في علم النفس الكلاسيكي : الوعي بوصفه مشكلة علم نفس السلوك - ل.س فيغوتسكي ـــ ت.بدر الدين عامود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاس يقوم العنكبوت بعملياتٍ تذكّر بعمليات النسّاج، وتحطّ النحلة من شأن بعض الناس ـ المعماريين ببناء خلاياها الشمعية. غير أنّ أسوأ معماريّ يمتاز عن أفضل نحلةٍ منذ البداية بأنه قبل أن يبني الخلية من الشمع يكون قد بناها في رأسه. وفي نهاية سير العمل يتمّ الحصول على النتيجة التي تكون قد وجدت مع بداية هذه العملية في تصور الإنسان، أي بصورةٍ مثاليةٍ. فالإنسان لا يغيّر شكل ما هو معطى من قبل الطبيعة فقط، بل، وإلى جانب ما تقدمه الطبيعة، يحقق هدفه المنشود الذي يحدد، كقانون عام، أسلوب أفعاله وطابعها، والذي يتعين عليه أن يخضع إرادته إليه.‏
ـ 1 ـ‏
يتمّ في أدبياتنا العملية تجنب السؤال عن الطبيعة النفسية للوعي مع سبق الإصرار والترصد، ويحاول المؤلفون أن يتجاهلوه كما لو أنه غير موجود بالنسبة لعلم النفس الحديث مطلقاً. وتبعاً لذلك فإن منظومات علم النفس، التي تتكون أمام أعيننا، تحمل في طياتها، ومنذ البداية، جملةً من العيوب العضوية. وسوف نذكر بعضاً منها: الأساسية والرئيسية من وجهة نظرنا.‏
1ـ إن علم النفس، بإغفاله مشكلة الوعي، إنما يحرم نفسه من إمكانية الدخول إلى دراسة مشكلات سلوك الإنسان المعقّدة إلى حدّ ما. وهو مضطر إلى الاقتصار على الكشف عن الصلات الأولية القائمة بين الكائن الحي والعالم. ومن السهل التحقق من أن هذا هو الواقع بإلقاء نظرة إلى محتويات كتاب ف. م. بختيرف «المبادئ العامة للانعكاسية عند الإنسان» (1923): مبدأ حفظ الطاقة. مبدأ التغيّر المستمر. مبدأ التوازن. مبدأ التكيف. مبدأ المقاومة المكافئة للفعل. مبدأ النسبية. وبكلمةٍ واحدة المبادئ الشاملة التي لا تحيط بسلوك الحيوان والإنسان فقط، بل وبالكون كله. على أنه ليس ثمة من قانون سيكولوجي قدم صياغة لصلة الظواهر أو تبعيتها التي يتمّ الكشف عنها، والتي تسم خصوصية السلوك الإنساني على نحوٍ مخالفٍ لسلوك الحيوان.‏
وفي القطب الآخر من الكتاب نجد التجربة الكلاسيكية لتشكيل الانعكاس الشرطي. وهي تجربة صغيرة وهامة مبدئياً بصورةٍ استثنائيةٍ، ولكنها لا تغطي الفضاء الكوني بدءاً من الانعكاس الشرطي من الدرجة الأولى حتى مبدأ النسبية. ويبيّن عدم تناسب السقف والأساس وغياب البناء ذاته بينهما بسهولة إلى أيّ حدّ يبدو من المبكر صياغة مبادئ كونية على أساس المعطيات الانعكاسية، وكيف أنه من اليسر اقتباس قوانين من مجالات المعرفة الأخرى وتطبيقها على علم النفس. وبقدر ما يكون المبدأ الذي نقتبسه خلال ذلك واسعاً وشاملاً، يكون من السهل أن يمتد ليشمل الواقعة الضرورية بالنسبة لنا.

 ومن غير الممكن نسيان أن حجم المفهوم ومضمونه يرتبطان ارتباطاً تناسبياً عكسياً على الدوام. فيما أن حجم المبادئ الكونية يتطلع إلى اللانهاية، فإنّ مضمونها السيكولوجي يتناقص مع تلك النزعة حتى الصفر.‏
وهذا ليس عيباً خاصاً باتجاه بختيرف. إنه يتجلى ويظهر على هذا النحو أو ذاك في كلّ محاولةٍ لبسط التعاليم حول سلوك الإنسان بانتظام، كما هو حال الانعكاسية العارية.‏
2ـ إن نفي الوعي والسعي لإقامة منظومةٍ سيكولوجيةٍ دون هذا الاهتمام كـ«سيكولوجيا من غير الوعي» حسب تعبير ب. ب. بلونسكي يؤدي إلى أن الطريقة تعوزها الوسائل الضرورية لدراسة الاستجابات؛ التي لا تظهرها ولا تكشف عنها العين المجردة كالحركات الداخلية، والكلام الداخلي، وردود الأفعال الجسدية.. إلخ. وتبدو دراسة الاستجابات التي تراها العين المجردة فقط عاجزةً وباطلةً تماماً حتى أمام أبسط مشكلات سلوك الإنسان. وإلى ذلك يبدو أن سلوك الإنسان منظم على نحوٍ توجهه الحركات الداخلية. فعندما نكون انعكاس سيلان اللعاب الشرطي لدى الكلب، فإننا نقوم بتنظيم سلوكه سلفاً بصورة معهودة وبأساليب خارجية. وخلافاً لذلك لا يكتب للتجربة النجاح. وإذا ما تغيرت هذه الحركات الداخلية في مجرى التجربة فجأةً، فإن لوحة السلوك تتغير هي الأخرى بأكملها بصورةٍ حادةٍ. وعلى هذا النحو فإننا نستغل الاستجابات المكفوفة دوماً، فنحن نعلم أنها تجري في العضوية على الدوام ودونما توقف، وإليها يعزى الدور المنظم والمؤثر في السلوك باعتبار أنه يتصف بالوعي. بيد أننا نفتقر لأي من وسائل دراسة هذه الاستجابات الداخلية.‏
وبعبارةٍ بسيطةٍ: يفكر الإنسان في سره، وهذا لا يبقى في حال من الأحوال دون تأثير في سلوكه. ولعلّ التغير المفاجئ للأفكار أثناء التجربة ينسحب دوماً، وبصورةٍ حادّةٍ، على سلوك المفحوص بأكمله (خاطرة تلوح على حين غرّة «لن أنظر في الجهاز»). ولكننا لا نعرف شيئاً عن كيفية أخذ هذا التأثير بعين الاعتبار.‏
3 ـ يزول كل حدّ مبدئي بين سلوك الحيوان وسلوك الإنسان. فالبيولوجيا تلتهم علم الاجتماع، والفيزيولوجيا تبتلع علم النفس. وإن سلوك الإنسان يدرس بمقدار ما هو سلوك حيوان ثديي. وخلال ذلك ينتفي ما هو جديد مبدئياً مما أدخل على السلوك الإنساني من وعي ونفس. وللمثال فقد اتفق على قانونين: قانون انطفاء الانعكاسات الشرطية (أو الكفّ الداخلي) الذي توصل إليه إ. ب. بافلوف (1923)، وقانون السيطرة الذي صاغه أ. أ. أُ ختومسكي (1923).‏
ويحدد القانون الأول تلك الواقعة المتمثلة في أنه لدى التنبيه المستمر بمثيرٍ شرطيٍّ دون تعزيزه بمثيرٍ لا شرطيٍّ يضعف الانعكاس الشرطي تدريجياً، وينطفئ في النهاية تماماً. .‏
