الابتكار بين الجدّ والهزل : د. أنور طاهر رضا

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسالمقدمة :
عندما يخطر الابتكار في بال المرء فإن أوّل ما يتذكره هو الفلسفة والأدب والفنون الجميلة والعلوم  ، التي تعتبر جميعا ميادين خصبة للابتكار . ويرفق ذلك تذكر الفلاسفة والأدباء والفنانين والعلماء من كل شعب وملّة وقوم ، ممن نبغوا في ميادينهم ، وحصلوا على شهرة عالمية فائقة . وساهم هؤلاء في توجيه نظم الحياة توجيها خاصا ، وبنوا المدنية الحالية . على أن الابتكار ليس محصورا بهذه الميادين أو أولئك الدواهي النابغين والعباقرة .
يشير أنكل وسنيلكروف ( Engle and Snellgrove: 1979: 206 ) إلى أن التأريخ يسجل لنا اسم شخصين فقط من كل مليون من النفوس ممن حصلا على شهرة عالمية بأعمالهما الفذّة المبتكرة ذلك لأنه لا يستطيع كل مبتكر أن يصل إلى هذه الدرجة العالية من التفوق والشهرة في مجالات الفلسفة أو الأدب أو الفنون الجميلة أو العلم بحيث يؤهله إلى الارتقاء في الحصول على الشهرة العالمية وفي واقع الأمر أن آلافا من المبتكرين والمبدعين والمكتشفين والمخترعين إنما يساهمون كلّ يوم كلٌ في ميدان عمله لدفع عجلة المدنية الحالية خطوة أخرى إلى الأمام . فالمدنية الحالية في حقيقتها نتاج كل هذه الأعمال معا .
إن الابتكار مهم بالنسبة لكل فرد ومجتمع . ولقد زادت أهميته بشكل خاص في هذه الأيام ، التي نعيش فيها انفجارا معرفيا هائلا ، وسباقا منقطع النظير في مجال التكنولوجيا فالابتكار يعني استغلال الطاقات الإنسانية الكامنة خير استغلال من أجل وضع منتجات فريدة لم تعرف من ذي قبل . فهو الهام خاص يخطر في بال البعض ، فيساهمون في وضع أشياء جديدة لم يسبق إليها أحد من قبلهم
تؤثر عوامل عديدة ومختلفة في الابتكار . منها عوامل وراثية وأخرى بيئية ، شخصية وأخرى اجتماعية ، فيقلّ الابتكار بناء على ذلك أو يزيد . وتبعا لذلك فإن الابتكار يتفاوت بين الانفتاح والانغلاق ، والبساطة والتعقيد ، والإثارة والملل ، والتغيير والتحفظ ( الروتين )  ، والصفح الجميل والانتقاد ، والطبع والتطبع ، والمغامرة والتردد ، والاختلاط والانكماش على النفس ، والنضج والفجاجة  ، والانطواء والانبساط ، والتفاؤل والتشاؤم ، والتواضع والتكبر ، والذكورة والأنوثة ، والمحافظة على القديم والعصيان عليه ، والموضوعية والذاتية ، واللذة  والألم ، والخيال والحقيقة ، والانشراح والانقباض ، والتيسير والتزمت ، والجد والهزل . يركز هذا الفصل على علاقة العاملين الأخيرين بالابتكار ، ويشير بين فترة وأخرى إلى العوامل الأخرى  بمقدار ما يتعلق الأمر بموضوع البحث .

ما هو الابتكار ؟
الابتكار ضرورة من ضرورات الحياة المعاصرة ، التي يحتاج إليها الإنسان في كل آن وحين من أجل حلّ مشاكله اليومية على أحسن وجه . إن الابتكار مطلب يومي يحتاج إليه كل فرد ومجتمع من أجل البقاء على قيد الحياة في خضم الصراع الذي يدور رحاه في الخفاء بين مجتمعات اليوم . إن الابتكار ليس بجديد على الإنسان ، وإنما هو  قديم قدم الإنسان نفسه على وجه هذه البسيطة . على  أن الفكرة  الجديدة السائدة اليوم  في هذا المجال أن كل فرد يستطيع أن يكون مبتكرا ، ويضاعف جهوده في هذا المجال أضعافا مضاعفة ، إذا ما استثمر وقته ، وتعلم وتدرب على الوسائل المختلفة لتحقيق الابتكار .
