على مصادر أخرى في المجال الديني، والفاعلة أيضا في مستوى نقد معطياتها وأيضا تجديدها.                                                                                                                                                           

 

الإحالات :
[1] Guelfi.J .D(2002) ; in les troubles de la personnalité, André féline et al ; Médecine sciences Flammarion ; p.3

[2]  أوزي أحمد(2006)، المعجم الموسوعي لعلوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، ص.170-171 .

[3]  حجازي مصطفي(2011)، ضمن مجلة علوم التربية، العدد 50 دجنبر 2011، ص.9 .

[4]  سعيد الناصري(2009)، في مجلة وجهة نظر، عدد 39 السنة 11، ص.38 .

[5]  المرجع السابق، ص.38 .

[6]  منديب عبدالغني(2006)، الدين والمجتمع دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب،افريقيا الشرق المغرب، ص.7 .

[7]  سليم حميمنات، في مجلة وجهة نظر، عدد 39 السنة 11، ص.8 .

[8]   أنظر. السحر والدين في إفريقيا الشمالية،إدمون دوطي، ترجمة فريد الزاهي، منشورات مرسم 2008 .

[9]  الناصري سعيد، مرجع سابق،ص.38 .

[10]  عبد الرحمان الشعيري منظور(2009)، في مجلة وجهة  نظر، عدد 39 السنة 11، ص.40 .

[11]  أبو اللوز(2009)، في مجلة وجهة نظر، عدد 39 السنة 11، ص.27 .

[12]  عبد الودود خربوش(2009)، سيكولوجية المتطرف الانتحاري، في مجلة علوم التربية، عدد 39 يناير 2009، ص.38 .

[13]  سعيد الناصري، مرجع سابق، ص.38 .

[14]  أحرشاو الغالي(2009)، الطفل بين الأسرة والمدرسة،منشورات علوم التربية 19، ص.27 .

[15]  سعيد الناصري، مرجع سابق، ص.38 .

المراجـع:

·        أحرشاو الغالي(2009)، الطفل بين الأسرة والمدرسة،منشورات علوم التربية- 19، الطبعة الأولى.

·        أوزي أحمد(2006)، المعجم الموسوعي لعلوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة.

·        ايكلمان ديل،الإسلام في المغرب، ترجمة محمد أعفيف(1989)،           دارتوبقال للنشر، الطبعة الأولى.

·        حجازي مصطفى(2006)، الإنسان المهدور:دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي بيروت، الطبعة الثانية .

·        حجازي مصطفى، الشباب العربي والتحولات الثقافية، في، مجلة علوم التربية، العدد 50- دجنبر 2011 .

·        خربوش عبد الودود، سيكولوجية المتطرف الانتحاري، في، مجلة علوم التربية، العدد 39- يناير 2009 .

·        دوطي إدمون، السحر والدين في إفريقيا الشمالية، ترجمة فريد الزاهي(2008)، منشورات مرسم، الطبعة الأولى .          

·        مجلة وجهة نظر(إسلامات المغرب المتعدد)، عدد 39 شتاء 2009-السنة الحادية عشر.

·        مجلة وجهة نظر(اللاهثون وراء السراب)، عدد 51 شتاء 2011-السنة السادسة عشر.

·        منديب عبدالغني(2006)، الدين والمجتمع:دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب، إفريقيا الشرق المغرب.
André Féline et al(2006) ; Les troubles de la personnalité ; Médecine