نظرية العدالة كإنصاف للفيلسوف الأمريكي جون رولز - نوار عبد الكريم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

لقد ظل التفكير البشري مند بزوغه مهووسا بالتفكير في الشروط التي يعيش ويحيا فيها، محاولا الرقي بها إلى الأفضل، متجاوزا كل ما هو قديم وغير صالح، طامحا لبناء الجديد الذي لا يمكن أن يكون إلا خيرا وصالحا للمجتمع، وقد كان هدف الانسان عبر تطور العصور هو تحقيق العدالة الاجتماعية التي طالما شكلت حلما لكل البشر، فلولا غياب العدالة لما سعت الممالك القديمة كأشور، وأكد، وبابل وسومر ...إلى تحقيقها، ولولا غياب العدالة لما ظهر حمورابي بقانونه الذي أرسلته الآلهة ليرسيها ويجسدها واقعيا. يحكي لنا حمورابي بان الإلهين أنمول"المرشد الأعلى " وأيليل هما اللذان  :"هتفا باسمي يا حمورابي،أيها الأمير المبجّل الذي يخاف الآلهة، أن أجعل العدالة تعم رحاب الأرض، وأقض على الأشرار، حتى أمنع الأقوياء من اضطهاد الضعفاء، وأشرق كالشمس على التعساء والمظلومين".

   يمكن أن نقول أن الغرض من العدالة حسب تصور حمو رابي هو حماية الضعفاء من بطش الأقوياء، في الدولة القديمة التي كان جهاز السلطة فيها يتميز بالمركزية إلى درجة عالية .

هوميروس هو الآخر كان نبيا هدفه الدفاع عن العدالة  وتجسيدها ، إذ ذهب في "الإلياذة" التي اتخذت ملامح بارزة مند أكثر من ألف عام  بعد حكم "حمورابي" . فلا تعتبر في" الإلياذة "  العدالة بمنزلة الفضيلة و إنما تربطها  بالانتقام .

تأخذ العدالة أهمية عظيمة  و استثنائية بالنسبة للأفراد و الشعوب على حد سواء إذ تعد معيارا أساسيا لقياس مدى تقدم المجتمعات وحسن تنظيمها، فكم هي الشعوب التي ضحت من أجل العدالة، وكم هي الحضارات التي دمرت، وكم هم الأفراد الذين يموتون كل دقيقة وكل ثانية ، كم هي الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تم هدمها بسبب غياب العدالة... فكلما تم الإعلاء من شأن العدل والإنزال من شأن الظلم إلاّ وإستقام أمر الناس وصلحت أحولهم، وكل ما تم الإنزال من شأن العدل والإعلاء من شأن الظلم الا وقل شأن المواطنين وتدهورت قيمتهم، أن العالم بهذا المعني لا يمكن أن يعمه الفراغ فإما أن يسوده العدل وإما أن يسوده الظلم . لهذا السبب كان هدف الشعوب على مر التاريخ هو تحقيق العدالة الشيء الذي دفع الفلاسفة إلى أن يجعلوا منها مركزا لنقاشاتهم و يدافعوا عنها بقوة واستماتة. ففي اليونان نجد  لأفلاطون طموح بناء جمهورية عادلة برئاسة الفلاسفة كقوة عاقلة داخل المجتمع ، ونجد الفيلسوف أرسطو قد ترك لنا أثرا عظيما منقطع النظير في العدالة.  وبعده في المراحل الوسطى وبالضبط في الحضارة العربية الإسلامية  نجد الفارابي دافع على الجمهورية الفاضلة ، وفي المرحلة الحديثة نجد كارل ماركس ينظر لمجتمع خال من الطبقية وهو الذي سماه المجتمع الشيوعي الذي يتحقق فيه التوزيع العادل للثروة...

إن الجميع يطالب بالعدالة ، لكن لم يختلف الناس حول شيء أكثر من مسماها. فإذا كانت قيمة الأشياء لا تعرف إلا من خلال نقيضها، أفلا يصح القول، بناء عليه بأن الشعور بالظلم مقدم على إدراك العدل ؟؟ وهذا ما سبق أن أشار إليه هيراقليطس حينما قال :" لولا وجود الجور لما عرفنا معنى العدالة " و يتفق معه شارل ديكنز في روايته " الآمال الكبرى " عند ما يعتبر أن هناك ما هو أكثر وضوحا من إدراك الظلم والشعور به ويخلص أمارتياصن  من خلال دراسته المعمقة والمستفيضة للعدالة ، إلى نفس الفكرة حينما يقول إن الذي يحركنا ليس هو إدراكنا أن العالم يفتقر إلى العدل الكامل بل لأننا نود رفع مظالم لا يختلف اثنان على إمكانية رفعها.