وفي واقع الحال فإن كلمة «انعكاس» بالمعنى الذي تستخدم فيه عندنا، إنما تذكر بتاريخ كانيتفيرشتان الذي كان أحد الفقراء الأجانب، يسمع اسمه في هولندا في كل مرة لدى الإجابة على أسئلته: «من يدفن؟ لمن هذا البيت؟ من الذي مرّ؟.. إلخ». لقد كان يفكر بسذاجة أن كلّ ما في هذه البلاد يتم من قبل كانيتفيرشتان. وزيادةً على ذلك فإن هذه الكلمة كانت تعني أن الهولنديين الذين كان يصادفهم لم يفهموا أسئلته. وبهذا الشاهد يمكن أن يظهر انعكاس الهدف أو انعكاس الحرية في عدم فهم الظواهر المدروسة بسهولة (1). وإن هذا ليس انعكاساً بالمعنى العادي كما هو منعكس سيلان اللعاب، وإنما هو آلية للسلوك تختلف عنه على نحوٍ ما في البنية ومعروفة لكلّ إنسان. وبوسعنا أن نتحدث عن الكل بصورةٍ متساويةٍ عند توحيد المقامات:‏
هذا انعكاس مثلما أن هذا كانيتفيرشتان. فكلمة «انعكاس» ذاتها تفهم أثناء ذلك.‏
ما هو الإحساس؟ إنه انعكاس. ما هو الكلام؟ وما هي الإيماءات وحركات الوجه؟ إنها انعكاسات أيضاً. والغرائز وحركات الشفاه والانفعالات؟ إنها جميعها انعكاسات أيضاً.‏
وجميع الظواهر التي تلمستها مدرسة ورتسبورغ في العملية الذهنية العليا، وتحليل الأحلام الذي اقترحه فرويد، كل ذلك هو انعكاسات. إن كلّ ذلك هو، بالطبع، كذلك تماماً. ولكن العقم العلمي لتلك الإقرارات العارية يبدو جلياً. فليس للعلم بذلكم المنهج في الدراسة أن يلقي ضوءاً، أو يوضح المسائل المدروسة، ويساعد على تجزئة وتحديد الموضوعات والأشكال والظواهر فقط، بل إنه، على العكس، يرغم الجميع على أن يروا في الغسق المغبش، حيث يمتزج كل شيء، ويغيب الحدّ الفاصل بين الموضوعات. هذا انعكاس، وذاك انعكاس أيضاً. ولكن ما يتعين دراسته ليست الانعكاسات، وإنما السلوك: آليته وقوامه وبنيته. وفي كلّ مرة ينشأ لدينا وهم أثناء التجربة على الحيوان أو الإنسان بأننا نقوم بدراسة الاستجابة أو الانعكاس. والحقيقة هي أننا في كلّ مرةٍ ندرس السلوك؛ لأننا نقوم قطعاً بتنظيم سلوك المفحوص سلفاً على نحوٍ معلومٍ كيما نضمن السيطرة من وراء الاستجابة أو الانعكاس، وإننا بخلاف ذلك لن نحصل على شيء.‏
هل يستجيب الكلب في تجارب بافلوف بمنعكس سيلان اللعاب، وليس بمجموعة من الاستجابات ـ الحركات المختلفة، الداخلية منها والخارجية، وهل أنها لا تؤثر في مجرى الانعكاس الملحوظ؟ وهل أن المثير الشرطي الذي يلحق في تلك التجارب لا يستجر بحدّ ذاته تلك الاستجابات (الاستجابات التوجهية للأذن والعين.. إلخ)؟. ولماذا يحدث إغلاق العلاقة الشرطية بين انعكاس سيلان اللعاب وصوت الجرس، وليس العلاقة، أي أنه ليست قطعة اللحم هي التي تبدأ باستدعاء الحركية التوجهية للأذنين؟ وهل أن المفحوص يعبّر، بضغطه على زر المفتاح حسب الإشارة، عن كامل استجابته؟ وهل أن ضعف الجسم العام والاسترخاء على مسند الكرسي وإيماءة الرأس التنهّد وغيرها لا تؤلف أجزاء أساسية من الاستجابة؟‏
إن هذا كلّه يشير إلى تعقيد أيّ استجابة وارتباطها ببنية آلية السلوك التي تندمج فيها، وعدم إمكانية دراسة الاستجابة بصورةٍ مجرّدةٍ. وإلى ذلك، وقبل القيام باستخلاص نتائج هامة وكبيرة جداً من تجربة الانعكاس الشرطي الكلاسيكية، لا ننسى أن الدراسة ما زالت في بدايتها وأنها شملت دائرة ضيقة للغاية، وما درس ليس سوى نوع أو اثنين من الانعكاس: منعكس سيلان اللعاب والمنعكس الحركي ـ الدفاعي والانعكاسات الشرطية من المرتبة الأولى والثانية والاتجاه غير المفيد بيولوجياً بالنسبة للحيوان (لماذا على الحيوان أن يسيل لعابه على الإشارات البعيدة وعلى المنبهات الشرطية من الفئة العليا؟). ولذا فإننا سوف نحترس من النقل المباشر للقوانين الانعكاسية إلى علم النفس. ويصيب ف. أ. فاغنر (1923) حين يقول: إن الانعكاس هو أساس، ولكن لا يزال من المستحيل انطلاقاً من الأساس قول أي شيء عمّا سيقام عليه.‏
ووفقاً لهذه الاعتبارات يعتقد أنه يتوجب تغيير وجهة النظر في سلوك الإنسان باعتباره الآلية التي تفتح تماماً بمفتاح المنعكس الشرطي. وبدون فرضية تمهيدية فاعلة حول الطبيعة السيكولوجية للوعي يبدو أنّ من غير الممكن إعادة النظر بصورةٍ نقديةٍ إلى الرأسمال العلمي بأكمله في هذا المجال، وتنقيته، وغربلته، وترجمته إلى لغة جديدة، ووضع مفاهيم وإيجاد إشكالية جديدة.‏
إن على علم النفس أن لا يتجاهل وقائع الوعي، بل وعليه أن يقوم بتمديتها (تجسيمها)، ويترجم ما هو موجود موضوعياً إلى لغةٍ موضوعيةٍ، ويفضح الأوهام والخيالات ويدفنها إلى الأبد. ومن غير ذلك يستحيل القيام بأيّ عمل ـ فلا تدريس ولا نقد ولا بحث.‏
وليس من العسير فهم أنه يتعين أن لا ينظر إلى الوعي بيولوجياً وفيزيولوجياً ونفسياً باعتباره الصف الثاني من الظواهر، ويتوجب عليه أن يجد مكاناً وأن يتمّ تناوله في صفٍّ واحدٍ من الظواهر مع كافة استجابات العضوية. وهذا هو المطلب الأول لفرضيتنا الفاعلة. فالوعي هو مشكلة بنية السلوك. أما المطالب الأخرى فإنها تتمثل في أن على الفرضية أن توضح دونما صعوبةٍ المسائل الأساسية المرتبطة بالوعي. وهي مشكلة حفظ الطاقة والوعي الذاتي (الاستبطان)، والطبيعة السيكولوجية لمعرفة وعي الآخرين، ووعي ثلاثة مجالات أساسية لعلم النفس الإمبيريقي (الخِبْري) (التفكير، الإحساس، الإرادة)، ومفهوم اللاوعي، وتطور الوعي، وتطابقه ووحدته.‏
لقد تحدثنا هنا في هذه النبذة السريعة والمختصرة عن الأفكار الأساسية والعامة والتمهيدية؛ التي تنشأ عند تقاطعها الفرضية الفاعلة التالية حول الوعي في علم نفس السلوك.‏
ـ 2 ـ‏
إننا نقبل على المسألة من الخارج وليس من علم النفس.‏
