التعصب ـ حميد بن خيبش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ac-abstrفي كتابه (الهوية و العنف) يستعرض الفيلسوف الهندي " أمارتيا صن" تجربة مريرة مع التعصب الذي يضيق بهوية الآخر ومعتقده .فيحكي عن مشاهد الذبح المروعة التي رافقت أحداث الشغب بين الهندوس و المسلمين في أربعينات القرن الماضي ,و الذهول الذي اعتراه وهو يُتابع الاقتتال بين فئتين وحدهما الانتماءُ الطبقي وفرقتهما الهويةُ الدينية . وفي معرض تحليله لبواعث التعصب يكشف الكاتب النقاب عن تورط النظريات و الفلسفات الحديثة في تغذية الشعوربالاستعلاء من خلال الزج بالناس في صناديق هوية انفرادية ,و النظر للكائن البشري لا باعتباره شخصا متعدد الهويات , وإنما في الغالب كعضو في جماعة ذات هوية فريدة ," وهو ما يشطب بجرة قلم الأهمية البالغة التأثير لتآلفـاتنا ومشاركاتنا المتنوعة و الشعبية " (1) .


غير أن الطرح الفكري المسوغ للتعصب في العصر الحديث لا يعني أن هذه الظاهرة طارئة على السلوك الإنساني , بل هي ملازمة له ولصيقة بالحياة الاجتماعية وبمقتضيات التنافس بين الأمم و الجماعات .
يُمثل التعصب تعبيرا عن " الانتماء الزائد إلى الجماعة التي ينتسب إليها المرء , و الارتباط الذي يصل إلى حد الاستعباد التام للآخرين أوكراهيتهم أو التعالي عليهم (2) . إلا أن عبارة "الانتماء الزائد" قد لا تحيل بالضرورة على مدلول سلبي للتعصب إلا إذا بلغ حد المساس بحرية الآخر ووجوده.بمعنى أنه كغيره من صفات النفس , لها حد اعتدال وطرفا إفراط وتفريط كما قال بذلك جمال الدين الأفغاني , ف "اعتداله هو الكمال .. و التفريط فيه يتداعى بسببه بناء الأمة إلى الانحلال , وتبطل هيئتها وإن بقيت آحادها فما هي إلا كالأجزاء المتناثرة .أما الإفراط فيه فمذمة تبعث على الجور و الاعتداء" (3) .
وبدورها تكشف المعالجة النفسية للتعصب عن جوانب خفية لهذا الانفلات الذي يُطيح بكل مقومات التعايش المشترك .فالعقلية التعصبية عند فرويد مثلا تتحدد بثلاث صفات : النرجسية , و القدرة الكلية , و الإسقاط : "فالنرجسية توهمه بأنه الوحيد على حق دائما , والقدرة الكلية لفكرته يتوصل بها إلى تغيير العالم سحريا و اجتلاب الفردوس , و الإسقاط يُريحه من شبهات الضعف والقصور البشري " (4) لكن فرويد يشترط لتفسير التعصب ضرورة الإحاطة باللحظة الثقافية للحضارة التي يزدهر فيها التعصب , وهي لحظة غالبا ما تتسم بتراجع القيم و المُثل ,واشتداد وطأة الجروح النفسية مما يحفز على الانجذاب صوب التنظيمات و التجمعات التعصبية سواء كانت دينية أو إثنية أو علمانية :" إن الذين يلتحقون بحركة تعصبية إنما يجتذبهم أفق تغيير ما لا سيما الأمل بتحويل مفاجيء لظروف حياتهم ; لإن مثال التغيير هذا , الديني , والقومي أو الاجتماعي , لا فرق , هو الذي يربط بين أفراد الجماعة ببعضهم " (5) .
تقودنا إذن اللحظة الثقافية التي أشار إليها فرويد إلى ضرورة الحديث عن سمات المتعصب , وعن الحد الفاصل بين الحركة التعصبية , وتلك التي تدافع عن موقف أو قضية عادلة ! ويُمكن إجمال هذه السمات كالآتي :
- إن المتعصب لا يشعر بالأمن إلا في منظومة تعصبية تمنحه القوة , وتوهمه بالاصطفاء و العصمة وكل أشكال الاستعلاء على البشر.

- إن التمرد الذي يجيش بداخله يستفز ملكاته الإجرامية , وفي الآن ذاته يُرسخ في أعماقه قناعات ملتبسة بشرعية انتهاكه للقوانين و النظم الاجتماعية . بل ويدفعه اليقين الزائف بصحة أفكاره إلى إطلاق غرائزه , وتحرير هوسه تحت مسمى قيم بديلة !

- تفضيله لعالم مثالي منغلق على واقعه البشري يحد من قدرته على الإنصات للاعتراضات الموجهة له , وعلى قبوله بنقاش علمي لقناعاته وتصوراته , لأن ذلك يؤدي حتما إلى اضطراب كيانه , واهتزاز تماسكه الداخلي .وقد يفرض عليه التخلي عن وهم السطوة , والعودة إلى دوره الحقيقي في الجماعة البشرية .وحتى في حال قبوله بها فإن الغاية عنده هي إظهار أفكاره ليس إلا !

- انتماؤه لمنظومة تعصبية يُوجه تفكيره صوب تأكيد ذاته . إلا أنه , وبخلاف الفرد العادي , لا يميل إلى إظهار مواهبه و امتيازاته الشخصية و شحذ ملكاته , بل يعتبر أن تأكيد الذات رهين بتفوقه في إلحاق الأذى بالغير .فتكون قسوته وعدوانيته وبراعته في الهدم شواهد على ولائه المتفرد لجماعته , و رسوخ إيمانه بجدوى ما يقترفه !

تُحيلنا هذه السمات على فروق دقيقة بين المتعصب وبين من يُدافع عن أرضه وكيانه . كما تكشف لنا حقيقة التوظيف المغرض لمقولات التعصب و التطرف و التزمت في الخطاب السياسي و الإعلامي لسحب غطاء الشرعية عن حركات مقاومة الاحتلال و استرداد الكرامة و الهوية .

هكذا إذن يؤدي التعصب إلى اختزال الكائن البشري في هوية منغلقة و أحيانا آثـمة !
هوية تنسف قيم التعايش و التفاعل الإنساني , وتحيل البلد الآمن إلى جاليات دينية و عرقية تؤكد حضورها عبر تغييب قسري للآخر , وتُمارس وجودها من خلال نفيه , أو على الأقل إسقاطه من قائمة الاعتبارات الإنسانية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : أمارتيا صن : الهوية و العنف .منشورات المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب .الكويت . 2008 . ص 176 وما بعدها (2) : د.فؤاد زكريا : التعصب من زاوية جدلية .مقال ضمن كتاب أضواء على التعصب لمجموعة من المؤلفين .دار أمواج للطباعة و النشر .ط1 1993 .ص 159
(3) : أضواء على التعصب .ص 29
(4) : أندريه هاينال و آخرون : سيكولوجية التعصب . ترجمة خليل أحمد خليل . دار الساقي ط1 1990. ص 18
(5) : نفس المرجع. ص 70

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