فالعالم الأنكلو سكسوني لم  يشكل استثناء  بطرح نقاش العدالة؛ وبقول أكثر محدد ومضبوط، أعاد طرح نقاش العدالة إلى بساط الفلسفة السياسية. فبالرغم من أنه الى غاية 1971 كانت الفلسفة الأنجلوسكسونية متأثرة بالفكر التحليلي ومكرسة بشكل جوهري للمنطق الفلسفي، و الإبستمولوجيا وفلسفة اللغة والتعبير. فإن الفلسفة السياسية ليس لها أثر على الفلسفة الأنكلو ــ سكسونية إذ بقي "المذهب النفعي" الأكثر تأثيرا من الناحية الأخلاقية والسياسية هو المهيمن ، بالرغم من أنه بدأ في هذه الفترة ينهار ويفقد هيمنته. أما بالنسبة للفلسفة التحليلية التي ظهرت عمليا وتاريخيا ما بعد الفيلسوف الألماني فريكو حيث أسست بهدف التحليل المنطقي للغة وبشكل أشمل أعطت للغة وضعية سامية ، أما في جيلها الثاني والثالث فقد فضلت المحور الدلالي، فالفلسفة التحليلية ترفض إمكانية علم للأخلاق أو خطاب عقلاني حول القيم، على عكس ما دهب اليه جون رولز في نظرية العدالة إذ أعاد طرح العقلانية الأخلاقية  والسياسية ضمن شروط ومتغيرات واقعية ومحددة وجديدة التي عرفتها الفلسفة عموما والفلسفية السياسية في المجتمع الأمريكي على وجه الخصوص وعمل ذلك بوعي مبني على أن نظرية العدالة هي الجزء الأكثر أهمية من نظرية الإختيار العقلاني هذا يعني أنه يمكن التعاطي بالدراسة مع العدالة بشكل عقلاني وعلى هذا الأساس يمكن بناء مؤسستنا، ومفاهيمنا وأخلاقنا ،لكن هل يعني هذا أن الاسئلة الأخلاقية لم تكن مطروحة قبل رولز في الفلسفة السياسية الأمريكية ؟ قبل ذلك فيجب أن نشير إلي أن بزوغ نظرية العدالة وصياغتها جاءت في سياق  عام اتسم  بالثنائية القطبية حيث طرحت النظريات الماركسية تحديا وصراعا ضد جملة من المفاهيم والنظريات و حتى الاراء التي تطرحها الليبرالية أخص بالذكر هنا مفهوم الحرية ومفهوم المساواة ،كما إنتشرت مفاهيم أخرى كمحاربة الاستعمار، موجهة الاغتراب ... بالإضافة إلى هذه الشروط نجد شروط داخلية تميزت بالصراع العرقي بين السود من جهة والبيض من جهة ثانية وما أفرزه من نقاش حول حقوق السود و النضال الاجتماعي على أرضية العدالة والمساواة وتجاوز التمييز العنصري . وكذلك النقاش المطروح وسط الفئة المثقفة داخل المجتمع الامركي حول عدالة حرب الفيتنام وعدم عدالتها وما ترتب عن ذلك من أشكال الاحتجاج وقلق المثقفين من السياسات التي تنهجها الدولة . ظهور مشكلات نظرية على مستوى الدستوري  فرزت إشكالات وتساءلات في العقل الليبرالي الأمريكي ونظرا للسياق العام إنطرحت الثنائية القديمة الفردي ــ الجماعي بشكل كبير ما تجاوز فهم و استيعاب  العقل النفعي  الأمريكي .

1ـ العدالة كإنصاف

 إن دراسة  "نظرية العدالة كإنصاف"  تستدعي الوقوف على المفاهيم المكونة لهذا العنوان لمعرفتها، لأنّ المعرفة هي مسألة علم، ولا يجوز معها أدنى شيء من الكذب و الخيلاء، بل المطلوب هو العكس  بكلّ تأكيد وهو الصدق و التواضع  لذلك سنستعين بمجموعة من الموسوعات والمعاجم حتى تكون معرفتنا ولو نسبيا دقيقة. وفي هذا المستوى نجد في البداية تعريف للإنصاف بمعجم بيت الحكمة " نصف الشيء أخذ نصفه. و أنصف بين خصمين: سوى بينهما و عاملهما بالعدل.و الإنصاف اصطلاحا هو الشعور التلقائي الصادق بما هو عدل أو جور... و الإنصاف حقوقيا، التقيد بنص القانون لأنه عدل طبيعي، لا عدل شرعي، و هو أسمى من القانون الوضعي و أكثر مرونة منه "[1]" هذا التعريف نفسه الذي نصادفه في معجم جميل صليبا "[2]" ،أما في موسوعة لالاند الفلسفية فهي تقدم تعريفا لمفهوم الإنصاف على الشكل التالي :" الإنصاف شعور يقيني وعفوي للعادل وللظالم ؛ ولاسيما ما يتجلى في تقويم حالة عينية وخاصة ... وفي حقل الحقوق  بنحو خاص يتعارض الإنصاف مع حرفية القانون "ويذهب أندريه لالاند إلى توضيح مفاده أن هناك تعديل لهذا المفهوم وفقا لتعليقات غوبلو ، لابي ، ورويسن  الذي يقترح أيضا هذه الصيغة :"أمان الحكم في تقويم كل ما هو عائد لكل فرد " [3] " وقد قال كوندياك :" الفرق بين الإنصاف والعدل يوجب الحكم على الأشياء بحسب روح القانون ، وعلى حين أن العدل يوجب الحكم عليها بحسب نص القانون " "[4]" وبناءا على ما سبق يمكننا أن نلاحظ أن كل الموسوعات خلال تحديدها لمفهوم الإنصاف تحاول أن تزيل  عن سبيلها نص القانون  فموسوعة بيت الحكمة تذهب حقوقيا إلى أن الإنصاف يضمنه نص القانون لأنه "عدل طبيعي" وليس "شرعي" كون هذا الأخير أسمى من الأول .

       ويمكن القول بأن العدالة إن ظهرت وكأنها المبدأ الأساسي لجميع المجتمعات  والمقياس الذي تحاكم بمقتضياته جميع  الشؤون الإنسانية والحكم الأخير الذي ترجع إليه جميع الخلافات، فإنها قد تطورت تطبيقاتها وإذا كانت القوانين قد تضمنت جملة من القواعد يفترض فيها التعبير عن العدالة فإن هذه  القواعد في حالة تاريخية معينة استبعدت من التطبيق استنادا إلى مبادئ عدت  أسمى من القانون هي مبادئ العدالة ، وقد تقبل ذلك الرأي العام لدعم ما يبدو هنالك من تناقض يوحي بالطابع اللغو في تطبيق القانون حرفيا يؤدي إلى الظلم وهذا  ما عبر عنه القانون الروماني من خلال القاعدة التي تقول:" اللغو في الحق غلو في الظلم" .

        وعلى هذا الأساس فإن لمفهوم العدالة قيمة أخلاقية في منظومة القيم العامة تحفظ حقوق المجتمع لكنها تبقى مفهوما نسبيا لا يمكن القطع بقيمتها المتوارثة والمكتسبة عبر الزمان لأنها عرضة للتفكير ولا يمكنها أن تعد قيمة تصلح لكل المجتمعات ، فمنظومة القيم العامة تعد نتاجا للعقد الاجتماعي    بين مجموعة البشر تشترك بمصالح ، ولعلة تتواصل من خلالها لخلق ثقافة مشتركة تحكمها عادات وتقاليد اجتماعية ودينية تشكل منظومة قيمهم الأخلاقية ليكتسب مفهوم العدالة المصداقية مع الجميع ويعده عرسا تربويا في اللاوعي الاجتماعي له ارتباط وثيق بالقيم الأخلاقية العامة .