يتكون سلوك الحيوان بالكامل بصورةٍ رئيسية من مجموعتين من الانعكاسات: الفطرية أو اللاشرطية، والمكتسبة أو الشرطية. وتؤلف الانعكاسات الفطرية عصارة بيولوجية للخبرة الجماعية الموروثة للنوع كله، في حين تنشأ المنعكسات المكتسبة على أساس هذه الخبرة الموروثة عبر إغلاق العلاقات الجديدة التي تقوم من خلال التجربة الذاتية للفرد؛ ولذا فإن بالإمكان تحديد سلوك الحيوان كله بصورة مشروطة باعتباره خبرة موروثة مضافاً إليها التجربة الموروثة مضروبة في التجربة الذاتية. ولقد بيّن داروين أصل التجربة الموروثة حيث وجد أن آلية ضرب هذه الخبرة في الخبرة الذاتية هي آلية الانعكاس الشرطي التي توصل إليها إ. ب. بافلوف. وبهذه الصيغة يستنفد سلوك الحيوان بوجه عام.‏
والحالة على العكس من ذلك بالنسبة للإنسان. فلكي تتم الإحاطة، هنا، بكل السلوك على نحو تام إلى حد ما، يتوجب إدخال حدود جديدة إلى تلك الصيغة. وهنا يبدو من الضروري في المقام الأول أن نشير إلى تجربة الإنسان الموروثة والواسعة جداً بالمقارنة مع الحيوانات. فالإنسان لا يتمتع بتجربة موروثة فيزيائياً فقط. إن حياتنا بأكملها وعملنا وسلوكنا تقوم على الاستخدام الواسع لخبرة الأجيال السابقة، والتي لا تنتقل عبر الولادة من الأب إلى الابن. ويمكن أن نطلق عليها اصطلاحاً الخبرة التاريخية.‏
وإلى جانب ذلك ينبغي أن ندخل الخبرة الاجتماعية، أي خبرة الناس الآخرين، التي تدخل كمركبٍ على جانب من الأهمية في سلوك الإنسان ـ فما لدي ليست فقط تلك الارتباطات التي تجمع في تجربتي الذاتية بين الانعكاسات اللاشرطية وبعض عناصر البيئة، بل وعدد وفير من الارتباطات التي تشكلت عبر تجربة الآخرين. وإذا كنت أعرف الصحراء والمريخ، مع أنني لم أغادر بلدي ولو مرة واحدة، ولم أنظر عبر التلسكوب أبداً، فإن من الواضح أنني مدين بخبرتي هذه من حيث نشأتها لخبرة الآخرين الذين سافروا إلى الصحراء واستخدموا التلسكوب، وواضح بالقدر نفسه أيضاً أن تلك الخبرة ليست موجودةً لدى الحيوانات. وسوف نجد ذلك بوصفه مركباً اجتماعياً من مركبات سلوكنا.‏
ومما يعدّ، في الختام، أمراً جديداً وجوهرياً بالنسبة لسلوك الإنسان هو أن تكيفه وما يرتبط به من سلوك يتخذ أشكالاً جديدة بالمقارنة مع الحيوانات. فهناك تكيف سلبي مع البيئة، وهنا تكييف إيجابي للبيئة مع الذات. والحقيقة أننا نصادف لدى الحيوانات أشكالاً أولية للتكيف الفعال في النشاط الغريزي (بناء الأعشاش والأوكار وغيرها). ولكن هذه الأشكال في مملكة الحيوان أولاً ـ لا تحمل أهمية أساسية وفائقة، وثانياً ـ تظل، رغم هذا، سلبيةً من حيث جوهر إنجازها وآليته.‏
إن العنكبوت الذي يحيك خيوط بيته، والنحلة التي تبني الخلايا من الشمع، إنما يقومان بهذا بفعل الغريزة، وبصورةٍ آليةٍ، وعلى وتيرةٍ واحدةٍ، ومن دون أن يظهرا في هذا فعالية أكبر ممّا تبديانه في جميع الاستجابات التكيفية الأخرى، ويختلف الأمر بالنسبة للنسّاج أو المعماري. فهما ـ كما يقول ماركس ـ يقيمان إنتاجهما كل في رأسه مسبقاً، أي أن النتيجة التي يتم الحصول عليها من خلال العمل توجد قبل البدء بهذا العمل بصورةٍ مثاليةٍ. ولا جدال البتة في هذا التوضيح الذي قدمه ماركس والذي لا يعني شيئاً آخر سوى المضاعفة الإلزامية للخبرة بالنسبة للعمل الإنساني. فالعمل يعيد في حركات اليد وتغيرات المادة ما تم فعله في تصور العامل من قبل كما لو كان مع نماذج هذه الحركات وتلك المادة. وإن الخبرة المضاعفة هذه التي تسمح للإنسان بتطوير أشكال التكيف الفعال لا توجد لدى الحيوان. وندعو هذا النوع الجديد من السلوك، اصطلاحاً، التجربة المضاعفة.‏
ويتخذ الجزء الجديد من صيغة سلوك الإنسان المظهر التالي: التجربة التاريخية، والتجربة الاجتماعية، والتجربة المضاعفة.‏
ويبقى السؤال التالي: أي إشارات تربط هذه الحدود الجديدة من الصيغة بعضها مع البعض الآخر ومع جزئها السابق؟ إن إشارة ضرب التجربة الموروثة في التجربة الذاتية واضحة بالنسبة لنا. فهي تعني آلية المنعكس الشرطي.‏
وسوف نخصص الأقسام التالية من هذا المقال للبحث عن الإشارات الناقصة.‏
تمّ في القسم السابق إيضاح اللحظات البيولوجية والاجتماعية من المشكلة. وسوف نتناول الآن جانبها الفيزيولوجي بالقدر نفسه من الإيجاز.‏
فالخبرات الأولية مع المنعكسات المنعزلة تصطدم بمشكلة تنسيق المنعكسات أو تحولها إلى سلوك. ولقد تمّ فيما تقدم التذكير على نحوٍ عابرٍ بأن أي تجربةٍ من تجارب بافلوف تقضي بوجود سلوكٍ منظمٍ بصورةٍ مسبقةٍ عند الكلب؛ لكي تنغلق العلاقة الوحيدة الضرورية في حال تضارب المنعكسات، وأمكن لبافلوف تكوين بعض المنعكسات المعقدة عند الكلب، وأشار مراراً إلى التضارب الذي يحدث خلال التجربة بين منعكسين مختلفين. على أن النتائج في هذه الحالة لم تكن واحدةً على الدوام: يدور الكلام في إحدى الحالات حول تقوية المنعكس الغذائي بالحراسة المتزامنة، بينما يدور في حالةٍ أُخرى عن انتصار المنعكس الغذائي على منعكس الحراسة. ويرى بافلوف في هذا الصدد أن هذين المنعكسين يبدوان وكأنهما كفتا ميزان. فهو لا يغمض عينيه عن التعقيد غير المألوف لجريان المنعكسين. يقول: «إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا الانعكاس للمثير الخارجي لا يكتفي ولا ينتظم بفعلٍ انعكاسيٍّ خارجيّ متزامن آخر فقط، وإنما بعددٍ كبيرٍ من المنعكسات الداخلية، وكذا بفعل مثيراتٍ داخليةٍ متنوعةٍ: كيميائيةٍ وحراريةٍ... إلخ، سواء على أقسامٍ مختلفةٍ من الجملة العصبية المركزية، أم على العناصر النسيجية الفاعلة ذاتها بصورةٍ مباشرةٍ، فإنه بهكذا تصور قد تدرك الصعوبة الواقعية للظواهر الاستجابية الانعكاسية».‏