تستخدم في هذا المجال إضافة إلى الابتكار مصطلحات أخرى بينها وبين الابتكار بعض الاختلاف . على أنها جميعا تندرج في الميدان نفسه ، ويكون الابتكار مطلبا أساسيا لها . يقع  الإبداع والكشف والاختراع ضمن هذه المصطلحات . إن الابتكار في أوسع معانيه :  تحطيم القوالب الموجودة  ، أو الخروج عن المألوف ، أو كسر قيود الفكر المفروضة على الفرد ، أو الانفتاح على خبرات الآخرين ، أو ارتياد طريق آخر غير الطريق الرئيسي الذي يسلكه الآخرون ، أو المباشرة بأول خطوة نحو ما هو غير معروف ، أو وضع خط جديد للفكر ، أو طرح بدائل مختلفة لمشكلة معروضة ، أو إيجاد شيء جديد يؤدي إلى إيجاد أشياء أخرى ، أو التوصل إلى إيجاد علاقات جديدة بين الأفكار المطروحة ، أو طرح فكرة جديدة ، أو إيجاد وسيلة أو طريقة غير معروفة سابقا ، أو ارتياد مكان جديد ، أو كشف شيء  غير معروف ، أو اختراع آلة أو جهاز جديد يفيد الإنسان .
وما من شك في أن كل هذه الأمور إنما تحتاج إلى ابتعاد تام عن التزمت بالرأي ، وتخلص من الجمود الطاغي على الحياة ، والاستفادة من خبرات الآخرين ، والنظر إلى الأمور بمنظار التفاؤل ، ومرونة كبيرة في التفكير ، وكثير من الراحة النفسية والجسمية .
 
كيف يتطور الجد والهزل ؟
الجد والهزل سمات شخصية مستقرّة يتحلى بها الإنسان ، وتبدو واضحة على سلوكه . وهما نتاج تعبير المرء الدائم عن انفعالاته وعواطفه . لقد منح الله الإنسان بالانفعالات لتعطي هذه الحياة نوعا من اللذة والطعم ، وتخلّصها من كثير من المواقف التي تشكل تهديدا على حياته . إذ لولاها لكانت الحياة الإنسانية تسير على وتيرة واحدة بدون طعم أو لون .
تظهر الانفعالات لدى الرضيع الإنساني بعد الولادة مباشرة على شكل تهيّج عام . ويتميّز هذا التهيّج العام بمرور الوقت في الجانبين الإيجابي والسلبي . في الشهرين الأولين من عمر الرضيع يتميّز من هذا التهيّج في الجانب السلبي انقباض يدلّ على  انزعاج الرضيع البدني أو النفسي . ويظهر في الجانب الإيجابي منه انشراح يدلّ على راحته . وفي النصف الأول من السنة تتميّز من الانقباض انفعالات الغضب والتقزز والخوف . وتتميّز من الانشراح في النصف الثاني من السنة انفعالات العطف والبهجة . يتطوّر الجانب السلبي في النصف الأول من السنة الثانية ليظهر انفعال الغيرة . في الفترة نفسها يتميّز انفعال العطف ، ويتشعب إلى انفعالين هما : العطف على الصغار والعطف على الكبار . يظهر في النصف الثاني من السنة الثانية انفعال الفرح . وهكذا تتكامل انفعالات الأطفال لتتجانس مع انفعالات الكبار قبل انتهاء السنتين الأوليتين من العمر .
يختلف الإنسان عن الحيوان في طريقة التعبير عن الانشراح . فالابتسامة والضحك والقهقهة ما هي إلا تعبير عن الانفعالات الإنسانية الإيجابية . تظهر الابتسامة على وجه الرضيع منذ الأشهر الأولى من عمره . يكون الهزل والدعابة والمزاح في فترة الطفولة أكثر منه في فترات العمر الأخرى . ويمزح الأطفال كثيرا في عمر الخامسة . ويصل عدد مرات القهقهة في هذا العمر الزمني  إلى 110 مرة  في اليوم  الواحد . يصل الابتكار هو الآخر إلى الذروة في هذا العمر . ومن هنا يربط هول  وويكر Hall and Wecker: 1996; 63 ) ) بين الابتكار والهزل . يبدو أن المبتكرين أيضا يحملون بعضا من الخصائص الشخصية الطفلية الهزلية إضافة إلى خصائص البالغين التي تتميّز بالجدّ .