يمثل مفهوم الإنصاف  القطب الروحي في فلسفة  رولز السياسية  فهو يختلف عمن تقدمه من فلاسفة العقد الاجتماعي (هوبس، روسو، و كانط  ...) ، بحيث أن عــقدهم الاجتماعي هو عقد تاريخي ،  في حين أن عقد رولز هو عقد افتراضي وهو يسميه " بالإنصاف"  يقول رولز " إن هدفي هو تقديم تصورللعدالة يمكن من خلاله رفع مستوى التجريد لنظرية العقد الاجتماعي الشهيرة كما وجدت في أعمال لوك وروسو و كانط ".  

فهل استطاع رولز أن يحقق هدفه ؟؟ ينطلق جون رولز في كتابه "نظرية في العدالة" من تعريفه للعدالة ويعتبرها "الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية [5]"معنى ذلك أن العدالة هي أساس الهيكل الاجتماعي وعمودها الفقري حيث لا يمكننا الحديث عن بنية مؤسساتية جيدة التنظيم  دون الحديث عن كونها تطبيق للعدالة ، وشرع جون رولز إلى ضرورة رفض البنية المؤسساتية ورفض جميع القوانين إن لم تكن صالحة ، وهذا ما نجد له تصريحا من داخل كتابه إذ نجده يقول بوضوح  تام : " مهما كانت النظرية أنيقة لا بد من رفضها إذا لم تكن غير صادقة ، كذلك الأمر بالنسبة إلى القوانين والمؤسسات مهما كانت كفاءتها لا بد  من إصلاحها أو إبطالها إذا كانت غير عادلة "[6] وهنا نجد جون رولز يعطي أولوية كبرى للعدالة بحيث يرى أنه لا يمكن لأي كان أن يتجاوز حرمته نحو حرمة الآخرين، لأن كل شخص يمتلك حرمة غير قابلة للانتهاك وهذا ما  لا يمكن تجاهله أو تجاوزه على حد تعبيره، وأن كل ذلك لمصلحة المجتمع، ومن هنا نلاحظ بوضوح أن ولاء  ودفاع جون رولز عن الديمقراطية الليبرالية راجع إلى كون الحقوق المصانة بواسطة العدالة الغير الخاضعة للمقتضيات السياسية وللحسابات التفاضلية الاجتماعية ، من هنا يمكن أن نبحث في العدة المفاهيم النظرية التي اعتمدها جون رولز لبناء نظريته في العدالة.

2ـ البنية الأساسية للمجتمع .

ينطلق جون رولز خلال حديثه عن الفكرة الأساسية للمجتمع من كونها موضوعا رئيسيا للعدالة التي يبحث عنها في مجتمع ديمقراطي ، بما لها من أثار على أهداف المواطنين وطموحاتهم ومنظومة أخلاقهم وفي قدرتهم على الاستفادة منها، الأمر الذي سبق أن أشار إليه جون جاك روسو والذي أغفله جون لوك ، حيث أشار روسو إلى أن ترتيبات المجتمع والمؤسسات لها أثر كبير في تكريس الحالات اللاحقة المرتبطة بالتفاوت وغيره من مظاهر الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وهو ما فات لوك عندما انطلق من حالة أصلية أولى عادلة حاز فيها الناس ممتلكاتهم بصورة عادلة ، من دون الاكتراث بالحالة الظالمة اللاحقة التي من شأن مؤسسات المجتمع  تكريسها إن لم يكن خلقها [7]

وفي حديث جون رولز عن دور العدالة يشير قائلا :"لا تنطبق مباشرة على المؤسسات ولا تنظم مؤسسات المجتمع والجمعيات من الداخل  فالشريكات ونقابات العمال والكنائس والجامعات والأسرة كلها بمانع ناشئة من مبادئ العدالة . " هذا ما يعني  أن رولز يبحث عن الصيغة التي من خلالها سيجعل من فكرة البنية الأساسية عمودا فقريا للعدالة لذلك عمد إلى أن المقصود منها  من حيث وضيفتها بقوله أنها تمثل "الطريقة التي تتلاءم بحسبها المؤسسات السياسية والاجتماعية الرئيسة ،فتدخل في نظام تعون اجتماعي ، وطريقة تعينها الحقوق والواجبات الأساسية  ، و تنظيمها لتقسيم الفوائد التي تنتج من التعاون الاجتماعي عبر الزمن [8] أما من حيث المحتوى فهي وعلى حد تحديده :" تشمل القانون السياسي ذا القضاء المستقل ، وصورا من الملكية المعترف بها قانونيا وبنية الاقتصاد (مثلا ، نظام أسواق متنافسة ،وملكية خاصة لوسائل الإنتاج ) ...والأسرة في صورة من صورها " [9]

بناءا على ما سلف ذكره فإن جون رولزيدد وضيفة البينية الاساسية  في مستويين  الأول هو ضمان صيرورة وديمومة  المؤسسات السياسية بغية ضمان تضامن وتكافل اجتماعي هذا من جهة ،أما  من الجهة الثانية فهدفه هو ضمان نصيب الأقل حظا في المنظومة الاجتماعية الجيدة التنظيم .

  لينتقل جون رولز إلى أن يستنتج أن البنية الأساسية لما لها من أهمية عظيمة فإنها "الإطار الاجتماعي الخلفي " الذي تجري من داخله جمع النشطات التي يقوم بها الأفراد الشيء الذي يفرض علينا ضبط بنية هذه العدالة وآلياتها ومبادئها لان كل هذا سيحقق حسب تصور رولز "العدالة الخلفية"[10]باعتبارها الضامنة لحرية الأفراد والجمعيات حريتهم في تحقيق غايتهم .