ويكمن المبدأ الأساسي لتنسيق المنعكسات كما هو واضح في دراسات ش.شيرينغتون في صراع مختلف مجموعة أجهزة الاستقبال على الحقل الحركي العام. والواقع أن الخلايا العصبية الواردة في الجملة العصبية هي أكثر بكثير من الخلايا العصبية الصادرة، ممّا يجعل كلّ خلية عصبية حركية توجد في علاقة انعكاسية ليس مع جهاز استقبالٍ فقط، بل مع العديد من الأجهزة، وربما معها جميعاً. وفي العضوية ينشب على الدوام صراع بين مختلف أجهزة الاستقبال من أجل الحقل الحركي العام، والاستحواذ على أحد الأعضاء الفاعلة، ويرتبط مصير هذا الصراع بأسبابٍ متنوعةٍ ومعقدةٍ جداً، وعلى هذا النحو يتضح أن كل استجابة تنفذ وكلّ منعكس منتصر يظهر بعد الصراع والنزاع في «نقطة التصادم» (شير نيغتون).‏
إن السلوك هو منظومة الاستجابات المنتصرة.‏
يقول شيرنيغتون إنه إذا ما تركنا جانباً مسائل الوعي في ظلّ الشروط العادية، فإن سلوك الحيوان يتألف من التحولات المتعاقبة للحقل الأخير إلى مجموعة من المنعكسات تارةً، وإلى مجموعة أخرى تارةً ثانيةً. وبكلماتٍ أخرى فإن السلوك بأكمله هو صراع لا يهدأ ولا يتوقف ولو للحظة واحدة. وثمة كل المسوغات لافتراض أن واحدةً من أهم وظائف المخ إنما تكمن بالتحديد في القيام بالتنسيق بين المنعكسات التي تنطلق من النقاط النائية. وبفضل ذلك تتكامل الجملة العصبية لتصل إلى حدّ الفرد الكامل.‏
وتعدّ الآلية التنسيقية للحقل الحركي العام، في رأي شيرنيغتون، أساس عملية الانتباه النفسية الأصلية. وبفضل هذا المبدأ تتكون وحدة الفعل في كل لحظةٍ، وهذا، بدوره، يعتبر أساس مفهوم الشخصية. وعلى هذا النحو يؤلف تكوين واحدة الشخصية مهمة الجملة العصبية، كما يؤكد شيرنيغتون. ويمثل الانعكاس الاستجابة التكاملية التي تقوم بها العضوية. وعندئذٍ يتوجب النظر إلى كل عضلةٍ وكلّ عضو عامل كـ«صك لحامله» يمكن أن تمتلكه أي مجموعة من أجهزة الاستقبال.‏
ويتوضح التصور العام عن الجملة العصبية بصورةٍ رائعةٍ عن طريق المقارنة: «تنتمي منظومة أجهزة الاستقبال إلى منظومة المسالك الصادرة كما تنتمي الفتحة العليا العريضة من القمع إلى منفذه. غير أنّ كل مستقبل يكون على صلة ليس بليفٍ واحدٍ، بل بكثيرٍ من الألياف. ويمكن أن يكون مع الألياف الصادرة كافة. وبالطبع فإن هذه الصلة ذات ثباتٍ متفاوتٍ. ولذا فإننا، إذ نستمر بمقارنتنا بالقمع ينبغي القول بأن كل جملةٍ عصبيةٍ تمثل قمعاً، تكون إحدى فتحتيه أوسع بخمس مراتٍ من الفتحة الأخرى. وتوجد ضمن هذه الفتحة مستقبلات تمثل كذلك أقماعاً دورت فتحتها العريضة نحو نهاية مخرج القمع العام لتغطيها تماماً.‏
ويشبه بافلوف نصفي الكرتين المخيتين بمقسم الهاتف، حيث تنغلق العلاقات المؤقتة الجديدة بين عناصر البيئة وبعض الاستجابات. وجملتنا العصبية هي أكبر بكثير من مقسم الهاتف، وهي تذكرنا بالأبواب الضيقة في مبنى ضخم يتدافع نحوها آلاف الناس وهم مذعورون، بينما لا يستطيع أن يمرّ من الباب سوى بضعة أشخاص، وهؤلاء هم الذين يمرون بسلام، في حين أن هناك بضعة من الآلاف الهالكين المتزاحمين. وهذا ما يقربنا من الطابع الكارثي للصراع، والعملية الدينامية والجدلية بين العالم والإنسان وفي داخل الإنسان والتي تعرف بالسلوك.‏
وطبيعي أن ينجم عن ذلك حالتان ضروريتان لطرح السؤال عن الوعي، بوصفه آلية السلوك، طرحاً سليماً.‏
1 ـ كأن العالم يصب في الفتحة الواسعة من القمع آلاف المثيرات والإغواءات والنداءات، وفي داخل القمع يدور صراع دائم وصدامات مستمرة. فجميع الإثارات تتأتى من فتحة القمع الضيقة على شكل استجابات استجابية تقوم بها العضوية بكميات متناقضة بشدة. إن ما يصدر عن الإنسان من سلوك هو جزء ضئيل من الممكن. والإنسان يحفل في كل دقيقةٍ بالإمكانيات التي لا تتحقق. وهذه الإمكانيات التي لا تتحقق من سلوكنا، وذاك الفارق بين الفتحة الواسعة والفتحة الضيقة من القمع واقع تام وحقيقي مثلما هي الاستجابات المنتصرة؛ لأن كافة لحظات الاستجابة الثلاث التي تناسبها حاضرة.‏
ويمكن للسلوك الذي لم يتحقق أن يحمل أشكالاً مختلفة بصورةٍ غير عادية؛ حينما يكون بناء الحقل العام النهائي معقداً إلى حدّ ما وفي ظل المنعكسات المعقدة. يقول شيرينغتون: «إن أقواس الانعكاس تتحالف أحياناً في المنعكسات المعقدة تجاه أحد أجزاء الحقل العام، ويتصارع بعضها مع بعضها الآخر تجاه جزئه الآخر». وهكذا يمكن للاستجابة أن يظل نصفها غير منجزٍ أو منجزاً في جزء من أجزائها الذي يصعب تعيينه كل مرة.‏
2 ـ وبفضل التوازن الذي هو غاية في التعقيد والذي يقيمه الصراع المعقد بين المنعكسات في الجملة العصبية غالباً يتعين وجود قوةٍ ضئيلةٍ تماماً من جانب مثيرٍ جديدٍ، تحسم مصير هذا الصراع. ففي منظومة القوى المتصارعة المعقدة، والقوة الضئيلة الجديدة، يمكن أن تتحدد نتيجة المحصلة واتجاهها؛ إذاً تستطيع دولة صغيرة تنضم إلى أحد الطرفين في الحرب الكبيرة المستعرة أن تقرر النصر والهزيمة. وهذا يعني أن من اليسير أن نتصور كيف أن الاستجابات الضئيلة بحد ذاتها، حتى التي لا يلاحظ منها إلا القليل، يمكن أن تبدو قياديةً تبعاً للحالة في «نقطة التصادم» التي تدخل فيها.‏
ـ 4 ـ‏
لعل بالإمكان صياغة القانون الأولي والأساسي والعام من خلال علاقة المنعكسات على النحو التالي: ترتبط المنعكسات بعضها مع بعض وفق قوانين المنعكسات الشرطية. ويمكن أن يصبح الجزء الجوابي من أحد المنعكسات (الحركي، الغددي) ضمن شروط مناسبة مثيراً شرطياً (أو كفاً) لمنعكس آخر متحولاً في المسلك الحسي للمثيرات المحيطية المرتبطة به إلى قوس انعكاسي مع المنعكس الجديد. ومن المحتمل أن تكون جملة هذه العلاقات موروثةً بالكامل، وتنتمي إلى المنعكسات اللاشرطية. ويتكوّن الجزء المتبقي من هذه العلاقات في سياق التجربة: لا يمكن أن لا يتكون في العضوية بشكلٍ مستمر.‏