ومع تقدم العمر تخضع انفعالات الأطفال إلى التطور . وتلعب التنشئة الاجتماعية في العائلة دورا كبيرا في هذا التطور . تؤكد  العادات الاجتماعية في مجتمعاتنا على الجدّ وتجنّب الهزل . فالجدّ من شيم الكبار ، والهزل خاص بالأطفال . يشكل الجدّ الهيكل العظمي للمألوف والحياة الرتيبة . يكون الهزل في هذه المجتمعات خروجا على المألوف . فلا يجوز للبالغين الإتيان به ، وينبغي عليهم الظهور بمظهر الجدّ . فتحلّل هذه المجتمعات مثل هذه الأمور على الأطفال من ناحية ، وتحرمها على البالغين من ناحية  أخرى . فيحسب الجد بذلك نضجا وبلوغا ، والضحك الكثير مجونا ومهزلة . وينشأ الأطفال والمراهقون بناء على هذه القيم الاجتماعية ، وتتكون ميولهم واتجاهاتهم وعواطفهم وقيمهم من مزيج من انفعالاتهم المختلفة . فيقلد الأطفال والمراهقون الكبار البالغين في انفعالاتهم وميولهم واتجاهاتهم وعواطفهم وقيمهم ، وتتكوّن شخصياتهم التي تميزهم عن الآخرين . تصبغ الحياة كلها بصبغة الجد ، فلا يعيش الأطفال طفولتهم ، ولا يعيش المراهقون مراهقتهم . فيشيبون  وهم صغار ، ويكبرون وهم شبّان .
الجدّ والهزل مظاهر شخصية تنمو مع نمو الانفعالات والميول والاتجاهات والعواطف والقيم بما يتلقاه الأطفال والمراهقون من المحيطين بهم في العائلة والمدرسة من استحسان واستهجان ، ودعم أو انتقاد ، فيتعلمون بذلك شكلا معينا من السلوك دون غيره .  يبدو لنا أن المجتمع العربي والإسلامي أكثر ميلا إلى الجد منه إلى الهزل . فتقيّد هذه المجتمعات الهزل ، وتبيح الجد . يربي فيها  الأطفال  على الجد والحزم ، ويحدّ من المزاح والهزل ويعيش الفرد في خضم تحذيرات كثيرة تشده شدا محكما إلى الجد ، وتمنعه  من الضحك .  ويقلّ المزاح والهزل بتقدم العمر . ذلك لأن العادات والتقاليد الاجتماعية تؤكد على ذلك ، فيزداد الجد لدى الكبار ، ويتناقص الهزل بمرور الأيام . فلا يضحك المرء إلا قليلا . يزداد العبوس يوما بعد يوم ، ويقطب الجبين ، ويتجهّم الوجه في أكثر الأحيان تحت غطاء من الجدّية . فلو فكر المرء في مقدار ما يضحك في اليوم الواحد لوجده قليلا جدا على ما كان عليه في فترات الطفولة والشباب . يشير هول وويكر  Hall and Wecker: 1996; 63 ) ) إلى أن متوسط ما يقهقه الفرد في اليوم الواحد في عمر  44  سنة في المجتمع الأمريكي هو 11 مرة فقط . أي ينخفض إلى عشر ما كان عليه في عمر الخامسة . ومع انخفاض نسبة الضحك في الكبر تنخفض نسبة الابتكار . ويتوقع أن تكون نسبة الضحك في هذا العمر أكثر انخفاضا في مجتمعاتنا .
لقد انعكس الالتزام بالجد وتجنب الهزل على أقوالنا المأثورة يبدو أن الأقوال المأثورة التي قيلت في مجتمعاتنا إنما تعكس هذا الأمر خير انعكاس  . فالضحك بلا سبب من قلة الأدب . من كثر مزاحه زالت هيبته . من مزح مزحا مجّ من عقله مجّا . اتبع الذي يبكيك ولا تتبع  الذي يضحكك . حتى  ارتبط قراءة القرآن بالعبوس والبكاء . وكأن المقصود من أمر الله في التعقل والتدبر والتفكير والتفحص هو العبوس والبكاء بالذات . على أن هذه الحالة لم تمنع من انتشار بعض الطرائف والنوادر والمزاح في المواقف غير الرسمية ولو كان ذلك محدودا .
