الموت فرويديّاً اذا كنت تحتمل الحياة ، فلتستعد للموت - عبدالستار الكفيري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse.orgعلى خلاف التفسير الديني الذي يرى ان "الموت" هو النهاية الحتمية للإنسان التي ستفضي إلى الحياة البرزخية والخلود السرمدي في الحياة الآخرة ثواباً أوعقاباً ، فان سيجموند فرويد ، الأب الروحي لتيار التحليل النفسي الحديث ، والمعروف عنه مباهاته بالإلحاد ، قد أفرد لموضوعة الموت فصلاً كاملاً في مؤلفه الهام "الحب والحرب والحضارة والموت" ، وهو من المؤلفات المتأخرة التي أنجزها فرويد في حياته. وليست المصادفات هي ما دفع بسليل العائلة اليهودية ذات الأصل النمساوي التي ينحدر منها فرويد ، إلى تلمس ما تنطوي عليه أعماق الإنسان ، بل إن تأثره بالميراث المعرفي الذي خلفته ثورة كوبرنيكوس وداروين ، والثورة الجنسية التي أحدثتها أطروحات كرافت ايبنج وهافلوك ايليس ، والتي ترى في الجنس الأُس الذي تتأسس عليه الحياة الإنسانية ، مستفيداً منها في أبحاثه التي وقفت على قيمة الحياة الجنسية في تعليل المرض العصابي ، من دون أن ينكر طبعاً أن عائلته وشبكة علاقاته الأولية هي ما حرّضه على محاولة سبر النفس الإنسانية ، وكشف ما تضمره وتستبطنه من أسرار وألغاز .
 
   والموت من وجهة نظر فرويد نفسه هو شيء طبيعي , لا يمكن إنكاره أو الإفلات منه , لكننا كثيراً ما نفكر بالموت باعتباره موت الآخرين , من دون أن نراعي أن الموت هو موتنا نحن , هذا ما يقرره فرويد بشكل قاطع  في بداية هذا الفصل , لكن المفارقة قد تتجلى عند كثير ممن يناوئون منهج فرويد المادي على ما يبدو فيما يطرحه , في كون الموت هو النهاية الضرورية للحياة , وأن كل واحد منا مدين للطبيعة , وينبغي أن يتوقع أنه في يوم من الأيام سيوفي الدَّين .  
    لكن هذا لا يعني بأي حال أن فرويد قد تحوّل على حين غرّة إلى شيخٍ أو قسيس , لأن فرويد يربأ بنفسه عن الاعتماد على نصوص مطلقة منزهه وخالصة , تقول الحقيقة دفعة ً واحدة , دون أن تترك للعقل فرصة للشك والتأمل والبحث .

فرويد الفيلسوف يقف من الموت موقفا إنسانيا نبيلا , وهو ممن يرون في فكرة موت الآلاف في نفس الوقت فكرة بشعة جداً , لذا فانه يناوئ الحروب التي تواجه الإنسان بالموت , وتجبره على الاعتراف والإقرار به , لأن الناس لا يموتون في الحروب بالآحاد , بل بالعشرات في وقت واحد ,  لكننا – طبقاً لفرويد - لا ننظر نفس النظرة لموت شخص واحد , و لربما كان شعورنا تجاهه شعور المعجبين بشخص استطاع أن ينجز أمراً شاقاً وينتهي منه , ونحن نؤجل نقده , ونتجاوز أخطائه , ونهتف قائلين رحمه الله , ونجد في هذا التعبير ما يبرر استعادة محاسنه , وذكر ما ينفع ذكراه .
 
    لذا فان الفقد وحجم الخسارة الذي يخلّفه الموت فينا ما هو سوى شعور إنساني خالص , بصرف النظر عن المرجعيات المعرفية والثقافية التي تؤسس وجهات ومسارات التفكير لدينا , وفرويد نفسه يتفّهم النظرة التقليدية للموت , التي تقول بأن احترامنا للميت أعز علينا من الحقيقة التي نعرفها عنه , بل أن هذا الاحترام بالنسبة لمعظمنا لهو أعز علينا من اعتبارنا للأحياء .
 