       لذلك  يمكننا  أن نقر أن جون رولز جعل من البنية الأساسية عمودا فقريا ، ومرتكزا رئيسا للنظرية العدالة غير أن هذه البنية بجب عليها أن تنضبط لمبادئ العدالة التي أرسها جون رولز الأمر الذي يبقيها في نطاق المبادئ السياسية بحدود واضحة مما يجعها  كلا متكاملا له قيمة عظيمة من داخل نظرية العدالة .

3ـ  فكرة الوضع الأصلي وحجاب الجهل

فمنذ البداية يجب  التسليم بان الوضعية الأصلية هي وضعية افتراضية فقط ، وتسمح بتكوين نظرية في العدالة الاجتماعية القائمة على المساواة والحرية ، إذن كيف تم التوصل إلى هذه الوضعية الأصلية ؟ هل بواسطة القانون الوضعي ؟ أم بواسطة القانون الإلهي ؟ أم انه سيتم التوصل إليها عن طريق اتفاق يصل  إليه الأشخاص الأحرار المتساوين ؟ . في  محاولتنا للإجابة عن هذه الاسئلة نجد راولز يشدد على الاختيار الثالث ، أي على أن اتفاق الأشخاص الأحرار المتساوين هو الذي سيمكننا من التوصل إلى الوضعية الأصلي بحجة " أن المواطنين استنادا على فرضية وجود تعددية معقولة لا يتمكنون من الاتفاق على أي سلطة أخلاقية :  مثلا نص مقدس أو مؤسسة دينية أو تقليد من التقاليد ، ولا يمكنهم الاتفاق على نظام من القيم الأخلاقية أو ما يأمر به قانون طبيعي وفق ما يراه البعض[11]

       تأسيسا على ما سبق ، إن مفهوم الوضعية الأصلية(Original Position  )  مقابل للحالة الابتدائية في نظرية العقد الاجتماعي  وهذه الوضعية تستهدف وصف الحالة الابتدائية للإنصاف ، و أيضا تعريف المبادئ التي سيتفق عليها الأشخاص الأحرار المتساوين . غير إن الاتفاق على هذه المبادئ سيتم خلف ما اسماه رولز "حجاب الجهل " إذن فما معناه ؟ كيف حدده رولز ؟

يشدد راولز على مفهوم حجاب الجهل  في نظريته ، بحيث أن الأشخاص يحجبون عن معرفة مكانتهم في المجتمع ، و لا يعرفون أيضا عرقهم ولا جنسهم ولا ذكائهم ولا حتى قوتهم ، فكل ما يعرفونه هي معلومات عن هويتهم مثل :  اسمه ، وعمره وجنسه . "فمن وراء حجاب الجهل سنتمكن من اتباث المبادئ التي تحكم مؤسساتنا التي سنوافق على العيش في ظلها ، كما يجب علينا تصور أننا من سنكون في المجتمع الذي سوف تحكمه هذه المبادئ ".  

   إن ما توخاه رولز من إضافة هذا المفهوم " حجاب الجهل (The veil of ignorance)" هو أن عملية تفاوض الأطراف على المبادئ العدالة الاجتماعية من داخل الوضعية الأصلية  ستتم في جو محايد ، قائم على المساواة والحرية بين الأطراف المشاركة بحيث أن الأطراف لا علم لها بمصالحها الشخصية ولا بمستواها المعرفي أو قدراتها البدنية ، وهذا ما سيضمن الاتفاق على مبادئ عادلة قائمة على المساواة ، وتكافئ الفرص ، وعدم تفضيل احدهم على الآخر ، وبالتالي ستكون الاتفاقية في الوضع الأصلي منصفة .

إن التفاوض خلف حجاب لجهل يقتضي من كل متعاقد ، بعد أن يكون قد جرد من مصالحه وانتماءاته ومعتقداته ، أن يزين بميزان النظر ومعايره ، وميزان العمل ومعايره وأن يزدوج شعوره بذاته بشعوره بغيره ،فيخلص من ذلك إلى بلورة  مبادئ يوافق الجميع ومن منطلقات مختلفة و يعترف على مصلحته فيها المهم هنا حسب جون رولز ــ هو ما سيساعد على تلك المبادئ ــ هو أنه افترض انه لا احد في "الوضع الاصلي " يعلم مسبقا لا المكانة التي يحتلها في المجتمع ولا الحالة التي سيؤول إليها وضعه في المستقبل .

بهذه الكيفية يسهل علينا أن نتخيل حسب رولز أن وجود الشركاء الاجتماعيين ، في تلك الوضعية الأصلية ،خلف حجاب الجهل سيدفع كل واحد منهم عندما يزدوج شعوره بذاته وشعوره بغيره ، إلى أن يقول في نفسه :" لو ولدت في هذا المجتمع غنيا ، سأرغب في أكبر قدر من الحرية الفردية ، ولكنني لو ولدت  فقيرا سأطالب بأكبر قدر ممكن من المساواة في الفرص ".[12]

بناءا على ما تم تداوله وجب أن نتساءل مع السيد رولز، ما هي المبررات التي قادته إلى الاعتقاد بأن الأفراد، الذين وضعوا وراء حجاب الجهل وسيتواطئون بسير وطواعية، على  اختيار المبادئ التي تكفل مصلحة الفئات الغير المحضوضة؟؟ وثانيا: لماذا سيقبل الأفراد الأقل حضا بالتفاوت الاقتصادي  والاجتماعي ويساهمون في بناء المجتمع الذي يحتضن اللامساواة  بدلا من سعيهم إلى إيجاد مجتمع تنعدم فيه  الفوارق الاقتصادية والاجتماعية ؟ بعبارة أخرى : إذا كان على الأشخاص أن يقرروا ، بكيفية تعاقدية ، توزيع " الكعكة الاجتماعية " ، ألن يتفقوا على قسمة موزعة بالتساوي ؟ ألن تملي عليك المصلحة ويلزمك المنطق ، إذا ما طلب منك ، افتراضا أن تقسم خيرا ما وأنت لا تعرف مقدما ما هو النصيب الذي سيعود إليك بعد أن تقسم ذلك الخير بالتساوي ؟؟ [13]

لقد حدد رولز نظرته للأشخاص باعتبارهم ، كائنات عاقلة وأخلاقية ، وهي كما يدعي نظرة تستندي على فلسفة كانط العملية وهذا يعني التخلص من كل ميل و التجريد من المصلحة الشخصية تبقى أمرا ضروريا اتفاق علة مبادئ العدالة الخالصة التي نطمح إليها ، وما ستار الجهل إلا صيغة تمثيلية وكناية عن الشخص الذي يتصرف وفق الواجب الأخلاقي .