ولقد أصبح بوسعنا التحدث عن العلاقة المتبادلة التي لا مراء فيها بين منظومات المنعكسات المستقلة، وعن انعكاس منظومات على أخرى. فالكلب يستجيب للحموضة بسيلان اللعاب، ولكن اللعاب بحد ذاته هو مثير جديد بالنسبة لمنعكس البلع أو إلقائه إلى الخارج. وفي التداعي الحر أتفوه بكلمة ـ مثير «وردة» ـ نرجس. وذلك هو منعكس، ولكنه في الوقت ذاته مثير بالنسبة لكلمة «منثور». وهذا كله ضمن منظومة واحدة أو داخل منظومات قريبة متفاوتة. وعواء الذئب كثيراً يستدعي لديّ المنعكسات البدنية والإيمائية التي يعرف بها الخوف: تغير التنفس، خفقان القلب، الرجفان، جفاف الحلق (منعكسات)، والتي تدفعني إلى القول أو التفكير بأني «خائف». وهنا يحلّ الانتقال من منظومات إلى منظومات أخرى.‏
ويبدو أن من الواجب منهم الوعي ذاته أو ما ندركه من تصرفاتنا وحالاتنا قبل كل شيء، باعتباره منظومة من الآليات الناقلة للحركة من منعكسات إلى أخرى، تقوم في كل لحظة وعي بوظيفتها بشكلٍ صحيح.‏
وكلما كان أي منعكس داخلي بوصفه مثيراً يستدعي بصورةٍ صحيحةٍ جمعاً كاملاً من المنعكسات الأخرى التي تنتمي إلى منظومات أخرى، وينتقل إلى منظومات غير منظومته، كنا أكثر قدرةً على منح أنفسنا والآخرين إمكانية إدراك ما نشعر به، وكان هذا الخير أكثر، وما نحس به بوعي (يتم الإحساس به ويثبت في الكلمة... إلخ).‏
إن تقديم الحساب يعني تحويل انعكاسات إلى أخرى. ويعدّ ما هو لا شعوري وما هو نفسي انعكاسين لا يتحولان إلى منظومات أخرى. ويمكن الحديث عن درجات الوعي المتنوعة إلى ما لا نهاية، أي تفاعل المنظومات التي تندرج ضمن آلية المنعكس النافذ. ولا يعني وعي المشاعر الذاتية سوى امتلاكها كموضوعٍ (مثير) بالنسبة لسواها من المشاعر. فالوعي هو الإحساس بالمشاعر تماماً مثلما هو الشعور بالأشياء. ولكنّ قدرة المنعكس بالتحديد (الشعور بالشيء) على أن يكون مثيراً (موضوع شعور) بالنسبة لمنعكس جديد هي آلية الوعي، وهي آلية نقل المنعكسات من منظومة إلى أخرى. وهذا هو بالتقريب ما دعاه بختيرف المنعكسات المسؤولة والمنعكسات غير المسؤولة.‏
وعلى مشكلة الوعي أن تطرح وتحل من قبل علم النفس، بمعنى أن الوعي هو تفاعل مختلف منظومات المنعكسات وانعكاسها واستثارتها المتبادلة. والوعي هو ما يتحول كثيراً من منظوماتٍ أخرى ويستدعي ردّ فعل لديها. إنه على الدوام صدى وجهاز للإجابة.‏
وأسوق ثلاثة أسانيد أستمدها من المراجع.‏
1 ـ من المناسب أن نذكر هنا بأن أدبيات علم النفس قد أشارت أكثر من مرة إلى الاستجابة الدائرية؛ بوصفها الآلية التي تعيد للعضوية منعكسها الخاص بمساعدة تيارات الجذب المركزية؛ التي تنشأ أثناء ذلك، وتتوضع في أساس الوعي (ن.ن. لانفه، 1914). وعندئذٍ كثيراً ما تبرز الأهمية البيولوجية للاستجابة الدائرية: الإثارة الجديدة التي يسببها المنعكس تستدعي استجابة ثانوية جديدة، وتقوي الاستجابة الأولى وتعيدها أو تضعفها وتقمعها تبعاً لحالة العضوية العامة، كما لو أنها مرتبطة بذلك التقويم الذي تقدمه العضوية لما تقوم به من انعكاس. وهكذا فالاستجابة الدائرية لا تمثل اتحاداً بسيطاً لمنعكسين، وإنما هي اتحاد توجه فيه إحدى الاستجابتين وتنظم من قبل الاستجابة الأخرى، وتتحدد بذلك لحظة جديدة في آلية الوعي، أي دوره التنظيمي بالنسبة للسلوك.‏
2 ـ يميز شيرينغتون حقل الاستقبال الخارجي وحقل الاستقبال الداخلي كحقلٍ يتوضع على السطح الظاهري للجسم وآخر على السطح الداخلي لبعض الأعضاء، حيث يدخل جزء من الوسط الخارجي. ويتحدث على نحو خاص حول حقل الاستقبال الأصيل الذي يستثار من قبل العضوية، والتغيرات التي تحدث في العضلات والأوتار والمفاصل والأوعية الدموية... إلخ. وهذا ما عناه حين قال: «خلافاً لأعضاء الاستقبال في حقلي الاستقبال الخارجي والاستقبال الداخلي تستثار مستقبلات حقل الاستقبال الأصيل بصورة ثانوية فقط من قبل التأثيرات التي تَفِدُ من البيئة الخارجية. وتعد الحالة النشيطة لهذه الأعضاء أو تلك كتقلص العضلات الذي يعدّ، بدوره، ردّ فعل أولياً على إثارة أعضاء الاستقبال السطحية بفعل عوامل الوسط الخارجي. ومن المألوف أن تقترن المنعكسات التي تنشأ بفضل إثارة أعضاء الاستقبال الأصلية بالمنعكسات التي تستدعيها إثارة أعضاء الاستقبال الخارجية».‏
إن اقتران المنعكسات الثانوية بالاستجابات الأولية هو «علاقة ثانوية» يمكن أن تجمع، كما تبين الدراسة، الانعكاسات من النمط المتحالف والنمط المتناقض على حدّ سواء. وبكلماتٍ أخرى يمكن للاستجابة الثانوية أن تقوي الاستجابة الأولية أو تلغيها، وفي هذا تكمن آلية الوعي.‏
3 ـ وأخيراً يقول بافلوف في أحد المواضع: إن استعادة الظواهر العصبية في العالم الذاتي هي عملية انكسار متكرر، إذا جاز القول، وعلى جانبٍ كبيرٍ من الخصوصية؛ لأن الفهم السيكولوجي للنشاط العصبي هو، بوجه عام، شرطي وتقريبي إلى حدّ بعيد.‏
وما عناه بافلوف هنا هو لا يعدو كونه مقارنة بسيطة، ولكننا مستعدون لفهم كلماته بمعناها الحرفي والدقيق، والتأكيد على أن الوعي هو «انكسار متكرر» للانعكاسات.‏
ـ 5 ـ‏
يكشف الواقع عن إمكانية حل مشكلة الوعي الذاتي والملاحظة الذاتية. فالإدراك الذاتي والاستبطان ممكنان فقط بفضل وجود حقل الاستقبال الأصيل، وما يرتبط به من منعكسات ثانوية. وكأن ذلك هو صدى للاستجابة دوماً.‏
والوعي الذاتي مثل إدراك ما يجري داخل الروح الذاتية للإنسان ـ حسب تعبير ج. لوك ـ وهنا يصبح من الواضح سهولة فهم هذه التجربة على الشخص الذي يحس بتجربته الذاتية. فأنا وحدي الذي أستطيع أن ألاحظ وأدرك استجاباتي الثانوية؛ لأن منعكساتي هي، بالنسبة لي وحدي، مثيرات جديدة لحقل الاستقبال الأصيل. وحينها يكون سهلاً تفسير التصدّع الأساسي في التجربة، لما كان ما هو نفسي، تحديداً ليس شبيهاً بأي شيءٍ سواه، فإنه يتعامل مع مثيرات Suigeneris (2) لا توجد في أي مكان آخر عدا جسمي. وبالإمكان أن تكون يدي التي تدركها العين مثيراً بالنسبة لعيني أو بالنسبة لعين إنسان آخر على السواء. إلا أن وعي هذه الحركة، تلك الإثارات الحسية الأصيلة التي تنشأ وتستدعي استجابات ثانوية؛ توجد بالنسبة لي وحدي. فهي لا تحمل أيّ شيء مشترك مع الإثارة الأولى للعين. وهنا مسالك عصبية مغايرة وآليات أخرى ومثيرات مختلفة تماماً.‏
