الخجـــل ج1 – بيير داكو – ترجمة : رشيد أمعاز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

dal14.jpgحالة السيد جاك كنموذج
يدخل الأستاذ جاك إلى قاعة الانتظار الفخمة بمقر الإذاعة،يلقي نظرة قلقة على الساعة ،إنها السابعة و النصف مساء.
على الساعة الثامنة ،سيقدم جاك عبر الإذاعة أول عروضه الأربعة...بعد نصف ساعة إذن.
أصبح لهذا الحيز الزمني معنى لا منته، معنى لوضعية لا خلاص منها إلا بالهرب... يشعر جاك بهذا الحيز من الزمن و هو يتضاءل...إلى أن يحل الحدث الرهيب.
يصعد جاك في المصعد ،و يأخذ مكانه في قاعة الانتظار ،يجلس و الساعة تشير إلى السابعة و خمس و ثلاثين دقيقة ،يفرك أطراف أصابعه المتعرقة ،إنه خائف يرتعش و الخجل يشل حركته ...
تشير الساعة الحائطية إلى السابعة و أربعين دقيقة ،معلنة انسياب الثواني دون شفقة ، مما يزيد جاك توترا و قلقا .يمر المشرفون على البرامج و يلقون التحية، و يتحدثون معه حديثا عاما، إلا أن صوته يظل خافتا و غير واضح، فكيف سيكون عليه الحال عندما سيجد نفسه أمام الميكروفون ؟... يجلس مرة أخرى ،و الخوف يتملكه أكثر من ذي قبل.
عند الساعة السابعة و خمسين دقيقة ،كان جاك قد وقف و جلس لمرات عديدة ،يجفف يديه المتعرقتين و الآخذتين في الارتعاش.
مخيلته لا تكاد تهدأ مستبقة فعله ،مما يشعره أكثر بالضيق ، فهو لم ير الميكروفون من قبل ليجد نفسه الآن أمامه و الآلاف من الناس سيكونون في الاستماع إليه،ليسخروا من أبسط خطأ قد يرتكبه ، بسبب الخجل الذي يسيطر عليه بشكل يبقى معه الارتجال مستحيلا.
على الساعة السابعة و خمس و خمسين دقيقة ، اقترب المذيع من جاك الذي أحس بانقباض مفاجئ و بطنين في أذنيه،لأن الحدث أصبح أقرب مما كان عليه من ذي قبل ، مما جعل ضيف الإذاعة في حال لا يحسد عليه.
"تفضل معي يا سيدي"

في خضم هذا الخدر و الفتور الذي يتملك جاك ،سيظهر ما يدعو للإثارة:المذيع في حقيقة الأمر مذيعة ! إنها امرأة ! المرأة التي يرتبك أمامها جاك...ستكون أمامه ليصبح موضوع ملاحظة...
اعتراه خوف مفاجئ جعله يفكر في الهرب و الانسحاب ، سبق له أن كان على نفس الحال خلال عشاء عندما قلب صحن سرطان البحر على المائدة بسبب توتره و خجله .
الخوف من الفشل الذر يع و من الهزء المبين يشل كل قدراته ،لأنه لم يستطع أن يتخيل نفسه يوما يخاطب المستمعين عبر الميكروفون ...كما لم ينجح في حضور حفل العشاء...
يشعر جاك الآن بأنه يسير و يجلس ،كما يفعل الإنسان الآلي.لم يعد يحتفظ بشيء يذكر من النص الذي حفظ عن ظهر قلب ،و لم يعد بإمكانه الانسحاب .
يتضاءل صوت الموسيقى شيئا فشيئا إلى أن تلاشى تماما ،ليحين دور جاك الذي لم يعد بإمكانه أن يتحرك أو ينهض من مكانه حتى يتخلص من توتره الشديد.
"أعزائي المستمعين، إليكم الآن..."
ينتاب جاك شعور غريب ، كما لو أنه سيلقي بنفسه في الماء .يلقي التحية عبر الميكروفون بصوت حاد و مفاجئ بغية التخفيف من حدة توتره.
بدت له عباراته الأولى خارجة عن وعيه ...أخذ يركز نظره على النص بعناد و دون أمل ، و أخذ يقرأه دون أن يعي مضمونه.
هكذا ستلعب العوامل المسببة للخجل دورها بشكل فعال:الميكروفون، المستمعون و المذيعة... ليصبح جاك تحت إلحاح رغبة رهيبة : أن يجول بعينيه في كل مكان ، ليرفع بعد ذلك عينيه دون أن يرفع رأسه ... ثم ينظر إلى المذيعة التي تثبت نظرها عليه ، و هي تبتسم ابتسامة اعتبرها جاك سخرية.
أصبح جاك تحت سلطة عنصر واحد مسبب للخجل ، إنه المذيعة ! بقي لجاك أن يقرأ صفحتين ، لكن يديه ترتعشان أكثر فأكثر ،و أصبح صوته أقل حدة .فجأة يقفز على الصفحتين دفعة واحدة، و دون أي رابط ليقرأ الجملة الأخيرة من النص:"عمتم مساء أعزائي المستمعين !"...
لقد انتصر عليه الخوف ليحس بعد ذلك بنوع من الاسترخاء و الإعياء. لقد انتهى كل شيء فخرج مهزوما و هو يدرك تماما أنه لن يعاود الرجوع إلى الأستوديو.
ما هو الخجل ؟
يبدو تعريف الخجل مستحيلا، لأن الخجول يطفح بعناصر غاية في التعقيد، و لأن هناك أنواعا من الخجل بقدر ما هناك أنواع من الناس الخجولين...
يمكن أن نميز بين : الخجول بكل ما تحمله الكلمة من معنى و بين الخجول "الكبير" ، إضافة إلى الخجول الذي يشل الخجل كل إمكاناته و يمحو شخصيته بالكامل.
هنا تحضر العوامل المسببة للخجل (الجنس الآخر، السلطة ؟...إذا كانت هذه الأخيرة هي السبب في الخجل ،فما شكلها ؟دينية ؟اجتماعية؟فنية ؟ و هل يعاني الشخص من خجل عرضي أم دائم ؟) هكذا يظهر أن الفحص السيكولوجي للخجول يجب أن يكون معمقا و شاملا، كما أن أسباب الخجل ينبغي أن تحدد بتأن و حذر و دقة. فهل هذه الأسباب عائلية، اجتماعية، دينية، جنسية أم جسدية ؟هل الشخص خجول لأنه عاطفي بشكل كبير،أم لأنه عكس ذلك ؟
إذا حاولنا تعريف الخجل، فسنذكر ميزة مشتركة يتقاسمها كل الخجولين: الخجل استعداد عاطفي و وجداني يتكشف خلال علاقات الخجول بالآخرين، إنه مرض وظيفي،يتمظهر من خلال عدم تكيف يكون إما مزمنا أو عرضيا.
ما هي العلامات المشتركة بين الذين يعانون من الخجل؟
العلامات الفيزيولوجية:
اضطرابات إفرازية(التعرق،خصوصا على مستوى الأطراف،جفاف الفم،....)
تمدد الأوعية الدموية،مما يفضي إلى احمرار الوجه،أو تقلصها مما يجعل الوجه شاحبا.
في بعض الأحيان اضطراب على مستوى الكلام و التنفس،تشنج على مستوى القفص الصدري،و تلعثم و تقطع في التنفس و في الصوت الذي قد يصبح أحيانا غير مسموع .
 ضعف التحكم في الحركات الإرادية.
ارتعاش الأصابع.
 انقباض على مستوى القلب.
 بعد "أزمة الخجل" ،يحس الخجول بإعياء و فتور و انهيار.
 