 إن حجاب الجهل حسب رولز ،هو في الحقيقة التي تمثل الشخص كما حدده كانط ، إذ أن كل من يتمكن من التحلل من انتمائه والتحرر من مصلحته الضيقة هو وحده القادر على أن يجعل من ذاته فعلا شخصا بمعنى الكلمة ولا يعد فعلا ذاتا أخلاقية إلا حين يكون فعله منزها عن الغرض والغاية وغير مستجيب سوى لما يمليه ضميره ولما يأمر به القانون الأخلاقي . [14]لذلك  فإن سر الوضع الأصلي ــ ومفتاح فهم قوته التبريرية ــ لا يكمن فيما تقوم به الأطراف هنالك ، بل فيما تدركه بحيث إذا ما تفحصنا نهاية كتابه سنستشف أن لغة الاختيار والإرادة قد حلت محلها لغة الرؤية والإدراك . هكذا أخلت الصورة الإرادية كما هي عند كانط المكان للصورة المعرفية كما هي عند سبينوزا .  وما يهم فيه ليس ما تختاره هذه الأطراف وإنما ما تراه وليس ما ما تقرره بل ما تكتشفه. على أي حال فإن ما يجري في الوضع الأصلي ليس عقدا بل هو بروز وعي بالذات لذا الكائن من حيث علاقته مع غيره .

4 ـ مبــــــادئ العـــــدالـــــة وحدودها

     يسعى رولز من خلال أطروحته " العدالة كإنصاف " إلى وضع تصور جديد لمفهوم العدالة، يتسنى من خلاله وضع مبادئ أخلاقية وسياسية ، بل إن العدالة كإنصاف هي التي ستضمن التوزيع العادل للخيرات بين جميع الأطراف ،وذلك من خلال مبادئ العدالة الاجتماعية كما بلورها جون راولز ، وهذه المبادئ سيتم صياغتها انطلاقا من فرضية أساسية وهي  "فرضية الوضع الأصلي " ،  أي أن الناس يولدون ضمن مواقع مختلفة للحياة تتحدد في جزء كبير منها بالظروف السياسية والظروف الاقتصادية ، هذا ما يعني أننا أمام اختلافات متباينة وعميقة حاضرة في كل مكان ، وانطلاقا من هذه الاختلافات بين الأشخاص وقد اقترح رولز تطبيق مبادئ العدالة من اجل حل الصراعات والنزاعات الاجتماعية سواء الدينية او السياسية .... او غيرها  ،  وبالتالي توحيد لحمة المجتمع الذي يتأسس على التعددية الثقافية والسياسية ،  فالفرد يعلم أن هناك قويا ـ ضعيفا ، فقيرا ـ غنيا ، مؤمن باديان مختلفة ، وغير مؤمن ،   وبناءا على هذه المواقف يراهن راولز على وضع مبادئ تجعل حياتهم عادلة ، يقول المحرر  " في كتابه نظرية في العدالة  ، وطبقا للعدالة كإنصاف تكون مبادئ العدالة الأكثر معقولية تلك المبادئ الحاصلة على اتفاق متبادل يتم بين أشخاص في شروط تتصف بالإنصاف ، لدى فان العدالة كإنصاف نظرية في العدالة ناشئة عن فكرة العقد الاجتماعي والمبادئ التي تصوغها تؤكد مفهوما ليبراليا واسعا للحقوق والحريات الأساسي"ويضيف امارتيا سن   في كتابه" فكرة العدالة " يختلف الأشخاص في معتقداتهم الدينية وأرائهم العامة لماهية الحياة الطبيعية التي تستحق أن تعايش ، ولكن تحددهم في مداولاتهم الرغبة في التوافق بتقدير راولز على كيفية تفهم ما بينهم من اختلافات والتوصل إلى مجموعة واحدة من مبادئ العدالة تنصفهم جميعا"   فمبادئ العدالة يتم اختيارها من طرف الأشخاص الأحرار العقلانيين ضمن الوضع الأصلي وبشكل جمـاعي ، وهذه المبادئ هي التـي تحدد الحـقوق والواجبات الأساسية للأفراد

والتي من خلالها يصوغون قوانين تنظم حياتهم ومطالبهم من داخل المجتمع . وفي هذا الوضع الأصلي يتم اختيار المبادئ خلف ما اسماه بحجاب الجهل ، أي أن الأطراف لا احد منهم يعرف موقعه الاجتماعي ولا قدراته العقلية أو البدنية ، وبصيغة أخرى لا احد يمكنه أن يكون في وضعية أفضل من وضعية الأخر عند اختيار هذه المبادئ ، إذن فطالما أن كل الأشخاص داخل الوضع الأصلي يجهلون أوضاعهم الخاصة فمن المؤكد انه لا يوجد شخص يمكنه طرح مبادئ تناسب وضعه الخاصة وتمس بمصالح الخاصة .

    انطلاقا من ما سبق يمكن القول  على أن الأطراف في الوضع الأصلي عليها أن تتمتع بالعقلانية ، وان لا يحكمها حب الذات والأنانية ، ولضمان عقلانيتها يطلب منا رولز أن نتخيل الأطراف ضمن الوضع  الأصلي تضع ما يسميه بحجاب الجهل .

