الشخصية في المنظور الإسلامي ـ إيناس بن سليم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ABST-psycholيجدُ الباحث في مفهوم الشخصية من المنظور الإسلامي تباينا في وجهات نظر الدّارسين والمهتمين بهذا الشأن،  حيث إن هناك من يعترض أساساً على استخدام تسمية (الشخّصية)، ويرى أن الأنسب من وجهة النظر الإسلامية استخدام تسمية (الذات الإنسانية) لأنها أدق في التعبير عن طبيعة الإنسان. 
وهناك باحث يُشير – على استحياء- إلى أن علماء المسلمين الأوائل ابتعدوا عن الخوض في دراسة الشخصية لغلبة ظنهم بأن الروح والنفس من الأمور الإلهية ومن ثم أمسكوا عن اقتحام مجهولها امتثالا للآية الكريمة " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " الإسراء -85.
ومن الباحثين من يرى " أن استخدام كلمة النفس في القرآن الكريم لا تعني الروح بل تعني الشخصية الإنسانية ".
إلى آخر يعلل عدم وجود تعريف واضح للشخصية كما نجده عند علماء الغرب بقوله:" لم يكتب لعلم النفّس أن يأخذ حظّه وينمو  ويترعرع أو ينصهر في بوتقة العلوم الإسلامية لزمن طويل.. وقرون عديدة، كما أخذت بعض العلوم كالفلسفة والفقه والرّياضيات وعلم الفلك "، ولعلّه من الأنسب قبل الخوض في تعريف الشخصية ومفهومها في المنظور الإسلامي أن نتوقف قليلاً عند العقلية العربية منذ عصر الجاهليّة لنسّلط الضوء على تصور الإنسان في تلك البيئة التي بزغ فيها نور الإسلام ليبدّل ما فيها من تصوّرات لاشك أن الإنسان أهم عنصر من عناصرها.


