الإبداع والجنون ... اسطرة المدن اللا مرئية - حيدر قاسم الحجامي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

جنونالجنون فنون " هكذا هو المثل الشهير ، يسأل احد ما  هل العكس صحيح  أيضا ؟. ربما.. ! لان الفاعل والعامل والمحرك لتلك الطاقة الكبرى  غير  المألوفة  ( الجنون  الإبداعي )  التي تتفجر من ريشة رسام عظيم أو قلم شاعر ما  أو  تحرك مخيال قاص أو روائي أو تستفز  ممثل موهوب  ، هي طاقة فوق العادة  .

...ما هو الجنون ... ؟ هو الخروج عن المألوف والإتيان بشيء خارج المتعارف ، البوح بكلمات غير مفهومة القيام بتصرفات غريبة ! الضحك في وقت الحزن ، الحزن عندما يضحك  الجميع ، الصمت حين يكون مطلوب منك الكلام ... انك بجنونك تكسر كل قواعد وأنظمة هذا العالم من حولك  ... تتصرفُ وكأنك  وحدك ، لا تسخر من نفسك قدر ما تسخر من الآخرين ...  يعني تبتكر َ أسلوبا ومنهجاً مغايراً لتعيش غريباً  ، محيطاً نفسك بالغموض القسري ناشراً  ذرات من الغبار حولك .
الجنون  "ظاهرة ثقافية اجتماعية وليس بالمعنى الحصري للمرض" كما يقول مشيل فوكو ، البعض يفسره ميتافيزيقيا  انه ُ مرتبط بما وراء الطبيعية  ، حيث ُ أنها  سطوة "الجن " على شخص ما ليفقدوه عقله ويستبدلوه  بعقل أخر  ، البعض يقول أنها نوبات وشحنات تجعل صاحبها يفقدُ السيطرة على زمام جسده المرتخي ، فتعبثُ به الروح ليصير كدمية بيد طفل مشاكس يقلبه تحت نوبات رغبتهِ الجامحة دون إن يشعر بالآلام تلك الروح المحبوسة في إطار هذا الجسد ( الدمية )  .

الجنون حالة اقترنت بالعقل ، فهي لوثة تصيب عقل الآدمي فتخرجه عن حظيرة الجماعة ، ليكون شاذاً عنهم ، يعيش أخيلة وتصورات بعيدة عن الواقع  ، لكنه يبقى في دائرة ضوء اجتماعية ترصد تصرفاته وسكناته ِ، في فترات  الحروب يزداد عدد هولاء المجانين ، لكن المفاجئ والغريب إن بعضهم كانوا يحملون شهادات عليا  ، ترى هل هي طريقة مثلى للخلاص من الموت ، أم انهُ موت أخر للخلاص من الحياة .! .

الإبداع حالة شاذة أيضا مقترنة بالعقل ، فهي تميز صاحبها عن الجماعة البشرية تجعله يقوم بأفعال وتصرفات غريبة ، ويعش حساً منفرداً ، ويبحث عن لحظة ليفرغ تلك النوبات التي تكاد تخنق أنفاسه ، أنها مزيج من القلق والشك والريبة والهوس (أليست  تلك علامات الجنون ) .!  ولكنه الجنون الخلاق .

في مرة روى احد الأطباء النفسانيين إن امرأة جاءت شاكية حالة زوجها " الشاعر " فقد كان يهلوس وهو نائم ويقول الشعر إثناء استغراقه في النوم ويتحدث بأشياء غريبة .!  مما يجعلها فزعة وخائفة منه فقد يكون مسه الجن .! ،  فهذه النوبات تكرر باستمرار لدى هذا الشخص وكم نسمع من مبدعين أنهم طالما استيقظوا من نومهم باتجاه الكتابة ليفرغوا شحنة من إبداعهم دونما يعلموا سبب هذا الفعل ..!.