العلامات السيكولوجية:
و هي كثيرة،يمكن رصد العلامات المشتركة:
ــ عدم وضوح الرؤية و انحسار مجال الوعي الذي يبقى تحت وطأة الظرف المسبب للخجل،فلا يعي الخجول ما يحيط به (كما هو الحال بالنسبة لجاك المحاضر الذي لم يقرأ بعض الفقرات من النص).
ـ غياب رد الفعل السريع بسبب الشلل الذي يجمد إمكاناته العقلية(فيبدو هذا الخجول كبليد بالرغم من أنه قد يكون على قدر كبير من الذكاء على قدر كبير من الذكاء)  
في المقابل ،ينتبه الخجول إلى الظرف المسبب للخجل بشكل كبير لدرجة أنه يدرك تفاصيله الدقيقة ليلي ذلك نوع من الاجترار الذهني الذي لا يكاد يتوقف.
ـ الخوف ،و الإحساس باضطهاد داخلي و باختناق،مما يدفع الخجول إلى الهروب جزئيا (كما هو الحال بالنسبة لجاك الذي قفز على بعض صفحات النص) أو الهروب الكلي و في الحالتين يعيش الخجول حالة من الخوف تشل قدراته العقلية.
ـ رفض الخجول مواجهة وضعية مسببة للخجل(كرفضه حضور اجتماع مثلا،رفضه الدخول إلى السينما لحظة الاستراحة،رفضه لقاء في مقهى،ترتيبه للأمور بشكل يجعله يصل بعد الشخص الذي التزم معه بموعد،حتى لا يلفي نفسه مضطرا للمناداة على النادل...)
ـ هذا الخوف المسبق يسبب مشاكل جسدية:زكام متوهم بسبب تمدد الأوعية الدموية،آلام في الأمعاء،آلام على مستوى القلب...
هكذا يصبح الخجل جذعا تتفرع عنه أغصان كثيرة من بينها:الإحساس بالذنب،عقاب الذات...
متى يظهر الخجل بشكل ملحوظ؟
عندما يعيش الشخص منذ طفولته نمط حياة غير عادي...
حالات سائدة:
الأطفال الذين يكونون تحت الحماية المبالغ فيها من طرف الآباء الذين يعتقدون أنهم بذلك يخدمون أبناءهم،فينوبون عنهم في اتخاذ القرارات.
الأطفال الذين يعيشون في محيط اجتماعي راشد،مما يؤثر سلبا على عملية نضجه(كما هو الشأن بالنسبة لليتيم المتبنى من طرف شخص مسن).
الطفل المحبط بسبب الحرمان العاطفي.
الطفل المحبط بسبب غياب التفهم(و ذلك بالنسبة للطفل "المثالي" مع والديه "الماديين").
الطفل الذي يرزح تحت هيمنة أحد والديه أوكليهما،فيرفضان كل إرادة مخالفة لإرادتهما.
الطفل الذي ما ينفك أبوه يعتقد أنه ذكي لدرجة تقتضي أن يقدر ابنه هذا "الذكاء".

