ازوليني و فرويد - نورالدين بوخصيبي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاس نتلا شك أن المرء يندهش إزاء هذا التأثير الكبير الذي مارسه رائد التحليل النفسي سيجموند فرويد على العديد من التجارب السينمائية العالمية، مما اعتبر بحق حافزا فعليا لبلورة مسارات سينمائية متعددة و متباينة، ليس بأوروبا وحدها، و لكن عبر مختلف أرجاء العالم الفسيح.
نقف هنا عند تجربة السينمائي الإيطالي الكبير و المتميز بيير باولو بازوليني ( 1922- 1975) لنرى كيف يبرز الحضور القوي و المؤكد للطبيب النمساوي الشهير في قلب المسار السينمائي لهذا الفنان الاستثنائي.
عن سينما بازوليني
لا يجد المنظر السينمائي دومنيك نوجيز ، اذ كان من أشد مناصري السينما التجريبية أو المغايرة، من تعبير ملائم لرصد التجربة السينمائية لبازوليني غير مصطلح "السنطور" الذي يعني كائنا خرافيا نصفه فرس و نصفه الثاني إنسان. لماذا هذا التشبيه بالسنطور؟ ببساطة لأن بازوليني هو من السينمائيين القلائل جدا الذين تمكنوا من التوليف بمهارة إبداعية نادرة بين الأدب و السينما. إنه، و هو في هذا شبيه بالسينمائي الفرنسي ألان روب غرييه  و جان كوكتو، من الكتاب الذين غدت السينما لديهم طبيعة ثانية، و مع ذلك ظلوا كتابا خلف الكاميرا، فعبر السينما، يواصل بازوليني تحقيق نزوعه الأدبي، و الأهم من ذلك أنه ينتهي بإنجاز روايات كتابتها و بنيتها سينمائيتان. ( نوجيز – السينما المغايرة).

أكثر من ذلك إن بازوليني هو السينمائي المعاصر الذي تساءل بشكل دائم عن طبيعة اللغة السينمائية كما عن خصوصية علاماتها المتميزة عن العلامات اللسانية. و يذهب البعض إلى القول بأنه أول إيطالي ، و من أوائل المنظرين في العالم، الذين أكدوا على أن دراسة اللغة السينمائية لا يمكنها أن تتغاضى عن العلاقة بالسيميوطيقا. و هذا التأكيد هو الذي يفتتح به نصه سينما الشعر الذي يتضمن بالقوة كل نصوصه الأخرى.
لا يعني ذلك أن إبداعات بازوليني هي إبداعات مغالية في التجريد كما قد يتبادر إلى الذهن من مقولة سينما الشعر التي تبناها بازوليني و دافع عنها. عكس ذلك، إن ما يتبين عند مشاهدة أفلامه، أن سينما الشعر هذه، تراهن أكثر من السينما السردية التقليدية على الطابع الأيقوني، العيني و الملموس للعلامات السينمائية.  من هنا هذا الافتتان الملحوظ في سينما بازوليني بالوجوه، بالأجساد، افتتان يمنع الأفلام الأكثر رمزية لديه من أن تكون أفلاما غير مجسدة.
و يمكن القول إن الانتماء السياسي و الإيديولوجي لبازوليني هو ما جعل أفلامه تنأى عن التجريد المضخم، ذلك أنه كان حريصا كل الحرص على التعبير عن الواقع المزري للبروليتاريا الإيطالية في وقته، و الحياة الشاقة القاسية للفلاحين كما في أفلامه "الشحاذ" (1961) ، و "ماما روما "  (1962) و "المسيح في إنجيل متى" 1964))، و هكذا مثلما كان بازوليني يجمع بذكاء بين السينما و الأدب، فقد كان يجمع أيضا بين الأصالة و المعاصرة.
كان اهتمام بازوليني بالقضايا المعاصرة يسير جنبا إلى جنب مع اهتمامه بالحياة البدائية و الدين و الخرافة، كما يتضح ذلك خصوصا في رائعته أوديب ملكا. ( لغة الصورة في السينما الحديثة – ترجمة سعيد عبد المحسن).
و مثلما كان بازوليني مناصرا للماركسية، فقد كان بالمثل مناصرا للمسيحية. و يكمن أحد أسباب عدائه للبورجوازية في كونها تمضي نحو تكريس هيمنتها عبر نزع الطابع القدسي عن العالم. و حين يحضر المسيح في فيلم "المسيح في إنجيل متى"، فباعتباره ثوريا يمشي عبر أحياء البلدة ليدفع الجماهير كي تناضل ضد أوضاعها المزرية.