إن العدالة تبدأ أولا باختبار المبادئ ، وانطلاقا من هذه الأخيرة يتم تقديم مجموعة من الانتقادات والإصلاحات المتعلقة بالمؤسسات ثم بعد ذلك يكون من الضروري اختيار دستور من اجل وضع قوانين تتوافق مع هذه المبادئ ، "تبنى مبادئ العدالة وتطلق في سلسلة رباعية المراحل ، تنبني الأطراف في المرحلة الأولى مبادئ العدالة خلف حجاب الجهل والقيود على المعرفة التي يمكن أن تحصل عليها الأطراف تخفف بصورة متزايدة في المراحل الثلاثة الآتية : مرحلة المؤتمر الدستوري والمرحلة التشريعية التي تسن فيها القوانين ... ثم المرحلة الأخيرة التي تطبق فيها القواعد من طرف الإداريين. وعليه فان المبادئ التي يتم اختيارها في الوضع الأصلي سيتم تطبيقها بالأساس على البنية الأساسية للمجتمع ( المؤسسات ) ، ومن هنا فكرته بان "المادة الأولية لمبادئ العدالة الاجتماعية هي البنية الأساسية للمجتمع" ـ هذه الأخيرة هي التي ستحدد المناصب ومواقع الأشخاص وستعمل أيضا على تحديد حقوقهم وواجباتهم ، وهي التي ستضمن التقسيم العادل للخيرات على أفراد المجتمع ، ويطرح راولز مبادئ العدالة على الشكل التالي :

 1 لكل شخص الحق ذاته والذي لا يمكن إلغاءه في ترسيمة من الحريات الأساسية المتساوية الكافية ، وهذه الترسيمة متسقة مع نظام الحريات للجميع ذاته .
2  يجب أن تتحقق ظواهر اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية شرطين ، أولهما : يفيد أن اللامساواة يجب أن تتعلق بالوظائف والمراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساواة منصفة بالفرص ، وثانيهما يقتضي أن تكون ظواهر اللامساواة محققة اكبر مصلحة لأعضاء المجتمع الذي هم اقل مركزا (وهذا هو مبدأ الفرق)".
يؤكد جون راولز منذ البداية على ضرورة احترام التسلسل كما هو موجود في هذه المبادئ ، بحيث تكون الأولوية للمبدأ الأول على المبدأ الثاني ، وقد أطلق على المبدأ الأول" مبدأ الحريات الأساسية" في حين أطلق على المبدأ الثاني " مبدأ الاختلاف" ، ومادام هذا المبدأ الأخير يتكون من قسمين فانه أطلق على القسم الأول " مبدأ تكافئ الفرص" وعلى القسم الثاني "مبدأ الفرق" ، إذن كيف يمكن الجمع بين مبدأين يدافع الأول منهما على المساواة والحرية في حين يدافع الثاني على اللامساواة ؟ بعدما اشرنا بشكل سطحي إلى هذه المبادئ سنحاول أن نقوم بشرحها وتفسيرها.

ينطلق رولز عند اقتراحه مبادئ العدالة ، من السؤال التالي:"ما...مبادئ العدالة الأكثر ملائمة لتعيين الحقوق الأساسية والحريات ، وتنظيم ظواهر اللامساواة...؟"[15] مؤكدا أن همه الأول في هذا السياق ، هو الاتفاق على الاعتقادات الأكثر رسوخا في المجتمعات الديمقراطية بشأن الحقوق والحريات الأساسية والمساواة في الفرص بتمثيل جوهري منها في الوضع الأصليوفي ضوء ذلك يحدد مبدأين عامين يشكلان كلا متكاملا يكون أولهـما أولـوية تحـقق كاملة على الثـاني الذي يكتسب شقـه الأول الأولوية ذاتها على الشق الثاني ولهما : "  لكل شخص الحق ذاته والذي لا يمكن الغاؤه في ترسيمة من الحريات الأساسية المتساوية الكافية ، وهذه الترسيمة  متسقة مع نظام الحريات للجميع ذاته.

 ثانيا يجب أن تتحقق ظواهر اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية شرطين ، أولهما : يفيد أن اللامساواة يجب أن تتعلق بالوظائف والمراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساواة منصفة بالفرص ، وثانيهما يقتضي أن تكون ظواهر اللامساواة محققة اكبر مصلحة لأعضاء المجتمع الذي هم اقل مركزا وهذا هو" مبدأ الفرق."

 أما الحريات والحقوق الأساسية التي يؤكدها المبدأ الأول فهي [16] "حرية التفكير حرية الضمير ، والحريات السياسية (   حق التصويت والمشاركة الساسية ) حق انشاء الجمعيات ، وذلك الحقوق والحريات المحددة بحرية وكرامة الشحص (الجسدية والنفسية )، وأخيرا الحقوق والحريات التي يعطيها حكم  القانون " الحق أن التعيين للحريات والحقوق الأساسية يعني عدم إطلاقها ، كما يعني وجوب قدر من التدخل،بخلافما تقول به (الليبرالية الجديدة) .  

تأسيسا  على ما سبق فان جون راولز- من خلال هذا المبدأ الأول- يركز على مفهومي الحرية والمساواة باعتبارهما يشكلان ركيزة أساسية لكل نظرية سياسية ، ويشدد على أن كل شخص عليه أن يتمتع بهذه الحريات من اجل خلق نوع من المساواة في المجتمع .

مبدأ الحريات الأساسية : Principle of fundamental freedoms وهو الذي يعمل على منح الحرية والمساواة للجميع بدون استثناء كحرية التعبير وحرية إنشاء الجمعيات وحرية التصويت ... الخ

 مبدأ الاختلاف: The principle of difference ويتضمن مبدأين أساسيين وهما :

    مبدأ الكفاءة : الذي يسعى إلى توزيع الثروات والخيرات والسلع الأولية على المواطنين بالتساوي .
   مبدأ الفرق : الذي يعطي الأولوية للدفاع عن مصالح الفئات الأقل حظا في المجتمع ، مؤكدا على ضرورة تحسين وضعية  الفئات الاسوء حالات .