وماهية الطاقة التي حركتهم للقيام بفعل الكتابة ، العملية معقدة وتحتاج الى تفكيك ، فما بين الجنون والإبداع ثمة خط رفيع  ،لذا ترى المبدع دائماً ما يكون مهوساً ، شكوكاً ، قلقاً ، متذبذباً ، تصيبه نوبات الغضب ، يبدو كأن  طفلا بداخله ِ  هو من  يحركه ُ.
هنا يشترك الإبداع والجنون بأنهما يمثلان حالة من الانسلاخ من السائد والخروج على كل ما هو طبيعي الى فضاء متمرد ، المبدع والمجنون يمارسان  أفعالا قد لا يعانها   لكنهما يتقنانها كما يقول الفيلسوف الفرنسي ديارو ( آه .ما اكبر العلاقة بين العبقري والمجنون .! فكلاهما يتميز بميزات خارقة للعادة إما باتجاه الخير أو باتجاه الشر فالمجنون يسجن في المصح العقلي والعبقري نرفع له التماثيل )  .
إن اقتران الإبداع بالجنون ثقافة متأصلة في الواقع الأدبي والثقافي "العربي"   حتى إن هناك شواهد تاريخية تدلل على  إن العرب مثلاً كانت تنعت الشعراء بأنهم ممسوسون من الجن، وتدور الراويات حول ذهاب أرواحهم الهائمة  الى وادي عبقر حيث   شياطين الشعر هناك  ، وحتى نجد اقتران الشعراء بالجنون في القران الكريم ولكنها ليست إلا إشارة الى ذلك الاعتقاد السائد  ، فقريش قرنت الرسول الكريم (ص)  بالجنون لأنه أتاهم  بكلام يشبه الشعر أو ابلغ منه {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }الصافات36وكانوا يرفضون التصديق لأنهم يعتقدون إن القرآن الكريم إيحاءات مجنونة وكلام شعري الُهم به الرسول (ص)  ، وحاشا لله   .

في واحدة من صداقاتي العجيبة وتحديداً عام 2002 م ظهر في حياتي شاب نحيل ، بوجه شاحب ،  ظل يتردد على مكاني الذي كنتُ  اعمل ُ فيه ، لم أكن اعلم انه " مجنون " لكنني استغربتُ حديثهِ الطويل عن  الكائنات الغريبة التي كان يراها تهبط كل مساء من السماء ، صحون طائرة وأشخاص خارقون ينزلون قرب البساتين التي تحيط بمسكنه  ، وكان يعدد بعضاً من أسماء غريبة ، ويعطي بعضهم رتباً ، غير انه ُ كان يكثر الحديث عن الكابتن " مكسيم " كما كان يسميه ، كنتُ صغيراً وكانت تشدني أحاديث هذا الشاب ، فهو يحلق ُ بي في فضاء عجيب ويجعلني أصغي إليه ِ بتلذذ ، وهو يروي لي بعضاً من مصادفاته مع اؤلئك  القادمون الى الأرض ..!  رآهم مرة  يحفرون الخنادق ويقومون بنصب أجهزة تحكم ومراقبة على جذوع  النخيل ..!
ويسرد لي كثيراً من هذه ِ الحكايات عن اؤلئك الغزاة ..! حين استذكر اليوم ما يرويه صديقي "المجنون "اسأل ترى هل كانت نبؤة متقدمة لما جرى في وقت لاحق . !!