بازوليني .. فرويد أية علاقة؟

في مقالة له كتبها للجريدة الإيطالية "إلجيورنو" مباشرة بعدما أعاد قراءة كتاب مؤسس التحليل النفسي سجموند فرويد خمس تحليلات، يعترف بازوليني في مقدمتها بما يلي: "قرأت كل كتابات فرويد في بولونيا (مدينة إيطالية هي مسقط رأس بازوليني) قبل عشرين سنة من الآن. أي قبل بلوغه سن العشرين. و يضيف: إنه حدث أساسي في ثقافتي و حياتي".  معنى ذلك أن الفرويدية ليست بالنسبة لبازوليني مسألة ثقافية فحسب، إنها فوق ذلك مسألة حياة. إن فرويد يعطي لحياة بازوليني معنى و دلالة.
هذه العلاقة أفرزت هوسا قويا لدى بازوليني بإنجاز تحليل ذاتي على غرار ما قام به فرويد. تحليل ذاتي نجده في حوارات بازوليني  و في كل خطابه المكتوب و السينمائي. تحليل يشمل أهم عناصر و مكونات التحليل النفسي. مثال ذلك أن بازوليني يصف عقدة أوديب بإرجاعها أو بربطها بذكريات كان لها تأثير الصدمة عليه ، أو بأحلامه في مرحلة الطفولة. أبوه الذي يثبته على مائدة المطبخ لكي يصب القطرة على عينيه. الحرقة التي تعميه في نفس اللحظة التي تكون فيها أمه على وشك إنجاب أخيه. الأحلام التي يرى فيها أمه ميتة. و أخيرا أولى عذابات الحب الجنسي أو الخاص الذي كان يكنه لأبيه حوالي السن الثالثة.
هذا الاستحضار لذكريات ماضية و لمعانيها التحليلية، استمر يتطور خلال كل حياة بازوليني. من ذلك مثلا ما صرح به من أنه لم يكتشف إلا حوالي سنة 1968
(في السادسة و الأربعين من عمره)، الحب الخاص الذي كان يكنه لأبيه في سن الثانية أو الثالثة، فحتى ذلك الحين لم يكن على وعي إلا بما كان يكنه له من حقد شديد.
فيلم أوديب ملكا
"من لم يشاهد هذا الفيلم عشر مرات لم يشاهده، و من لم يشاهده لم يشاهد أي شيء". هذه العبارة التي يختتم بها دومنيك نوجيز مقالة له حول فيلم "أوديب ملكا"، تحمل، رغم صيغتها المبالغة التي تعكس مدى حب الناقد للفيلم و لصاحبه، تحمل دلالات متعددة أهمها اندراج الشريط ضمن مسار مدمر للمتعارف عليه، و للنمطية السائدة في الفن السابع فاتحا بذلك آفاق جديدة لسينما مغايرة بإطلاق.
و ما يهمنا بخصوص هذا الفيلم المستلهم من تحفة المسرح اليوناني الشهيرة بنفس العنوان، أنه من الأفلام النادرة التي انبثقت عن حب حقيقي لفرويد، وأنه يندرج في إطار تحليل ذاتي ما دام بازوليني يسعى من خلاله إلى أن يكون سيميولوجي حياته الخاصة. إنه يعيد كتابة طفولته الخاصة مثلما أعاد فرويد كتابة طفولته و طفولة الآخرين. إنه عبارة عن سيرة ذاتية للمخرج تستند إلى قراءة فرويد الخاصة لأسطورة أوديب.سيرة ذاتية منفلتة من عقال اليومي و الضيق، نحو العوالم الرحبة للأسطورة و الحلم. و الأسطوري إذ يحضر في الفيلم ، فليس فقط لأجل إضاءة الواقع، ولكن أيضا و ربما أساسا لأجل التشويش عليه ، و العكس أيضا صحيح.
يستعين بازوليني بفرويد لينتشل الأسطورة من سياقها الأصلي، و ليزج بها ضمن سياقات أرحب، يحقق من خلالها السينمائي اكبر قدر من الحرية في قراءته المنفتحة للتجارب الواقعية الحية. معناه ببساطة أن فرويد لا يحضر في نص بازوليني كضامن للحقيقة، أو من موقع الدعامة العلمية لمنتوجه الفني و موقفه الثقافي و الإبداعي، و إنما كدعامة ما للمتاهة الحلمية. سند ما للضياع بين الأروقة اللامتناهية لحلم عنيد و فسيح. ذلك أن أصالة بازوليني هي أساسا في قدرته التركيبية الهائلة، قدرة مسنودة بحرية تحويلية تجعل الأزمنة و الأمكنة المتباعدة حاضرة بكل زخمها الفني الرائع.