 
ما هو الجد ؟
الجد هو الحزم في الأمور . وهو الوقار والرزانة في السلوك . وهو بالتالي الابتعاد عن الفكاهة والدعابة والمزاح والمرح . وهو السلوك الرسمي الذي يتطلبه الدور الاجتماعي الذي قد يكون طبيعيا أو متصنعا . وهو نوع من التنظيم والانتظام في السلوك وإدارة الأعمال وعدم ترك الحبل على الغارب . وهو أيضا نوع من التقولب في السلوك ، والاهتمام بالشكل ، وطغيان الروتين في العمل ، بقصد المحافظة على الهيبة والسلطة . وعندما يقول الشخص بأنه جاد ، فهو إنما يقصد أنه يعني ما يقول ، ومصرّ عليه كلّ الإصرار ، وأنه لا يمزح أو يلعب ، ولا يقول شيئا جزافا . ويتضمن نوعا من التردّد والتروي الذي يطغى على السلوك قبل البتّ في أمر ما . يميل الإداريون إلى أن يلعبوا مثل هذا الدور للاحتفاظ بزمام السلطة في أيديهم ، حيث تؤخذ الأمور أخذا حازما لكي لا تفلت من اليد
يفيد الجد في جوانب عديدة مهمّة . إذ يضفي الجدّ نوعا من الروتين ( الحياة الرتيبة ) الضروري على الحياة . يشير دي بونو ( De  Bono: 1998; 45-53  ) إلى أن الحياة الرتيبة إنما تحافظ على الأمن والطمأنينة ، وتجنّب الإنسان من الوقوع في أخطاء . وهي تضمن أيضا أداء عمل ما على أحسن وجه . تحدد الشكل الذي يؤدى فيه سلوك ما مسبقا وتفسح المجال لأداء الأعمال  الأخرى بحرية  أكبر . تقلّل من التعب في التفكير في الأمور في كل مرة . تفسح المجال لتأدية العمل بكثير من السهولة ، ويقتصد في الوقت والجهد .
 
الإسراف في الجدّ :
الجدّية في السلوك ضرورية إلى درجة ما . إلا أن الإسراف فيها مضرّ جدا . فهي تعرقل المبادرات الشخصية وتمنع الابتكار . ويتضمن الإسراف فيها نوعا من التشاؤم الذي يطغى على الحياة ، فيلبس الإنسان نظارات سوداء يقيّم فيه كل شيء من خلال هذه النظارات . يرى الفرد فقط الجوانب السلبية من الأمور ، ويغفل أو يتغافل الجوانب الإيجابية منها .
يتضمن الإسراف في الجدّ التزمت الذي يبنى على الصرامة في السلوك . ويكون الإنسان فيه صلبا في المحافظة على الرأي والجمود فيه ، والانغلاق نحو النفس ، وعدم تقبل الآراء الأخرى . وقد يلجأ إلى استخدام الفظاظة والغلظة إذا ما جوبه بأي نوع من الاعتراض في الرأي . في كل هذه الحالات يكون التوتّر طاغيا على الآمر والمأمورين . يزيد الجدّ من مستوى التوتر الموجود لدى الإنسان . والتوتر مضرّ جدا من جوانب عديدة . يسبب التوتر الكثير من الأمراض  الفتّاكة  بما فيها السرطان وتلك المتعلقة  بالقلب . وما يهمّنا  الآن في هذا المقام أن التوتر إنما يقف حجر عثرة أمام الابتكار . ويضعف التوتر العمليات العقلية لدى الإنسان .  وليس هذا فحسب ، بل يتعب المخ كثيرا . والأمرّ من ذلك أنه يؤدي إلى محو خلايا المخ . علما بأن خلايا المخ التالفة لا يمكن تعويضها بخلايا أخرى غيرها في أي حال من الأحوال . يصيب الإنسان نتيجة لذلك بكثير من اليأس والقنوط
 
ما هو الهزل ؟
يقع الهزل في الجهة المعاكسة من الجدّ تماما . ويتضمن المزاح والدعابة والفكاهة واللعب واللهو والتسلية والضحك والتقهقه . فالشخص الهزلي هو الشخص الظريف الذي يقوم بسلوك من شأنه أن يضحك الناس وهو الشخص المرح الذي يميل إلى النكت واللطائف والنوادر والمزاح . فالهزل نوع من اللامبالاة في جدّية الأمور ، وأخذها أخذا يسيرا وسهلا ، وعدم الاهتمام بها بحيث يشغل البال كثيرا . وهو يتضمن أيضا نوعا من التفاؤل الذي يطغى على الحياة . تصدق مقولة "لا تفكّر كثيرا فإن لها مدبّر" على من هم في هذا المنوال من الحياة . فينظر المرء فيه إلى الجوانب الإيجابية من الأمور ، ويغفل أو يتغافل الجوانب السلبية منها .