ولقد جاءت هذه المبادئ على شكل بناء هرمي ، حيث يسبق المبدأ الأول الثاني ، وهذا الترتيب ليس عفويا وإنما هو أساسي حسب راولز لأنه لا يمكن تبرير انتهاكات الحريات الأساسية المتساوية كما جاءت في (المبدأ الأول ) أو التعويض عنها من خلال منافع اقتصادية واجتماعية ،وبالتالي فهو يمنح الأولوية للحريات على حساب المنافع المادية الأخرى ويمكن تبرير هذه الأولوية من خلال قوله "إن الأولويات تلغي المبادلة "المقايضة" كما يقول الاقتصاديون بين الحقوقالأساسية والحريات التي يغطيها المبدأ الأول مع المنافع الاجتماعية والاقتصادية التي يغطيها مبدأالفرق"[17] .وبالتالي فانالخضوع لمثل هذه المبادئ حسب راولز من شأنها أن تساهم في حل الصراعات الاجتماعية ،و التفاوتات الطبقية بين جميع البشر، كما أنها ستعمل على تعزيز لحمة المجتمع المبني على التعددية الثقافية والسياسية .

5 ـ مناقشة  مبادئ العدالة الراولزية

إذا ما  أخذنا  مفاهمية جون رولز التي يقول فيها عن مفهوم العدالة أنها تقوم على مبدأين  أساسيين هما: الحرية ، والمساواة ، وهو قول مغري وجميل بكل صراحة لما فيه من تناقضات بحيث إذا تساءلنا مباشرة عن هذه الحرية والمساواة :
هي حرية من ؟؟ ومساواة من ومع من؟؟، هنا يبدأ الإشكال كله وهنا تختبئ كل المصائب .

سنستحضر مفهومين للحرية :

التعريف الأول :مفهوم يقول به مونتسكيو(Montesquieu) وهو أن " الحرية هي حق في عمل كل ما لا يضر بالآخرين" [18] وهذا قول في الحقيقة لا يعطي تعريفا لمفهوم الحرية بل يعطي لها القيمة وفقط ولذلك يأتي ميزان دقيق جدا : أن تفعل ما لا يضر غيرك كأنه يقول لك كن حرا مع الأحرار ،وينفي إمكانية أن تكون حرا مع   اللاّ أحرار، وهذا الذي يحكم بنظام وجودك حيث تضبط ساعة حريتك بساعات الآخرين ،وتتحرك معهم في ضبط حركي متسق حيث تصبح حرا فقط إذا صار غيرك حرا . هنا بالنسبة لمونتسكيو يرى أنك تتنازل على بعضك من أجل غيرك، وهم يفعلون نفس الشيء هكذا في تنازلات متبادلة كما يقول جون كاريه لقد تنازلنا عن حريات كثيرة كي نكون أحرارا (ويلسون 412) وهو قول جميل لو تحقق واقعيا .

العريف الثاني :   وهو تعريف صاغته الثورة الفرنسية حيث طرحت شعارها "لا حرية لأعداء الحرية" وهذه المقولة تصطنع مأزقا كبير جدا وهو أنه يجب على الإنسان أن يعرف الحرية حتى يستطيع معرفة من هم أعدائها و بهذا سيكونوا أعداء الحرية كل من لا يقول بما أقوله أنا عن مفهوم الحرية  ،وبالتالي أنت تستعمل صيغة واحدة وعلى هذا المقياس :

من هم أصدقاء الحرية ...؟هم الدين يقولون قولي .
من هم أعداء الحرية ...؟هم الذين لا يقولون قولي .
إنها مقولة تسير مع الأخرى كانت أيضا من مقومات الثورة الفرنسية وهي: " لابد من إجبار الناس أن يكونوا أحرارا "[19]. وقد استمدوا هذا الشعار من جون ستيوارت ميل وإذا نحن سندنا أنفسنا  مهمة أن نرشد الناس على الحرية التي أنا أسميها حرية ،أ ما التي يسمونها هم الحرية لا تتفق مع ما أسميه أنا حرية فهي منفية وملغاة ويلزمني حسب هذه المقولة أن أجبرهم على تركها لأنني لا أراها حرية، هذه هي فكرة الاندماج التي تعاني منها التفافة الفرنسية.

هنا تأتي مقولة جون ستيوارت ميل حول "الاستبداد النير" ، حيث يبيح الاستبداد وفي الوقت نفسه يسميه استبدادا نيرا وهذه المقولة لا شك أن مجموعة من الدكتاتورين مثلوها ولازالوا يمثلنها واقعيا فلو أن أحد تمكن من مسألة أحد هؤلاء الدكتاتوريين عن ماهية استبداده أهو إجرامي أم نير ...؟ فسيقولون وسيؤكدون بأنه نير ومشروع ولن تجد دكتاتور واحد في العالم يقول أن عمله قبيح و إسبدادي إذ كل واحد منهم يرى أن ما يفعله سليم  وصالح وهذا ما نسمعه وما نقرأه في القنوات الإعلامية بشكل يومي وبالخصوص فيما وقع وما يقع في شمال إفريقيا والشرق الأوسط في المرحلة الراهنة .[20]وهذا مأزق أخر يصنع جملة من الإشكالات التي تثيرها مفاهمية الحرية هي تجنب راسل الليبرالية السياسية وحصر حديثة في الليبرالية الفلسفية لأسباب جديدة منها استصغاره للتطبيقات السياسية للنظرية وملاحظته لتشويه المفاهيم على يد التكتلات السياسية الرأسمالية .

سوف سيتمركز الحديث في هذا الجانب على  أهم الانتقادات التي وجهت لمبادئ العدالة عند راولز ، وسنركز بالضبط على الانتقادات التي وجهها امارتيا سن من خلال كتابه "فكرة العدالة"  .

لكن قبل الحديث عن أهم الانتقادات التي وجهها امارتيا سن لمبادئ العدالة ، لابد أولا من التنويه إلى الأهمية والمكانة التي أعطاها سن لنظرية العدالة الاجتماعية لرولز ، وخير دليل على ذلك إهدائه كتاب فكرة العدالة لراولز ، يقول سن في فقرة التشكرات "لابد لي أولا من تسجيل عظيم امتناني لجون راولز الذي دفعني للعمل في هذا المجال ، وكان كذلك أستاذا رائعا لعقود عدة وما تزال أفكاره تؤثر في حتى عندما اختلف وإياه حول بعض استنتاجاته ، واني اهدي هذا الكتاب لذكراه"[21] .