حالات محدودة:
"أصبحت خجولة لأنني حولاء..."
"أصبحت خجولة لأنني أعتقد أن الناس ينظرون إلى أنفي الطويل..."
"أصبحت خجولا بسبب قامتي الصغيرة..."
"أصبحت خجولة لأن شعري أحمر..."
"أصبحت خجولة بسبب حجمي الكبير..."
"تسخر المعلمة من لكنتي،متعمدة إهانتي أمام التلاميذ ... "
"لو كنت ميسور الحال، ما كنت لأصبح خجولا..."
نلاحظ أن الذين يعانون من الخجل يصرحون بأسباب خجلهم،لكن هل هي أسباب حقيقية؟
إنها ليست كذلك، إن هؤلاء الأشخاص يعانون فعلا من مشكلة الخجل، إلا أنهم يبحثون عن"المسؤول عن خجلهم".و أول عيب يصادفونه لديهم يجعلهم يعتقدون أنه مسبب الخجل لديهم. لكن لا يجب أن ننسى أن الإنسان السوي لن يعير كبير اهتمام لأنفه الكبير،أو لقامته،أو للون شعره.كل ما هنالك، هو أن الخجل(الذي يمثل المشكلة الرئيسية لدى الشخص)يجد العيوب الجسدية سندا له فتزداد حدته،خصوصا  أن الخجول يعتقد بأن الناس لا ينظرون إلا إلى نواقصه.
الخجل المرتبط بأشخاص معينين:
كما يكون عليه الأمر بالنسبة لبعض الناس أمام  زي رسمي موحد (رجال الدرك كنموذج) ،فكيف يمكن تفسير هذا النوع من الخجل؟
يمثل الزي الرسمي حاجزا،استحالة النقاش و صعوبة توضيح وجهة النظر الشخصية.
هذا الزي يشعر الخجول بالعجز و الإحباط،و هذا ما يفضي إلى الإحساس بالدونية أمام الدركي، أو إلى جفاف الفم أو إلى العدوانية ... كتعويض عن ذلك الشعور السابقة الإشارة إليه.
قد يظهر هذا النوع من الخجل أمام البلداء، لكن ما السبب ؟
لأن البلادة بالنسبة للشخص الذكي تمثل كذلك عائقا و جدارا و استحالة التواصل، ما دام الخجول غير قادر على مخاطبة البليد باللغة التي يفهمها،مما يجعله يخاف من أن يكون موضع سخرية و استهزاء.
و هكذا يحضر الإحباط و الشعور بالدونية بشكل دائم لدى الخجول.و منه فالخجل يتميز بكونه يتبدى أمام الآخرين إذ من النادر أن يشعر الخجول - و هو وحده - بالخجل إلا إذا تصور مسبقا سلوكا يخشاه : كأن يكون مطالبا بإلقاء كلمة في المساء ،الشيء الذي يجعله خائفا طيلة النهار.باستثناء ذلك يتصرف الخجول بشكل عادي ما لم تكن هناك عوامل مسببة للخجل .و أكثر شيء يخشاه الخجول هو أن يسخر منه الناس أو أن لا يفهموه ، كما هو حال العازف الجيد على البيانو، الذي سيشله الخجل إذا ما كان مطالبا بالعزف أمام أشخاص لا يتذوقون عزفه و موسيقاه ، و قد يسخرون منه كرد فعل على شعورهم أمامه بالدونية.
مثال آخر : شخص ما قد يشعر بخجل شديد أمام مرؤوسيه ، لماذا إذن ؟
بسبب الخوف من السخرية،خصوصا إذا كان المرؤوسون مجتمعين ،كما هو الشأن بالنسبة لرئيس ورش أمام مجموعة من العمال. في هذه الحالة ماذا يحدث بالضبط ؟
تمثل هذه المجموعة من العمال كتلة متحدة ، لكنها تشعر بنوع من الدونية إزاء الرئيس الذي إذا لم يتحدث بلغة عماله ،فإن شعورهم بالدونية ذاك سيولد سخرية (ظاهرة أو مستترة)،تجعل الرئيس أمامها عاجزا لأن التربية التي تلقاها تحول دون استخدامه لنفس الآليات التي لجأ إليها مرؤوسوه ، و لأن حديثه بطريقة مميزة يزيد من سخرية العمال منه.
إذا كان رئيس الورش خجولا فكيف سيتصرف ؟
إما أن يكون متوترا أو يحاول مجاملة العمال ، أو يتخذ في حقهم إجراءات زجرية ، و كلها ردود أفعال غير طبيعية .


من كتاب :les prodigieuses victoires de la psychologie moderne /pierre daco

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