يفيد اللهو واللعب والهزل والمرح الإنسان من عدة جوانب . يبتعد الإنسان عن جدّية الحياة المتعبة ، ويزيل التوترات التي تتخللها هذه الحياة فترة من الوقت . يرتاح الإنسان وترتخي عضلاته ، وتنشرح نفسه . يفتح كل أبواب الدماغ للأفكار الجديدة . ينفتح الذهن للأفكار المضحكة السخيفة التي تتضمن أصالة الابتكار يتخلل ذلك الوجه المبتسم والدعابة والضحك والبشاشة في الكلام وحسن المعاشرة . يقلل الهزل من مستوى التوتر الموجود لدى الإنسان الذي يعرقل العمليات العقلية كثيرا تزود الدعابة والمزاح الإنسان بطاقة عقليّة إضافية . تستخدم  هذه الطاقة في ابتكار أشياء جديدة . ولقد أدرك الإنسان أخيرا فوائد الضحك ، فأقام يوم الضحك العالمي للتذكير بأهمية ذلك في الحياة والإفادة من مزاياه .
 
أنواع الهزل :
يمكن تقسيم الهزل إلى الأنواع الثلاثة التالية :
أ - الهزل البريء : وهو الهزل الذي يكون موضوعه عاما غير موجه إلى فرد أو فئة من الناس . يستهدف من هذا النوع من الهزل إدخال السرور في نفوس الحاضرين بالمرح والدعابة ،  ونشر البهجة والفرح في قلوبهم ، بقصد الابتعاد عن التوترات  التي تتركها الحياة اليومية . تندرج الطرائف والنوادر والنكات المنسوبة إلى جحا  أو أشعب في هذا النوع من الهزل . فالهزل يتضمن المزاح والدعابة التي تكون مقبولة لدى الجميع . يكون الهزل بنّاءً ، ويؤدي إلى الابتكار . ويكون جامعا للناس ، إذ يهوى كل فرد أن يشترك فيه ، فيركز انتباهه ، راغبا بشحذ فكره واستخلاص ما قرأه أو سمعه من مواقف هزلية لكي يسرده على الآخرين . يتضمن الهزل البريء الابتسامة والضحك والقهقهة والمرح والتسلية مع الآخرين . يغذّي هذا النوع من الهزل الفكر ، ويجهّز أرضا خصبة للابتكار ويتضاعف المحصول . ولهذا  السبب يستخدم هذا النوع من الهزل في جلسات الابتكار .
ب - الهزل الماجن : وهو الهزل الذي يجعل المجون موضوعا له . وهو نوع من الهزل الذي تستخدم فيه المواضيع الجنسية المكشوفة . وقد يستخدم مثل هذا النوع من الهزل بين الأقران أو الأصدقاء أو الأحباء الذين يعملون في مهنة واحدة أو الذين تجمعهم مناسبات خاصة . قد يستساغ ويستحسن هذا النوع من الهزل بين أعضاء جماعة معينة ، بينما يستهجن بين أعضاء جماعة أخرى . يكون مقبولا من قبل البعض ، وغير مقبول من قبل البعض الآخر . ولما كان هذا النوع من الهزل مستهجنا  من قبل البعض على  الأقل ، وغير مقبول خلقيا من وجهة نظر الآخرين فانه لا يمكن استخدامه في جلسات الابتكار الخاصة .
ج - الهزل الجارح : يكون موضوع هذا النوع من الهزل خاصا ، وموجها إلى فرد أو فئة أو جماعة من الناس أو قوم أو ملة أو شعب معين . فالهزل هنا يتحول إلى سخرية جارحة مؤلمة لمن يكون موضوعا له . تتضمن السخرية انتقادا لاذعا وإهانة وتحقيرا وانتقاصا من شأن الآخرين . ولذلك يكون هذا النوع من الهزل غير مقبول اجتماعيا . تتضمن السخرية محاذير تربوية مهمة . تكون السخرية هدّامة تثير الحساسية ، وتفرّق  بين الناس ، بدلا من أن تجمع شملهم ، وتزيد  من تكاتفهم . تتضمن السخرية  الضحك على الغير ، بدلا من الضحك معا . تكون السخرية مُرَّة لاذعة ، وسامّة قاتلة ، تقضي على الابتكار ، بدلا من أن تزيده
الإسلام دين الوسط والموازنات في كثير من الأمور . " وكذلك جعلناكم أمة وسطا .." (سورة البقرة : الآية 143 ) . ويؤكد على أن خير الأمور أوسطها فهو لا يمنع من المرح البريء . على أنه يحذر من الإسراف والإفراط والتفريط فيه ، والذي يصل به إلى درجة الاستهزاء والسخرية . " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون " ( سورة الحجرات : الآية 11 )
تمنع هذه الآية المؤمنين من السخرية واللمز والتنابز بالألقاب . فالسخرية هي الهزو والانتقاص من شأن الآخرين . واللمز هو الإعابة والطعن بالآخرين . أما التنابز بالألقاب فهو دعوة الآخرين بالألقاب المستكرهة .