يبدو أن امارتيا سن على أنه  قد تأثر بشكل كبير في البداية بنظرية العدالة عند راولز ، سيما وان هذا الأخير،_ وباعتراف سن _ قد ضخ في الفكر السياسي مجموعة من المفاهيم من قبيل مفهوم البنية الأساسية ، مفهوم الأشخاص الأحرار المتساوين ، الوضعية الأصلية وحجاب الجهل ... ثم مفهوم الإنصاف الذي أعاد ترتيب أوضاع العدالة ، غير أن سن سرعان ما قدم  انتقادا لنظرية العدالة وبين بعض عيوبها، بحيث نجده يجمع بين الانتقاد والإعجاب قائلا" إني استهل هذا النقد أولا بتذكر فرحتي و انأ أراه يحول الفلسفة السياسية المعاصرة تحولا جذريا بحق" [22] ، من الواضح أن جون راولز عندما قام بتفسير المبدأ الأول ( مبدأ الحريات الأساسية ) فهو يمنح مكانة مرموقة للحرية ، على اعتبار أن كل شخص عليه أن يتمتع بها بدون قيد أو شرط ، "كما أن ممارسة شيء اسمه الحرية له قيمة متفوقة،وانه الغاية الأساسية هذا وان لم تكن الوحيدة للعدالة السياسية والاجتماعية" .[23]

بما أن راولز قد منح الأولوية لمبدأ الحريات الأساسية فان امارتيا سن قد وجه له انتقادا في هذه النقطة بالذات ، وقال بان هذه الأولوية مبالغ فيها ، مبررا هذا القول بان هناك أمورا  أخرى تستحق أن نمنحها الأولوية مثل " الجوع" و " سوء التغذية" و "الإهمال الطبي"...، كما أن هذه الأولوية التي منحها راولز لمبدأ الحرية وجَعلها فوق كل الاعتبارات الأخرى سوف يسقطها في نوع من الغلو ، الأمر الذي سيجعلها مجرد وسيلة ،(وهذا الأمر لا يتماشى مع الحرية ومقامها) .

فيما يتعلق بالانتقاد الثاني فسيكون منصبا على دور المؤسسات التي اعلى  راولز من شانها في نظريته ، بحيث أن المبادئ التي تتم صياغتها في الوضعية الأصلية ستطبق على المؤسسات ، ومن هنا قوله "أن العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات" ،[24] غير أن امارتيا سن قدم انتقادا شديد اللهجة لمغالاة راولز في الإعلاء من شأن المؤسسات ، لان هذه الأولوية تحجب عنا الدور الفعال الذي يقوم به الأفراد من داخل المجتمع ، بالإضافة إلى أن اختيار المبادئ حسب راولز يتم بواسطة الإجماع بين الأفراد ، إلا أن هذا الاختيار حسب سن : "ليس كافيا لجعل هذه المبادئ "مفهوما سياسيا" للعدالة يقبله الجميع ، لكن هذا القبول يظل بعيدا جدا عن أنماط السلوك الفعلي التي يمكن ان تنشا في المجتمع الفعلي المكون من تلك المؤسسات"  أي أن السعي وراء وضع مبادئ العدالة لا يعني أبدا وضع اليد على وجودها الواقعي .

 ـ http://baitalhikma.forumactif.com/t37-topic ـ  [1]

 [2]ـ جميل صليبا المعجم الفلسفي ص 164

 [3]ـ أندريه لالاند " الموسوعة الفلسفية " ص 392  

ـ[4] جميل صليبا " المعجم الفلسفي                                                                                                               

 ـ جون رولز كتاب :" نطرية في العدالة " 1971 . ص 29[5]

 ـ جون رولز كتاب :" نظرية في العدالة " 1971 ص  30   [6]

  7 ـ تمت مناقشة هذه المسائل في كتاب " الملكية أصل التفاوت روسو "                                                                        

  [8]  ـ جون رولز كتاب العدالة بوصفها إنصاف ص 98 ــ 99         

   [9] ـ نفس المصدر                 

10 ـ رولز العدالة كإنصاف ص 99

 ـ نفس المصدر [11]

 ـ نفس المصدر [12]

 13 ـ أنظر سلسلة في تقريب الفلسفة ، محاورة العدالة الاجتماعية رولز / نوزاييك  لصاحبه بلعيد سكحال  ص 65 الصادرة سنة 2016 

 ـ نفس  المرجع [14]

 [15]  ـ جون رولز ، العدالة كإنصاف : إعادة الصياغة ، ترجمة حيدر حاج إسماعيل ص 146ـ146 .

18ــ كتاب "العدالة كإنصاف إعادة الصياغة"" جون رولز" القسم المختص بمبادئ العدالة سوف نقوم بدراسة هذا الجزء في بحثنا حيث سنتوقف عليها بدقة أكثر .

18ـ المعجم النقدي علم الاجتماع، بودون ، وبرويلو ص 468  

19ـ هذه المقولة ظهرت خلال الثورة الفرنسية لكنها تحمل في طياتها معنى كبير كما تطرح إشكالات عظيمة من بينها من هم أعداء الحرية ومن هم أصدقاء الحرية

 20ــ إن استحضاري لما يقع في شمال افرقيا والشرق الأوسط خلال المرحلة الراهنة ليس من باب المثال وفقط بل أكثر من ذلك من باب البرهان على وقع الازمات التي يتخبط فها الدول التبعية لدولب الامبريالية وجعل منها بؤرا للحرب الذي يعني ضميا أسواقا لبيع وشراء الاسلحة

21ـ كتاب " فكرة العدالة " أمارتياسن فقرة التشكيرات ص 26                                                                                                                     

22ـ نفس المرجع

23ـ أمارتياصن  ـ فكرة العدالة ــ رولز وما بعده ـ نقد نظرية رولز في العدالة 

24ـ نفس المرجع

   

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