وترتبط بهذا الأمر على نحو وثيق مسألة على جانب كبير من الصعوبة تتعلق بالطريقة السيكولوجية، وبقيمة الملاحظة الذاتية على وجه التحديد. فقد عدّها علم النفس السابق مصدراً أساسياً ورئيسياً للمعرفة النفسية.‏
بينما ترفضها الانعكاسية كليةً، أو أنها تضعها تحت رقابة المعطيات الموضوعية كمصدرٍ مكملٍ للمعلومات والمعارف (بختيرف 1923).‏
ويسمح التصور الذي عرضناه للمسألة بفهم الأهمية (الموضوعية) التي يمكن أن يكتسبها التقرير الكلامي؛ الذي يقدمه المفحوص على صعيد البحث العلمي بصورةٍ إجماليةٍ وتقريبيةٍ. ويمكن في الغالب الكشف عن المنعكسات المستترة (الكلام الصامت) والداخلية التي تستعصي على الإدراك المباشر للمراقب بصورةٍ غير مباشرة عبر المنعكسات القابلة للملاحظة، والتي تعدّ بالنسبة لها مثيرات. وفي حال وجود المنعكس التام (الكلمة) يمكن الحكم على وجود المثير المناسب؛ الذي يلعب دوراً مزدوجاً في اللحظة الراهنة: دور المثير بالنسبة للمنعكس التام، ودور المنعكس بالنسبة للمثير السابق.‏
وفي ظل ذلك الدور الهائل والعظيم الذي تلعبه النفس في منظومة السلوك، أي مجموعة المنعكسات المستترة، يعدّ رفض الكشف عنها بصورةٍ غير مباشرةٍ، وعبر انعكاسها في منظومات أخرى من المنعكسات ضرباً من الانتحار. فنحن نأخذ بالحسبان ردود الأفعال على المثيرات الداخلية المحتجبة عنا. وفي هدي هذا الفهم لا يمكن أن يكون تقرير المفحوص في أي حال من الأحوال فعل الملاحظة الذاتية؛ الذي زعموا أنه يخلط ملعقة من القطران في برميل عسل، الدراسة العلمية ـ الموضوعية. فليس ثمة ملاحظة ذاتية. ويبقى المفحوص حتى النهاية وفي تقريره ذاته موضوع التجربة.‏
ومن الضروري أن يسمح بمرور التجربة عبر الاستجابات الثانوية للوعي في طريقة البحث السيكولوجي. فسلوك الإنسان وإدراك ما لديه من استجاباتٍ شرطيةٍ جديدةٍ لا تتحدد بالاستجابات التامة والواضحة التي يتم الكشف عنها جميعاً فقط، بل وبالاستجابات التي لا تظهر في جزئها الخارجي، ولا ترى بالعين المجردة.‏
إذا لفظت كلمة «مساء» التي تخطر ببالي أثناء التداعي الحر بصوتٍ مسموعٍ بحيث يسمعني المجرب، فإن هذا يستوجب الحساب بوصفه استجابة كلامية ومنعكساً شرطياً. وإذا لفظتها بصورةٍ غير مسموعة وفي سرّي، فهلا تكفّ عن كونها منعكساً وتغيّر طبيعتها جراء ذلك؟ وأين هو الحدّ بين الكلمة المنطوقة وغير المنطوقة؟.‏
وإذا ما تحركت شفتاي، أو همست بصوت غير مسموع بالنسبة للمجرب، فما الذي يكون حينئذٍ؟. وهل يطلب مني أن أعيد هذه الكلمة بصوتٍ مسموعٍ، أم أن ذلك سوف يكون منهجاً ذاتياً يسمح بتطبيقه على الذات فقط؟. وإذا كان بوسعه أن يطلب (ومن المحتمل أن يتفق الجميع تقريباً حول ذلك)، فلماذا لا يستطيع أن يطالب بلفظ الكلمة التي لفظت في السّر بصوتٍ مسموعٍ، أي دون تحريك للشفاه، ومن غير همس؟. إنها كانت على الدوام وتبقى الآن الاستجابة الحركية الكلامية، والمنعكس الشرطي الذي لا وجود للفكر من دونه. وهذا أيضاً هو استجواب وتصريح يدلي به المفحوص، وتقريره الكلامي حول الاستجابات الخفية نسبياً، والتي لم يسمعها الفاحص (وهنا يكمن الفرق كله بين الأفكار والكلام)، ولكنها وجدت موضوعياً دون شك. ولعل بمقدورنا أن نقتنع بأنها كانت بالفعل مع جميع علامات الوجود المادي بأساليب كثيرة. وتكمن إحدى أهم مسائل الطريقة السيكولوجية في وضع هذه الأساليب. ولعلّ التحليل النفسي هو واحد من تلك الأساليب.‏
ولكنّ الأهم هو أن المنعكسات المستمدة هي ذاتها تُعنى بإقناعنا بوجودها، فهي تطلّ برأسها بتلك القوة والوضوح في المجرى اللاحق للاستجابات؛ مما يرغم الفاحص إما على مراعاتها، وأخذها بالحسبان أو الرفض التام لدراسة مجرى الاستجابات الذي تنفرز في أعماقه، فهل هناك الكثير من تلك الأمثلة عن السلوك التي لا تنفرز في أعماقها المنعكسات المتأخرة؟. وهكذا فإمّا أن نمسك عن دراسة سلوك الإنسان بأشكاله الملموسة، أو ندخل إلى تجربتنا الحساب الضروري لهذه الحركات الداخلية.‏
وثمة مثالان يوضحان هذه الضرورة. إذا كنت أحفظ شيئاً ما، وأثبت منعكساً كلامياً جديداً، فهل يكون سيان أني سوف أفكر في هذا الوقت ـ أن أكرر ببساطة في خلدي تلك الكلمة، أو أقف على العلاقة المنطقية بين هذه الكلمة وكلمة أخرى؟. أليس من الواضح أن النتائج في كلتا الحالتين سوف تكون مختلفةً تماماً؟.‏
أقوم خلال التداعي الحر كرد على كلمة مثير «رعد» بلفظ كلمة «أفعى»، ولكن قبل ذلك تمر في خاطري فكرة: كلمة «برق». وهنا أليس من الواضح أنه ومن غير حساب لهذه الفكرة سوف أخلص وبصورةٍ مقصودةٍ إلى تصور كاذب، وكأن الاستجابة لكلمة «رعد» كانت كلمة «أفعى» وليست كلمة «برق».‏
وبديهي أن لا يدور الحديث هنا حول النقل العادي للملاحظة الذاتية التجريبية من علم النفس التقليدي إلى علم النفس الحديث، بل بالأحرى عن الحاجة الملحة لوضع طريقة جديدة بغية دراسة الانعكاسات المكفوفة. وهنا يتم الدفاع عن الضرورة المبدئية وإمكانية ذلك وحسب.‏
ولكي ننتهي من مسائل المناهج فإننا نتوقف باختصار عند ذلك التحول الإرشادي؛ الذي تعاني منه الآن طريقة الدراسة الانعكاسية بتطبيقها على الإنسان، والتي تحدث عنها ف. ب. بروتو بوبوف في إحدى مقالاته.‏