ويدعو الإسلام إلى اللطف واللين في المعاملة وحسن الخلق وطيب المعاشرة ، والعفو والصفح الجميل ، واللين في التعامل ، وتجنب الجفاف والغلظة في القول والفعل . وكان نبينا محمد ( ص ) أسوة حسنة في كل ذلك . ونعلم أيضا أن النبي ( ص ) كان يتصف  بالبشاشة ، وتعلو وجهه البسمة دائما   يخاطب تعالى رسوله محمدا ( ص ) " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ( سورة آل عمران : الآية 159) . في كلمة بمؤتمر في احتفالات أسبوع ولادة الرسول يورد صاندقجي ( Sandikci: 1990: 63-65 ) عن الشخصية النموذجية للرسول الكريم بأنه كان دائما باسم الوجه في بيته ، لا يأتي بقول أو فعل من شأنه أن يجرح قلوب الآخرين . كان  يمزح مع نسائه ويداعبهن ، ويشترك في تسليتهن المشروعة ، ويعتبر مزاح الأزواج مع زوجاتهم حقا من حقوقهن المشروعة . وكان رؤفا ورحيما يشفق على الأطفال ويقبلهم ويداعبهم ، ويحمل أنجاله على كتفه غير منزعج من ذلك حتى وإن كان أثناء الصلاة ، ويشترك معهم بين فترة وأخرى في ألعابهم . وكان مع غير أهله أيضا بشوشا ومبتسم الوجه بشكل يثير الثقة في نفوس الآخرين ، وقد اعتبر مقابلة المؤمن لأخيه المؤمن بالبشاشة والابتسامة وجها من أوجه العبادة . كان الرسول صلى الله عليه وسلم ومع جلالة قدره ومنزلته العظيمة في نفوس أصحابه كانت البسمة لا تفارق شفتيه الطاهرة . كان يداعبهم ويحنو عليهم كثيرا ، ويخاطب أنس بن مالك يا ذا الأذنين ( صحيح ) - الترمذي 2077
في كلمة بمؤتمر في احتفالات أسبوع ولادة الرسول يورد آلتنتاش ( Altintas: 1990: 23-27 ) عن نوع الإنسان الذي أراده الرسول هو ذلك النوع الذي يتصف بخيال مبتكر . فالواجب على المسلم أن يفكر ويدرك فيما خلقه الله ويوضحها للآخرين . ولن يتأتى ذلك إلا إذا كان المسلم كاشفا لنفسه أولا ولمن يحيط به ثانيا . والتفاؤل ضرورة من ضرورات الشخصية المسلمة . ذلك لأن الله هو الحاكم على كل شيء ، وقد وضع في كل شيء حكمة ربانية لابد من فهمها ، ورؤية الجوانب الإيجابية فيها . فالخير فيما أراده الله . ( …وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ." ( سورة البقرة : الآية 216 ).
 
الهزل والابتكار :
يظهر أن الهزل البريء يرتبط ارتباطا وثيقا بالابتكار . فالهزل يتضمن تحطيم القوالب الموجودة التي سادت لفترة معينة من الوقت . وهو الخروج عن المألوف بشيء غير مألوف ليكون مدار موضوع الهزل . إن العلاقة بين الهزل البريء والابتكار وثيقة لأن الإنسان يرتاح كثيرا في مثل هذه الحالات . يساعد كل من الراحة الجسمية والنفسية التي تؤول إليه وضعية الإنسان على التفكير المبتكر . وما زيادة تطور الشعر والأدب والفنون الجميلة في ظل الأنظمة الديمقراطية إلا دليلا على  ذلك .
يسرد هول وويكر Hall and Wecker: 1996; 59-60 ) ) ما يدعم هذا الرأي في مجال البحوث والتجارب بحثا له علاقة ماسة بموضوع علاقة الابتكار بالهزل . قام بهذا البحث آيسن (Isen ) التي استخدمت فيه مجموعة تجريبية وأخرى ضابطة شاهدت المجموعتان اللتان كانتا من طلبة الكلية فلمين مختلفين بالآلة المرئية (الفيديو ) . تضمن الفلم الأول مشاهد مضحكة جدا ، بينما تضمن الفلم الثاني مواقف علمية جادة . وبعد أن عرض كل فلم لمدة خمس دقائق أعطيت كل مجموعة أسئلة تتطلب حلا مبتكرا منهم . حلّت المجموعة الأولى التي ضحكت وانشرح مزاجها من الأسئلة من ثلاثة إلى خمسة أضعاف المجموعة الثانية . فيشبه من هنا هول وويكر أهمية الهزل للابتكار بأهمية الوقود للسيارة . ويؤكدان على أن الهزل ضروري للابتكار . وبدون الهزل لن يكون هناك اندفاع وبدون وجود  اندفاع لن تكون هناك طاقة . وبدون طاقة لن يكون هناك إنتاج مبتكر . وهذا هو قانون فيزياء الابتكار . فالهزل للابتكار كالأوكسجين للحياة . والأفكار البناءة ما هي إلا الناتج الطبيعي للبهجة ، وليست ناتجا للضجر والملل . وما ابتكار الأطفال إلا راجع إلى لعبهم بالدمى واللعب بالدمى إنما تلهم الفرد بالأفكار . وهو الذي يثير الضحك والمرح ويسلّي الإنسان أيضا .