   إن هذه النظرة التقليدية للموت كما يذهب فرويد لتبلغ ذورتها عند إنسان اليوم المتحضر فيما نشهده من انهيار تام نُصاب به كلما اختطف الموت شخصاً نحبه , كأن يكون أحد الوالدين أو زوجاً أو أخاً أو أختاً أو صديقاً عزيزاً , فنحس كما لو أن الآمال التي نجيش بها , والكبرياء الذي يملأنا , والسعادة التي تغمرنا , كلها قد دفنت في القبر معه , ولن يعزينا فيه شيء , ولن يعوضنا عنه أحد , ونتصرف كما لو كنا غير متحضرين ننتمي للقبائل الهمجية التي كانت إذا مات أحد أفرادها حكمت على أحبائه بالموت .
 
  
  وكأن فرويد يعاين الموت من موقع الحرص على الحياة والتمسك بها , على الرغم مما يخلّفه من أثر عميق على حياتنا , فعندما نشعر بأن أعز ما في الحياة , وهو الحياة ذاتها , مُعرض ٌ للخطر , فان الحياة تفقد ثراءها , ولن تثير اهتمامنا بحسب فرويد , ونحن نباعد بيننا وبين الخطر , ولا نعرّض أنفسنا إليه , لأننا نعلم مدى حبّ الآخرين لنا , ومدى ما يمكن أن يصابوا بحزن علينا , ولذلك أيضاً فنحن نبعد الخطر عن أحباءنا , ولا نقوى على التفكير فيما يمكن أن تفعله الأم بدون ابنها , والزوجة بلا زوجها , والأطفال من غير أبيهم , فيما لو حلّت بهم كارثة , ولهذا فأن المرء يميل الى استبعاد شبح الموت عن تفكيره , والى إسقاطه من حساباته , والمهم عنده هو أن يستمر في الإبحار , ولا يهم بعدها إن عاش أو مات !!.   
 
 
   بيد أن الموت لا ينبغي أن يترك للجزع والكمد سبيلاً لنهش إرادة البقاء فينا , وأن يحاصر ما تبقى من أنفاس تصلح لإبداع الحياة في حيّزها الذي تمنحنا إياه  , وهذا خلاصة ما أراد فرويد إيصاله , لذا فهو يطالبنا أن نجهد في تعويض أنفسنا عن هذا الإجداب في الحياة , بأن نصوغ عالماً من الأدب , سواء في الرواية أو المسرح , نصوّر فيه شخصيات تعيش الحياة ولا تخشى الموت , وتعرف كيف تختار المنية التي تناسبها , وأخرى لا تخشى الموت , بل تختاره لغيرها , وفي الأدب وحده يمكن أن نواجه الموت بأن ندخل كل تجارب الحياة , ونخرج منها سالمين , لم تصب حياتنا منها بأذى .
 
 
   فرويد يقف بعد ذلك عند الموقف المتناقض الذي اعترى الإنسان البدائي من الموت , وهو موقفٌ ملفتٌ كما يصفه فرويد , إذ أن الإنسان البدائي لم يكن ينظر إلى الموت نظرة جدّية , وكان يسلّم بأنه نهاية الحياة , ويتعامل معه بهذه الصفة , ولكنه من ناحية أخرى كان ينكره ويسقطه من حساباته , ويرجع هذا التناقض إلى التضارب في مواقفه من موت الآخرين والأغراب ومن موته هو نفسه كما يزعم فرويد , إذ لم يكن لديه أدنى اعتراض في أن يموت الآخرين طالما أنه يكرههم , وهذا معناه إزالتهم من الوجود , وفي نفس الوقت لم يكن يخطر بباله أنه سيموت حقاً , لأنه ليس  من السهل أن يتقبل فكرة موته ,  لذا فان عليه أن يواجه هذين الموقفين المتناقضين معاً , ومما يمكن أن ينتج عنهما من أثر على حياته , فلم يكن سهلاً عليه أن يثكل زوجاً أو أخاً أو صديقاً أو أي أحدٍ من ذويه , لأنه لن يتقبل فكرة فقده بسهولة , لأن الحب – بحسب فرويد - ليس وقفاً علينا وحدنا ( يقصد الإنسان المتحضر ) , ولكنه قديمٌ قدم شهوة القتل , والسبب الذي يُرجع إليه فرويد هذا الموقف عند الإنسان البدائي هو أن هذا الإنسان يستدمج من يحبّه في أناه , ويعتبره جزءا من نفسه التي يحبها , وهنا يمكن أن نعثر على التفسير السيكولوجي الذي يقول بازدواجية الشعور الذي ما يزال يحكم علاقاتنا العاطفية حتى اليوم , ولكنه كان أوسع تطبيقاً في المجتمعات البدائية .
 