لقد جاء علماء الانعكاسية في بداية عهدهم بالإثارة الكهربائية الجلدية للقدم، وبدا لهم فيما بعد أن من المفيد اختيار جهاز أكثر كمالاً وقدرةً على التكيف مع الاستجابات التوجيهية؛ ليكون بمثابة معيار للاستجابة الجوابية، فكان استبدال القدم باليد. ولكن ما إن يقال a حتى يتوجب قول B. والإنسان يملك جهازاً أكثر كمالاً بما لا يقاس. وبمساعدته يتم الوقوف على العلاقة الواسعة مع العالم، ونعني جهاز الكلام: لم يبق لنا سوى أن ننتقل إلى الاستجابات الكلامية.‏
غير أن الأكثر طرافة هو «بعض الوقائع» التي قُيّض للباحثين مواجهتها أثناء العمل. ويتعلق الأمر بأن تمييز المنعكس يتمّ عند الإنسان بصورةٍ غاية في البطء والصعوبة. وتبين أنه يمكن أن يساعد على كف وتنبيه الاستجابات الشرطية سواء بسواء لدى التأثير على الموضوع بالكلام المناسب. وبعبارة أُخرى فإن أيَّ اكتشافٍ يفضي إلى أنّ بالإمكان الاتفاق مع الإنسان عن طريق الكلام لكي يحرك يده عند إشارةٍ معينةٍ، وأن لا يحركها عند إشارة أُخرى.‏
ويرى المؤلف أنه بحاجةٍ للتأكيد على موضوعين هامين بالنسبة لنا في هذا المقام.‏
1ـ لا ريب في أن الدراسات الانعكاسية على الإنسان سوف تجري مستقبلاً بمساعدة المنعكسات الشرطية الثانوية بشكل رئيسي، ولا يعني ذلك سوى أن تلك الواقعة المتمثلة في أن الوعي يقتحم حتى داخل تجارب الانعكاسيين، ويغير لوحة السلوك بشكلٍ جذريٍّ. اطرد الوعي من الباب يأتك من الشباك.‏
2ـ إن إدخال وسائل البحث هذه إلى الطريقة الانعكاسية يدمجها تماماً مع طريقة دراسة الاستجابات وغيرها؛ التي تم الوقوف عليها في علم النفس التجريبي منذ زمن بعيد. وهذا ما يشير إليه بروتوبوبوف، دون أن يعتبر أن هذا التطابق عرضي ومن الناحية الخارجية فقط. ويصبح من الواضح بالنسبة لنا أن الكلام يدور هنا حول الاستسلام التام للطريقة الانعكاسية المحضة؛ التي تستخدم على الكلاب بصورةٍ ناجحة أمام مشكلات السلوك الإنساني.‏
وتفسح نظرية د. جيمس (1905) في الانفعالات المجال واسعاً أمام إمكانية تفسير خاصية الوعي التي تتسم بها الأحاسيس. ويقوم جيمس بإعادة البناء من العناصر العادية الثلاثة:‏
Aـ سبب الإحساس Bـ الإحساس نفسه Cـ تجلياته الجسمية على النحو التالي: B-C-A. وسوف لن أتوقف لأذكّر بكل ما قدمه من تفسير معروف، وأشير فقط إلى أنه بهذا يتكشف تماماً:‏
أ) الطابع الانعكاسي للإحساس، والإحساس بوصفه منظومة انعكاسات Aو B.‏
ب) الطابع الثانوي لخاصية الوعي التي يتسم بها الإحساس عندما تصبح استجابتك مثيراً لاستجابةٍ داخليةٍ جديدةٍ ـ B وC. وإن الأهمية البيولوجية للإحساس كاستجابةٍ تقويميةٍ سريعةٍ يقوم بها الكائن الحي رداً على سلوكه الخاص، وكفعل اهتمام الكائن الحي ككل بالاستجابة، وكمنظم داخلي لكل ما هو موجود من سلوك في تلك اللحظة تضحي أمراً مفهوماً. وألمح أيضاً إلى أن المقياس الثلاثي للإحساس الذي وضعه فوندت يتحدث في الأساس كذلك عن ذلك الطابع التقويمي للانفعال، وكأنه رد الكائن الحي كله على استجابته.‏
ـ 6 ـ‏
من اليسير أن تميز لدى الإنسان مجموعة من المنعكسات؛ التي من الصواب أن يطلق عليها المنعكسات المعكوسة. وهي انعكاسات للمثيرات التي يمكن، بدورها، أن تتكون من قبل الإنسان. فالكلمة المسموعة هي مثير، والكلمة المنطوقة هي انعكاس يخلق ذلك المثير. والمنعكس هنا هو معكوس؛ لأن المثير يمكن أن يصير استجابة، والعكس صحيح. وهذه المنعكسات المعكوسة التي تضع الأساس للسلوك الاجتماعي هي تنسيق جماعي للسلوك. ومن بين حشد المثيرات كله تتميز، بالنسبة لي وعلى نحو واضح، مجموعة واحدة من المثيرات، وهي مجموعة المثيرات الاجتماعية الصادرة عن الناس. ويتمّ هذا التمييز بما أنني نفسي أتمكن من استرجاع هذه المثيرات. وبما أنها تكون، بالنسبة لي، وفي وقتٍ مبكرٍ جداً، معكوسة، وبالتالي فهي وبصورةٍ أخرى تحدد سلوكي أكثر من أي شيء آخر. إنها تشبّهني بالآخرين، وتجعل أفعالي متطابقةً مع ذاتها. وبالمعنى الواسع للكلمة فإن في الكلام يكمن مصدر السلوك والوعي الاجتماعيين.‏
ومن المهم جداً أن نرصد، ولو على عجل، فكرة أنه إذا كان ذلك على هذا النحو في الواقع، فإنما يعني أن آلية السلوك الاجتماعي وآلية الوعي هما شيء واحد. وإن الكلام هو منظومة «انعكاسات الاتصال الاجتماعي» (أ. ب. زالكيند، 1924) من جهة، ومنظومة انعكاسات الوعي في الغالب الأعم، أي جهاز انعكاس المنظومات الأخرى من جهة ثانية.‏
وهنا يكمن جذر السؤال عن «الأنا» الآخر ومعرفة النفس الأخرى. فآلية معرفة الذات (الوعي الذاتي) ومعرفة الآخرين هي ذاتها. والتعاليم العادية حول معرفة النفس الأخرى إما أنها تعترف مباشرةً بعدم إمكانية معرفتها (أ. إ. فيدينسكي، 1917)، وإما أنها تحاول في هذه الفرضيات أو تلك أن تقيم آلية محتملة، يكون جوهرها في نظرية الأحاسيس، وفي نظرية المماثلة شيئاً واحداً: نحن نعرف الآخرين بمقدار ما نعرف أنفسنا؛ إنني أسترجع غضبي بالذات حين أعرف غضب الغير.‏
وفي واقع الحال قد يكون من الأصح قول العكس تماماً؛ فنحن نعي أنفسنا لأننا نعي الآخرين. وبنفس الأسلوب الذي نعي به الآخرين، لأننا نحن بالذات نعتبر بالنسبة لأنفسنا تماماً مثلما هم الآخرون بالنسبة لنا. وإنني أعي ذاتي فقط بمقدار ما أعتبر ذاتي بالنسبة لنفسي إنساناً آخر، أي بقدر ما أستطيع أن أدرك منعكساتي الخاصة مجدداً كمثيراتٍ جديدةٍ. وإلى ذلك فإن ليس ثمة من فرق في الجوهر بين كوني أستطيع إعادة الكلمة التي قيلت بصمت بصوت مرتفع، والكلمة التي قالها إنسان آخر، مثلما لا يوجد اختلاف مبدئي في الآليات، فهذا وذاك منعكس معكوس ـ مثير.‏