يؤكد المختصون في مجال الابتكار جميعا على أهمية اللعب واللهو والهزل والمرح والدعابة في الابتكار . ومنهم من يبالغ في هذا التأكيد حتى يجعل الاختراع معادلا للهزل والدعابة والمرح المرافق  للعب . يبدو أن هول وويكر هما من هذه الفئة . لقد ابتكر هول وويكر Hall and Wecker: 1996: 6 ) ) المعادلة التالية للاختراع :
الاختراع  = ( المثير + نظام عمل الدماغ )الهزل
ويفهم من هذه المعادلة أن الهزل هو أُس ما يتضمن بين القوسين . وهذا يعني أن مجموع ناتج المثير ونظام عمل الدماغ إنما يضرب في نفسه بعدد مرات الهزل . فالاختراع الذي يتضمن أوج الابتكار إنما يتضاعف بمقدار ما يتضمن من الهزل .
وتلخيصا للكلام نستطيع أن نقول  أن الجد بحد ذاته يتضمن القليل من الابتكار . أما الإكثار منه فيعرقل الابتكار . أما الهزل فإنه إنما يؤدي إلى الابتكار . وكلّما تضاعف الهزل تضاعف معه الابتكار.

التوصيات :
وبناء على ما مر سابقا يمكن توجيه التوصيات التالية :
·   عدم حرمان النفس من مبتهجات الحياة ، وتعويد النفس على الاستمتاع بالجوانب الإيجابية المشروعة من ابتسامة وضحك ، والموازنة بين الجد والهزل في الحياة اليومية على الأقل ، وعدم السماح بطغيان الجانب السلبي الذي يظهر في الجد والعبوس والتزمت في الحياة .
·    تنظيم برنامج يومي عائلي لإضفاء نوع من البهجة والسرور والمرح والهزل مع أفراد العائلة في البيت
·         استعمال طرق مختلفة للهزل مع الجيران والأصدقاء المقربين
·         تخصيص يوم واحد في الأسبوع للمرح والهزل البريء أو لمشاهدة الأفلام التي تتضمن الهزل
·         تنظيم فقرات هزلية في الاجتماعات التي تتطلب الابتكار .
·         الإكثار من ملاعب الأطفال العامة والخاصة وتنويعها ، وإعطاء المجال الكافي لهم للعب .
·         الاهتمام بالطرائف والنوادر والفكاهة ، والتأكيد على الهزل البريء من أجل الحصول على المزيد من الابتكار
·         وضع درس خاص في برامج دور المعلمين والمعلمات وكليات التربية عن الطرائف والنوادر وكيفية سرد النكت واللعب بالدمى والتمثيل
·         تخصيص جزء من الدروس قد يكون خمس دقائق للنوادر والطرائف والفكاهة ، وتشجيع الطلبة على ابتكار المزيد منها
·         تخصيص وقت معين من اليوم للضحك في الشركات العاملة
·         زيادة البرامج الهزلية في الراديو والتلفزيون
·         تخصيص مكافئات خاصة للرسوم الهزلية الكاريكاتورية .
 
الخاتمة :
الجد والهزل سمات شخصية مستقرّة يتحلّى بها الإنسان ، وتبدو على سلوكه بشكل واضح , وهما نتاج تعبير المرء الدائم عن انفعالاته وعواطفه . لقد منح الله الإنسان بالانفعالات لتعطي هذه الحياة نوعا من اللذة والطعم ، وتخلّصها من كثير من المواقف التي تشكل تهديدا على حياته . إذ لولاها لكانت الحياة الإنسانية تسير على وتيرة واحدة بدون طعم أو لون تظهر الانفعالات لدى الرضيع الإنساني بعد الولادة مباشرة على شكل تهيّج عام . ويتميّز هذا التهيّج العام بمرور الوقت في الجانبين الإيجابي والسلبي ، وتتكامل انفعالات الأطفال لتتجانس مع انفعالات الكبار قبل انتهاء السنتين الأوليتين من العمر .