فقد كانت العقلية العربية الجاهلية لا تتصّور الإنسان إلا جزءا من كل يدور في إطار العصبية القبلية، يذوب فيها الفرد وتختفي ملامحه، فتتشابه مع ملامح الآخرين ليصبح أفراد القبيلة نسخا يطابق بعضها البعض، ولا تعترف بقيمة الفرد إلا في إطار من رابطة التراحم وعلاقات القربى، في إطارها القريب أوّلاً ثم البعيد ثانياً، بناء على تقديس الجدّ المشترك لهؤلاء الأفراد. وظلّت هذه النظرة إلى الروابط المعشريّة  عالية القيمة وإن تجاوزت إطار القبيلة الواحدة إلى أفق أوسع قليلاً، لكنها ظلت لا تتفهم الشخصية الإنسانية  على أنها ذات مستقلة في معناها العام، فأباحت تلك النظرة تفضيل العربي الحرّ على الأعجمي الذي يجوز استرقاقة، متماثلة في ذلك مع النظرة الأثينية لمواطنيها الأحرار، ودّلت كلمة أعجمي على ما دلت عليه كلمة (برابرة) لدى الرّومان، عند نظرتهم إلى الشعوب الأخرى مثل (الغاليين  والسيثيين  والبارثيين  والأفارقة).
حتىّ جاء الإسلام فبدّل هذه النظرة القاصرة بنظرة أعم وأشمل تبنى على القرابة الرّوحية حيث تذوب كل صلات القرابة من عائلية وقبلية ووطنية في بوتقة واحدة يصبح فيها المسلم مساويا للآخرين، فتبنى شخصية في إطار "وأن هذه أمتكم أمة واحدة ". سورة المؤمنون – الآية 52.
      وأكدت السّنة النبوية على ذلك فقال صلى الله عليه وسلّم: "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ".
وإذا حاولنا العثور على شخصية المسلم، عبر استعمال كلمة (شخصية) كما في مفهومها الحديث لا نجد لها ذكراً نصياً، بينما هي موجودة في منظومة الفكر الإسلامي وجوداً مكثفاً عبر بعض الألفاظ التي لها مساس بمفهوم الشخّصية مثل كلمة (فرد) التي جعل منها القرآن الكريم محوراً مهماً في الخطاب الدّيني،
يعكس أهميته الشّخصية، فالفرد في الرؤية الإسلامية مخوّل في أمور الحياة الدنيا يصرّفها كيف يشاء فإما إلى الخير وإما إلى الشر، ومن ثم فهو محاسب بموجب هذا التخويل قال تعالى: ﴿ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة، وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم  وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطّع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون﴾. سورة الأنعام – الآية 95.
ولتأكيد دلالة الفردّية على معنى الشخصّية التي أهم أبعادها البعد الاجتماعي بمكوناته المتعددة من مال وولد وحسب ونسب،  يصوّر القرآن الكريم مشهداً من مشاهد القيامة يبلور فيه الفرد بمدلول الشخصيّة فيقول عز من قائل: ﴿أفرأيت الذي كفر بآيتنا وقال لأوتين مالاً وولداً. أطلّع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداّ كلاّ سنكتب ما يقول ونمدّ له من العذاب مدّا. ونرثه ما يقول ويأتينا يوم القيامة فردا.﴾ سورة مريم – الآية 78-81.
وفي مشهد آخر يشير القرآن الكريم إلى هذا البعد الاجتماعي وأهميّة بناء الشخصية الإسلامية من خلال التعبير بالفرد الدّال على الشخص وما يكمن في ذلك من إشارة إلى أهمية البنية الاجتماعية ودورها في بناء شخصية الفرد وذلك في قوله تعالى: ﴿وزكريا إذ نادى ربّه  ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين. فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين﴾  سورة الأنبياء – الآية 89-90.
ومن الألفاظ التي لها مساس بمفهوم الشخصية كلمة (وجه) حيث دلّت على معنى الشّخص عبر مجموعة من الدّلالات حملتها هذه الكلمة، ودّل عليها النسق القرآني الكريم عندما عبّر عن الذات الإلهية فقال عزّ من قائل " وللّه المشرق والمغرب فأينما توّلوا فثم وجه اللّه إن الله واسع عليم ". سورة البقرة - الآية115.
وهو الاستعمال نفسه الذي أطلقه القرآن الكريم على الشّخص البشري، فقال تعالى ﴿بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربّه ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون﴾. سورة البقرة -الآية112.
وفي السّنة النبوية ما يحمّل الوجه الدلالة على القلب الذي هو مناط الشّخصية فيقول صلى الله عليه وسلم: " لتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفَنَّ اللهُ بين وجوهكم " وهذا من باب الكناية عن اختلاف القلوب  فالاستعمال القرآني هنا يتجاوز المدلول اللغوي لكلمة شخص ويشحنها بدلالات أكبر بوصف الوجه أبرز ما في الإنسان وأشرفه، إذ يحوي الوجه أدوات الإدراك الفاعلة: من العينين وسيلة الرّؤية البصرية، وهما وسيلة للتواصل المعنوي أحيانا وتنقلان كثيراً من المشاعر الشّخصية التي يصعب على اللسان إيصالها، إلى الأنف الذي يرمز للعزّة والكرامة، واتخذت منه اللّغة اشتقاقات كثيرة تعززّ معنى الشّخصية وتميزّها بصفات تحسب لها أو عليها مثل (الأنَفَة) و(أنِف من العار) و (رغم أنفه)  فيقال:" رجلٌ حميّ الأنف إذا كان أنِفاً يأنف أن يضام ". وصولا إلى اللّسان أداة الإبانة والبيان، ولا ريب في دلالته القويّة على معنى الشخّصية حيث دلّ على معنى اللغة بأسرها، وكان يطلق على الشّخص الذي يتحدث باسم القوم، وقد وصفه القرآن الكريم بوصف تكتمل به الشخصية المتميزة فقال عزّ من قائل: ﴿واجعل لي لسان صدق في الآخرين﴾. سورة الشعراء – الآية84.
ومن دلالاته على كمال الشخصّية قولهم: " رجل لسنٌ بيّن اللّسن إذا كان ذا بيان وفصاحة ".  وللوجوه عموماً دلالة قوّية على الظهور كما في المعجم الوسيط " الوجه من المسألة: ما ظهر لك منها... و رجل ذو وجهين: يلقى هذا بوجه وذاك بوجه." وفي هذا من تحديد ملامح الشخصية ما فيه، مما يدل دلالة قوية على الاشتراك في المدلول بين الوجه والشخصّية.
وفي هذا من تحديد ملامح الشخصية ما فيه، مما يدل دلالة قوية على الاشتراك في المدلول بين الوجه والشخصية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأخصائية النفسية : إيناس بن سليم

ماجستير علم نفس -  الجامعة الإسلامية العالمية – ماليزيا .
المراجع :
*ينظر: د. علاء القبانجي، معالم علم النفس في القرآن، http://www.nlpnote.com    بتاريخ  23-1  2011.

* رواة جابر بن عبد الله، حديث صحيح، الألباني، محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيئ من فقهها (مكتبة المعارف، ط.1، د.ت)، ص 2700.
*ينظر:  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ص20.
 رواه النعمان بن بشير، حديث صحيح، البخاري: محمد بن اسماعيل، الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسننه وأيامه،  تحقيق: محب الدين الخطيب (القاهرة: المكتبة السلفية، ط1، 1400هـ)، ص717.
* ينظر: لسان العرب: مادة أنف.
* ينظر: لسان العرب: مادة: لسن.
*  ينظر: الوسيط مادة وجه.