العجيب إن صاحبي كان "يرطن"  باللغة الانجليزية وبطلاقة حتى انهُ ذات مرة احضر معه رواية انجليزية واخذ يقرأ فيها وانأ اضغي ولا افهم منها شيئاً !
عرفتُ لاحقاً من احد أقربائه ِ إن هذا الشاب اسمه احمد وهو طالب متميز دراسيا  وحاد الذكاء وعندما كان في الصف  السادس العلمي أصيب فجأة ، وشك أهله حينها انهُ أصيب بالحسد أو  لربما " بالسحر " ولكنهم عجزوا عن إيجاد شفاء لهذه الحالة ..وبقي يعاني  ..الى إن تركت العمل ولم اعد أراه منذ أعوام ..!
احمد واحد من كثيرين شاهدتهم دفعني فضولي  إن اتسائل هل للذكاء الحاد علاقة بالجنون .!  أم هي ضريبة النبوغ ؟ .
ثم كيف يستطيع شخص فقد "عقله " حسب التوصيف الاجتماعي السائد الإتيان بتلك الإحداث والوقائع وروايتها لي وكأنه يشاهدها إمامه ..!
الأمر يبدو كذلك فالعباقرة كانوا يعانون اضطراباً نفسياً  حاداً نتيجة لحدة ذكائهم ووعيهم المبكر    ، تلك المميزات  التي تفتق في واقعهم ثقباً ليدخلوا  الى مدن لا مرئية ، أنهم يعيشون جنوناً من نوع أخر ويحاولون التغلب عليه من خلال تلك القدرة على الإنتاج الإبداعي المبتكر ، فكل اؤلئك الذين ارتبطت أسمائهم بالإبداع كانوا يعيشون نوبات من القلق والريبة وفقدان الصلة بالجماعة البشرية التي يعيشون ضمنها ، كانوا يميلون الى الانعزال والتفرد ، ليتفرغوا لعمل مضني وجهد استثنائي يقومون به   ، لكن محاولاتهم المتعددة للخلاص من كابوس هذا الجنون المثير تبوء بالفشل ، فسرعان ما يبحثون عن حلول ممكنة وعملية لإنهاء هذا الصراع الدامي المدمر وهذا هو عامل مهم في استمرار شعلة الإبداع متوهجة ، فلو توصل هولاء المبدعين الى اليقين التام والرضى عن أنفسهم ونتاجهم لتوقفوا عن الإبداع ورجعوا أناسا عاديين .

يمكن للمتتبع إن يرصد أيضا  حالة النزق الشديد التي يعانيها اؤلئك ، فهم سرعان ما يغيرون قناعاتهم وأرائهم ، وتبدو أرائهم في بعض الحالات متطرفة  ، لكنهم يتراجعون بعد فترة من الزمن  ، وهكذا دواليك وقد يصل الأمر بالمبدع الى الجنون الحقيقي كما حصل لنيتشه الذي قضى أخر أيامه مجنوناً  ـ بل يتعدى هذا الاضطراب النفسي حدوده ليدفع المبدع الى إنهاء حياته منتحراً كما حصل للكاتبة الروائية فرجينا وولف وجاك لندن ، وفالتر هازنكليفر ،و كورت توخولسكي ، وآرثر كوستلر. وستيفان زفايج وجورج تراكل وأرنست تولر وأرنست همنغواي ، ورومان جاري، ومايكو فسكي ومارتا لنيش و جين آمري وعربياً أيضا القائمة تطول فمنهم خليل حاوي ومحمد رجائي عليش وعبد الباسط الصوفي وإبراهيم زايز ومهدي الراضي  ، وغيرهم المئات من الشعراء والكتاب والمبدعين في شتى المجالات فقد أحصت الشاعرة والمترجمة جمانة حداد 150 شاعراً من مختلف بلدان العالم 1، أقدموا على الانتحار نتيجة لاضطرابات نفسية حادة أو لهواجس أحاطت بهم فلم يفلحوا في الهروب من قبضتها    .

قد لا تنجح مقاربة الجنون والإبداع من حيث الظاهر لكننا في الجوهر قد نكتشف إن هذا الأديب وهذا الفنان يعيش الجنون حتى وان بدى أكثر اتزاناً من المجنون العادي الذي تبدو عليه إمارات الجنون واضحة عيانية ،فهما
يشتركان في إنهما يحركان لاوعيهما كما  يقول الدكتور هاشم صالح (  العبقرية والجنون من مصدر واحد ، أي يصدران من اللا وعي السحيق للفرد ، ذلك اللا وعي الذي يمثل قارة مظلمة ومجهولة معاً أنها تشبه البركان  العميق الذي يختلج تحت طبقات الأرض الجيولوجية ، فأحيانا تقذف بالعبقرية الى السطح ، وأحيانا تقذف الهذيان والجنون .) 2 .

هامش
*1- سيجيء الموت وله عيناك /جمانه حداد
*2-  العبقرية والجنون د. هاشم صالح