يعبّر الإنسان عن الانشراح بالابتسامة والضحك والقهقهة . تظهر الابتسامة على وجه الرضيع منذ الأشهر الأولى من عمره . يكون الهزل والدعابة والمزاح في فترة الطفولة أكثر منه في فترات العمر الأخرى . ويمزح الأطفال كثيرا في عمر الخامسة . ويصل عدد مرات القهقهة في هذا العمر الزمني  إلى 110 مرة  في اليوم  الواحد . يصل الابتكار هو الآخر إلى الذروة في هذا العمر
 الجدّ والهزل مظاهر شخصية تنمو مع نمو الانفعالات والميول والاتجاهات والعواطف والقيم بما يتلقاه الأطفال والمراهقون من المحيطين بهم في العائلة والمدرسة من استحسان واستهجان ، ودعم أو انتقاد ، فيتعلمون بذلك شكلا معينا من السلوك دون غيره . ويقلّ المزاح والهزل بتقدم العمر . ذلك لأن العادات والتقاليد الاجتماعية تؤكد على ذلك ، فيزداد الجد لدى الكبار ، ويتناقص الهزل بمرور الأيام .
الجد هو الحزم في الأمور , وهو الوقار والرزانة في السلوك . وهو بالتالي الابتعاد عن الفكاهة والدعابة والمزاح والمرح . وهو السلوك الرسمي الذي يتطلبه الدور الاجتماعي الذي قد يكون طبيعيا أو متصنّعا . يفيد الجد في جوانب عديدة مهمّة , إذ يضفي الجدّ نوعا من الروتين ( الحياة الرتيبة ) الضروري على الحياة . الجدّية في السلوك ضرورية إلى درجة ما , إلا أن الإسراف فيها مضرّ جدا . فهي تعرقل المبادرات الشخصية وتمنع الابتكار . يتضمن الإسراف في الجدّ التزمت الذي يبنى على الصرامة في السلوك . ويكون الإنسان فيه صلبا في المحافظة على الرأي والجمود فيه ، والانغلاق نحو النفس ، وعدم تقبل الآراء الأخرى . في كل هذه الحالات يكون التوتّر طاغيا على الآمر والمأمورين يزيد الجدّ من مستوى التوتر الموجود لدى الإنسان . يقف التوتر حجر عثرة أمام الابتكار . ويضعف التوتر العمليات العقلية لدى الإنسان .  وليس هذا فحسب ، بل يتعب المخ كثيرا . والأمرّ من ذلك أنه يؤدي إلى محو خلايا المخ .
يقع الهزل في الجهة المعاكسة من الجدّ تماما . ويتضمن المزاح والدعابة والفكاهة واللعب واللهو والتسلية والضحك والتقهقه . فالشخص الهزلي هو الشخص الظريف الذي يقوم بسلوك من شأنه أن يضحك الناس . وهو الشخص المرح الذي يميل إلى النكت واللطائف والنوادر والمزاح فالهزل نوع من اللامبالاة في جدّية الأمور ، وأخذها أخذا يسيرا وسهلا ، وعدم الاهتمام بها بحيث يشغل البال كثيرا . يفيد اللهو واللعب والهزل والمرح الإنسان من عدة جوانب . يبتعد الإنسان عن جدّية الحياة المتعبة ، ويزيل التوترات التي تتخلّلها هذه الحياة فترة من الوقت . يرتاح الإنسان وترتخي عضلاته ، وتنشرح نفسه . يفتح كل أبواب الدماغ للأفكار الجديدة . ينفتح الذهن للأفكار المضحكة السخيفة التي تتضمن أصالة الابتكار . يقلّل الهزل من مستوى التوتر الموجود لدى الإنسان الذي يعرقل العمليات العقلية كثيرا . تزود الدعابة والمزاح الإنسان بطاقة عقليّة إضافية .
يظهر أن الهزل البريء يرتبط ارتباطا وثيقا بالابتكار . فالهزل يتضمن تحطيم القوالب الموجودة التي سادت لفترة معينة من الوقت . وهو الخروج عن المألوف بشيء غير مألوف ليكون مدار موضوع الهزل . إن العلاقة بين الهزل البريء والابتكار وثيقة لأن الإنسان يرتاح كثيرا في مثل هذه الحالات . يساعد كل من الراحة الجسمية والنفسية التي تؤول إليه وضعية الإنسان على التفكير المبتكر .