    فرويد لا يعتبر أن لغز الموت كما يزعم الفلاسفة كان بداية التفكير الفلسفي عند الإنسان البدائي , لأن هؤلاء الفلاسفة لم يولوا دوافع الموت العناية الواجبة , إذا أن الإنسان البدائي لم يكن وهو يرمق جثة عدوه المطروحة إلى جواره يعيره أدنى تفكير في هذا اللغز , لكنه كان يزهو بما حقق من انتصار , في حين كانت تتضارب المشاعر في داخله إزاء موت من يحب , لكنه لم يكن معنيّاً بحقيقة الموت , وهذا ما جعله يرفض أن يعترف به بشكل كامل , لذا فقد تحايل على فكرة الموت , وأقنع نفسه بموقف متوسط , فقد تقبل الموت كحقيقة , وأقر بموته هو نفسه , لكنه رفض أن يعترف بأن الموت نهاية الحياة , منع أنه طبقاً لفرويد ما كان ينبغي له أن يتوصل إلى هذه النتيجة , لأن عدم الاقرار بأنه نهاية الحياة معناه أنه ليس نهاية الحياة بالنسبة لعدوه أيضاً .
 
    لكن ما يجعل المرء يتساءل في موقف فرويد من الفلاسفة الذين عاصروه وسبقوه , ممن تبنوا فكرة ميلاد التفكير الفلسفي عند الإنسان البدائي من واقعة الموت  , هو ما ذهب إليه فرويد نفسه في ذات النص , والذي يقول فيه : ولقد أمعن البدائي التأمل في جثمان فقيده الغالي , وتولدت لديه فكرة الروح , وخرج منها بفكرة الخلود , وتفجر عنده الإحساس بالذنب أو جزءٌ كبيرٌ منه , فالواقع أن الشعور بالذنب يضرب بجذوره إلى أعمق من ذلك , بل لقد تولّد لديه , أكثر من ذلك , أول تفكير في الأخلاق , وكان تفكيراً غامضاً , وكانت أول وأهم المحظورات الخلقية التي ذهب إليها ضميره المتيقظ " انك لن تقتل " , لينشأ تحريم القتل , كرد فعل ضد شعور الكراهية الذي أشبعه , والذي أحس به يكمن متستراً خلف الأسى الذي كان يعتمل في نفسه على فقيده الغالي , ليمتد رد الفعل ضد شعور الكراهية ليشمل كل الأغراب ثم الأعداء " . 
 
 
   وعلى الرغم من ذلك , فان فرويد أنجز تنظيراً سيكولوجياً , أذا صحّ التعبير لواقعة الموت , والتي يخلص فيها إلى كون الإنسان المعاصر لا يعرف أن الموت طائله لا محالة , لذا فانه يعيش بمعزل عن التفكير عنه , وهو في هذا يشاطر الإنسان البدائي في تفكيره , وأن الزعم بأن  الحضارة بموقفها التقليدي من الموت , التي تدّعي أنها نقلت الإنسان من البداوة إلى المدنية , وغيرت نظرته إلى الموت , قد كذّبته الحروب وفضحت زيفه , وكشفت عن البدائية التي يستدخلها الإنسان المعاصر في أعماقه , وتدفعه للتصرف كبطل لا يعترف بالموت , ويرى في موت غيره انتصاراً له , وبهذا فانه يخلص إلى اعتبار انه من الأوفق لو أننا نظرنا إلى الموت النظرة الواقعية التي ينبغي أن ننظر إليه بها , والأفكار التي ينبغي أن تكون لنا عنه , وأن نروّض أنفسنا أكثر على موقف اللاشعور من الموت , ولو فعلنا هذا لكان ما نطالب به انجازاً حقيقياً , لأنه يجعل الحياة أكثر احتمالاً , ومهما حاولنا التمويه على أنفسنا , فلن يفيدنا ذلك في شيء طالما أنه يجعل الحياة أشق احتمالاً . ولنذكر المثل القديم : إذا كنت تريد السلم , فلتستعد للحرب , ولقد حان الوقت أن تقوله بشكلٍ آخر : إذا كنت تحتمل الحياة , فلتستعد للموت .