ولذا فإن نتيجة قبول الفرصة سوف تستمد من السوسيلجة الناجمة عنها للوعي بأكلمه. وإن الاعتراف بالأسبقية الزمنية الواقعية تعود إلى اللحظة الاجتماعية في الوعي. وتصمّم اللحظة الفردية كلحظة مشتتة وثانوية على أساس ما هو اجتماعي ووفق نموذجه الدقيق. ومن هنا تأتي ازدواجية الوعي: تصور الصنو هو التصور الأقرب إلى الواقع حول الوعي. وهذا أقرب إلى تجزئة الشخصية إلى «الأنا» و«الهو» التي يكشف عنها فرويد بالتحليل النفسي. والأنا بالنسبة للهو ـ كما يقول ـ كالفارس الذي يتعين عليه أن يكبح جماح حصانه مع فارق فقط هو أن الفارس يقوم بذلك بفضل قواه الخاصة. ويمكن أن تستمر هذه المقارنة، فغالباً ما يبقى على الفارس، إن هو لم يشأ أن يبتعد عن الحصان، أن يقوده إلى حيث يرغب الحصان، كما هو شأن الأنا التي تحول إرادة «الهو» بصورةٍ مألوفةٍ إلى الفعل كما لو كانت إرادتها الذاتية (س. فرويد، 1924).‏
ولعلّ بوسع تشكل وعي الكلام عند الصم ـ البكم، وإلى حدّ ما تطور الاستجابات اللمسية عند المكفوفين أن يكون إثباتاً رائعاً لفكرة تطابق آليات الوعي والاتصال الاجتماعي، وأن الوعي هو اتصال اجتماعي مع ذاته. فالكلام عند الصم ـ البكم، عادة، لا يتطور ولا يتجمد في مرحلة الصراخ الانعكاسي، ليس لأن مراكز النطق مصابة لديهم، وإنما بسبب غياب السمع تشل إمكانية معكوسية المنعكس الكلامي. إن الكلام لا يتحول إلى مثير للمتكلم ذاته؛ ولذا فهو لا واع وغير اجتماعي. وعادةً ما يكتفي الصم ـ البكم، بلغة الإيماءات الشرطية التي تلحقهم بالدائرة الضيقة للخبرة الاجتماعية لغيرهم من الصمّ ـ البكم، وتطور الوعي لديهم بفضل تحول هذه الانعكاسات عبر العين إلى انعكاسات صامتة.‏
وتكمن تربية الأصم ـ الأبكم من الوجهة النفسية في استعادة أو تعويض آلية معكوسية الانعكاسات المختلّة. فالأبكم يتعلم الكلام بمراعاته ما تنطق به شفتا المتكلم من حركات، ويتعلم أن يتكلم بنفسه عن طريق استخدام الإثارات الحسية الحركية الثانوية التي تظهر أثناء الاستجابات الكلامية ـ الحركية. وجدير بالذكر أن خاصية الوعي التي يتسم بها الكلام والخبرة الاجتماعية تظهران في وقتٍ واحدٍ وبصورةٍ متوازيةٍ تماماً. وهذا هو بمثابة تجربة طبيعية مجهزة خصيصاً تدلل على الأطروحة الأساسية لمقالنا.‏
إن الأصم ـ الأبكم يتعلم أن يعي ذاته وحركاته إلى ذلك الحدّ الذي يتعلم فيه أن يعي الآخرين. وتطابق الآليتين كلتيهما هنا هو أمر واضح وبديهي تقريباً إلى درجةٍ مدهشةٍ.‏
وبمقدورنا الآن أن نوحد من جديد حدود صيغة السلوك البشري التي أُدرجت في أحد الأقسام السابقة. والواضح أن الخبرة التاريخية والخبرة الاجتماعية لا تؤلفان شيئاً مختلفاً من الناحية السيكولوجية، ذلك لأن من غير الممكن أن تكونا منفصلتين في الواقع، فهما تقدمان معاً على الدوام.‏
ولذا فإننا نوحدهما بإشارة + وآليتهما هي ذاتها آلية الوعي بالضبط، كما حرصت أن أبين، لأنه ينبغي أن يُنظر إلى الوعي بوصفه حالة خاصة من حالات الخبرة الاجتماعية. ولهذا كان من السهل أن نطلق على هذين الجزءين مصطلح: فهرس الخبرة المزدوجة.‏
-7-‏
ويخيل إليّ أنّ من المهم أن أشير في نهاية هذا المقال إلى التطابق القائم في النتائج بين الأفكار المتطورة هنا وتحليل الوعي الذي قام به د. جيمس. فقد قادت الأفكار التي انطلقت من مجالاتٍ متنوعة تماماً وسارت في طرقٍ مختلفةٍ إلى وجهة النظر الذي تقدم بها جيمس خلال تحليله التأملي. وفي هذا يبدو لي بعض من الإثبات الجزئي لأفكاري. ففي «علم النفس» (1911) أعلن أن وجود حالات الوعي كما هي هو أمر مثبت تماماً، ولكنه رأي باطل متأصل وراسخ. ولعلَّ معطيات ملاحظته الذاتية البارعة هي التي أقنعته بذلك.‏
يقول جيمس: «في كل مرة أقوم فيها بمحاولة ملاحظة الفاعلية كما هي في ذهني أصطدم لا محالة بفعلٍ فيزيائيٍّ محضٍ، وبانطباعٍ آت من الرأس والحاجب والحلق والأنف». وفي مقاله «هل يوجد الوعي؟» (1913) يبين أن الفارق بين الوعي والعالم (بين الانعكاس على الانعكاس والانعكاس على المثير) يكمن في سياق الظواهر فقط. ففي سياق المثيرات يكمن العالم، وفي سياق منعكساتي يتمثل الوعي. وعلى هذا فالوعي ليس سوى انعكاس المنعكسات.‏
وهكذا فإن الوعي لا يظهر كمقولةٍ محددةٍ وكأسلوب خاص من أساليب الوجود، وإنما من خلال بنية السلوك التي هي على جانبٍ كبيرٍ من التعقيد، وبشكل خاص مضاعفة السلوك كما يقال بمقتضى العمل بالكلمات المأخوذة من العبارة المقتبسة. يقول جيمس: «وفيما يتعلق بي فإنني على يقينٍ بأن تيار التفكير في داخلي... مجرّد تسميةٍ طائشة من أجل أن تظهر لدى المعالجة المباشرة، من حيث الجوهر، كتيار من النَّفَس.. والعبارة «أنا أفكر» التي ينبغي عليها أن تصحب جميع موضوعاتي ليست سوى «أنا أتنفس» التي تصحبها في واقع الحال... فالأفكار جعلت من تلك المادة التي صنعت منها الأشياء» (1913، ص 126).‏
لقد طرح في هذا المقال بعض الأفكار ذات الطابع التمهيدي بشكلٍ سريعٍ وخاطفٍ.‏
بيد أنه يبدو لي أنه من هنا بالضبط ينبغي أن يبدأ العمل بدراسة الوعي. فعلمنا الآن هو في حالةٍ من زال معها بعيداً جداً عن الصيغة النهائية للقضية الهندسية التي تكلل الحجة الأخيرة، أي ما يطلب البرهان عليه. ولعلَّ من المهم لنا أن نحدّد الآن ما يتوجب البرهان عليه ليُصار، من ثمّ، إلى البرهنة: طرح المسألة أولاً، ثم حلّها عقب ذلك.‏
تلك هي صياغة المسألة التي ينبغي على هذا المقال أن يصبّ في مصلحتها قدر الإمكان.
(1) أدخل مفهوما انعكاس الهدف وانعكاس الحرية من قبل إ. ب. بافلوف، ولكنهما لم يجدا مكانهما في المخطط الحتمي الأساسي لتكون الفعل الانعكاسي. ولقد عارض ل. فيغوتسكي تعميم هذا المخطط معتبراً أن ذلك يجعله يفقد أهميته الإيجابية التي يمكن الاحتفاظ بها شريطة قصر المخطط المذكور على حلقةٍ معيّنةٍ من الظواهر.‏
(2) Suigeneris وتعني الفريد أو من نوع خاص ـ المترجم ـ.